المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412390
يتصفح الموقع حاليا : 341

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء مخالفة عمر بن الخطاب للتشريع الإسلامي في منعه لسهم المؤلفة قلوبهم

ادعاء مخالفة عمر بن الخطاب للتشريع الإسلامي في منعه لسهم المؤلفة قلوبهم(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خالف حكما ثابتا بالقرآن، وتأكد بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حين أشار على أبي بكر بمنع سهم المؤلفة قلوبهم، ووافقه أبو بكر - رضي الله عنه - في ذلك، وسار الأمر على هذه الحال في خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الظروف التي استوجبت فرض نصيب للمؤلفة قلوبهم من الصدقات كانت: اختلال ميزان القوى وعدم تكافئها في بداية عهد الإسلام، فالمسلمون محاصرون بالأعداء الأقوياء، فلما اعتدل ميزان القوى وتكافأ بعض الشيء بين المسلمين وأعدائهم، لزم تطبيق الحكم حسب حيثيات وظروف الوضع الجديد.

2) لم يوقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العمل بالنص القرآني أو يخالف الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين منع سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة الصديق وخلافته؛ لعدم وجود شريحة المؤلفة قلوبهم.

3) آيةالمؤلفةقلوبهممحكمةوباقيةإلىيومالقيامة،يعملبهاالمسلمونمتىاستلزمالأمرذلك.

التفصيل:

قبل أن نشرح العوامل التي أدت بسيدنا عمر إلى الإشارة بمنع نصيب المؤلفة قلوبهم، نحب أن نوضح أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان لهم أبدا أن يخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيا ولا ميتا، ولا أن يشرعوا في دين الله ما ليس منه، أو يلغوا منه ما هو ثابت فيه، والمعروف أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - كان من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من العشرة المبشرين بالجنة؛ كما أنه الذي نزل القرآن موافقا لرأيه في مرات عديدة، مما يؤكد أنه ذو رأي سديدوبعد نظر.

كما نحب أن نبين أيضا أن ما صنعه عمر في سهم المؤلفة قلوبهم وغيره من الأمور التي اختلفت فيها سياسته الشرعية عن عهد الرسالة وعصر الصديق ما هو إلا اجتهاد في حدود النص أو في ضوء المبادئ العامة والأصول المقررة الثابتة وليس خارجا عن ذلك، يقول د. بلتاجي:

صحيح أنه كانت لعمر اجتهادات متعددة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنها كانت في حقيقتها مشورات من عمر للنبي صلى الله عليه وسلم، في مسائل عرض فيها الأمر للشورى، أو في مسائل كانت لعمر فيها آراء رأى أنها تحقق مصلحة المجتمع الإسلامي في عهد الرسالة، وبالرغم من أن الوحي قد وافق عمر في كثير مما أشار به على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما حدث في قصة أسارى بدر، واتخاذ مقام إبراهيم مصلى، والحجاب، وترك الصلاة على عبد الله بن أبي، وغير ذلك فإن قيمة هذه الموافقات قد انحصرت في إبراز عقلية عمر التشريعية الممتازة، والمدى الكبير الذي وصلت إليه في نفاذ النظرة، وصواب الرأي، والمعرفة بظروف المجتمع ومقاصد التشريع. فكانت في الواقع إرهاصا بالأعمال والتنظيمات العظيمة التي تمت بعد ذلك في عهد هذا الرجل العظيم، وكانت شهادة سابقة من عالم الغيب لعمر وعقليته التشريعية لا تعدلها شهادة.

لكن هذه الموافقات لم تزد على ذلك، ولا يمكن أن نفهم منها أن آراء المجتهدين من الصحابة في هذه الفترة - وافقها الوحي أم خالفها - قد اكتسبت سلطة التشريع؛ لأن هذه السلطة قد اقتصرت في هذه الفترة على الوحي، وعلى تطبيقات السنة العملية التي أقرها الوحي نصا أو سكوتا.

ولما كان المسلمون سيواجهون أحداثا وتغيرات جديدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحتاج في تفاصيلها إلى نوع من صدق النظرة وأصالة الرأي، عند تطبيق هذه الأصول العامة المقررة على الأحداث المتغيرة، في وقت يكون الوحي فيه قد انقطع بعد أن أرسى الأسس - فإن مشورات الصحابة واجتهادهم في حياة الرسول كانت نوعا من التمرين العملي، على حل المشكلات التي ستواجههم بعد انقطاع الوحي، كما كانت مجالا لإبراز القدرات التشريعية بين الصحابة، ولا بأس بذلك ما دام الوحي ينزل بإقرار الصواب ورفض الخطأ، ففي أثناء ذلك، وبتقرير سبب الرفض والتأمل في سبب القبول، يتعلم المسلمون طريقة التفكير السليم لحل مشاكلهم.

كان الإسلام إذن يهدف في حياة الرسول إلى تعليم المسلمين طرق التفكير المنطقي السليم، عن طريق تعليل أحكامه، وإقرار بعض اجتهاداتهم، ورفض بعضها الآخر، على أن يسير التشريع الإسلامي في هذه الفترة بالتدرج مع الأحداث، بدون أن يعطى أحد منهم حق التشريع حتى تكمل أسس النظام - كما فرضه الله - وأصوله وقواعده.

وقبيل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان الوحي قد أكمل ما يهدف إليه، حيث أرسى أسس التشريع الإسلامي وقرر أصوله العامة.

فقرر في مجال الاقتصاد: منع الربا والاحتكار والاستغلال، ووجوب الزكاة والعدل المادي بين الناس.

وقرر في السياسة ونظام الحكم: وجوب الشورى، والمساواة الأساسية في الحقوق والواجبات بين الناس، والعدل الاجتماعي، ووجوب طاعة الرئيس العادل، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقرر مثل ذلك في مجالات الحياة الأخرى، وترك للناس بعد ذلك - في كل جيل - مهمة تطبيق هذه الأسس على ظروفهم الخاصة، وأعرافهم التي تختلف من جيل إلى جيل ومن بيئة إلى أخرى، ومن البدهي أن هذه المهمة تتطلب جهودا ضخمة تتجدد بتجدد الظروف والبيئات والمجتمعات.

نستطيع أن نقول إذن: إن الفرق بين اجتهاد المسلمين في عصر الرسالة واجتهادهم بعده هو أن حق التشريع اقتصر في فترة الرسالة على الوحي، وفيها كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المفسر المنقذ للتشريعات القرآنية. وكان الوحي يسدده، أما بعد إكمال التشريع بإرساء أسسه العامة ووفاة النبي - فقد ترك تطبيق هذه الأسس لاجتهاد أولي الرأي في كل جيل وبيئة، وبهذا الاختيار دخل الاجتهاد من القادرين عليه في مفهوم التشريع الإسلامي، واعتبر من مصادره بعد نصوص القرآن والسنة[1].

وعلى ضوء هذا يتضح ما صنعه عمر في تنزيله لآية المؤلفة قلوبهم؛ إذ هو ضرب من رعاية مقصد الشارع، ولا يمكن أن يكون عبثا بالشريعة أو تغييرا لها، وعن علة هذا الحكم وحيثيات هذا التشريع يبحر بنا الفقيه المعاصر د. محمد بلتاجي ليجلي الأمر ويوضح الصورة بتتبع نشأة المؤلفة قلوبهم والظروف التي تسمح لهم بالأخذ من أموال الزكاة ومتى يمنعوا ذلك على النحو الآتي:

أولا. معنى المؤلفة قلوبهم، والظروف التي استوجبت فرض نصيب لهم من أموال الزكاة:

مما شرع في القرآن في توزيع الزكاة أن يكون للمؤلفة قلوبهم نصيب منها، قال عزوجل: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، فمن هم المؤلفة قلوبهم؟ وما الظروف التي استوجبت فرض نصيب لهم من الصدقات؟

إن المتتبع لظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، يلاحظ في دهشة وعجب أن القوى المعادية التي أحاطت من كل جانب بالدعوة الجديدة، ووقفت بكل جهودها تحاول القضاء عليها، فلم تنجح في محاولتها، بل ما لبثت قبائل شبه الجزيرة كلها أن اعتنقت هذه الدعوة، بحيث أصبح شبه الجزيرة العربية نقطة ارتكاز وتجمع، وأرضا صلبة لهذه الدعوة. ولا بد أن نسلم بأن هذه الدعوة الجديدة كانت تحتوي على إمكانات حيوية، شقت أمامها طريق النصر في ظروف صعبة.

لكن تقصى وقائع التاريخ يثبت أن الإمكانات المعنوية ما كانت لتستطيع وحدها أن تغير الواقع المادي الصلب، وبخاصة أن المجتمعات البشرية تمر بظروف تصبح فيها المادة منطق الحياة ومبدأها الوحيد، وحينئذ لا يكون هناك أكثر فعالية من المال، في نفوس كثير من الناس.

ولا شك أن مجتمع المدينة الإسلامي الناشئ، المحاصر من كل الجهات بالأعداء الأقوياء، كان يمر بظروف قاسية في حرب غير متكافئة عدديا على الأقل، لكن قوة العقيدة كانت تهب النصر، وبعد كل انتصار للمسلمين كان يوجد دائما هؤلاء الرجال، الذين يجمعون بين الذكاء والطموح والتفكير العلمي، والذين هم على استعداد للتخلي عن روح العداء للقوة المنتصرة إذا قدم شيء من المال. قال صفوان بن أمية - وهو أحد المؤلفة قلوبهم -:«والله، لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي»[2]. ومن ينكر تأثير العطاء المادي المتكرر في نفوس البشر، وإن تفاوتت درجته بين رجل وآخر؟ لقد كان تخلي هؤلاء الرجال عن روح العداء يختصر طريق النصر الشاق، ويعطيهم الفرصة للاتصال المباشر بمبادئ الدعوة الجديدة، فإذا ما تم لهم هذا الاتصال بها أحبتها نفوسهم وقلوبهم، ولم يعودوا في حاجة إلى أن تفرض عليهم، أو يفرض عليهم إعادة النظر فيها. وكان وصولهم إلى هذه الدرجة من الاقتناع الحر، كسبا مزدوجا لهم، وللدعوة الجديدة؛ فإن معظمهم كان من رؤساء القوم، في وقت كانت فيه غالبية معتنقي العقيدة الجديدة من العبيد والإماء، ومن الفقراء والمستضعفين، المتطلعين إلى الخلاص والحرية والإنسانية، في ظل الدين الذي يدعو إلى المساواة الشاملة.

ولن نعجب إذا وجدنا أن معظم الذين كان يراد تأليف قلوبهم حول الإسلام، كانوا من أشراف الناس ورؤسائهم، وقد كانوا ثلاثة أنواع:

  • مشركونبعيدونبقلوبهمعنالإسلام،يعطونليكفواأذاهمعنالمسلمينوللاستعانةبهمعلىغيرهممنالمشركينعندالحاجةلذلك؛لئلايتكتلالمشركونكلهمفيمعركةواحدةضدالقوةالإسلاميةالناشئة.
  • مشركونمنرؤساءالقوم،عندهم استعداد نفسي لإعادة النظر في الدعوة، فيعطيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصدقات، ويقربهم ليتصلوا بمبادئ الدعوة ورجالها اتصالا مباشرا، فإما آمنوا بها، وإما ضعف عداؤهم لها، فلم يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام.
  • مسلمونحديثوعهدبكفر، وإيمانهم ما زال ضعيفا، وما زالت تسيطر عليهم المفاهيم المادية، التي سادت حياتهم من قبل؛ فيعطون لئلا يرجعوا إلى الكفر بسبب الحاجة؛ لأن الرسولـ صلى الله عليه وسلم - كان يعلم تماما أن الرجل الجائع ضعيف الإيمان يصعب عليه الإيمان بأي شيء.

ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدخر جهدا أو مالا في سبيل الإسلام، يروى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال:«ما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئا إلا أعطاه إياه، فجاء رجل فسأله، فأمر له بغنم بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدا يعطي عطية لا يخشى الفاقة»[3].

والثابت تاريخيا في أعقاب الحروب أن قلوب الفئة المهزومة أقرب ما تكون إلى الاستمالة للدعوة الجديدة المنتصر أصحابها، فبعد انتصار المسلمين على هوازن سنة 8هـ أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض رؤساء القبائل، فأعطى مائة بعير لكل من أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والعلاء بن جارية الثقفي، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس التميمي، ومالك بن عوف النصري، وصفوان بن أمية، وأعطى دون المائة رجالا من قريش؛ منهم: ابن عمرو، وسعيد بن يربوع، وعدي بن قيس، وآخرون، ويبدو أن عطاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للعباس بن مرداس لم يكفه، فعاتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأبيات من الشعر، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه»[4]. فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الرجال وغيرهم، وترك كثيرا من المسلمين الصادقين المحتاجين، الذين كان اعتناقهم للدعوة الجديدة، وانشغالهم بالجهاد من أسباب احتياجهم، فقال له أحد صحابته: «يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفس محمد بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه»[5].

وإذا تتبعنا بعض هؤلاء الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجدنا أن كثيرا منهم دخل في الدعوة بعد ذلك عن اقتناع حر، وبعض هؤلاء احتل منزلة عالية بين المسلمين، كمعاوية أول خليفة أموي، ولكن بعضهم الآخر لم يخلص قلبه للإسلام، وإن كان قد كف شره عن المسلمين، وهو شيء مهم في حد ذاته.

ونلاحظ أن ابن قتيبة عقب بعد أن ذكر أسماء بعضهم بجملة: "ثم حسن إسلامه"، وترك أسماء الآخرين دون هذا التعقيب، أي أنه لم يبلغه أن إسلامهم قد حسن، أو هم لم يؤمنوا أصلا، فهو يقول مثلا: "معاوية بن أبي سفيان، ثم حسن إسلامه، وحكيم بن حزام، ثم حسن إسلامه، والحارث بن هشام، ثم حسن إسلامه، وسهيل ابن عمرو، ثم حسن إسلامه. والعلاء بن حارثة الثقفي، وعيينة بن حصن بن حذيفة، والأقرع بن حابس، ومالك بن عوف النصري"، وإذا تتبعنا حياة بعضهم بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجدنا أن رأي ابن قتيبة كان صادقا إلى حد كبير.

ثانيا. منع عمر - رضي الله عنه - سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه لم يكن في خلافة أبي بكر أو عمر من ينطبق عليهم هذا الوصف حتى يعطيهم:

لقد استمر عطاء المؤلفة قلوبهم حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبي بكر جاء رجلان منهم إلى الخليفة، وطلبا منه أرضا قائلين: إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تعطيها لنا، فكتب لهم كتابا بذلك - وليس في القوم عمر - فانطلقا إليه ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما، وتفل فيه فمحاه، وقال لهما: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله أغنى الإسلام وأعزه اليوم، فاذهبا فاجهدا جهدكما كسائر المسلمين، فالحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... ووافقه أبو بكر على ما فعل ورجع إليه.

تماما كما يشرع القرآن الزكاة للفقراء والمساكين، ثم يمر عصر لا يكون فيه فقراء أو مساكين فلا يوجد من يأخذ سهميهما في الزكاة، فيتوقف العمل بالنص القرآني فيهما، حتى يوجد فقراء أو مساكين.

وقد شرحنا الظروف التي اقتضت تخصيص سهم لهم في عصر الرسالة، لكن بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانتشار الإسلام في شبه الجزيرة كلها، وبعد أن مر المسلمون بتجربة حروب الردة التي انتهت بهزيمة كل المرتدين واستسلامهم، وأوضحت بجلاء حاسم أن القوة الإسلامية هي الغالبة، وأنها أصبحت الصوت العالي الذي يتردد وحده بين العرب جميعا، وآذن هذا بحركات المد العربي خارج الجزيرة لنشر العقيدة بعد هذا كله أصبح الإسلام عزيزا قويا، لا يحتاج إلى بذل الأموال لتأليف القلوب؛ لذلك استغنى المسلمون عن التأليف، فلا يمكن أن يوجد مؤلفة حتى يعطيهم عمر - رضي الله عنه - أو يمنعهم.

وهذا يفسر الموافقة الفورية من أبي بكر والصحابة - رضي الله عنهم - جميعا على رأي عمر رضي الله عنه، بحيث لم يحدث جدال فيه، وقد كان عمر - رضي الله عنه - أول من نبههم إلى حقيقة الوضع الإسلامي العزيز الجانب، الذي لا يحتاج معه إلى بذل الأموال أو مداراة الرجال، وكما قال عمررضي الله عنه: إن الله قد أغنى الإسلام وأعزه اليوم.. فالحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وكيف يحتاج الإسلام إلى تأليف الأعراب وجيوشه تتأهب لخوض الصراع مع جيوش إمبراطوريتي الفرس والروم؟

إن مما لا شك فيه أن الحكم بوجود مؤلفة أو عدم وجودهم، مرهون بوضع الجماعة الإسلامية، فإن احتاجوا إلى تأليف القلوب، فحينئذ يوجد المؤلفة ويستحقون نصيبا مفروضا في القرآن، وإن لم يحتاجوا إلى التأليف، فكيف يوجد المؤلفة إذن؟ ومن هنا لم يخالف عمر وأبو بكر - وغيرهما من الصحابة - نصوص القرآن، أو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فعلوه لم يكن إلغاء للآية أو نسخا لها، وإنما كان منعا لسهم لم يوجد في عصرهم من يستحقه ولو مرت بالمسلمين في عهد عمر أو بعده ظروف يحتاجون معها إلى تأليف القلوب، لأخرج من الصدقات سهم المؤلفة قلوبهم، وأعطى من يستحقونه.

ويدل على صحة ما فعله سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما ذكره الجصاص حين قال: ترك أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - النكير على عمر - رضي الله عنه - فيما فعله - بعد إمضائه الحكم - يدل على أنه عرف مذهب عمر حين نبهه إليه، وأن سهم المؤلفة قلوبهم كان مقصورا على الحال التي كان عليها أهل الإسلام، من قلة العدد وكثرة عدد الكفار، ويروي الجصاص عن الحسن قوله: إن المؤلفة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس اليوم مؤلفة قلوبهم.

ويؤكد ما سبق قول كمال الدين بن الهمام (ت 861 هـ): فلم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه، مع ما يتبادر منه من كونه سببا لإثارة الثائرة أو ارتداد بعض المسلمين، فلولا اتفاق عقائدهم على حقيقته، وأن مفسدة مخالفته أكثر من المفسدة المتوقعة، لبادروا إلى إنكاره، ويقرر ابن الهمام المسألة في إطار عقلي منطقي فيقول: إن الغاية من هذا التشريع إعزاز المسلمين، وإن إعطاء الأموال للمؤلفة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان وسيلة لهذه الغاية، وبعد وفاة الرسول وكثرة المسلمين، أصبح عدم إعطائهم هو الذي يؤدي إلى إعزاز المسلمين؛ لأن إعطاءهم في حالة الكثرة والمنفعة إذلال للمسلمين، وإظهار لهم بمظهر الضعف والقلة، فهو يؤدي إلى عكس ما كان يؤدي إليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لاختلاف ظروف المسلمين.

ولما كانت غاية التشريع هي المقصودة منه في الحقيقة؛ فلذلك لا يعطون في حال عزة المسلمين، فعدم الدفع الآن للمؤلفة تقرير لما كان في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا نسخ له؛ لأن الواجب كان الإعزاز، وكان بالدفع، والآن هو عدم الدفع، وهذه نظرة صائبة إلى غاية التشريع وحكمته.

لم ينسخ عمر والصحابة - رضي الله عنهم - نص الآية إذن، ولم يبطلوا العمل بها؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين نسخ النص وبين وقف العمل به، حتى يوجد من ينطبق عليه. ويبدو هذا بالفعل في عهد عمر بن عبد العزيز حين تألف قلب البطريق وأعطاه ألف دينار، لحاجة المسلمين ومصلحتهم، وعملا بالآية والسنة، وبدهي أن الآية لو نسخت أو ألغيت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ لما جاز تأليف القلوب بعد ذلك، ولا يستطيع أحد بعد عصر الرسالة وانقطاع الوحي أن يدعي نسخ حرف واحد من النصوص، وهي حقيقة أولية في التشريع الإسلامي.

يقول أبو عبيد القاسم بن سلام: "إن هذه الآية )إنما الصدقات( (التوبة: 60)، محكمة لا نعلم لها ناسخا من كتاب أو سنة، فإذا كان قوم لا رغبة لهم في الإسلام إلا النيل منه، وكان في ردتهم ومحاربتهم ضرر على الإسلام، لما عندهم من العز والمنعة، فرأى الإمام أن يرضخ لهم[6] من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث:

  • الأخذبالكتابوالسنة.
  • الإبقاءعلىالمسلمين.
  • أنالإمامليسبيائسمنهمإنتمادىبهمالإسلامأنيفقهوهوتحسنفيهمرغبته"،ولهذايرىأبوعبيدأنالأمرفيالمؤلفةماضأبدا،وأنتقديروجودالمؤلفةأوعدموجودهميرجعإلىالتقديرالحكيملوليالأمر.

ويقول الشوكاني: إنه يجوز تأليف القلوب عند الحاجة إلى ذلك، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلبة، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة.

وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطبري أيضا، فهو ينكر رأي من قال: إن المؤلفة قلوبهم قد انتهى عهدهم إلى غير رجعة، ويقول: إنه بالرغم من أن الإسلام قد كثر أهله وعز، إلا إنه لو وجدت ظروف يحتاجون فيها إلى تأليف القلوب، فعند ذلك يوجد المؤلفة ويجب نصيبهم المشروع بالقرآن والسنة، حتى لو كان المعطون من الأغنياء؛ لأن من أهداف الصدقة معونة الإسلام وتقويته، وما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير؛ لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه. وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطي الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطي ذلك غنيا كان أو فقيرا.

ثالثا. آية المؤلفة قلوبهم محكمة وباقية إلى يوم القيامة، يعمل بها المسلمون حين يحتاجون إلى تأليف القلوب:

إن الذين قالوا - بعد عصر عمر رضي الله عنه - بعدم وجود مؤلفة، إنما نظروا إلى حال المسلمين في عهدهم، حيث كانوا من القوة والعز؛ بحيث لم يحتاجوا إلى تأليف القلوب.

يروي ابن رشد في سياق الإجابة عن سؤال: هل للمؤلفة وجود بعد عصر الإسلام الأول؟ قال مالك: لا مؤلفة اليوم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل حق المؤلفة باق إلى اليوم، إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام على الإسلام، وسبب اختلافهم: هل ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو عام له ولسائر الأمة؟ والأظهر أنه عام. وهل يجوز ذلك للإمام في كل أحواله، أو في حال دون حال؟ أعني في حال الضعف، لا في حال القوة؛ ولذلك قال مالك: لا حاجة للمؤلفة الآن لقوة الإسلام، وهذا التفات منه إلى المصالح.

ولا شك أن النظرة النافذة لما قاله الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبوحنيفة، تستطيع أن تلمح أنه ليس هناك خلاف حقيقي بينهم؛ إذ إن مالكا قد نظر إلى عهده، فرأى أن المسلمين في حال من القوة بحيث لا يحتاجون إلى التأليف؛ فانتفت علته، فلم يعد هناك مؤلفة، وكان يعني عصره بهذا الحكم. أما إذا اقتضت مصالح المسلمين التأليف فعندئذ يوجدون، ويعمل بسهمهم، وتقدير المصلحة يرجع إلى ولي الأمر الذي فوض إليه الشافعي وأبو حنيفة النظر والحكم.

حقائق ثابتة حول هذه المسألة:

أليس عمر بن الخطاب هو نفسه الذي التزم بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ظروف خاصة - من الإسراع في المشي وهز المنكبين في الطواف بالبيت في الحج، وقال في خلافته: «فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»[7]. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا المسلمين في عمرة القضاء إلى الإسراع في المشي ليري المشركين قوة المسلمين، ولم يكن سبب الإسراع قائما في خلافة عمر - رضي الله عنه - لانتهاء الكفر وأهله كما قال عمر رضي الله عنه، ومع ذلك قال: "لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

فهل يعقل أن عمر - رضي الله عنه - هذا هو الذي يلغي تشريعات القرآن الكريم إلغاء، وينسخها نسخا ليقينه بأنها لم تعد تلائم ظروف المجتمع في عهده؟

إذا صدقنا أن عمر ألغى تشريع القرآن الكريم في المؤلفة قلوبهم، فكيف رجع حفيده عمر بن عبد العزيز إلى العمل به مع البطريق؟ أم جعلت النصوص القرآنية ألعوبة في أيدي الخلفاء، يلغيها هذا ويعيدها ذاك؟

فرضت نفس الآية التي أشار إليها المدعون نصيبا في الزكاة للفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمين، فهب أن الزكاة عرضت في بلد ما وعصر ما فلم تجد أحدا يأخذها لاستغناء الناس بكسبهم عنها وعدم وجود (الفقراء)، و(المساكين)، فهل يعتبر ولي الأمر عندئذ ملغيا لنص الآية إذا وقف نصيب الفقراء والمساكين؟ وما رأي المدعين فيم لو انتفى وجود المدينين الذين نصت عليهم نفس الآية في (الغارمين)؟ وما رأيه في انتفاء وجود سهم (في الرقاب)؟ أيقول عن هذا إن النص القرآني قد ألغى؟ وما الفرق بين انتفاء وجود (المؤلفة قلوبهم)، في عهد عمر رضي الله عنه، وانتفاء وجود المستحقين الآخرين الذين نصت عليهم نفس الآية؟ لا فرق.

ومن أجل هذا نص الفقهاء منذ عصر الصحابة على أن الزكاة تدفع للموجودين من الأصناف الثمانية دون أن يدل هذا على أن من لا يوجد منهم في عصر ما فقد ألغى التشريع القرآني بالنسبة له. ذاك أن الفرق كبير بين (الإلغاء والنسخ)، وبين (وقف سهم) طائفة من المستحقين غير الموجودين في عصر ما، حتى يوجدوا.

وبهذا التفصيل نتبين أن عمر - رضي الله عنه - لم يخالف التشريع الإسلامي، ولم يهدم شيئا من تعاليمه[8].

الخلاصة:

  • لاشكأنمجتمعالمدينةالإسلاميالناشئ،المحاصرمنكلالجهاتبالأعداءالأقوياءكانيمربظروفقاسيةفيحربغيرمتكافئة،عددياعلىالأقل،لكنقوةالعقيدةكانتتهبالنصر،وبعدكلانتصارللمسلمينكانيوجددائماهؤلاءالرجال،الذينيجمعونبينالذكاءوالطموح والتفكير العلمي، والذين هم على استعداد للتخلي عن روح العداء للقوة المنتصرة إذا قدم لهم شيء من المال. قال صفوان بن أمية - وهو أحد المؤلفة قلوبهم -: «والله، لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي»[9].
  • إنمعظمالذينكانيرادتأليفقلوبهمحولالإسلام،كانوامنأشرافالناسورؤسائهم. وقدكانواثلاثةأنواع:

o      مشركونبعيدونبقلوبهمعنالإسلام،يعطونليكفواأذاهمعنالمسلمين.

o      مشركونمنرؤساءالقوم،عندهماستعدادنفسيلإعادة النظر في الدعوة.

o      مسلمونحديثوعهدبالإسلام،وإيمانهممازالضعيفا،ومازالتتسيطرعليهمالمفاهيمالمادية.

  • لميكنالرسول - صلىاللهعليهوسلم - يدخرجهداأومالافيسبيلالإسلام،وأمامنععمربنالخطاب - رضياللهعنه - سهمالمؤلفةقلوبهمفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ فذلك لأنه لم يكن هناك مؤلفة حتى يعطيهم، وبذلك يتبين أن النص لم يعطل ولم يعلق، وإنما المحل هو الذي انعدم، فلو أن ظرفا من الظروف على عهد عمرـ رضي الله عنه - أو غيره من بعده قضى بأن يتألف الإمام قوما فتألفهم؛ لأصبح الصنف موجودا، فلا بد من إعطائه.
  • تماماكمايشرعالقرآنالزكاةللفقراءوالمساكينثميمرعصرلايكونفيهفقراءأومساكين؛فلايجدمنيأخذسهميهمافيالزكاة،فيتوقفالعملبالنصالقرآنيفيهما،حتىيوجدفقراءأومساكين.
  • آيةالمؤلفةقلوبهممحكمةوباقيةإلىيومالقيامة، يعمل بها المسلمون حين يحتاجون إلى تأليف القلوب، وبعملهم هذا يوجد المؤلفة، ويجب سهمهم، بل قال الشافعي وأبو حنيفة: حق المؤلفة باق إلى اليوم، إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام إلى الإسلام.

 

 

(*) منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م.

[1]. منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص40: 43 بتصرف.

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا قط فقال: "لا" (6162)، وفي موضع آخر.

[3]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12051)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب قسم الصدقات، باب من يعطى من المؤلفة قلوبهم (13565)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد.

[4]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب فتح مكة، باب رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الجعرانة (1937).

[5]. أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة، باب الجيم، من اسمه جندب (1581)، والبيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب فتح مكة، باب رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الجعرانة (1938).

[6]. يرضح لهم: يطعيهم.

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (317)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب المناسك، باب ذكر الدليل على أن السنة قد كان يسنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلة (2708) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1662).

[8]. منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص148 وما بعدها.

[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قط فقال: "لا" (6162)، وفي موضع آخر.

 

  • الاحد PM 10:23
    2020-11-15
  • 1123
Powered by: GateGold