المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413454
يتصفح الموقع حاليا : 222

البحث

البحث

عرض المادة

شبهات راجعة إلى روايات بعينها ؛ لتوهم معارضتها لما هو أرجح منها

وهذا الأصل هو الذي تنبثق منه أكثر الشبهات والاستشكالات المعاصرة، ولذلك؛ فإنك تجده حاضراً في خطاب جميع من يطعن في السنّة، فإما أن يزعم أن في السنة الصحيحة روايات تخالف العقل، أو تخالف القرآن، أو العلم التطبيقي ،أو تخالف روايات أخرى أصحّ منها، ومن ثم يتوصّلون بذلك إلى ردّ السنّة أو التشكيك فيها.

وسأذكر قواعد في التعامل مع كلِّ نوع من هذه الأنواع على حِدَة، ولكن قبل ذلك هنا تنبيهان مهمان :

التنبيه الأول : يغفل كثير من المستشكلين أنَّ جُلّ استشكالاتهم قد أجاب عنها أهل العلم قديماً وحديثاً، ولكنّ أكثرهم لا يَقرؤون هذه الكتب، وإنما يكتفون بإيراد الإشكالات!!.

وقد اعتنى المحدّثون بالأحاديث التي ظاهرها التعارض، وأفردوا لها نوعاً من أنواع علوم الحديث، كما فعل الإمام  أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث؛ حيث جعل النوع السادس والثلاثين من أنواع علوم الحديث: (معرفة مختلف الحديث), بل وأفرد العلماء كتباً مستقلة خاصة بالأحاديث التي ظاهرها التعارض، وبعضهم توسع فأدخل فيها ما يُتوهم تعارضه مع العقل أو القرآن. وأول من ألف في ذلك : الإمام الشافعي - رحمه الله - ، في كتاب اسمه : «مختلف الحديث».

ومن الكتب المهمة في هذا الموضوع: كتاب «شرح مشكل الآثار» للإمام الطحاوي - رحمه الله -، ويقع في ستة عشر مجلدًا!. فهل اطلع عليه هؤلاء المتسرعون في ردّ الحديث؟.وابن قتيبة له كتاب مشهور في ذلك، وهو «تأويل مختلف الحديث»، والكتب في هذا المجال كثيرة.

ومن الرسائل المعاصرة الجيدة في الباب، كتاب «التعارض في الحديث», للدكتور لطفي الزغير، وهو كتاب نفيس وممتاز.

التنبيه الثاني: إن من الخطأ المنهجي ما يقع فيه بعض المتسرعين، من ردّ السنّة كلها أو جُلّها؛ بسبب عدد من الروايات التي استشكلوها، ويتركون آلاف الروايات الصحيحة التي لا يُتوهم تعارضها مع شيء مثلها ، أو أرجح منها.
فلو توقف الإنسان في حديث أو حديثين، لكان موقفا معتدلاُ بإزاء رد السنّة كلها

كما أني أُحب أن أشير إلى أن الاهتمام بالقواعد المنهجيّة أمر أهم من الإجابة عن الاستشكالات التفصيليّة، ولا شك أن جمع الأمرين أكمل، غير أن الذي يضبط علمه بقواعد منهجيّة ؛ فإنه يستطيع التعامل مع جميع التفصيلات، ومع أي شبهة جديدة.


النوع الأول : توهّم تعارض الحديث مع العقل

قواعد منهجية في التعامل مع هذا النوع :

القاعدة الأولى : التثبت من صحة إسناد الرواية.

إن أول خطوة ينبغي التأكد منها عند النظر في الأحاديث التي يُدّعى أنها معارضة للعقل: هي التثبّت من صحّة الحديث، فإن كان ضعيفاً, فلا داعي للتكلف في الجمع بينه وبين العقل، فالذين يطعنون في السنة بناء على روايات ضعيفة تخالف العقل، لا شك أن تصرفهم غير عادل.

القاعدة الثانية : إذا كان الحديث صحيحًا ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم فإنه -قطعاً- لن يعارض العقل، فيُـتأكَّد من سلامة فهم الحديث.

كما أن الله سبحانه هو الذي خلق العقل وأرشدنا إلى العمل به؛ فهو -أيضاً- مَن أَمَرَنا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا يمكن حينئذٍ أن يوجد تعارض بين العقل والنقل، وفي ذلك كتب ابن تيمية رسالته العظيمة «درء تعارض العقل والنقل» وقال فيها: «فلا يُعلَم حديث واحد على وجه الأرض يخالف العقل أو السمع الصحيح ،إلا وهو عند أهل العلم ضعيف بل موضوع»([1]).

وكثيراً ما يطعن المـُشكّكون في بعض الأحاديث الثابتة بدعوى مخالفة العقل, ويكون ذلك من سوء فهمهم للنصّ!.

القاعدة الثالثة : التفريق بين ما يخالف العقل ،وبين ما لا يُدرك بمجرّد العقل.

قال الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى-: «إن الله جعل للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعداه, ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب»([2]).

     وعدم فهم هذه القضية أوقع كثيراً من الناس في خطأ كبير، وهو ردّهم لأحاديث صحيحة زاعمين أنها تخالف العقل! وهي في الحقيقة من عالَم الغيب الذي لا ندركه بمجرد العقل.

مثال ذلك: حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «إنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله([3]).

فاعترض بعض المعاصرين (أبو ريّة) على صحة هذا الحديث! والصواب أنّه لا مجال لاعتراض العقل هنا؛ لأن عالم الغيب لا تقاس فيه الأشياء بحدود المحسوسات في هذه الدنيا، فإذا أدركنا هذه القاعدة ؛ تنحلّ كثير من الإشكالات التي يثيرونها على الأحاديث الغيبيّة الصحيحة، مثل حديث سجود الشمس؛ إذْ إنّ طريقة سجودها، وكيفيّة العرش، واستئذانها لله سبحانه، كل ذلك من عالَم الغيب.

القاعدة الرابعة : إدراك اختلاف الأفهام .

إنّ الإشكالات التي تُثار تجاه الروايات الصحيحة بزعم أنها تخالف العقل، هي في حقيقة الأمر لا تخالف العقل الصريح, وإنما قد تخالف فهم الشخص المـُستَشْكِل وأمثاله؛ فإنّ معايير استيعاب وقبول الناس للأخبار تختلف من شخص لآخر، بحسب طريقة تربيته وظروف نشأته ومحيطه ومجتمعه، فَما قد يراه الشخص الذي يعيش في عمق أدغال أفريقيا مخالفاً للعقل ، يراه غيره ممن نشأ وتقلّب في المـَدنيّة الحديثة من مقبولات العقول. بل وربما من مُسلّماتها!.

فإن استشكل مُستشكل حديثاً صحيحاً بدعوى معارضته للعقل فإنّا نقول له: أنت تظن أن هذا يعارض العقل, وهو إنما يعارض مسلماتك وتصوراتك, وإلا فكيف قَبِلَتْهُ آلاف العقول الُحرّة المفكرة غير المـُقلّدة؟.

القاعدة الخامسة : عند اختلاف العقول في قبول حديث ؛ فالحكم: الميزان العلمي .

قد تَصِلُ في النقاش مع من يدّعي بأن حديثاً من الأحاديث الصحيحة يُعارض العقل, إلى أن تقول له: حسناً، هذا الحديث يخالف العقل في قول طائفة، ولا يخالفه في قول طائفة أخرى، فما العمل؟ وعقْلُ مَنْ أولى بالتقديم؟.

إنّنا -هنا- نحتاج إلى محكِّم خارجيّ مستقلّ, نُميّز عن طريقه -بموضوعية -ما يخالف العقل مما لا يخالفه، وهذا الميزان هو: علم الحديث، وقد سَبق التفصيل في إثبات صحّة هذا العلم وموضوعيّته..


النوع الثاني : توهم تعارض الحديث مع القرآن

قواعد منهجية في التعامل مع هذا النوع :

القاعدة الأولى : التأكد من ثبوت الحديث .

فإن كان الحديث ضعيفاً, فلا داعي لادّعاء التعارض, وتكلفِ الإجابة، إلا إذا كان الضعفُ يسيراً.

القاعدة الثانية : التأكد من دلالة الآية وتفسيرها :

كثيرا ما تُرَدُّ أحاديث صحيحة بدعوى تعارضها مع القرآن، ويكون منشأ الإشكال مِن الخطأ في فهم الآية القرآنية.

مثال على ذلك : هناك من يقول إن عقوبة الردَّة تعارض قول الله :
ﮋ ﯿ ﰀ  ﰁ ﰂ ﮊ  [البقرة : 256]. ثم يَرُد الأحاديث الواردة في عقوبة الردّة نظراً لاكتشافه هذا التعارض الذي لم يكن معروفاً قبل ظهور هذا العلّامة! وكأن العلماء حين أجمعوا على عقوبة المرتد, لم يعلموا بوجود هذه الآية! والذي لا شك فيه أنهم يعلمون هذه الآية ؛ ولكن تفسيرهم لها يختلف عن هذا الفهم الحادِث، فقد فسّروها على نفي إكراه غير المسلم على الدخول في الإسلام, وليس على من التزم بأحكام الإسلام, ثم ارتد عنها!.

مثال آخر: يُنكِر بعض المعاصرين أحاديث حدّ الرجم، زاعمين أنها تعارض قول الله: ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ  ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﮊ  [النساء : 25].حيث فهموا أن المراد بالمحصنات في الآية: المتزوجات، والرجم لا يتنصف؛ فهذا يدلّ على أنه لا رجم على المتزوجات، وأما غير المتزوجات فيتفق الجميع على أنه لا رجم عليهنّ. والصواب أن المراد بالمحصنات في الآية (الحرائر), حيث إن سياق الآية في نكاح الإماء، فإن في أول الآية الحث على نكاح المـُحصَنات: ﮋ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ   ﮉ ﮊ  فلا يكون معنى المحصنات هنا المتزوجات، وأما قوله سبحانه ﮋ ﮪ ﮫ ﮬ ﮊ  أي الإماء، ﮋ ﮭ ﮮ  ﮯ ﮰ ﮱ ﮊ أي الحرائر. فالحرائر إن زنين فحدهن: إما الجلد، وإما الرجم، والجلد يتنصف، والرجم لا يتنصف ؛ فالإماء إذن حدهن نصف حَدّ ما يتنصّف من عقوبة الحرائر.

القاعدة الثالثة : مراجعة كتب شروح السنّة لمعرفة معنى الحديث, وتوجيهه, وأقوال أهل العلم فيه .

لقد اعتنى أهل العلم عناية كبيرة بشرح السنّة ، وتوضيح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا في ذلك جهوداً كبيرة، فعلى سبيل المثال: شرْحُ ابن عبد البر لموطأ الإمام مالك - رحمه الله - استغرق مدة زمنية قدرها ثلاثين سنة، وشرح ابنِ حجر - رحمه الله - لصحيح البخاري استغرق ربع قرن من الزمان، وغيرهم بذلوا جهوداً كبيرة أيضاً في سبيل توضيح معاني أحاديث رسول الله، وحلّ ما قد يُشكِل منها، فهذا شرح السنّة للإمام البغوي، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي، وشرح سنن أبي داود لشرف الحق العظيم آبادي، وشرح الترمذي للمباركفوري، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين، وغيرها الكثير مما حفلت به المكتبة الإسلاميّة.

والمراد: أن المسارعة إلى ردّ الحديث الذي تُتَوَهَّمُ معارضته للقرآن الكريم دون مراجعة أقوال أهل العلم في شرحه وبيان معناه؛ استعجال خاطئ يقع فيه الكثير.

القاعدة الرابعة : الرجوع إلى قواعد التعارض بين الأدلة .

يذكر العلماء في كتب أصول الفقه و الحديث قواعد التعامل مع الأدلة المتعارضة، والتي تبدأ بمحاولة الجمع بين الدليلين على مقتضى السياقات اللغوية :من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحو ذلك، وعلى مقتضى السياقات الشرعية أيضاً؛ لأن إعمال النصين أولى من إهمال أحدهما، فيُنظَر في العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحو ذلك.

فإن لم يُمكن الجمع فيُنظَر في النسخ، فإن لم يمكن الجمع ولم يثبت النسخ فالتوقّف. و يعمد بعض أهل العلم إلى الترجيح بعد ذلك, فيرجّح القرآن على الحديث؛ لأنه أقوى من جهة الثبوت.

ولعلّ هذه القضية نسبيّة؛ بمعنى أنه قد يتعذّر الجمع على بعض المجتهدين, فيعمدون إلى الترجيح، وبعضهم لا يرجح وإنما يتوقف. والبعض الآخر يستبين له وجه الجمع. كما حصل بين المجتهدين من الصحابة في حديث «من نيح عليه يعذب بما نيح عليه»([4]) وحديث «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»([5]). حيث ذهبت عائشة - رضي الله عنها - إلى أن هذا الحديث يعارض قول الله: ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﮊ  [الأنعام : 164]. فرجحت الآية على الحديث, وخطّأتِ الراوي([6]). ولم ير غيرُها من مجتهدي الصحابة كعمر - رضي الله عنه - أن في ذلك تعارضاً، وعلى ذلك سار أغلب شراح الحديث، وحملوا الحديث على محامل ليس هذا مجال البسطُ فيها. وقولهم مُقدّم؛ لأن فيه إعمالًا للنصين.

وأما وجود مثال لتعارض حقيقي بين حديث صحيح وآية قرآنية من كل وجه, فلا أعلم شيئًا من ذلك، لأنه لا يكاد يوجد شيء ظاهره التعارض إلا وقد أُجيب عنه من قِبل أهل العلم، ولكن قد يتعذر الجمع في نظر مجتهد, فيرجح الآية على الحديث إن لم يتيقن صحّته، وأما إن تيقّن ولم يستطع الجمع فيتوقّف.

النوع الثالث : توهّم تعارض الحديث مع الحسّ أو العلوم الطبيعية والتطبيقية

قواعد منهجية في التعامل مع هذا النوع :

القاعدة الأولى : التأكد من ثبوت الحديث .

قد يطعن البعض في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب حديث ضعيف, يعارض ما ثبت بالعلم، وقد يتكلف من يدافع عن السنّة الجواب عن هذا الحديث, محاولاً التوفيق بينه وبين العلوم التطبيقية، وهذا غلط.

مثال ذلك: حديث: «عليكم بألبان البقر وسمنانها، وإياكم ولحومها، فإن ألبانها وسمنانها دواء وشفاء، ولحومها داء»([7]), قد يُقال: إنه حديث مخالف لما ثبت بالطب، ومن ثم يتم ادّعاء وجود أحاديث صحيحة تخالف العلم! وهذا خطأ؛ لأن الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

القاعدة الثانية : التأكد من دلالة النص ومعناه :

من الظُّلمِ الطعن في السنّة بدعوى تعارضها مع الحسّ أو العلم، ثم نجد أن السبب في ادّعاء التعارض هو خطأ الفهم للنص!

مثال ذلك : ما ذكره كاتب مشهور في إحدى الصحف المحلية تحت عنوان : «لو كان البخاري بيننا», قال فيه :«كيف نوفق بين أحاديث تعارض الجغرافيا والتاريخ والاكتشافات الميدانية -فضلا عن صور الأقمار الصناعية- مثل حديث خروج النيل والفرات وسيحون وجيحون من الجنة) أهـ.

والحديث الذي يقصده الكاتب هو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سيحان وجيحان والفرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة»([8]).

وهذا الفهم السطحي للحديث بأن الأنهار متصلة اتصالاً حسياً بالجنة، ومن ثم ادعاء تعارض ذلك مع ما ترصده الأقمار الصناعية = خطأ لا يتحمله الحديث ولا رواته. وقد ذكر ابن حزم - رحمه الله - في كتابه المحلى هذا الحديث، وحديث: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة»([9]) ثم قال: «وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة، هذا باطل وكذب; لأن الله -تعالى- يقول في الجنة :
 ﮋ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ  [طه : 118-119] فهذه صفة الجنة بلا شك, وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك الروضة، ورسول الله (عليه السلام) لا يقول إلا الحق. فصح أن كون تلك الروضة من الجنة, إنما هو لفضلها، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة; وكما قيل في الضأن: إنها من دواب الجنة»([10]) أهـ.

مع ملاحظة أن في كلام ابن حزم إنكارًا على ما هو دون فهم الكاتب، فإن كلام الكاتب يفهم منه الاتصال الحسي، بينما يُنكر ابن حزم مجرد كون هذه البقعة وهذه الأنهار قد اقتُطعَت من الجنة! ولا أُريد -هنا- ذِكر أقوال شُرّاح الحديث، ولا تحرير المعنى الأرجح؛ لكنّ الذي لا ريب فيه ولا شك أن معنى الاتصال الحِسّي غير مقصود! فلماذا يُلصَق هذا المعنى بالحديث ومن ثم يتم إنكاره بناء على ذلك؟!.

مثال آخر : التكذيب بحديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم
- رحمهما الله تعالى- عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا من أهل البادية, أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال: «ويلك وما أعددت لها؟», قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: «إنك مع من أحببت». فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: «نعم»، ففرحنا يومئذ فرحا شديدًا، فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني، فقال: «إنْ أُخِّر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة»([11]).

فيقول المـُشكّك: ها قد عاش هذا الغلام حتى مات، ومات أبناؤه أو من في سنّ أبنائه ، ولم تقم الساعة! فهذا حديث يخالف الحس؛ فيجب ردهّ!.

وقبل أن أجيب عن هذا الكلام، أودّ أن أقول : إن الإمامين البخاري ومسلم وغيرهما من أهل العلم؛ ممن أخرجوا هذا الحديث أو شرحوه, قد عاشوا بعد هرم ذاك الغلام, وهرم من هم في سنّ أحفاده، وهم جميعاً يعلمون أن الساعة لم تقم، فليس اكتشافاً جديداً ما أتى به هذا المـُشكك!!.

ثم : أليس من احترام هؤلاء العلماء أن ننظر في تعليقهم وشرحهم على هذا الحديث, ما دام أنهم عاشوا بعد انقضاء ما فيه من مدة؟!!.

إن العلماء قد بينوا المراد بهذا الحديث ووضحوه، وكلامهم في هذا كثير جداً، فعلى سبيل المثال: قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في «النهاية في الفتن والملاحم» بعد أن ذكر روايات وألفاظ مختلفة للحديث: «وهذه الروايات تدل على تعداد هذا السؤال والجواب، وليس المراد تحديد وقت الساعة العظمى إلى وقت هرم ذاك المشار إليه، وإنما المراد أن ساعتهم -وهو انقراض قرنهم وعصرهم- قصاراه أنه إلى مدة عمر ذلك الغلام...، وفي الحديث: «تسألوني عن الساعة! فإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة»ـ ويؤيد ذلك رواية عائشة: «قامت عليكم ساعتكم»، وذلك أنّ من مات فقد دخل في حكم القيامة، فعالم البرزخ قريب من عالم يوم القيامة، وفيه من الدنيا أيضاً، ولكن هو أشبه بالآخرة، ثم إذا تناهت المدة المضروبة للدنيا، أمر الله بقيام الساعة, فيُجْمَعُ الأولون والآخرون لميقات يوم معلوم) ([12]) أ.هـ

القاعدة الثالثة : قبل ادعاء تعارض الحديث مع العلم، تأكد من حقيقة القول العلمي وثبوته!.

يدّعي البعض مخالفة شيء من الأحاديث الصحيحة للاكتشافات و الحقائق العلمية، وعند التحقيق لا تجد صحة نسبة ما ادّعوه إلى العلم القطعي، فعند البحث قد تجد أن المختصين في هذا الموضوع العلمي؛ سواء أكانوا أطباء أم فلكيّين أم غيرهم مختلفون في إثبات هذه القضية، أو تجدهم ينفون وجود دليل علميّ عليها.

مثال : سارع البعض إلى ردّ الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه, ثم لينزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء»([13]). وهذا نصّ كلام الكاتب المشار إليه سابقاً في مقال «لو كان البخاري بيننا» حيث أنكر هذا الحديث بقوله: «لم يعد مقبولا طبياً بعد اكتشاف مسؤولية الذبابة عن نقل 42 مرضاً خطيراً -ولا تصدق من يدعي وجود مضاد خارق على جناحها الآخر- !!».

وكلامه هذا يُناقش من وجوه :

الأول : أن في إثبات العلم حملَ الذباب للمرض, تصديقاً لما جاء في هذا الحديث, الذي استفدنا منه هذه المعلومة قبل اكتشافات المختبرات الطبية.

الثاني : أين البرهنة العلمية على انتفاء وجود «دواء» في إحدى جناحي الذباب؟. هل يستطيع الكاتب نفي ذلك علمياً؟. أم أنه مجرد استبعاد عقلي؟.

الثالث : قدّم الأستاذ الدكتور: مصطفى إبراهيم حسن - أستاذ الحشرات الطبية/ جامعة الأزهر، ومدير مركز أبحاث ودراسات الحشرات الناقلة للأمراض-بحثاً علمياً مختبرياً دقيقاً أثبت فيه إعجاز هذا الحديث, وموافقته لواقع البحث العلمي، وله مادة مرئية في ذلك.

فقول الكاتب: «لا تصدق من يدعي وجود مضاد خارق على جناحها الآخر» ليس مقدماً على قول دكتور مختصّ في مجال الحشرات الطبيّة، بل قول المـُختصّ مقدم بلا شك!.

النوع الرابع : توهم تعارض الأحاديث الصحيحة بين بعضها:

هنا أترك للقارئ الفَهِم استنتاج القواعد المنهجية للتعامل مع هذا النوع، فهي لا تخرج عن القواعد المذكورة في الأنواع السابقة، وخاصة ما ذُكر في النوع الثاني.

 

([1]) درء تعارض العقل والنقل, لابن تيمية (1/150).

([2]) الاعتصام, للشاطبي (1/831).

([3]) صحيح البخاري (6552), صحيح مسلم (2827).

([4]) صحيح البخاري (1291)

([5]) صحيح البخاري (1286).

([6]) يُنظر: صحيح البخاري (1288).

([7]) المستدرك للحاكم (8232).

([8]) صحيح مسلم (2839).

([9]) صحيح البخاري (1195)، صحيح مسلم (1391).

([10]) المحلى بالآثار, لابن حزم (7/283).

([11]) صحيح البخاري (6167), ومسلم (2639).

([12]) النهاية في الفتن والملاحم (1/197).

([13]) صحيح البخاري (3320).

  • الاربعاء AM 02:33
    2020-11-11
  • 1709
Powered by: GateGold