المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413156
يتصفح الموقع حاليا : 284

البحث

البحث

عرض المادة

إشكالات راجعة إلى أصل حجية السنة

يزعم منكرو السنّة، المتسمّون -زوراً- بالقرآنيّين أنه لا حاجة في أي أمر ديني إلى شيء خارج نص القرآن الكريم، لأنه تبيان لكل شيء.
وهذا الكلام فيه حق وباطل؛
فأما الحق الذي فيه فهو أن القرآن الكريم تبيان لكل شيء، لكن الشأن في تحرير وجه البيان والتبيان الذي جاء به القران؟ هل هو بطريق النص على كل حكم بعينه؟ أم بطريق النص تارة، وبطريق الإشارة والإحالة تارة أخرى؟ لا شك أن طريقة القرآن ليست هي النص على كل حكم بعينه، وإنما بالنص في مواضع، وبالإحالة إلى الرسول وأحكامه وأوامره ونواهيه في مواضع أخرى.
وبذلك يظهر لنا وجه الباطل في الكلام السابق.
 كما أن في قولهم تعطيلاً لكل الآيات القرآنية التي أحالت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه، وهذا يكشف عدم صدق تسمية أنفسهم بالقرآنيين؛ فإن الآيات القرآنية الآمرة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكررت عشرات المرات في القرآن، وهم عطّلوها كلها بدعاوى غير متماسكة عند التحقيق.
فمن أشهرها: دعواهم أنَّ كلمة (الرسول) الواردة في آيات الأمر بطاعته، إنما تعني الرسالة لا الشخص الـمُرسَل، ثم يقولون إنّ الرسالة هي القران -وحده-، و أن كل شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يُذكرفي نص القران فإنما فعله بمقتضى النبوّة لا الرسالة! والنبوّة لايصدر عنها شيء مُلزِم شرعاً، ويفرقون بين الرسول والنبي بهذا الاعتبار، وليس عندهم علی ذلك دليلٌ فصلٌ ينتهض بهذه الدعوى الكبيرة.
بل إن في سياق الآيات ما يُبطل هذه الدعوى، ويمنع التفرقة المزعومة؛ ألم يقل الله سبحانه (من يُطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا)؟ فالكاف في أرسلناك ظاهرة في أن المراد بالرسول هنا الشخص الـمُرسَل لا الرسالة، وهي آية صريحة في الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فقد جاء في القران جمع الكلمتين (الرسول) و (النبي) في سياق واحد، وهو سياق امتداح الاتباع، فقال سبحانه (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) كيف يقولون بعد ذلك إن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يُتَّبع بوصف النبوة؟

إنّ كشف زيف دعوى عدم دلالة آيات الأمر بطاعة الرسول على اتباع سنته لا يحتاج إلى أكثر من تأمل يسير في تلكم الآيات، فذلك كفيل في إبطال الدعوى ونقضها لمن كان له عقل، وسَلِم من اتباع الهوى!

فعلى سبيل المثال لو تأملنا في سياق أشهر آية يُستدل بها على حجية السنة، وهي آية سورة الحشر: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) سنجد أن الرسول هنا لا يحتمل معنى الرسالة، وإنما الرسول الـمُرسَل، ففي أول الآية ذِكرٌ للرسول بما لا يلتبس معناه بشيء آخر، قال الله سبحانه:

"ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"

وهذا يُظهِر عدم عنايتهم بسياق الآيات، وقلة فقههم في معانيها.
ومن الأمور التي يذكرها هؤلاء كثيراً: أن اتباع السنّة ليس مجرد اتباعٍ لأمر غير شرعي!، بل إنهم يرون اتباعها شركاً بالله، وضلالة واتباعاً للآباء والأجداد والسادة والكبراء، وهذا ما يقوله كثير منهم، ويجهرون به واثقين من صحّة قولهم واستقامته، وهذا من أعجب العجب!

ونحن نقول لهم: ألم يكن ترك الناس -إذن- بلا قرآن أسلمَ لدينهم؟ لأنهم إنما أشركوا بالله رسولَه -في زعمكم- بسبب فهمهم للآيات التي أمر الله فيها بطاعة رسوله!
فإن قالوا: إن الناس أخطؤوا في فهم القرآن.

قلنا لهم: إن هذه دعوى قد سبق بيان بعض ما فيها من خلل، ثم
هل تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم من وقت أصحاب نبيها ثم تابعيهم،
ثم فقهائها ومحدثيها ومفسريها ومتكلميها ومتصوفتها على الشرك بالله ثم لا يسلم منه إلا طائفتكم التي ليس فيها معروف بالفقه والإمامة في الدين؟
أليس في مجموع الأمة التي تخالفكم من أئمة اللغة العربية والتفسير وعلوم القرآن ممن لا ينقصهم صلاح النية والقصد من هم أكثر منكم علماً باللغة وسياقاتها وبالقرآن وتفسيره؟
فإن قالوا: إن الله يقول: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) قلنا لهم: وهو قد قال سبحانه (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) أي عدولاً خياراً، فكيف يكون جُل هذه الأمة الوسط على مر قرونها قابعين في الشرك،  كافرين بالله سبحانه!
وبعيداً عن ذلك كله فإن واقع الأمر يُثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بكثير من القضايا الدينية مما لم يُذكَر نصه في القران؛ فمن أين جاء به؟ وما الغرض من قوله؟ وهل كان يفتري على ربه؟ أم يجتهد رأيه؟ فإن قلتم إنه يفتري على ربه فقد كفرتم بإجماع المسلمين.
وإن قلتم يجتهد رأيه، فهل سيقره الله على خطأ -لو أخطأ-؟
ألم يأمرنا سبحانه بالتأسي به؟ فهل يكون من تأسى به إلا ممتثلاً للأمر الإلهي؟
بل إن رأيكم في مقابل رأي واحدٍ من أئمة الفقه والدين لا يعادل ضوء شمعة -لو كان فيه نسبة ضوء- أمام شمس مشرقة تملأ الدنيا نوراً، ولا زلتُ -والله- أذكر قول أحد هؤلاء القرآنيين عندما قال: إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في غير نص القرآن إنما هو رأي، في منزلة رأي الغزالي وغيره!
وهذا والله أعلم هو سبب ما ابتلوا به من ضيق الأفهام، وسفاهة الحلم والرأي؛ التقليل من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وسنته.

ثم إن كثيراً من هؤلاء إن أوقف على حقيقة قوله، وأدرك أوله وآخره ومآلاته فإنه قد يعود على القرآن فيكذب به، لأن واقع المسلمين من وقت نبيهم صلى الله عليه وسلم معتمد في الأحكام الشرعية الأساسية على تفصيل السنة وبيانها، بل في أظهر حكم عملي وهو الصلاة، من جهة مواقيتها وعددها وكيفيتها، رسل

 

 

فإما أن يلتزم هؤلاء المنكرون بمبدئهم ويطّردوا عليه؛ فلا يقولوا بوجوب خمس صلوات؛ ولا بالكيفية المعروفة التي يقوم بها المسلمون؛ لأن ذلك لم يُذكَر في القران نصا! وهذا في حد ذاته يولد نوعا من الصراع النفسي لمن بقيت منهم فيه حياة!

وإما أن يَشُكُّوا في القران نفسه؛ ﻷن عدم ذكر أهم حكم في الإسلام فيه يتعارض تماماً مع فهمهم لقول الله (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)! .

وإما أن يتناقضوا فيقروا بوجوب خمس صلوات مبررين ذلك بأن تحديدها جاء عن طريق التواتر العملي وليس عن طريق السنّة! وهذا الخيار الثالث تدليس، ﻷن الصلوات الخمس وإن كانت متواترة تواترا عمليا إلا أن السؤال يبقى قائما عليهم

هل عدم ذكرها في القران يتوافق مع فهمهم لقول الله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ؟.

وأمرٌ آخر، وهو أنَّ هناك أحكاماً شرعيّة لا يختلف المسلمون في العمل بها، مع أن مُستندها السنّة لا القرآن؛ فما موقف المنكرين للسنّة من هذه الأحكام؟ .

وقد ضربنا أمثلة كثيرة على ذلك قريبا، وأزيد هنا مثالاً آخر، وهو: تحريم الجمع في النكاح بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، فهذا التحريم مُستنده السنّة، ليس مذكورًا في القرآن، وقد أجمع المسلمون عليه، قال ابن قدامة - رحمه الله - في بيان المحرمات في النكاح: «والجمع بين المرأة وعمتها , وبينها وبين خالتها. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به، وليس فيه - بحمد الله - اختلاف, إلا أن بعض أهل البدع ممن لا تعد مخالفته خلافاً, وهم الرافضة والخوارج, لم يحرموا ذلك, ولم يقولوا بالسنة الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»([1]).

وممن نقل الإجماع في هذه المسألة: ابن عبد البر في الاستذكار([2])، وابن العربي في العارضة([3])، والقرطبي في تفسيره([4])، والنووي في شرح مسلم([5])، وابن تيمية في الفتاوى([6])، والعيني في عمدة القاري([7])، وغيرهم. قال الشافعي - رحمه الله -: «وبهذا نأخذ، وهو قول من لقيت من المفتين ،لا اختلاف بينهم فيما علمته»([8]).

فهؤلاء العلماء يبينون أن قضية تحريم الجمع في النكاح بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها ،مجمع عليه، مع أن مستند التحريم السنّة، وليس للمشككين حيال ذلك إلا أحد ثلاثة أمور :

إما أن يستقيموا كما استقام هؤلاء العلماء ، ويُحرّموا هذا النوع من النكاح، معترفين بأنه مبني على السنّة. وهذا هو الصواب.

وإما أن يخالفوا في تحريم هذا النوع من النكاح. وهذا فساده ظاهر لكل من ينتمي للعلم الشرعي بِصِلة!.

وإما أن يقروا بتحريمه ولكنْ يهربون من نسبة مستند هذا التحريم إلى السنّة، وهذا إعراض صريح عن الدلالة الظاهرة لمـُستند هذا الإجماع الذي هو حديث رسول الله، وقد وقفتُ على بعض التكلّفات التي يراد منها نسبة تحريم هذا النكاح إلى القرآن ،ولكن بطريقة ملتوية في الاستدلال!!.

 

 

 

 

 

 

 

 

([1])  المغني, لابن قدامة (7/ 478).

([2])  (5/452).

([3])  (5/45).

([4])  (6/174).

([5])  (9/191).

([6])  (32/69).

([7])  (20/107).

([8])  الأم, للشافعي (6/ 11).

  • الاربعاء AM 02:29
    2020-11-11
  • 1661
Powered by: GateGold