المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413776
يتصفح الموقع حاليا : 245

البحث

البحث

عرض المادة

اشتراط المحدثين اتصالَ أسانيد الروايات ؛ ليحكموا عليها بالصحّة

  يحرص المحدّثون على التأكد من اتصال الرواية التي يُراد الحُكم عليها، فإذا وجدوا انقطاعاً فيها فإنهم يحكمون عليها بالضعف -في الجملة-.

والانقطاع في الرواية قد يكون ظاهراً، كأن يروي راوٍ عن شيخ توفي قبل مولده، و هذا النوع من الانقطاع معرفته لا عناء فيها. وقد يكون الانقطاع في الرواية خفيّاً، كأن يكون بالتدليس (وهو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمعه منه بصيغة محتملة؛ كــ«قال) و «عن»، فإن قوله: «قال فلان» و «عن فلان» لا تقتضي الاتصال بحدّ ذاتها، كما لا تقتضي الانقطاع) ، ولأن الراوي المـُدلّس لا يريد أن يكذب كذباً صريحاً فإنه يجتنب الألفاظ الصريحة في السماع نحو «سمعتُ وحدثني» فيقول «قال فلان» وهو لم يسمعه منه مباشرة، وللمـُحدّثين في كشف التدليس طرق يضيق هذا المقام المختصر عن بيانها.

والمراد من هذه القضية أن من مميزات منهج المحدثين أنهم يدققون في اتصال الأسانيد وانقطاعها، ويشترطون لصحة الحديث أن يكون متصلاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

أنهم يُدخلون الروايات في معامل اختبار دقيقة ؛ لاستخراج العلل الخفية

إن المُحدّثين لا يكتفون باتصال الإسناد مع عدالة رواته وضبطهم ؛ ليحكموا عليه بالصحة، فقد قال ابن القيم -رحمه الله- كما في كتابه «الفروسيّة»: «وقد عُلم أن صحة الإسناد شرطٌ من شروط صحة الحديث ؛ وليست موجبةً لصحة الحديث؛ فإن الحديث إنما يصحّ بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وألّا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذّ عنهم»أهـ([1]).

ولذلك؛ فإن الناقد إذا أراد الحكم على رواية فإنه يجمع أسانيدها، ويُقارن بينها متأملاً بعين الخبير، ويستعمل قرائن كثيرة؛ ليرجح بعض هذه الأسانيد على بعض حال اختلافها.

وبطريقة المقارنة هذه يكتشف علماء الحديث أخطاءَ الثقات، وههنا تظهر عظمة علم الحديث، ودقّته.

مثال ذلك: ما حصل للراوي جرير بن حازم -وهو ثقة-، فقد كان في مجلس ثابتٍ البُناني، وكان الراوي: حجاج الصواف حاضراً ذاك المجلس -أيضا-، فروى حجاجٌ حديثاً عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني»([2]). وبعد انقضاء المجلس، صار جرير يحدث بهذا الحديث عن ثابت البناني (صاحب البيت) فيقول: حدثنا ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة...», مع أن ثابتاً لا دخل له في هذه الرواية، ولكن لأن جريراً سمع الحديث في مجلس ثابت فارتبط في ذهنه اسم ثابت مع هذا الحديث، ولأن ثابتاً أكثر ما يروي عن أنس، فقال جرير: عن ثابت عن أنس! والحديث إنما يعرف من رواية يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه. فاكتشف المحدثون هذا الخطأ، وعرفوا سببه، مع أن ظاهر الإسناد الصحة!([3]).

 

([1]) الفروسية, لابن القيم (186).

([2]) صحيح البخاري (637), صحيح مسلم (604).

([3]) يُنظر: سنن الترمذي (517).

دقتهم في رصد الإشكالات العارضة

إذا حكم المحدثون على راوٍ بأنه ثقة، فالأصل في رواياته الصحّة، غير أن هناك حالات عارضة تعتري بعض الرواة أو الروايات؛ فتجعلها ضعيفة. وقد رصد المحدثون هذه الحالات العارضة بدقّة عجيبة.

مثال ذلك : تغيُّر ذهن الراوي بسبب كبر سنّه، أو لمصيبة أو كارثة أصابته ؛ فأضعفت من قدراته الذهنية. كقولهم في بعض الرواة: مات أخوه فتغيّر حفظه، أو فلان احترقت كتبه فساء حفظه.

وكثيراً ما يُعبّر المحدثون عن التغير الطارئ على ذهن الراوي بلفظ: الاختلاط، ولهم دقة في تمييز المختلطين ودرجة الاختلاط، وتمييز من روى عنه قبل اختلاطه وبعده، فتجدهم يقولون عن بعض الرواة: فلان اختلط عام كذا, فكل من روى عنه قبل هذا العام فروايته عنه صحيحة، ومن روى عنه بعد هذا العام فروايته عنه ضعيفة.

مثال ذلك: عطاء بن السائب الكوفي، وهو من المشهورين وهو صدوق لا بأس به، إلا أنه اختلط في آخر عمره، قال ابن رجب - رحمه الله - في «شرح علل الترمذي»: «ذكر الترمذي في باب كراهية التزعفر والخلوق للرجال ، من كتاب الأدب من جامعه هذا قال: يُقال إن عطاء بن السائب كان في آخر عمره قد ساء حفظه، وذَكَرَ عن علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال: من سمع من عطاء بن السائب قديماً, فسماعه صحيح، وسماع شعبة وسفيان من عطاء بن السائب صحيح, إلا حديثين عن عطاء بن السائب عن زاذان قال شعبة: سمعتهما منه بأخرةٍ»أهـ ([1]).

وهذا نصّ بديع، فزيادة على تمييز المحدثين لمن روى عن (عطاء) قديماً قبل اختلاطه -ومنهم شعبة- ؛ إلا أنهم لم يغفلوا كذلك عن حديثين رواهما عنه شعبة بعد اختلاطه!.

ومن الأمور الدقيقة في الأحوال العارضة: أن المحدّثين رصدوا تغيّر جودة رواية الراوي في بعض البلدان دون بعض!.

وقد ينشأ سؤال في ذهن القارئ الكريم: كيف تتغير جودة رواية الراوي في بلد دون الآخر؟.

دعونا نتأمل هذا النصّ:

جاء في كتاب «شرح علل الترمذي» لابن رجب - رحمه الله - متحدثاً عن طائفة من الرواة فقال :

«النوع الثاني : مَن ضُعِّف حديثه في بعض الأماكن دون بعض, وهو على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: من حدث في مكان لم تكن معه فيه كتب فخلّط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط, أو من سمع في مكانٍ من شيخ فلم يضبط عنه، وسمع منه في موضعٍ آخر فضبط، فمنهم معمر بن راشد، حديثه في البصرة فيه اضطراب كثير، وحديثه باليمن جيد، قال أحمد في رواية الأثرم: حديث عبد الرزاق عن معمر أحبّ إلي من حديث هؤلاء البصريين (وعبد الرزاق في اليمن)؛ كان يتعاهد كتبه وينظر - يعني باليمن - وكان يحدثهم بخطأٍ بالبصرة. وقال يعقوب بن شيبة: سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب؛ لأن كتبه لم تكن معه»([2])أهـ. فتأمّل هذه الدقة العجيبة. ثم ابتدأ ابن رجب - رحمه الله - بذكر بعض الأحاديث؛ التي اختلفت فيها رواية معمر ما بين اليمن والبصرة، فقال: فمما اختلف فيه باليمن والبصرة حديث: «أن النبي الله -صلى الله عليه وسـلم- كوى أسعد بن زرارة من الشوكة». رواه باليمن عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل مرسلًا، ورواه بالبصرة عن الزهري عن أنس - رضي الله عنه -. وقال: والصواب مرسل، ومنه حديث: «إنما الناس كإبل مائة» رواه باليمن عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعًا، ورواه بالبصرة مرةً كذلك, ومرةً عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة» أهـ. وهذا رصد دقيق جدا للحالات العارضة التي تعتري الراوة ، أو الروايات. ثم يأتي من يُشكك في هذا العلم بمجرّد الدعاوى!!.

 

([1])  شرح علل الترمذي, لابن رجب (2/734).

([2]) شرح علل الترمذي, لابن رجب (2/767-768).

 

  • الاربعاء AM 02:24
    2020-11-11
  • 1499
Powered by: GateGold