المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412627
يتصفح الموقع حاليا : 311

البحث

البحث

عرض المادة

موازين المحدثين في الجرح والتعديل

السنّة نقلت إلينا عن طريق سلسلة من الرواة، تبدأ بالصحابة فالتابعين فتابعيهم، إلى أصحاب الكتب والمصنّفات الحديثية: كأصحاب الكتب الستّة، ولا بد من معرفة أحوال هؤلاء الرواة قبل قبول أخبارهم؛ فنعلم عن راوي الحديث أثقة هو أم ضعيف؟ أعدلٌ أم فاسق؟ ولعلماء الحديث في تمييز أحوال الرواة، ومعرفة ثقتهم من ضعيفهم, موازين دقيقة، وشروط صارمة ، فمن ذلك:

أولاً :  اشتراط العدالة :

والعدالة هي السلامة الدينية، فاشترطوا لقبول خبر الراوي أن يكون صالحاً في دينه, لا يُعرَف بفسق؛ لأن الذي يتجرأ على الحرام ويتهاون في ارتكابه, قد يتجرأ ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن احتياطهم؛ أنهم لا يحتجون بحديث الراوي إذا كان مجهولًا, لا يُعرف بفسق ولا بصلاح .

فإن قال قائل: قد يتلبس إنسان بالصلاح ظاهرًا, ويكون في باطنه فاسدًا، وربما يضع الحديث ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغلاًّ مظهره الزائف!. فنقول: إن هناك موازين أخرى عند المحدثين، لا يفوت منها شيء،  فلذلك: تجدهم يقولون في بعض العُبّاد الكبار ذوي الصلاح الحقيقي: لا تقبلوا أحاديثهم! لماذا؟ لأنهم اختبروها وعرضوها على أحاديث الثقات, فوجدوا أنهم لم يضبطوا الحديث؛ فإذا كانوا قد اكتشفوا أخطاء هؤلاء مع صلاحهم الحقيقي، فكيف لا يكتشفون كذب أولئك مع صلاحهم المزيّف؟.

ثانياً: اشتراط الضبط والإتقان.

قد يكون الراوي صالحاً معروفاً بالعبادة والزهد والتقشف والجهاد والخير, ولكنه لا يضبط الحديث، وهذا مشاهدٌ -أيضاً- خارج الرواية الحديثية، فقد يأتيك إنسان تعرف صلاحه بأخبار غريبة لا يشاركه فيها أحد، ولا تطمئن لصحتها، وحين يكثر ذلك منه؛ فإنك تتهم حفظه لا دينه؛ لأنك تعرف أنه لا يتعمد كذباً.

والمحدثون لهم وسائل في معرفة ضبط الرواة:

  • فقد يختبرون الراوي اختبارًا مباشرًا ويسألونه. ومثال ذلك: اختبار حماد بن سلمة لشيخه ثابت البناني، فقد قال له: كيف حديث أنس في كذا وكذا؟ (وثابت لم يروِ هذا الحديث عن أنس، وإنما يرويه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وحماد يخلط له متعمدًا؛ لأنه يريد أن يعرف هل يميز ثابتٌ بين ما روى عن أنس، وما روى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فإذا لم يعرف, علم أن حفظه ليس بذاك, وإذا تنبّه, علم أنه متقن يقظ). ونصُّ كلام حماد بن سلمة هو: «كنت أظن أن ثابتًا البناني لا يحفظ الأسانيد، كنت أقول له لحديث ابن أبي ليلى: كيف حديث أنس في كذا وكذا؟ فيقول: لا إنما حدثناه ابن أبي ليلى، وأقول له: كيف حديث فلان في كذا، فيقول: لا، إنما حدثناه فلان» وهذا في كتاب «العلل ومعرفة الرجال» للإمام أحمد([1])، فعلم بهذا الامتحان أنه متقن يَقِظٌ.
  • ويعرفون ضبط الراوي باختبار مروياته -أي الأخبار التي رواها- ، وهذه الطريقة هي العمدة في الجرح والتعديل، فيختبرون أحاديثه، وقد يحكمون عليه بالكذب بناء على ذلك، بل وربما حكموا عليه وهم لا يعرفون شخصه، وإنما بناء على ما روى. وهذه بعض الأمثلة:

هناك راوٍ اسمه: أحمد بن إبراهيم الحلبي، وهذا الراوي قد روى حديثًا منكرا، معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يناغي القمر وهو صغير, فيشير له إلى اليمين فيذهب يميناً، وإلى الشمال فيطيعه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القمر كان يلهيه حين يبكي وهو صبي!. فسأل عبدُ الرحمن بنُ أبي حاتم والدَه الإمام أبا حاتم قائلاً : «سألت أبي عنه (أحمد الحلبي), وعرضتُ عليه حديثه، فقال: لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعةٌ كلها ليس لها أصول، يدلّ حديثه على أنه كذاب» أ.هـ([2]).

و قال المرّوذي للإمام أحمد عن راوٍ اسمُه: جابر الجُعفي: «يتهم في حديثه بالكذب؟ قال الإمام أحمد: من طعن فيه, فإنما يطعن بما يخاف من الكذب. قال المروذي: الكذب!؟ فقال الإمام أحمد: إي والله وذلك في حديثه بيّن»([3]).

وقال ابن معين -إمام الجرح والتعديل- عن رَوْح بن عبادة: «ليس به بأس صدوقٌ، حديثه يدلّ على صدقه»([4]).ولذلك؛ قيل للإمام شعبة -رحمه الله تعالى- : من أين تعلم أن الشيخ يكذب؟ قال: «إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها, علمت أنه يكذب»([5]). يقصد أن أمثال هذه الأحاديث من الواضح أنها كذب.

والأمثلة كثيرة تركتُها لحال الاختصار، وفيما سبق رد على من يقول إن المحدثين لا ينقدون المتن، فهاهم يحكمون على عدد من الرواة بناء على المتون التي رووها!.

ثالثاً : بُعد المحدثين عن المحاباة في الجرح والتعديل.

  • جاء في «تهذيب التهذيب» لابن حجر - رحمه الله - في ترجمة أبان أبي عيّاش -وهو شديد الضعف ، وكان الإمامُ شعبة - رحمه الله - شديد القول فيه- قال عبّاد المـُهلّبي: «أتيتُ شعبة أنا وحمّاد بن زيد، فكلّمناه في أبان أن يُمسك عنه، (أي: يترك الكلام في تضعيفه) فأمسك، ثم لقيته بعد ذلك فقال: ما أُراني يسعني السكوت عنه».أهـ. وكان أبان مشهوراً بالصلاح ،ولكنه سيء الحفظ.

والإمام علي بن المديني ضعّف والده. والإمام أبو داوود صاحب السنن تكلم في ابنه واتهمه بالكذب.

 وهذا يدل على أنهم كانوا أهل تديّن وصيانة للسنة, وليسوا أرباب مصالح.

رابعاً: أنّ المحدثين كانوا يروون عن مخالفيهم من أهل المذاهب المبتدعة ؛ تقديماً لمصلحة السنّة والرواية.

واجه المحدثون في زمن الرواية إشكالية انتشار الفرق التي تخالف طريقة الصحابة والتابعين في أبواب الاعتقاد، كالقدرية والخوارج والشيعة والنواصب، وكان كثير من المنتمين لهذه الفرق يطلبون الحديث ويحضرون مجالسه ويجتهدون في تحصيله ،ويُعرَفون بالضبط والإتقان، فاختلف المحدثون في الموقف من هؤلاء الرواة، هل يروون عنهم، ويحكمون بثقتهم وقبول ما عندهم، أم يتركون الرواية عنهم وينهون الناس عن سماع الحديث منهم؟

فالذين منعوا الرواية عن هؤلاء رأوا أنَّ هجرهم هو الوسيلة الأنجع لتقليل شرهم؛ وعودتهم إلى الصواب والسنّة. كما أن بعضهم يرى أن المبتدع لا يؤمَن جانبه, حيث يُخاف أن ينتصر لمذهبه الخاطئ برواية يضعها وينسجها، إضافة إلى أن بعض هذه البدع قد تصل بالإنسان إلى الكفر بالله, كما في بعض أقوال الجهمية.

بينما تجاوزت طائفة أخرى من نقّاد الحديث هذه السلبيات, وقدموا مصلحة الرواية والسنّة، حيث عُرف بعض هؤلاء المبتدعة بجودة الحفظ، وكثرة ما عندهم من الروايات الصحيحة. واشترط النّقاد لقبول رواية هؤلاء أن يكونوا معروفين بالصدق والسلامة الدينيّة؛ بحيث لا يعرف عنهم الفسق في العمل والسلوك، كما أن بدعتهم لا تصل بهم إلى حدّ الكفر بالله. واشترط كثير منهم مع ذلك؛ ألا يكونوا من رؤوس المبتدعة الداعين إلى بدعتهم. وعلى هذا الرأي استقر عمل أكثر المحدّثين. وإذا تأملت في صحيحي البخاري ومسلم تجد أن عددا غير قليل ممن احتجا بهم من الرواة عرفوا بشيء من البدعة.

فهذه أمور أربعة تلقي الضوء على شيء من منهجية المحدثين في الجرح والتعديل، وتُطمئن إلى نتائج هذا العلم الدقيق. وهذا كله في أول قضية من القضايا التفصيلية التي تثبت لنا صحة علم الحديث.

 

([1]) العلل ومعرفة الرجال, للإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3478).

([2]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2 /40).

([3]) ينظر: العلل ومعرفة الرجال, للإمام أحمد رواية المروذي (466).

([4]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي (9/242).

([5]) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي, للرامهرمزي (1/316).

  • الاربعاء AM 02:20
    2020-11-11
  • 1858
Powered by: GateGold