المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413777
يتصفح الموقع حاليا : 227

البحث

البحث

عرض المادة

إثبات العناية التامة بها من فجر الإسلام

يظنّ بعض من لا علم له بحقيقة السنّة، أنّ العناية بها إنما حصلت في أزمنة متأخرة ؛ أي بعد قرنٍ أو قرنين من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأنّ هذه المدة تضمنت فراغاً مجهولاً فيما يتعلق بحال السنّة ومكانتها.
وهذا الكلام هو ما نحاول نقضه في هذا الفصل، وإثبات عكسه.
وإذا ثبت ذلك -أي العكس- فإنه يكون دليلاً بنائيّاً على حجية السنة من وجهين:
الأول: أن نطمئن إلى أن الأحاديث الموجودة بين أيدينا الآن إنما هي نتيجة عناية متواصلة بها منذ مهد الإسلام، وبالتالي يزداد اطمئناننا إلى صحة نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أننا إذا أثبتنا عناية النبي صلى الله عليه وسلم بسنته، وعناية أصحابه بها، وعناية أئمة الإسلام بها؛ عرفنا تهافت قول المهونين من شأنها، المتخذينها وراءهم ظِهريَّا.
إنّ قضية الاحتجاج بالسنّة ليست مذهبا فقهياً لعالِم من العلماء انفرد به، وليست رأياً لأهل الحديث في مقابل موقف مخالف من الفقهاء!، وإنما كما قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: «أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمت- على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به؛ إذا ثبت, ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافاً» اهـ([1]) ولعلّك تلاحظ أن ذلك في خبر الآحاد؛ فكيف بالمتواتر؟!.

ولذلك؛ تجد مِن علماء المسلمين من ينص على أن الأخذ بالسنة ضرورة دينيّة، كما قال الشوكاني رحمه الله في كتابه الذي ألّفه في علم أصول الفقه وهو (إرشاد الفحول): «إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية, ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظّ له في الإسلام»([2]) وأما من لم يفهم معنى كلمة (ضرورة دينية) عند العلماء، ثم يُشكك في السنّة النبوية فليُحسن إلى نفسه بالإمساك عن الخوض في مجال لا يعرف عنه شيئا .

وأما عن العناية التي أولاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم من علماء المسلمين للسنة النبوية فسأذكر شيئا منها، مُقسِّماً إياها على مراحل، مبتدئاً ذلك بذكر العناية بالسنة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم.

المرحلة الأولى: العناية بالسنة في حياة النبي    :

وتظهر العناية بالسنة في تلك المرحلة من وجوه :

الوجه الأول : العناية الإلهية بالسنة، وذلك بالنصوص الكثيرة في القرآن الآمرة بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -والمـُحذّرة من مخالفته. كقوله سبحانه: ﮋ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ  ﮦ ﮧ ﮊ [الحشر : 7] , وسَيَمُرُّ بك أيها القارئ الكريم -في هذا الكتاب- بيان وجوه الدلالة من الآيات القرانية على حجية السنة وذلك عند الحديث عن إقامة البرهان من القران على حجية السنة. غير أني أكتفي هنا بِالإشارة إلى أمر مهم، ألا وهو: أَخْذُ الصحابة بعموم هذه الآيات؛ لتشمل كل أوامره - صلى الله عليه وسلم- الدينيّة. فلم يكن أحدهم يمتنع عن طاعته في أمرٍ أو نهي بحجة أنه ليس مذكوراً في القرآن!.

فها هو ينهاهم -مثلاً- عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية في خيبر، فيُكفئون القدور وهي تفور باللحم([3]). مع أنه قد جاء في القرآن ذِكرُ المطعومات المحرمة, وليس فيها لحوم الحمر الأهلية([4])، إلا أنه قد كان لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم مكانة وعَظَمة وثقة.

وهذا ابنُ مسعود رضي الله عنه يقول: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد, يقال لها: أم يعقوب, وكانت تقرأ القرآن, فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله!. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته!!  فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، قال الله عز وجل: ﮋ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ  ﮦ ﮧ ﮊ [الحشر : 7] ([5]).

ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، حيث استدل ابنُ مسعود رضي الله عنه بعموم قول الله: ﮋ ﮤ ﮥ  ﮦ ﮧ ﮊ على تحريم ما نهى عنه الرسول مما لم يُذكَر في القرآن، بل إن ابن مسعود ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث نسب ما جاء به الرسول إلى كتاب الله وإن لم يُذكَر فيه نصّاً، اكتفاءً بالآيات القرآنية الآمرة بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم-.

الوجه الثاني: أنَّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كان يدعو إلى اتّباع سنته, ويحذر من التهاون في ردّها؛ وربما عاقب من يستنكف عن اتباعها. وتأمل معي هذه الروايات والنصوص الصحيحة :

  • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي»([6]). وهذا في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، أخرجه الترمذي وغيره.
  • وأخرج أبو داود وابنُ ماجه وغيرهما من حديث أبي رافع -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسـلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته, يأتيه الأمر من أمري؛ مما أمرت به، أو نهيت عنه, فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه»([7]). وهو حديث صحيح.
  • وثبت عنه صلى الله عليه وسـلم -كما في جامع الترمذي- أنه قال: «نَضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلَّغه كما سمع، فربَّ مُبلِّغٍ أوعى من سامع»([8]).
  • ولك أن تتأمّل في هذه اللفتة التربوية من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في تشجيع أبي هريرة رضي الله عنه على حرصه على الحديث، حيث سأل أبو هريرة النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قائلاً : من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك, لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، أو نفسه»([9]).
  • وحَدّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسـلم- وفدَ عبد القيس بحديث، ثم قال لهم: «احفظوه وأخبروه من وراءكم»([10]).
  • وحثّ النبي - صلى الله عليه وسلم- رجلاً على الأكل بيمينه، فقال -مترفعاً- لا أستطيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا استطعت»، فلم يستطع بعد ذلك رفعها إلى فيه!([11]). مع أن الأمر بالأكل باليمين ليس مذكوراً في القرآن.

والمراد من الأحاديث الستة السابقة إثبات العناية النبوية بالسنة.

الوجه الثالث: اهتمام الصحابة بسنّةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسـلم - في تلك المرحلة.

إنّ جولة سريعة على النصوص الصحيحة التي تنقل لنا حال أصحاب رسول الله مع سنته في حياته، تبيّن لنا المـَحَلَّ السامي التي تحتله السنة من نفوسهم، بل إن بعضهم كان يكتب كل ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما), قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه, فنهتني قريش, وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر, يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه, فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق». وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد([12]) وأبو داود([13]) -رحمهما الله تعالى- بإسناد جيد.

ولذلك؛ فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسـلم - أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو-، فإنه كان يكتب ولا أكتب»([14]).

وحين خطب النبي - صلى الله عليه وسـلم - خطبة في تحريم مكة, قام رجل من أهل اليمن, يقال له: أبو شاه, فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لأبي شاه».([15])

وتجد الصحابة -أيضًا- يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- عمّا يَعْرِض لهم مما ليس مذكوراً في القرآن، فلو كانوا يعتقدون أنه لا حاجة لأي حكم لم يذكر نصا في القران لما سألوا! فهذا علي -رضي الله عنه- يقول: «كنت رجلاً مذاء؛ فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسـلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله...»([16]). وكسؤال المستحاضة، والسؤال عن حكم الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة.

وهذا كله يظهر عناية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسـلم - بكل ما يقوله ويفعله, وليس فقط بالقرآن. ولم يكن يخطر ببال أحدهم -وقد سمعوا ما أنزل الله من الأمر بطاعة رسوله والنهي عن مخالفته- أن يفرّق بين ما جاء عن رسول الله من القرآن، وبين ما كان يقضي به زائداً على نصّ القرآن.

وممَّا ينبغي أنْ يُذكَر ونحن نتحدّث عن العناية بالسنّة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّ هذه المرحلة تأسس فيها: مبدأ التثبّت في الرواية، وقد جاء ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى : ﮋ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ   ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ   ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﮊ [الحجرات : 6].

وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنّ كذباً علي ليس ككذبٍ على أحد، من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار»([17]), وقال: «لا تكذبوا علي، فإنه من كذب علي فليلج النار ([18]), وقال: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ([19]). وهذه نصوص مهمّة جداً في تاريخ علم الحديث، فإنها اللّبنة الأولى التي بنى عليها المحدّثون علمهم، فهذا الوعيد الوارد في الحديث كان نصب أعينهم. ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-, قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار»([20]).

و-أيضًا- أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال:  إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعمد علي كذبا، فليتبوأ مقعده من النار»([21]).

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن التأسيس لعلم الحديث -الذي يعنى بتمييز الصحيح من السقيم- قد ابتدأ من وقت النبي بهذا التحذير من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم.

     وقد جاء في صحيح مسلم في المقدمة أن الرسول- صلى الله عليه وسـلم- قال: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم»([22])، قال الخطيب البغدادي في «الكفاية»: «وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسـلم - بأن في أمته ممن يجيء بعده كذابين؛ فحذر منهم, ونهى عن قبول رواياتهم، وأعلمنا أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره, فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين والتفتيش عن أمور الناقلين، احتياطًا للدين، وحفظًا للشريعة من تلبيس الملحدين»([23]) أهـ.

 

 

 

المرحلة الثانية :  عناية الصحابة بالسنة بعد وفاة الرسول

كما اعتنى أصحاب رسول الله بسنته وأحاديثه في حياته، فإن عنايتهم بها استمرت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقبل أن أذكر وجوه العناية فإن ما ستقرؤه من نصوص كثيرة هنا، ونقولٍ متظافرة عنهم، ليس الغرض منها السردُ والجمعُ المجرد، وإنما إثبات حقيقة واضحة؛ ألا وهي أنّ العناية بالسنةّ، واعتبارها مصدراً تشريعيا للأحكام، ليس أمراً مبتدعاً، وإنما هو عمل أفقه هذه الأمة وأبرها بعد نبيها، وقد ظهرت هذه العناية من وجوه:

الوجه الأول: أن طلبهم للحديث لم ينتهِ بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسـلم ؛ بل كانوا يتتبعون حديثه, مما لم يسمعه أحدهم, ويتطلّبونه ممن سمعه. قال البخاري في صحيحه «باب الخروج في طلب العلم»: «ورحل جابرُ بن عبد الله مسيرة شهر؛ إلى عبد الله بن أُنيس في حديثٍ واحد»([24]).

وحين نقرأ في كتب السنة تمرّ بنا رواية الصحابة بعضهم عن بعض، وهذا يدلّ على أنهم كانوا يسمعون الحديث بعد رسول الله فيما بينهم. ولذلك؛ تجد ابن عباس (رضي الله عنهما) -مثلاً- مع أنه لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسـلم -إلا أحاديث قليلة, إلا أنه روى  عنه كثيرًا من الأحاديث، إذْ سمعها من الصحابة، ثم حَدّث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أنهم لم يقتصروا في فتاواهم وأقضيتهم على ما في القرآن، بل ضمّوا إليه السنّة كمصدر تشريعي.

والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا. ومن أهم ما يمكن أن يذكر في ذلك, ما ثبت عن أفضل هذه الأمة بعد رسول -الله صلى الله عليه وسـلم- وهو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، في القصة المعروفة بينه وبين فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - ؛ وذلك أنها جاءته تطلب ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا صدقة».([25])

وقال أبو بكر لفاطمة: «لست تاركا شيئا؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ»([26]). وكل هذا مع أن الحكم الوارد في حديث: «...لا نورث ما تركنا صدقة» ليس مذكوراً في القرآن, إلا أنّ أبا بكر - رضي الله عنه - شدد فيه هذا التشديد، بالرغم من أنه كان في حرج من ردّ طلب فاطمة، غير أنه يخشى على نفسه من أن يزيغ لو ترَكَه!!

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتوقّف في أخذ الجزية من المجوس, حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف, أن النبي صلى الله عليه وسـلم أخذها ، فعمل بذلك([27]). وهذا بناء لحكم عام يتعلق بالدولة الإسلامية على حديث سمعه من شخص واحد وهو عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -.

وحين يُبلّغ أحد الصحابة حديثا عن رسول الله، ثم يرى تهاوناً في الأخذِ به، فإن موقفه يكون شديداً تُجاه المتهاون، و لهم في هذا مواقف متعددة، منها -على سبيل المثال- أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - قد حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أنه قال: «لا تمنعوا نساءكم المساجدَ إذا استأذنّكم إليها» قال: فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهنَّ، قال: فأقبل عليه عبد الله: فسبه سبّاً سيئاً؛ ما سمعته سبّه مثله قط, وقال: أخبرك عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن([28]).

الوجه الثالث: أنهم لم يكتفوا بمجرّد جمع الحديث وإنما حرصوا على تبليغه لمن بعدهم.

  • فهذا أحدهم يأتي بماء في إناء؛ ليعلّم التابعين وضوء النبي صلى الله عليه وسـلم.([29])
  • والآخر يصلّي أمامهم, وما يريد بذلك إلا تعليمهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما في قصّة مالك بن الحويرث رضي الله عنه([30])
  • وكتب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كتابًا لأنس بن مالك - رضي الله عنه -, فيه مقادير الزكاة, وتفاصيل أحكامها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا في صحيح البخاري.([31])
  • وكتب جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص حديثاً. كما في صحيح الإمام مسلم([32]).
  • وكتب عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - لعمر بن عبيد الله  كما في صحيح البخاري([33]).
  • وكان بعضهم يبلغ أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلّم- في مقام عامّ ، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا عمر (رضي الله عنه) -كما في صحيح البخاري- قام خطيبًا في مسجد رسول الله ،على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذكر حدّ الرجم على الزاني, وقال: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا وقد «رجم رسول الله صلى الله عليه وسـلم ورجمنا بعده».([34])

فهذه ثلاثة أوجه تتضمن مواقف كثيرة, تُظهر عناية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- بالسنة، وهم أكثر الناس تعظيماً لرسول الله، وأعلمهم بمراده.

المرحلة الثالثة : عناية التابعين بسنة النبي .

تظهر عناية التابعين بسنة المصطفى وأحاديثه من وجوه:

الوجهُ الأوّل: ملازمتهم للصحابة وضبطهم لأحاديثهم.

فقد عُرِفَ كثير من الصحابة بأن لهم جماعة من التلاميذ ؛ من (التابعين), يأخذون عنهم الحديث ويضبطونه، فتجد أحدهم يلازم الصحابي مدة طويلة, يسمع منه الحديث. ويحصل لهذا التابعي خبرة بأحاديث هذا الصحابي، حتى أنك تجد المحدثين يَذكرون مراتب هؤلاء التلاميذ في قوة معرفتهم بحديث الصحابي. فمثلًا:

  • عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما): نجد أن الذين رووا عنه كثير جدا، ولكنّ المحدثين يذكرون ابنه سالماً، ونافعاً مولاه، كأثبت من روى عنه، واختلفوا في أيهما أضبط مع اتفاقهم على تقدّمهما، ومن دقة المحدثين أنهم يُدلّلون على كلامهم, إذا قدموا فلاناً أو فلاناً. فقد قال النسائي: «اختلف سالم ونافع في ثلاثة أحاديث، وسالم أجلُّ من نافع (يعني قدرًا وعلمًا), وأحاديث نافع الثلاثة أولى بالصواب» انتهى من كتاب «تهذيب التهذيب» ([35]) لابن حجر - رحمه الله -.
  • وفي تلاميذ أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال أبو حاتم الرازي ،كما في كتاب «تهذيب التهذيب»:«أثبتُ أصحاب أنس: الزهري»([36]).
  • وفي شأن عائشة (رضي الله عنها) نجد عروة بن الزبير -وهو من أشهر الرواة عن عائشة, وهي خالته (رضي الله عنها)-: «لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج [يعني سنين]؛ أو خمس حجج, وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمتُ على حديثٍ عندها إلا وقد وعيتُه» أهـ ، وهذا منقول من كتاب «تهذيب التهذيب» ([37]) أيضاً.
  • وهكذا تجد ممن عُرف بملازمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ابناه الحسين ومحمد بن الحنفيّة، وعَبيدة السلْماني.
  • وممن عُرف بالأخذ عن ابن عباس - رضي الله عنه - والخبرة بحديثه: سعيد بن جبير، ومجاهد، وطاووس، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.
  • وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: عطاء، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير.
  • وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، وأبو سلمة عبد الرحمن بن عوف، وأبو صالح السمّان والأعرج.
  • وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : الأسود ، وعلقمة ، ومسروق ، وأبو وائل.

رضي الله عن الجميع، وليست الأسماء السابقة مجرد ذِكر للرواة عنهم، كلا؛ فهم أكثر من ذلك بكثير، وإنما ذكرت بعض (الـمُختَصِّين) فقط في أحاديث هؤلاء الصحابة، الذين كانت لهم عناية (استثنائية) بأحاديث المذكورين منهم.

وهذه القضية تُظهر لنا؛ أن السنّة لم تمر بمرحلة فراغ بين وقت الصحابة ووقت أصحاب الكتب والمصنّفات، إذْ إنّ بعض الجهال يقولون: إن السنة مرّت بمرحلة فراغ مجهولة، وهذا غير صحيح.

الوجه الثاني: كتابة الحديث في زمن التابعين.

كتَبَ كثيرٌ من التابعين ما سمعوه من الحديث عن أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم كان يرى تقديم الحفظ على الكتابة، وقد تتبّع الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه «دراسات في الحديث النبويّ وتاريخ تدوينه»، أسماء الذين نُقل عنهم كتابة الحديث من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وقام بجهد كبير في هذا التتبع. ففي طبقة القرن الأول من التابعين رصد ثلاثةً وخمسين ممّن كتبوا, أو كُتب عنهم. ومن تابعي القرن الثاني تتبّع تسعةً وتسعين تابعيًا ممن كتبوا, أو كُتب عنهم. وهذا يدل على انتشار كتابة الحديث في زمن التابعين، وهذا من عنايتهم بسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر الخطيب في كتابه «تقييد العلم» -وهو كتاب مهم في قضية تدوين السنة النبوية- عن سعيد بن جبير، أنه قال: «كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها, ثم أكتب في ظهر نعلي, ثم أكتب في كفي» ([38]).

الوجه الثالث: أن مرحلة التابعين كانت مرحلة التدوين الرسميّ للأحاديث.

فقد تبنّت الخلافة على يد الإمام الخليفة التابعيّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الاهتمام بقضية تدوين السنّة، قال البخاري في صحيحه في كتاب العلم، «باب كيف يقبض العلم»: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفتُ دروس العلم -أي اندثاره وذهابه - وذهابَ العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليفشوا العلم، وليجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم , فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا»([39]) أ.هـ.

إذن فهذه ثلاثة أوجه مشرفة لعناية التابعين بسنة النبي صلى الله عليه وسـلم.

ومن جهة أخرى فقد استمرت في هذه المرحلة قضية الاحتياط في الرواية والتدقيق فيها، وعُرف بعض التابعين بالتفتيش في الأسانيد والرواة. وقد كان التابعي الجليل محمد بن سيرين - رحمه الله - مِن أشهر مَن اعتنى بذلك. قال علي ابن المديني - رحمه الله -:«كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد, ولا نعرف أحدًا أولَ منه: محمدُ بن سيرين, ثم كان أيوب وابنُ عون, ثم كان شعبة, ثم كان يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن» وهذا نقله ابن رجب في «شرح علل الترمذي» ([40]).

وثبت عن ابن سيرين أنه قال: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» ([41]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرحلة الرابعة : السنة في وقت أتباع التابعين .

تظهر العناية بالسنّة في هذه المرحلة من وجوه :

الوجه الأول: ظهور التصنيف للمكتوب من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: ترتيب الأحاديث على الأبواب، وهذا لم يكن معروفًا في السابق.

قال ابن رجب - رحمه الله - في «شرح العلل»: «والذي كان يُكتَب في زمن الصحابة والتابعين, لم يكن تصنيفاً مرتباً مبوباً، إنما كان يكتب للحفظ والمراجعة فقط، ثم إنه في زمن تابعي التابعين صُنِّفت التصانيف» ([42]) .

ومن المصنفات المشهورة جدًا في هذه المرحلة: موطَّأ الإمام مالك. والموطأ مرتب على الكتب والأبواب, وفيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلام بعض الصحابة، وكلام مؤلفه -أعني الإمام مالك- .

وسأذكر بعض مَن صنّف في هذه المرحلة:

فمنهم: ابن جريج - رحمه الله -: حيث صنف في السنن والطهارة والصلاة, وتوفي عام (150هـ). ومنهم محمد بن إسحاق: صنف في المغازي, وقد توفي عام (151هـ) -على خلاف في سنة وفاته-. وكذلك معمر بن راشد الأزدي: صنف الجامع, وتوفي عام (153هـ). وابن أبي عروبة: صنف السنن والتفسير, وتوفي عام (157هـ). وكذلك ممن صَنّف في هذه المرحلة سفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وغيرهما -رحمهم الله جميعاً- .

الوجه الثاني : تطور قواعد علم الحديث.

إن من المهم معرفته: أن علم الحديث لم ينشأ في بيئة منعزلة عن واقع الرواية، فهو وإن كان قد تأسست أصوله مع نزول الوحي, وذلك بالتأكيد على التثبت في الأنباء, وتغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن تطوّره وتشعّبه جاء مواكباً لقَدر التحديات المحيطة بواقع الرواية. ففي المراحل الأولى في زمن الصحابة وكبار التابعين؛ لم تكن سلسلة الإسناد طويلة، حيث كان الصحابي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم دون واسطة بينهما، وربما روى عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم. والتابعون الكبار يروون عن الصحابة مباشرة. ثم بدأت السلسلة تطول نوعًا ما؛ في وقت صغار التابعين. فقد يروي أحدهم حديثاً عن تابعيّ ثانٍ عن ثالثٍ، عن صحابي، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما أكثر من ذلك. وظلّت السلسلة في امتداد مع تأخر الزمن، ودخل في الرواية أناس كثير، منهم المعروفون ومنهم المجهولون، وبدأ انتشار الكذب في الروايات، وكَثُر الوهم لكثرة الرواة على اختلاف مستوياتهم، ولأجل ذلك كله؛ طوّر العلماء والمحدثون الأدوات الضامنة لمعرفة ما صحّ من الرواية, مما لم يصحّ، وتفرّغ أناس من الجهابذة لهذه المهمة العظيمة، وتوفرت لديهم الآلة المناسبة، وهي: أخذُ الحديث عن أهله، وملازمة أئمة الرواية، وسعة الحفظ مع دقة الفهم والنظر، وبذل أقصى الجهد في الرحلة والدراسة والمقارنة.

ومن أبرزهم -في هذه المرحلة- أمير المؤمنين في الحديث: شعبة بن الحجاج.

وشعبةُ بن الحجاج - رحمه الله -عاش في القرن الثاني، وتوفي عام 160 للهجرة، وهو من تابعي التابعين، وأخذ الرواية عن عدد من كبار المحدثين في زمنه، من مختلف البلدان، منهم عمرو بن دينار من مكة، وقتادة بن دعامة السدوسي من البصرة، والأعمش وأبو إسحاق السبيعي من الكوفة، وهؤلاء الأربعة الذين هم مشايخ شعبة؛ قال فيهم إمام علم العلل (علي بن المديني) كلاماً يُظهر أهميتهم المحورية في قضية الرواية، حيث قال: «نظرتُ، فإذا الإسناد يدور على  ستّة.. -وذكر منهم هؤلاء الأربعة شيوخ شعبة- »([43]), وقد أخذ شعبةُ أيضاً عن يحيى بن أبي كثير أيضاً، وهو أحد الستة الذين ذكرهم عليّ بن المديني، ولكنه لم يلازمه طويلاً، وقد بذل الإمام شُعبة جهداً كبيراً في توظيف علمه لتنقية الرواية من الشوائب، وكان يدقق في سماعات الشيوخ ليعرف الأحاديث المنقطعة أو المدلّسة (والتدليس هو رواية الراوي عن شيخه شيئاً لم يسمعه منه) وكان يشدد في التدليس, ويرى أنه أخو الكذب، وكان ممن يعتني بنقد المتن، فقد قيل له: من أين تعلم أن الشيخ يكذب؟ قال: «إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها علمت أنه يكذب»([44]).

وعاش هذا الإمام حياة علميّة حافلة, حتى لقي الله –سبحانه- حاملاً شرف الدفاع عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولم يكن شعبةُ وحده في هذه المرحلة، فقد كان معه عدد من العلماء؛ الذين اعتنوا بتنقية السنة، وضبط قواعدها، منهم: الإمام مالك - رحمه الله - الذي عُرف بأنه لا يروي إلا عن ثقة. ولذلك فإنك تجد المحدثين إذا أرادوا تزكية راوٍ من الرواة؛ يقولون: روى عنه مالك. وقد توفي الإمام مالك عام 179 هـ .

ولأن هذا العلم يحمله كابر عن كابر؛ فقد انتقلت هذه الخبرات إلى الجيل التالي. فعلى يدي الإمام شعبة تخرج جماعة من المحدثين الكبار، من أشهرهم وأبرزهم الإمامان: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. وتستمر سنّة التلقي, ويمتد انتقال الخبرات ،إلى الجيل الجديد. فعلى يدي يحيى القطان تخرّج كبار علماء الحديث، وأئمته ونجومه، وهم: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام يحيى بن معين، والإمام علي بن المديني.

الوجهُ الثالث: دوائر التلقي والضبط.

اشتهر جماعةٌ من رواة السنة بالحفظ والعلم وكثرة الأحاديث؛ التي تلقوها عن الصحابة أو كبار التابعين، ومن ثم تجد أن كلّ واحد من هؤلاء قد أحيط بدائرة من التلاميذ اليقظة؛ الذين يلازمونه في كل وقت, حتى صارت لديهم خبرة تامة بأحاديثهم، كما أن هؤلاء الشيوخ في ذاتهم كانوا قبل ذلك يشكلون دوائر مع مشايخهم.

والعجيب أن نُقاد الحديث الذين جاؤوا بعد هذه المرحلة, كان لهم علم دقيق بهذه الدوائر وتفصيلاتها بالأرقام!, فتجدهم يفندونها دائرة دائرة، ويستطيعون ترتيب التلاميذ داخل الدائرة الواحدة.

وإليك بعض الأمثلة:

  • الإمام الزهري: وهو تابعي مدنيّ, يروي عن أنس بن مالك، نجد أن دائرة تلاميذه الكبار الذين لازموه, وضبطوا أحاديثه, وأتقنوها, تشمل قائمة من أبرزهم: الإمام مالك، وسفيان بن عيينة، ومعمر، ويونس بن يزيد، وعُقيل، وشعيب، والزبيدي، وصالح بن كيسان، وكلهم من الثقات.
  • أبو إسحاق السبيعي: وهو تابعي كوفي، يروي عن جماعة من الصحابة، و نجد أن دائرة تلاميذه الكبار الذين لازموه, وضبطوا أحاديثه, وأتقنوها؛ تشمل شعبة بن الحجاج، وسفيان بن سعيد الثوري، وإسرائيل بن يونس، وكلهم من الثقات.
  • عمرو بن دينار: وهو تابعي مكّي, يروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، و نجد أن دائرة تلاميذه الكبار الذين لازموه, وضبطوا أحاديثه, وأتقنوها, تشمل: شعبة بن الحجاج -أيضاً-، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد.
  • قتادة السدوسي: وهو تابعي بصريّ, يروي عن أنس بن مالك، نجد أن دائرة تلاميذه الكبار الذين لازموه, وضبطوا أحاديثه, وأتقنوها, تشمل قائمة من المحدثين، منهم: شعبة بن الحجاج -أيضاً-، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهمام بن يحيى العَوذي.

وليس الشأن في معرفة هذه الدوائر -فقط- وإنما في العلم الدقيق بمراتبهم, وتقديم بعضهم على بعض. فتجد المحدثين يفاوتون بين رواة الدائرة الواحدة؛ فالأضبطُ في الزهري مثلاً على الإطلاق: الإمام مالك. وفي أبي إسحاق: سفيان الثوري. وهكذا تستمر القائمة.

وبعد هذه النبذة الاستطرادية المهمة، أعود -أيها القارئ الكريم- لأقول: إن العناية بالسنة في هذه المرحلة تطوّرت بشكل كبير في :

  • تدوينها (بظهور المصنفات).
  • وفي قواعد تنقية الأخبار (قواعد علم الحديث).
  • وفي دوائر الضبط والتلقي.

 

 

 

 

 

المرحلة الخامسة :  العناية بالسنّة في القرن الهجري الثالث
 (العصر الذهبي للسنّة) :

اجتمع في هذه المرحلة عدد كبير من أفذاذ علماء الحديث، بحيث لم يجتمع في عصرٍ قبله ولا بعده مثل هذا العدد لعلماء متمكّنين من الحديث والأسانيد والعلل والرجال. فقد اجتمع فيه الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وجماعة كبيرة من المحدثين.

ومن جهة تدوين السنة ؛ فقد بلغ التصنيف في السنة ذروته في هذا العصر، وتنوعت المـُصنفات بين المسانيد والسنن والأبواب، وابتدأ جمع الصحيح. فصنّف البخاري ومسلم صحيحيهما، وفي هذا العصر صنّف الإمام أحمد مسنده، وصنّف أصحاب السنن الأربعة سننهم، ودُوّنت أصول الأحاديث الصحيحة في كتب هذا العصر.

ومن مظاهر العناية بالسنة في هذه المـَرحلة: عناية المـُحدّثين بالكلام على علل الأحاديث، ورواتها، وأسانيدها، والقواعد والقوانين التي تحكم ذلك، ونُثِر ذلك كله في مُصنّفاتهم. فالإمام البخاري صنف كتاب «التاريخ الكبير», وهو من أكبر الكتب في رواة الحديث ،وفيه كلام في العلل أيضاً. والإمام عبدُ الرحمن بن أبي حاتم صنف كتاب «الجرح والتعديل», وصنّف كتاب العلل ، ونَقَل في هذين الكتابين خلاصةَ عِلْمِ اثنين من أبرز علماء الحديث في ذلك العصر، وهما: أبو حاتم الرازي ، وأبو زرعة الرازي. ففي كتاب الجرح والتعديل نقل كلامهما في تعديل الرواة وتجريحهم، وفي كتاب العلل نقل كلامهما في تعليل الأحاديث.

واهتم كثير من طلاب الحديث في هذا العصر بتدوين كلام مشايخهم من أئمة الحديث، في مواضيع الرواة، والعلل، وقوانين الرواية. فظهر ما يُعرَف بكتب السؤالات والتواريخ، كسؤالات أبي داود للإمام أحمد، وسؤالات البرذعي لأبي زرعة، وسؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني، وتاريخ ابن معين رواية الدُّوري، وغيرها الكثير.

 والخلاصة أن هذا القرن كان العصر الذهبي للسنّة والحديث رواية وتصنيفاً ونقداً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرحلة السادسة: العناية بالسنّة بعد القرن الثالث :

في القرن الرابع استمرّ التصنيف في كتب السنة المـُسندة, (أي التي يُروى الحديث فيها بالإسناد من صاحب الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-) ، وظهر فيه عدد من الكتب المهمة في ذلك, كصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان, ومستدرك الحاكم، وإن لم تكن بأهمية الكتب المصنّفة في القرن الثالث.

وبعد القرن الرابع قلّت الكتب الحديثية المـُسنَدة, وظهرت الكتب التي تُعنى بجمع الأحاديث من كتب السنّة المصنفة في القرون السابقة ، ولكن دون أسانيد. مثل كتاب (الجمع بين الصحيحين) للحميدي، وكتاب (جامع الأصول) لابن الأثير، ثم الكتب المختصرة مثل (عمدة الأحكام) و (بلوغ المرام).

وكذلك فقد امتدت عناية أهل العلم في نقد الأحاديث ورواتها في القرن الرابع، وظهر عدد من العلماء الكبار في هذا المجال، كأبي جعفر العُقيلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي الحسن الدارقطني، الذين ساروا في قوانين النقد والتصحيح ؛على طريقة العلماء في العصر الذهبي. ولكن هذا القرن لم يكن حافلاً بالعدد الكبير من المــُختصّين الذين حفل بهم القرن الذي قبله.

كما اعتنى العلماء بالتصنيف في علم الحديث، حيث ظهر في القرن الرابع الهجري أول مصنّف (مستقل) في علم الحديث، وهو كتاب (المحدث الفاصل) لأبي محمد الرامهرمزي، ثم تبعه أبو عبد الله الحاكم في كتابه «معرفة علوم الحديث», وهو أوسع من كتاب الرامهرمزي. ثم جاء الخطيب البغدادي في القرن الخامس؛ فألف كتاب «الكفاية في علم الرواية» ، وهو من أوسع الكتب المصنفة في تلك المرحلة من جهة التنوع. وتتابعت المصنفات بعد ذلك، حتى جاء الإمام أبو عمرو بن الصلاح فأملى كتابه «علوم الحديث», وهو المشهور بـــ(مقدمة ابن الصلاح), والذي ذكر فيه خمسة وستين نوعاً من أنواع علوم الحديث. وما أنْ ظهر هذا الكتاب حتى دار العلماء بعده في فلَكه ، كما قال ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه «نزهة النظر»: «فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره؛ فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظِم له ومختصِر، ومستدرِك عليه ومقتصِر، ومعارض له ومنتصر»([45]).

امتدت التصانيف في كل أنواع علوم الحديث، وقلّ فنّ من فنون الحديث إلا و فيه كتاب مستقل.

كما اعتنى العلماء في القرن الرابع وما بعده بشروح الأحاديث؛ التي جمعها العلماء قبل ذلك. فشرح الإمام أبو سليمان الخطابي, والذي توفي عام (388هـ) صحيح البخاري في كتابه (أعلام الحديث). وشرح سنن أبي داود في كتابه (معالم السنن) ثم توالت الشروح لكتب السنة وكثرت، حتى صار لصحيح البخاري وحده عشرات الشروح.

وامتدت العناية حتى عصرنا هذا، الذي ظهر فيه الاهتمام بتحقيق كتب السنّة، وإخراجها على أصحّ النسخ، وخدمة أحاديثها، وتقديم البحوث المتخصصة في مجالات الحديث، وظهرت فيه بعض الكتب الموسوعية ككتاب «المسند المصنّف المعلل», الذي قام عليه عدد من الباحثين تحت إشراف د. بشار عواد (وفقه الله) في واحد وأربعين مجلداً، ولا يعرف قدر هذا المـُسنَد إلا المعتني بالسنّة وعلومها.

وبهذا نكون قد انتهينا من هذه الرحلة التي لو أردنا الوقوف عند معالمها لطالت، وهذا ما فعله جماعة من أهل العلم؛ الذين أرادوا الاستيعاب. ولكن المقصد في هذا الكتاب: الاختصار دون إخلال، حتى يعلم الناظر مدى العناية بهذه السنّة الشريفة على مرّ التاريخ دون انقطاع.


 

([1]) التمهيد, لابن عبد البر (1/2).

([2]) إرشاد الفحول, للشوكاني (1/97).

([3]) يُنظر: صحيح البخاري (4199), صحيح مسلم (1940).

([4]) سورة المائدة (3).

([5]) صحيح البخاري (4886), صحيح مسلم (2125).

([6]) سبق تخريجه.

([7]) سنن أبي داود (4605)، سنن ابن ماجه (13).

([8]) سنن الترمذي (2657)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

([9]) صحيح البخاري ( 99).

([10]) صحيح البخاري (87).

([11]) صحيح مسلم (2021).

([12]) مسند الإمام أحمد (6510) بنحوه.

([13]) سنن أبي داود (3646).

([14]) صحيح البخاري (113).

([15]) صحيح البخاري (2434).

([16]) صحيح البخاري (178).

([17]) صحيح البخاري (1291).

([18]) صحيح البخاري (106).

([19]) صحيح البخاري (107).

([20]) صحيح البخاري (107).

([21]) صحيح البخاري (108).

([22]) مقدمة صحيح مسلم (7).

([23]) الكفاية في علم الرواية (35).

([24]) صحيح البخاري (1/ 26).

([25]) يُنظر: صحيح البخاري (3093)، صحيح مسلم (1759).

([26]) يُنظر: صحيح البخاري (3093)، صحيح مسلم (1759).

([27]) يُنظر: صحيح البخاري (3156-3157)

([28]) صحيح مسلم (442).

([29]) يُنظر: صحيح البخاري (185).

([30]) يُنظر: صحيح البخاري (802).

([31]) يُنظر: صحيح البخاري (1454).

([32]) يُنظر: صحيح مسلم (1822).

([33]) يُنظر: صحيح البخاري (2818).

([34]) صحيح البخاري (6829).

([35]) تهذيب التهذيب, لابن حجر (4/211).

([36]) تهذيب التهذيب, لابن حجر (1/262)

([37]) تهذيب التهذيب, لابن حجر (3/93).

([38]) تقييد العلم (102)

([39]) صحيح البخاري (1/ 31).

([40]) شرح علل الترمذي, لابن رجب (1/355).

([41]) مقدمة صحيح مسلم (15).

([42]) شرح علل الترمذي, لابن رجب (1/341).

([43]) العلل لابن المديني (ص 39).

([44]) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي, للرامهرمزي (1/316).

([45]) نزهة النظر, لابن حجر (20).

  • الاربعاء AM 02:13
    2020-11-11
  • 1429
Powered by: GateGold