المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408998
يتصفح الموقع حاليا : 420

البحث

البحث

عرض المادة

إسقاط مكانة علم الحديث والتشكيك في منهجية المحدثين وطرقهم في تصحيح الأخبار وتضعيفها

(أول من نظَّمنقد الروايات التاريخية، ووضع القواعد لذلك: علماء الدين الإسلامي؛ فإنهم اضطروا اضطرارًا إلى الاعتناء بأقوال النبي، وأفعاله؛ لفهم القرآن وتوزيع العدل. فقالوا: إن هو إلا وحي يوحى، ما تلي منه فهو القرآن ومالم يُتلَ منه فهو السنة؛ فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها، فأتحفوا علم الحديث بقواعد لا تزال في أسسها وجوهرها محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا)[1]
هذا ما قالهالدكتور أسد جبرائيل رستم -أحد أشهر علماء التاريخ في القرن العشرين-وهو لبناني نصراني كان يدرس بالجامعة الأمريكية ببيروت، وذلك أنَّه حين أراد أن يؤلف كتابه الأشهر في التعامل مع النصوص التاريخية: «مصطلح التاريخ» اطلع عن كَثَب على تراث المحدثين وكتبهم في مصطلح الحديث، فأدهش لذلك، وتعجب من منهجيتهم الدقيقة في توثيق الأخبار ونقدها، وقد سجل الحالة الشعورية التي مرّ بها وهو يقرأ في كتب مصطلح الحديث، فقال: (أكببت على مطالعة كتب المصطلح وجمعت أكثرها، وكنتكلما ازددت اطلاعًا عليها ازداد ولَعي بها وإعجابي بواضعيها)[2] اهـ.

ثم ذكر تجربته التفصيلية مع كتاب الإلماع للقاضي عياض، فقال:

(ولا أزال أذكر حادثًا وقع لي عام (1936) في دمشق يوم احتفلت الحكومة السورية بمرورألف عام على وفاة المتنبي، فإني كنت في جملة الوافدين إلى عاصمة الأمويين والمحتفلين بذكرى شاعر العرب،وأقمت فيها مدة من الزمن أُقلِّب في أثنائها مخطوطات المكتبة الظاهرية. وما إن بدأت بالعمل حتى أيقنت أني أمام أعظم مجموعة لكتب الحديث النبوي في العالم، ففي خزائن هذه المكتبة عدد لا يستهان به من أمَّهات المخطوطات في هذا العلم، وقسم منها يحمل خطوط أعاظم رجال الحديث؛ ومن أهم ما وجدت فيها نسخة قديمة من رسالة القاضي عياض (ت 544 هـ) في علم المصطلح، كتبها ابن أخيه سنة (595هـ)، وكنت قد قرأت شيئًا عنها في بعض رسائل المصطلح، فاستنسختها بالفوتوستات، وبدأت في درسها وتفهُّم معانيها، فإذا هي من أنفس ما صُنِّف في موضوعها، وقد سما القاضي عياض إلى أعلى درجات العلم والتدقيق في عصره.

والواقع أنه ليس بإمكان أكابر رجال التاريخ في أوربا وأمريكا أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها، وذلك على الرغم من مرور سبعة قرون عليها؛ فإنَّ ماجاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج، تحت عنوان "تحري الرواية والمجيء باللفظ" يُضاهي ما ورد في الموضوع نفسه في أهم كتب الفرنجة في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وبلاد الإنجليز. وقد اقتطفنا من كلام القاضي عياض في هذا الموضوع شيئًا أوردناه في باب تحري النص والمجيء باللفظ في كتابنا هذا.

والواقع أن المثودولوجيا الغربية التي تظهر اليوم لأول مرة بثوب عربي، ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمتُّ إليه بصلة قوية؛ فالتاريخ دراية أولا ثم رواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عديدة للتواصل إلى الحقيقة في الحديث، تتفق في جوهرها وبعض الأنظمة التي أقرها علماء أوربا فيما بعد في بناء علم المثودولوجيا، ولو أن مؤرخي أوربا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدِّثين، لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجيا حتى أواخر القرن الماضي) انتهى[3].

وفي المقابل نجد بعض جهلة المسلمين من مدعي التجديد والتنوير، يشككون في قيمة هذا العلم، بل يرون أنه علم زائف، وأنه ليس إلا وسيلة لتمرير المذاهب والايديولوجيات التي ينتمي إليها المحدثون، فهو علم غير موضوعي، ولا حيادي، ولا يفيد شيئاً في تمييز الصحيح من ركام المرويات -كما يعبرون-، وقد لمست من خلال تجربتي الشخصية في مناقشة منكري السنة أن أحكامهم تلك على علم الحديث ليست صادرة عن علم ومعرفة به، ولذلك جاءت اعتراضاتهم عليه منقوصة، مشوهة، مضطربة.
وأما من أدرك تفاصيل هذا العلم، واطلع على حقائقه، وكان عادلاً منصفاً في حكمه، فإنه سينظر إليه يعين التقدير، وسيعرف لرواده فضلهم ومنزلتهم، كما فعل أسد رستم.
وأشير هنا إلى أهمية اشتغال المتخصصين في علم الحديث بإبراز جوانب العظمة في هذا العلم، وألا يكتفوا بشرح مسائل المصطلح والتخريج، بل يجمعوا إلى ذلك الاشتغال بقضايا الإثبات الكبرى المتعلقة بهذا الفن الشريف، خاصة وأن أكثر الذين كتبوا في مجال حجية السنة لم يتصدوا لإثبات صحة علم الحديث وكفايته في توثيق السنة، مع أن ذلك في غاية الأهمية والخطورة، وهو قاطع لأكثر الشبهات، ووائد لها في مهدها.
وممن كتب قواعد علم الحديث مستحضراً طعونات المشككين من المستشرقين ونحوهم: الدكتور نور الدين عتر في كتاب «منهج المحدثين في النق»
ومن الكتابات الجيدة في رد الاعتراضات المثارة ضد علم الحديث ومنهجية المحدثين: ما قدمه الدكتور خالد أبا الخيل في كتابه: «الاتجاه العقلي وعلوم الحديث».
وقبل أن أذكر جوانب تميز المحدثين في منهجهم النقدي أشير إلى إن علم الحديث لم ينشأ في بيئة منعزلة عن واقع الرواية، فهو وإن كان قد تأسست أصوله مع نزول الوحي، وذلك بالتأكيد على التثبت في الأنباء، وتغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم–كما تقدّم-، إلا أن تطوّره وتشعّبه جاء مواكباً للتحديات المحيطة بواقع الرواية، ففي المراحل الأولى في زمن الصحابة وكبار التابعين؛ لم تكن سلسلةالإسناد طويلة، إذكان الصحابي يروي عن النبي صلى الله عليه وسـلم دون واسطة بينهما، وربما روى عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسـلم، والتابعون الكبار يروون عن الصحابة مباشرة، ثم بدأت السلسلة تطول في وقت صغار التابعين، فقد يروي أحدهم حديثاً عن تابعيّآخر عن ثالثٍ عن صحابي عن النبي صلى الله عليه وسـلم، وربما أكثر من ذلك،وظلّت السلسلة في امتداد مع تأخر الزمن، ودخل في سلسلة الإسناد رواة كُثُر، فيهم المعروف والمجهول، وانتشر الكذب في الروايات، وكَثُر الوهم لكثرة الرواة على اختلاف مستوياتهم، ولأجل ذلك كله؛ طوّر العلماء والمحدثون الأدوات الضامنة لمعرفة ما صحّ من الرواية، مما لم يصحّ، وتفرّغ أناس من الجهابذة لهذه المهمة العظيمة، وتوفرت لديهم الآلة المناسبة، مع دقة الفهم والنظر، وبذْلِ أقصى الجهد في الرحلة والدراسة والمقارنة.

 

[1]مصطلح التاريخ - أسد رستم، (٣٩)– مركز تراث للبحوث والدراسات.

[2]مصطلح التاريخ، أسد رستم، (46)

[3]مصطلح التاريخ - أسد رستم،ص٤٦-٤٨.

 

  • الاربعاء AM 01:51
    2020-11-11
  • 1719
Powered by: GateGold