المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409112
يتصفح الموقع حاليا : 370

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى ضياع السنة وعدم حفظها استناداً إلى النهي عن كتابتها وتأخُّر تدوينها

أولاً: دعوى عدم حفظ السنة:

كثيراً ما يُثير المنكرون للسنة والمشككون فيها هذا السؤال، وهو (لو كانت السنة حجة فلماذا لم يحفظها الله كما حفظ القران)؟ ولا شكَّ أنَّ هذا السؤال فيه خلل ظاهر، وهو يختلف اختلافاً جذريًّا عن سؤال (هل حفظ الله السنة كما حفظ القرآن) فإنه يتضمن إيحاء بأنَّ مِن المـُسلّم كون (السنة غير محفوظة)، وأنَّ البحث إنما هو في العلة -فقط-، وهذا غير صحيح.

ووجه الغلط في هذا السؤال أنه يتضمن (دعوى) غير مبرهنة، وهذه الدعوى هي (أن الله لم يحفظ السنّة)، والتفكير الناقد يقتضي أن يُقاللصاحب السؤال: من أين لك أنّ الله لم يحفظ السنّة؟ أثبت دعواك أولاً، وإلا فلا قيمة لسؤالك، فإن أتيت بدليل فمن حقك أن تبحث عن الإجابة، وأما أن تدّعي دعوى مُرسَلة دون برهان ثم تطلب من الناس أن يجيبوا عنها، فهذا لا يستقيم .

ومع أن هذا النوع من الغلط في الأسئلة منتشرٌ إلا أن كثيراً من الناس لا يكتشفونه؛ فمُرِّرت بسبب ذلك كثير من الأسئلة المغلوطة على الشباب، وتأثر كثير منهم بها، فوقعوا في الشك والإنكار لبعض الثوابت الشرعيّة، بينما لم يكن الأمر يستدعي أكثر من أن يُطلب من صاحب الدعوى إثباتها.

فيقال للسائل: أنت تنسب إلى الله سبحانه أنه ترك حفظ سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما مُستندك في هذه النسبة، هل عندك خبر من الله عن نفسه أو خبرٌ من رسوله صلى الله عليه وسلم عنه؟

فإن قال: إنما أحتج بقول الله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وهذا في شأن القرآن، ولم يقل سبحانه مثل ذلك في السنّة.

نقول له: إن دعواك هي (نفيُ) حفظ الله للسنّة، وليس (عدم ذكر) حفظ الله للسنّة، والآية لا تدل على (نفي) الحفظ لغير القرآن، وإنما تُثبته للقرآن.

فابحث لك عن دليل غير هذا.

ووجهٌ آخر في الردّ، وهو أن الآية تتحدث عن حفظ (الذِّكر)، ولا شك أن القرآن من الذكر، ولكن، هل تنفي أن تكون السنّة من الذكر؟ قال ابن حزم رحمه الله[1]: (ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه) ثم قال (فإن قال قائل إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده؛.. قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل…. فصح أنْ لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن، وأيضاً فإن الله تعالى يقول { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس، وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه) انتهى.

وعلى هذا القول فإن دلالة الآية تكون ضد قول السائل لا معه!

وحتى لو قلنا بأن الذكر لا يشمل السنّة فإن الذي لا ريب فيه أنّ السنة مبينة للقرآن -كما تقدم إثباته في الكتاب على وجه التفصيل-، وإذا كانت كذلك؛ فإن من تمام حفظ القرآن حفظُ بيانه، وحفظ لسانه -كما قال المعلمي رحمه الله في الأنوار الكاشفة-، ودليل ذلك أنك إذا نظرت في شأن الصلاة – مثلاً – فإنك تجد النص القرآني في الأمر بهذه الفريضة مُجملا، وأنت ترى أن كل المسلمين ينقلون عمّن سبقهم، وأن مَن سبقهم ينقلون عمّن تقدمهم، -نقْلَ الكافّة عن الكافّة-، أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه خمس صلوات في اليوم والليلة، بعدد ركعات معين لكل صلاة، ثم إننا لا نجد هذا التفصيل في القرآن، فعلمنا بذلك أن السنّة تبين مُجمَل القرآن؛ فكان من لازم حفْظِه حفْظُها، وإلا فلن يُمكن للمسلم امتثال ما أمر الله به مجملاً في القرآن الكريم.

فإن قال: الواقع شاهد على عدم حفظ الله للسنة!

نقول له: بل إن الواقع شاهد على حفظ الله للسنّة، وكلانا مُدَّعٍ، وليست دعواك بأولى من دعوانا، وإنما الشأن في برهانك وبرهاننا، مع العلم بأنه ليس يوافقك في دعواك -هذه- إلا بعض الطوائف المبتدعة، وطائفة من المستشرقين الطاعنين في القرآن قبل السنة، ومَن تأثر بهم، وأما نحن فمعنا أئمة الإسلام وفقهاء الملة.

فإن قال: البرهان هو أننا نجد في السنة الصحيح والضعيف، ولا نجد مثل ذلك في القرآن، فلو كانت محفوظة لما وقع فيها هذا الاختلاف.

فنقول: إن هذا البرهان لا يقيم دعواك، بل يُضعفها؛ وذلك أن تمييز الضعيف عن الصحيح، والثابت عن المكذوب، إنما يدل على العناية لا الإهمال، وعلى الضبط والإتقان لا على خلافهما.

ولو كان عندك من المعرفة التفصيليّة بطُرُق المحدثين في التصحيح والتضعيف، والتثبيت والتعليل، والجرح والتعديل؛ لأدركت أن ذلك إنما هو من آثار حفظ الله سبحانه وتعالى لدينه.

وإنما يكون قولك صحيحاً إذا لم يُمَيَّز الصحيح من الضعيف، وأما بعد التمييز والتحرير فلا يستقيم كلامك.

ثم إنك ترى أن من الناس من حرّف القرآن، وتَقَوّلَ على الله تعالى في ذلك، ونسب إلى القرآن آيات ادعى أنها مفقودة وضائعة، فهل نقول إن ذلك يُنافي حفظ الله للقرآن الكريم أو يسقط حجيته؟!

 

ثانياً: مسألة حديث النهي عن كتابة السنة:

إن من أبرز المحاور التي يرتكز عليها القائلون بضياع السنة محور عدم كتابتها في العهد النبوي والراشدي، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة أي شيء سوى القرآن، وهذا يدل على أن السنة ليست بحجّة؛ لأنها لو كانت حجة لما نهى عن كتابتها، والردّ على هذه الشبهة من وجوه:

الوجه الأول: أن يقال: ما التلازم بين النهي عن كتابة السنّة وبين عدم حجّيتها؟، وهل  لا يتحقق كون الكلام حجة إلا بالإذن بكتابته؟ فإذا نُهي عن ذلك تسقط حجيته؟
لا شك أن إسقاط حجية السنة بحديث النهي عن الكتابة ينقصه وجود التلازم الذي هو العمدة في الاستنتاج من الأدلة.

الوجه الثاني: إن الذي نهى عن كتابة السنة - صلى الله عليه وسـلم - هو الذي أمر بحفظها وتبليغها، ونهى عن ردّ ما زاد منها على القرآن، كما في حديث الأريكة([2])، فكيف ينتقون من السنة ما يوافق آراءهم ،ويتركون منها ما يخالفها؟

الوجه الثالث : النهي عن كتابة السنة قد قُوبل بنصوص أخرى ترخِّص في كتابتها، منها قوله صلى الله عليه وسلم مجيباً طلب أبي شاه في كتابة خطبته: «اكتبوا لأبي شاه»([3])، ومنها أن عبد الله بن عمرو كان يكتب وأيّده النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»([4])، وأشار إلى فيه.

وكل ما جاء من النصوص في النهي عن الكتابة ضعيفٌ، إلا حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمْحُه، وحدثوا عني، ولا حرج»([5])، فإنه مُصحح عند جماعة من أهل العلم، ولكن ما وجه تقديمه عندكم على نصوص الرخصة؟!
ولا ريب أن إعمال النصين اللذين يظهر لبعض الناظرين فيهما التعارض أولى من إهمالهما، وإعمال أحد النصين دون الآخر يحتاج إلى دليل ومرجِّح، وهذا ما اجتهد أهل العلم فيه، فكانت لهم مسالك في الجمع بين هذه النصوص أو الترجيح بينها:

1-فمنهم من سلك مسلك الترجيح؛ وذلك بترجيح أحاديث الرخصة على أحاديث النهي لتفاوت رُتَب ثبوتها، فإن أحاديث النهي رواها أبوهريرة وزيد بن ثابت وأبوسعيد، فأما حديثا أبي هريرة وزيد فلا إشكال في ضعفهما، وأما حديث أبي سعيد فقد صححه الإمام مسلم وغيره، ولكن رجَّح البخاري وقفه على أبي سعيد الخدري، كما ذكر ذلك ابن حجر - رحمه الله -  في «فتح الباري»([6])، وبعضُ طرق هذا الموقوف ذكرها ابن عبد البر ، في جامع بيان العلم وفضله.

2- ومنهم من سلك مسلك الجمع بالقول بنسخ حديث النهي عن الكتابة بأحاديث الرخصة في الكتابة، وأنه إنما نُهي عن الكتابة أولَ الأمر خشية اختلاط السنة بالقرآن، فلما أُمن ذلك رُخص فيها.

ومنهم من قال إن ذلك لإبقاء سُنّة الحفظ التي كانت عند العرب، وقيل غير ذلك.
فهذه مجموعة من المسالك لأهل العلم في التعامل مع هذه النصوص، وقد وقع في بداية الأمر خلاف في جواز كتابة الحديث، ثم زال الخلاف واستقر الإجماع. قال الإمام أبو عمرو ابن الصّلاح - رحمه الله -: «ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته»([7])

 

 

 

ثالثاً: تأخُّر تدوين السنّة:
لا يفتأ المشككون في السنَّة من طرح قضية تأخر تدوينها للتوصل إلى إسقاط الثقة بها، وادّعاء تحريفها وضياعها، حتى صارت هذه الشبهة من الشبهات المركزية في الخطابات الحداثية والعلمانية وفي أطروحات من يُعرفون بـ(القرآنيين)، يقول الحارث فخري عيسى في كتابه "الحداثة وموقفها من السنّة": (لعل الميدان الأكبر الذي يستند إليه كثير من الحداثيّين لإبطال مشروعيّة السنّة وإنكار ثبوتها التاريخي هو القول بتأخر تدوينها، وأن الحديث لم يُدوّن في الصحف، ولم يُكتَب في الكتب إلا بعد مرور مائة عام على الأقل من وفاة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم)[8]
ومن يتأمل في استدلال المشككين بهذه الشبهة يجد فيه عددا من الأخطاء والإشكالات والثغرات، من أهمها:
1- حصر التوثيق في الكتابة، وإهمال وسائل التوثيق الأخرى.
2- الجهل بصور العناية بالسنة في القرنين الأول والثاني.
3- الجهل بوجود الكتابة المبكرة للحديث النبوي.
4- التصور الخاطئ لآلية تدوين أصحاب الكتب المشهورة للسنة في القرنين الثاني والثالث.
فهم يعتقدون وجود مرحلة فراغ استمرت لقرن ونصف أو قرنين، بين وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب الكتب المشهورة للسنة كالبخاري ومسلم ونحوهما، فيفترضون تعامل هؤلاء المصنفين مع أكوام من الروايات التاريخية غير الموثقة، ومِن ثم لملمتها في كتبهم، وهذا في غاية المفارقة لواقع الرواية والتصنيف.
ويَنقض ذلك كلَّه معرفةُ آلية توثيق السنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والاطلاع التفصيلي على طريقة رواتها في التحمُّل والأداء، وفهم قواعد المحدثين بشكل جيد، ومعرفة صور العناية المبكرة بالسنة، وبدون معرفة ذلك على وجه التفصيل فإن الطعن في السنة بدعوى تأخر تدوينها إنما هو طعن متعجل قاصر، مبنيٌّ على تصور خاطئ.
ويرتكز رد هذه الشبهة على أمرين:
1- الأمر الأول: إثبات العناية المبكرة بالسنة
2- الأمر الثاني: إثبات صحة قوانين المحدثين وآليتهم في توثيق الأخبار.
وسيأتي ذكر الأمر الثاني في الرد على الأصل الخامس من أصول منكري السنة، وهذا شروع في تفصيل الأمر الأول:

 


 

[1]في الإحكام (1/117)

([2]) سنن الترمذي (2663)، سنن أبي داود (4605)، سنن ابن ماجه (13).

([3]) سبق تخريجه.

([4]) سبق تخريجه.

([5]) صحيح مسلم (3004).

([6]) فتح الباري، لابن حجر (1/208).

([7]) علوم الحديث، لابن الصلاح (ص 138).

[8]ص 175 ، دار السلام، الطبعة الاولى.

  • الاربعاء AM 01:48
    2020-11-11
  • 1437
Powered by: GateGold