المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412178
يتصفح الموقع حاليا : 306

البحث

البحث

عرض المادة

حصر السنة المعتبرة في المتواتر منها وإسقاط حجية الآحاد

حين يدرك كثير من المشككين في السنة حجم المأزق الذي سيفضي إليه قولهم بإنكارها مطلقاً، -وخاصة فيما يتعلق بتضليل كافة المسلمين في باب الصلوات الخمس؛ إذْ يصعب إقناع المرء نفسه بأن إطباق الأمة كلها على تحديد المفروضات بخمس صلوات إنما وقع في الأمة نتيجة البدعة في الدين ومخالفة القرآن الكريم- فإنهم يُمررون قبول مثل هذه الفريضة بدعوى أنها مما تواترت الأمة عمليّاً على نقله، وهذا في الحقيقة مجرد خداع للنفس، وتسكين لها بما لا يتفق مع حقيقة قولهم القائم على الاستغناء بالقرآن وعدم اتخاذ مصدر ديني سواه، فإن حكمهم بقبول فريضة الصلوات الخمس لأجل تواتر نقلها -عمليا-، لا يلغي سؤال المصدر الذي استُمِدّ منه تحديد الفرض بخمس صلوات، والذي -في الواقع- ليس آية من القرآن الكريم.
فحقيقة فعلهم هو نقل المشكلة من سؤال المصدر والتشريع إلى سؤال النقل والتوثيق، وهذا حياد عن طبيعة الإشكال وحقيقته.
غير أن هناك شريحة أخرى من المضطربين في السنة النبوية -كعدنان إبراهيم ومن تأثر به- يجتذبون من جذور الخلافات التراثية ما وقع الجدل فيه حول ما يفيده خبر الآحاد ومدى صلاحيته في أبواب الاعتقاد، والإشكال القديم راجع إلى قولهم: إن خبر الاحاد لا يفيد إلا الظن، وإن العقائد لا بد فيها من قطع والآحاد لا تفيده، غير أن كثيرا من المعاصرين المحتجين بهذا الأصل لا يجعلون مورد هذا الإشكالمنحصراً في نطاق قول المتكلمين في  أبواب الاعتقاد، بل يعممون ذلك ليشمل كل حديث ضاق عليهم معناه أو توجيهه، ولو لم يكن في الاعتقاد موردُه.

مناقشة الإشكالات المثارة في هذا الباب:
لقد اعتنى علماء أهل السنّة بذكر أدلة إيجاب اتباع أخبار الآحاد[1] الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وناقشوا أدلة المخالفين واعتراضاتهم، ويُمكن أن نُجمِل أهم وجوه الإثبات والرد فيما يلي:
أولاً: مناقشة قولهم: بأن"أخبارالآحادلاتفيدإلاالظن" من جهة الشرع ومن جهة مخالفة الحال.
فأمامن جهة الشرع، فــ(لأنالنبيصلىاللهعليهوسلمكانيقيمالحجّةعلىالأمم،فيأصلدينالإسلام،بآحادمنأصحابهيبعثهمإليهم -وهذا معلوم بطرق كثيرة، وهو من العلم العام الذي لا يُختَلَف فيه لشهرته وعموم نقله، مثاله: بعْثُ النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن-،ومثلهذاإنمايكونبمايقطعكلاحتمالللريب.
وأمامن جهة مخالفة الحال؛فلأنالموافقينوالمخالفين في هذا البابيتحصَّللهماليقينفيكثيرمنأحوالهم بأخبارآحادلمتصلإلىحدالتواتر؛والأمثلةعلىذلكأكثرمنأنتُحصَر منأخبارالزواجوالوفاةوالولادةوالنجاحوالفشلوالربحوالخسارة ...الخ،فيكوناعترافهم بحصولاليقينبهذهالأخبارالآحاديةكافياًفينقضالإطلاقبأنأخبارالآحادلاتفيدإلاالظن)[2].
والرد على هذا التقرير بالتفريق بين الأخبار المعاصرة وبين الأخبار القديمة غير وجيه، لأن المراد إثبات أصل مفاد أخبار الآحاد وليس القرائن المحيطة بها، فإذا أثبتنا لهم وجود أخبار آحاد تفيد اليقين، ناقشناهم بعد ذلك في آلية التحقق من صحة الأخبار الآحادية القديمة.
وأخبارالآحاد"الصحيحة"التي نُقلتبهاالسنة،فيهامايفيداليقين،وفيهامايفيدالظنالراجح،بحسبأحوالالرواةوالأسانيدوالقرائنلكلروايةبعينها.
ثانياً:يعترض بعض المنكرين للأخذ بأخبار الآحاد بعد تقريره لإفادتها الظن -وحده- بأن (اتباعالظنمذمومفيالقران)، وهذافيهتعميمغيرصحيح،فقدجاءفيالقرانذمنوعمنالظنوامتداحآخر،فجاءفيالذمقولهتعالى)إِنيَتَّبِعُونَإِلاَّالظَّنَّوَإِنَّالظَّنَّلايُغْنِيمِنَالْحَقِّشَيْئًا([النجم:28]وجاءفيالمدح)الْخَاشِعِينَالَّذِينَيَظُنُّونَأَنَّهُممُّلاَقُورَبِّهِمْ([البقرة:45-44]،والظنفيهذهالآيةمعناه: اليقين؛وإلا فهليفيدظنهمشيئالوكانلديهمأدنىنسبةمنالريبفيلقاءربهم؟قالالقرطبيفيتفسيره[3]: (والظنهنافيقولالجمهوربمعنىاليقينومنهقولهتعالى "إنيظننتأنيملاقحسابيه" وقوله: "فظنواأنهممواقعوها") انتهى.
وقالالإمامالشنقيطيبعدأنذكرعدداًمنالآياتالقرآنيةالتيوردفيهاالظنبمعنىاليقين: (فَالظَّنُّفِيهَذِهِالْآيَاتِكُلِّهَابِمَعْنَىالْيَقِينِ،وَالْعَرَبُتُطْلِقُالظَّنَّعَلَىالْيَقِينِوَعَلَىالشَّكِّ)[4]انتهى.
ومقارنةالظنالمستفادمنأخبارالآحادالصحيحةبظنالمشركينالمذمومفيالآيةمقارنةخاطئةلاشكفيخطئها،قالالشيخابنعثيمينرحمهاللهفيتفسيرهلآيةالنجم:)إِنيَتَّبِعُونَإِلاَّالظَّنَّوَإِنَّالظَّنَّلايُغْنِيمِنَالْحَقِّشَيْئًا([النجم:28]قال: (والمرادبالظنهناالوهمالكاذب،وليسالمرادبالظنهناالراجحمنأحدالاحتمالين،وانتبهلهذافالظنيأتيبمعنىالتهمة،ويأتيبمعنىرجحانالشيء،ويأتيبمعنىاليقين)[5].وأيضاًفإناللهسبحانهقدشرعفيكتابهالأخذبشهادةالشهود،وهمآحاد،فإماأنيقولالمخالفونإنشهادتهمتفيداليقينفيكونفيذلكنقضللمقدمةالأولى –التي هي أن  أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن-،وإماأنيقولوابأنهاتفيدالظنومعذلكشُرعت،فيكونفيذلكإبطالللمقدمةالثانية –التي هي أن اتباع الظن مذموم مطلقا-،فماثبتأنهتشريعمناللهلايكونمذمومابحال.
قال ابن حزم رحمه الله: "إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد"[6])[7]

ثالثاً:النظر في قلة الاحاديث المتواترة من السنة أو ندرتها مع وجود عشرات النصوص القرآنية الـمُرشدة إلى اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم ذكر شيء منها مع وجوه دلالاتها في القسم الأول من الكتاب-، فإذا حُصر مدلول كل تلك النصوص القرآنية في السنة المتواترة فستقع مفارقة كبيرة بين قدر التوصية القرآنية وبين واقع الأمر الموصى به -أي الحديث المتواتر-، إذ إنه لا يكاد يوجد إلا في دائرة ضيقة جدّاً، وهذا كله على اعتبار أن المتواتر هو ما استقر عليه تعريفه عند الأصوليين والمتكلمين ومتأخري المحدثين، والذي قال عنه الإمام ابن الصلاح : «لا يكاد يوجد في رواياتهم» -أي في روايات المحدثين-، وقال أيضا : «ومن أراد مثالًا لذلك -أي للمتواتر- أعياه تَطَلُّبُه»[8]، فإذا كان الواقع كذلك فهل يكون هذا القدر الذي يُعيي المتطلبَ وجودُه هو ما أراده الله بكل الآيات التي أوصى فيها باتباع سنة نبيه صلى الله عليه سلم؟
وأما إذا عرّفنا المتواتر بأنه ما ورد بأكثرمن طريق صحيح وأفاد القطع بحسب ما يعتبره متقدمو المحدثين من قرائن الرواية وأحوالِ الرواة وتفاوتِهم في الضبط والإتقان = فلا شك أنه كثير جدّاً في السنة، وهو الأصح في التعامل مع مصطلح المتواتر، غير أن أكثر المتأخرين يدخلون هذا النوع في جملة الآحاد.
ويُضَمُّ إلى هذا الوجه من النقاش: الآياتُ التي يُستَنبط منها معنى الشمولية والعموم في السنة، وهو معنى غير متحقق في المتواتر على التعريف الشائع المشار إليه.
مثال ذلك: قول الله تعالى: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيءٍ فَرَدُّوهُ إِلَى اللهِ والرسولِ إِن كُنتُمْ تُؤمِنُونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ"[ النساء : 59]
ففي هذه الآية بيان للمـرجع في فصل النزاع وأنه الكتاب وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم[9]، وإذا كان الكتاب والسنة كذلك فلا بد أن يكونا شاملين لموارد النزاع بين المؤمنين المخاطبين بهذه الآية، ثم إنك إذا اعتبرتَ واقع الأحاديث المتواترة بمعناها الشائع فلن تجد فيها القدر التفصيلي الحاكم في النزاع بمثل ما هو موجود في السنّة الآحادية، والآية جعلت للسنة قدراً ظاهراً، ونصيباً وافراً في فصل النزاع، ولذلك؛ فإن عامّة ما يستدل به العلماء لترجيح أقوالهم عند النزاع مأخوذ من نصوص القرآن ومن السنة الآحادية والمتواترة، لا من المتواترة وحدها، حتى في بعض مسائل الاعتقاد.

رابعاً: أن العلماء أجمعوا على الأخذ بخبر الآحاد.
قال ابن عبد البرّ - رحمه الله -: «أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمتُ- على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره : من أثر أو إجماع. على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع، شرذمة لا تعد خلافًا»[10].
وقال ابن حزم - رحمه الله -: «فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد»[11].

خامساً: أنّ حَصْر قبول الأخبار النبوية في التواتر أمرٌ مبتدع.

ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمبطُرُق كثيرة يفيد مجموعها القطع أنهم كانوا يتلقون عنه الحديث، ثم يتلقى بعضهم عن بعضٍ ما فاتهم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويحتجّون به دون اشتراط التواتر، ويقيمون دينهم واعتقاداتهم بناءً على ذلك، فلا نجد أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من علماء التابعين وتابعيهم من أئمة القرون المفضلة؛ مَن إذا أُخبر بخبر في أبواب الاعتقاد أو غيرها عن رسول الله ردّه على صاحبه؛ حتى يأتيه بتسعة شهود معه؛ ليبلغ خبره حدّ التواتر العشْري -على أشهر الأقوال في تحديد المتواتر بالعدد- نعم، قد يتثبت بعضهم في الرواية إذا قام في قلبه ما يدلّ على الحاجة للتثبت، ولكنه لا يجعل التثبت متعلقاً بعدد التواتر، فعلى سبيل المثال: من يستدلبقصّة تثبّت عمر بن الخطابرضي الله عنه لمـّا جاءه أبو موسى بخبر الاستئذان، فطلب منه عمر أن يأتيه بشخص آخر يوافقه على هذا الحديث[12].
نقول له: إن رواية شخص آخر لهذا الحديث مع أبي موسى لم تُخرِج الحديث عن حدّ الآحاد، وقناعةُ عمر بقول من وافق أبا موسى على الخبر يُستدل بها على عكس مرادهم، إذ فيها دليل على قبول خبر الآحاد.

مع التأكيد على أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد أخذ بخبر الواحد المتفرد بالرواية في مواطن أخرى، كأخذ الجزية من المجوس استناداً إلى خبر عبد الرحمن بن عوف وحده عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]لا يخفى على القارئ الكريم أن المراد بأخبار الآحاد ما كان دون التواتر منها لا ما انفرد به الواحد فقط

[2]سابغات، أحمد السيد، بتصرف.

[3] (2/72) ط.الرسالة.

[4]الأضواء (4/141-142) نشر مكتبة ابن تيمية.

[5] لقاء الباب المفتوح رقم 71.

[6] الإحكام في أصول الأحكام  لابن حزم (1/113- 114).

[7]كتاب سابغات – الطبعة الأولى – ص184-186 بتصرف

[8]يُنظر: علوم الحديث، لابن الصلاح (268-269).

[9]وقد بينتُ وجه دلالة الآية على ذلك في القسم الأول من هذا الكتاب، في ذكر دلالة القرآن على حجية السنة.

[10] التمهيد، لابن عبد البر (1/2).

[11] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/113-114).

[12]ينظر : صحيح البخاري (٦٢٤٥) ، صحيح مسلم (٢١٥٣)

  • الاربعاء AM 01:46
    2020-11-11
  • 1429
Powered by: GateGold