المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413963
يتصفح الموقع حاليا : 334

البحث

البحث

عرض المادة

الزّعْمُ أنّ العذابَ مُدّتُه محدودةٌ ولا يطول؛ لأنّ القرآنَ صَرَّحَ أنّ الكُفّارَ سيذوقون العذابَ

زَعَم بعضُهم أنّ القرآن استَعمَل في بعض الآيات لفظَ (الذّوق) في عذاب الكُفّار؛ وهذا يدلُّ على أنّ العذابَ مُدّتُه محدودةٌ ولا يطول؛ لأنّ الذّوقَ يُستعمل عند وضعِ الطعامِ على طرف اللِّسَان لاختبار طَعْمِه فقط، وهذا مدّتُه قصيرةٌ جداً؛ وهو ليس مثلَ الأكلِ الذي يحتاجُ إلى مدّةٍ طويلة!

 

وهذا جهلٌ بلسانِ العرب وأسلوبِ القرآن الكريم وأسرارِ المعاني؛ قال الراغب الأصفهاني (502 ھ) في «مفردات ألفاظ القرآن»: "الذّوْق: وجودُ الطّعْم بِالفَم، وأصْلُه فيما يَقِلّ تناولُه دونَ ما يَكثُر، فإنّ ما يَكْثُر منه يقال له: الأكل. واخْتير في القرآن لفظُ الذّوق في العذاب؛ لأنّ ذلك- وإن كان في التّعارُفِ لِلْقلِيل- فهو مُسْتَصْلَحٌ للكثير، فَخَصَّه بالذّكر ليعُمَّ الأمرين، وكثُرَ استعمالُه في العذاب." [مفردات ألفاظ القرآن، مادة (ذوق)].

 

وقال ابنُ الأثيرِ الجزرِيُّ (606 ھ) في «النّهايةُ في غريب الحديثِ والأثرِ» -بعد إيرادِه لقول أبي سفيان في أُحُد: (ذُقْ عُقَقُ)-: "وهذا مِن المجازِ أنْ يُسْتعمَلَ الذّوْقُ -وهو مِمّا يتعلّقُ بالأجسامِ- في المعاني." [النّهايةُ في غريب الحديثِ والأثرِ، ابنُ الأثيرِ الجزرِيُّ، مادة (ذوق)، ج 2 ص 159، الطبعة الأولى، سنة 1997م، دار الكتب العلمية، بيروت].

 

ومِن الآياتِ التي اسْتُعْمِلَ فيها لفظُ الذّوق في العذاب:

 

  • قولُه تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِیهِمۡ نَارࣰا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَـٰهُمۡ جُلُودًا غَیۡرَهَا لِيَذُقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِیزًا حَكِیمࣰا} [النساء: 56].

 

قال الواحدي (468 ھ) في «التفسير البسيط»: "وقولُه تعالى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} استُعمِل لفظُ الذّوقِ ههنا، مع عِظَم ما نالوا من شدة العذاب، إخبارًا بأنّ إحساسَهم به في كل حالٍ، كإحْساسِ الذّائِق في تجديد الوِجْدان، مِن غير نُقصانٍ في الإحساس، كما يكون في الذي يستمر به الأكل فلا يجد الطعم."

 

وقال أبو حيان (745 ھ) في تفسيره «البحر المحيط»: "{لِيَذُوقُوا العَذابَ} أيْ: ذَلِكَ التَّبْدِيلَ كُلَّما نَضِجَتِ الجُلُودُ، هو لِيَذُوقُوا ألَمَ العَذابِ. وأتى بِلَفْظِ الذَّوْقِ المُشْعِرِ بِالإحْساسِ الأوَّلِ وهو آلَمُ [أي: أشدُّ إيلاماً]؛ فَجَعَلَ كُلَّما وقَعَ التَّبْدِيلُ كانَ لِذَوْقِ العَذابِ، بِخِلافِ مَن تَمَرَّنَ عَلى العَذابِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: {لِيَذُوقُوا العَذابَ} لِيَدُومَ لَهم ذَوقُه ولا يَنْقَطِعَ؛ كَقَوْلِكَ لِلْعَزِيزِ: أعَزَّكَ اللَّهُ، أيْ: أدامَكَ عَلى عِزِّكَ، وزادَكَ فِيهِ."

 

  • وقولُه تعالى: {ثُمَّ قِیلَ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ} [يونس: 52].

 

قال الطبري (310 ھ) في تفسيره «جامع البيان»: "يقول تعالى ذكره: {ثم قيل للذين ظلموا} أنفسَهم، بكفرهم بالله {ذوقوا عذاب الخلد} تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا، الذي لا فناء له ولا زوال."

 

إنّ العذابَ الذي وُصِفَ بالخُلْد هو عذابٌ دائمٌ لا فناءَ له، واستعمالُ لفظ {ذوقوا} في قوْلِهِ تعالى: {ذوقوا عذاب الخلد} يدلُّ دلالةً قاطِعةً على أنّ لفظَ الذوق يُستعْمَلُ أيضاً -في القرآن الكريم- في ما يَكثُرُ تناوُلُه، ولو كان تناوُلُهُ أبد الآبدين.

 

واستعمالُ لفظ الذَوْق -في هذه الآية- فيه أيضاً استهزاءٌ بالكافرِين، وزيادةٌ في تعذيبِهم تعذيباً نفسيًّا؛ قال الشوكاني (1250 ھ) في تفسيره «فتح القدير»: "يُقالُ لَهم عَلى سَبِيلِ الإهانَةِ لَهم: ذُوقُوا عَذابَ الخُلْدِ أيِ: العَذابَ الدّائِمَ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ."

 

واستعمالُ لفظ الذَوْق استهزاءً بالكافرِين، جاء أيضاً في آياتٍ أُخَر مِن القرآن الحكيم، منها:قوْلُه تعالى: {ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡكَرِیمُ} [الدخان: 49].

 

قال ابن كثير (774 ھ) في تفسيره: "وَقَوْلُهُ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أَيْ: قُولُوا لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ وَالتَّوْبِيخِ."

 

  • وقولُه تعالى: {أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُ فَذَاقُوا۟ وَبَالَ أَمۡرِهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ} [التغابن: 5].

 

قال الطّبَريُّ (310 ھ) في تفسيره «جامع البيان»: "يقول تعالى ذكره لِمُشركي قريش: ألم يأتكم أيها الناسُ خبرُ الذين كفروا من قبلكم، وذلك كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} فمسّهم عذابُ الله إيّاهُم على كفرهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يقول: ولهم عذابٌ مؤلمٌ موجِعٌ يومَ القيّامة في نار جهنم، مع الذي أذاقهم الله في الدنيا وبال كفرهم."

 

إنّ قومَ عادٍ كانوا من {ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُ}، ولقد أهْلَكَهم اللّهُ تعالى بريحٍ باردةٍ شديدةِ الهبوبِ، سلَّطها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيّةَ أيّامٍ متتابعة، لا تَفْتُر ولا تنقطع؛وفي هذهالمُدةالطّويلة دامَ لهم ذوْقُ وتجدّد ولمْ ينقطعْ حتى هلكوا كلُّهم، جاء ذلك في قولِه تعالى: {وَأَمَّا عَادࣱ فَأُهۡلِكُوا۟ بِرِیحࣲ صَرۡصَرٍ عَاتِیَةࣲ. سَخَّرَهَا عَلَیۡهِمۡ سَبۡعَ لَیَالࣲ وَثَمَـٰنِیَةَ أَیَّامٍ حُسُومࣰاۖ فَتَرَى ٱلۡقَوۡمَ فِیهَا صَرۡعَىٰ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ خَاوِیَةࣲ} [الحاقة: 6-7].

 

  • وقولُه تعالى: {إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ لَا یَرۡجُونَ حِسَابࣰا. وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا كِذَّابࣰا. وَكُلَّ شَیۡءٍ أَحۡصَیۡنَـٰهُ كِتَـٰبࣰا. فَذُوقُوا۟ فَلَن نَّزِیدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 27-30].

 

قال البقاعيُّ (885 ھ) في تفسيره «نظم الدرر»: "{فَذُوقُوا} أيْ: مِن هَذا العَذابِ في هَذا الحالِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِكم بِالحِسابِ، وأكَدَّ ذَوْقَهم في الِاسْتِقْبالِ فَقالَ: {فَلَنْ نَـزِيدَكُمْ} أيْ: شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ {إلا عَذابًا}."

 

إنّ هؤلاءِ الكُفّارَ يُقالُ لهم: {فَذُوقُوا۟} أي: فذوقوا العذابَ، وبعد ذلك يُقالُ لهم: { فَلَن نَّزِیدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا} وهذا يعني أنّ عذابَهم لن ينْقصَ، ويتجَدّدأبدَ الآبدين؛ وهذا دليلٌ على أنّ استعمالَ القرآن لفظ الذّوق في عذاب الكُفّار في النّارِ، لا يدلُّ علىالقِلّة،ولا يدل على أن مُدّتهمحدودةٌ، وسينقطع.

 

فائدة: وردَ في بعضِ الأحاديث استعمالُ لفظ الذّوق، استعمالاً مجازياً، فعلى سبيل المثال: ثبت عن رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا.ً" [رواه مسلم].

 

قال الإمامُ النّوَوِيُّ في «شرح مسلم»: "وقال القاضي عياض -رحمه الله-: معنى الحديث: صَحَّ إيمانُه واطْمأنّتْ به نفسُه وخامَرَ باطنَه؛ لأن رضاه بالمذكورات دليلٌ لِثبوت معرفتِه ونفاذِ بصيرتِه ومخالطةِ بشاشتُه قلبَه؛ لأن من رضي أمرا سَهُلَ عليه. فكذا المؤمن إذا دخل قلبَه الإيمانُ سهُل عليه طاعاتُ الله تعالى، ولذّت له."

 

ولفظُ الذوْق في هذا الحديث لا يدلُّ على القِلَّة؛ لأنّ مَن رضيَ بالمذكورات في الحديث، ترسّخَتْ معرفتُه ودام ذوقُه طعْمَ الإيمان.

 

فالذي يرْضى بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ صلّى اللّهُ عليه وسلّم رَسُولا؛ يذوق طَعْمَ الإِيمَانِ، ويتجَدّدُ ذوْقُه لِطَعمِه ما دام راضِياً بما ذُكِر.

 

والذي يُعذَّبُ في النّارِ، يذوق العذابَ، ويتجَدّدُ ذوْقُه للعذابِ ما دام في النّارِ، وهو خالدٌ فيها أبدَ الآبدين.

  • الاربعاء PM 05:55
    2020-11-04
  • 1545
Powered by: GateGold