المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412413
يتصفح الموقع حاليا : 352

البحث

البحث

عرض المادة

الزّعْمُ أنّ أصْلَ لفظِ (العذاب) هو التّصْفِيّةُ والتّنْقِيّةُ، وهذا لا يستلزمُ سَرْمَدِية العذابِ، وأبدِيّة النّارِ.

قال بعضُهم: "كلمة (عذاب) من عذب، التي تدل على عزل أو فصل أو تنقية شيء من أمور لحقت به، نحو الماء العذب، وهو الماء الصافي الصالح للشرب وخالي من الشوائب. والعذاب للإنسان هو القيام بتطهيره أو عزل الشوائب التي أصابت نفسه، وهذا مفهوم التعذيب، وإذا انتفت الغاية انتفى مفهوم العذاب وصار تشفياً، وهذا الفعل منزه عنه الخالق الصمد المستغني عن كل شيء، والقيام بالتعذيب ومن ثم إفناء المعَذبين عبث، واستمرار التعذيب إلى ما لا نهاية أيضاً عبث وخلاف الحكمة." اھ.

 

وهذه الشُّبْهَةُ يُردّ عليها بما يأتي:

 

أوّلاً: لقد جاءت الأدلةُ القاطعةُ من الكتاب والسُّنَّةِ على أبدية النّارِ، وخلود الكفار في عذابِها -كما رأينا سابقاً-؛ ولقد اتفق أهل اللُّغَة على أن المعنى اللُّغَوِي لكلمة (عذاب) هو: النَّكَالُ والعُقُوبة، يقال: عَذَّبْتُه تَعْذِيباً وعَذَاباً. [انظر مادة (عذب) في: «لسان العرب»، و«تاج العروس»، و«القاموس المحيط»]؛ أو هو: الإيجاعُ الشّديد. [انظر: مفردات القرآن، للراغب الأصفهاني/ وعمدة الحفاظ، للسمين الحلبي].

 

وهذا المعنى لا يُعارِضُ القولَ بأبَدِيّة عذابِ الكفارِ في النّارِ. ومعنى العذاب في النّار، لا يختلفُ عن معناه اللغوي؛ ولكنْ كيْفيّةُ العذابِ وشِدّتُه ومُدّتُه، تختلفُ بين المُعذَّبِين: فالمؤمنُ المُوحِّدُ يكون عذابُه تطهيراً له وتصفيةً؛ ولذلك فإنّه يخرج من النّارِ، ولا يخلد فيها. وأمّا الكافرُ فإنّ عذابَه في النّارِ هو جزاءُ كُفْرِه؛ لقوله تعالى: {فَلَنُذِیقَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَذَابࣰا شَدِیدࣰا وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَسۡوَأَ ٱلَّذِی كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ. ذ ٰلِكَجَزَاۤءُأَعۡدَاۤءِٱللَّهِ ٱلنَّارُۖ لَهُمۡ فِیهَا دَارُ ٱلۡخُلۡدِ جَزَاۤءَۢ بِمَا كَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یَجۡحَدُونَ} [فصلت: 27-28].

 

والكفرُ لا يَقبَل التّطْهيرَ والتّصْفيّةَ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰلِكَلِمَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا} [النساء: 116]، ولقوله تعالى: {إِنَّهُۥ مَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَارࣲ} [المائدة: جزء من الآية 72]؛ ولذلك فإنّ جزاءَه هو الخلودُ الأبَديُّ في النّارِ.

 

فالمؤمنُ جزاءُ إيمانِه وتوحيدِه هو الخلودُ في الجَنّة، وقد يدخل النّار لكي تُطهِّرَه؛ ثم يخرج منها ويدخل الجنة. وأمّا الكافرُ فجزاءُ كفرِه هو الخلودُ السَّرْمَديُّ اللّامُتَناهِيُّ في عذابِ النّارِ.

 

هذا ولم يقل أحدٌ من أهل اللُّغَة بأنّ مفهومَ تعذيب الإنسان هو تطهيره أو عزل الشوائب التي أصابت نفسه، وإنّما قال بعضُهم: إنّ أصْلَ كَلِمةِ (عذاب) هو المنعُ مِن مُعاوَدة ما عوقِبَ عليه.[عمدة الحفاظ،السمين الحلبي، مادة (عذب)].

 

ويبدو أنّ القائلَ بالشُّبْهَةِ المذكورة سابقاً، قد وقع له خلْطٌ بين أصْلِ كلمة (عذاب) ومعناها اللُّغوِيِّ؛ والمعهودُ عند علماءِ التفسير، عندما يَرْجِعون إلى اللُّغَة لتفسيرِ ألفاظ القرآن الكريم هو تفسيرُها بمعانيها اللُّغَوِيّة، لا بِأُصُولِها!

 

مسألةٌ هامّة: متى يجوزُ تفسيرُ ألفاظِ القرآن الكريم باللغة؟

 

قال الإمامُ القرطبي -مُحذِّراً من تفسير القرآن باللُّغة بدون ضوابط- في كتابه «الجامع لاحكام القران»: "ما جاء من الوعيد في تفسيرِ القرآن بالرأي، والجرأةِ على ذلك: الوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهارٍ بالسَّماع والنّقْل فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الألفاظ المُبْهَمَة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير."

 

وقال الدكتور عبد الله الجُدَيع: "ثُمّ إنّ الاقْتِصارَ على مُجَرَّدِ اللُّغَةِ لا يُعَيِّنُ المُرادَ الشّرْعيَّ بالألفاظِ، فلفظُ الصّلاةِ أو الزكاةِ أو الصيام مثلاً، لا تُسْعِفُك فيها اللُّغَةُ لِمعرِفةِ مُرادِ اللَّهِ تعالى بها؛ ولذا احتيجَ إلى بيان الرّسول صلّى اللّهُ عليه وسلّم". [د. عبد الله الجديع، المقدِّمات الأساسية في علوم القرآن، مؤسسة الريان، ط 1 سنة 2001، ص 353].

 

ولخطورة تفسير ألفاظ القرآن الكريم باللغة، وضع العلماءُ ضوابطَ؛ لاختيار المعنى المناسب للكلمة المراد تفسيرها، إذا كانت تحْتَمِل أكثر من معنى في لغة العرب، وكان هناك تعارضٌ أو تناقضٌ بينها، وهي -باختصار-:

 

-1 أنْ تكونَ الكلمةُ المُفسِّرةُ صحيحةً في اللغة، فلا يجوز تفسير القرآن بما لا يُعرَف في لغة العرب.

 

-2أنْ تُفسَّرَ الكلمةُ على الأغلب المعروف من لغة العرب، دون الشاذ أو القليل.

 

3- أنْ يُراعيَ المُفسِّرُ -عند تفسيره لِلكلمة- السِّياقَ، فلا يختار إلا ما يتناسب معها؛ وهذا ما كان يفعله الراغب الأصفهاني في كتابه «مفردات القرآن الكريم»؛ قال الزركشي: "وهذا يُعنَى به الراغب كثيراً في كتابه المفردات؛ فيذكر قيْداً زائداً على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ؛ لأنه اقتنصه من السِّياق". [البرهان في علوم القرآن،(2/172)].

 

-4أنْ يعرف مُلابَساتِ النُّزولِ [أيْ: نزولِ الآيةِ التي ورَدَتْ فيها الكلمةُ المُرادُ تفسيرُها] إذا احتاجها عند تفسير لفظة ما؛ لكيْيعرفَ المراد بها في الآية.

 

 -5أن يُقَدِّمَ المعنى الشرعيَّ على المعنى اللُّغَوِيِّ إذا تنازعَهُما اللفظُ، إلا إذا دلّ الدّليلُ على إرادة المعنى اللغوي؛ لأن القرآن نزل لبيان الشرع لا لبيان اللغة.

 

فالصّلاةُ في قولِه تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] تحتمل الدعاءَ، وتحتمل صلاةَ الجنازة، وهذا هو المُقَدَّمُ؛ لأنّه المعنى الشرعي. [انظر التفاصيل في كتاب «فصول في أصول التفسير»: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار، تقديم: د. محمد بن صالح الفوزان، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية، 1423ھ، ص 58 وما بعدها، 

https://al-maktaba.org/book/32881 ].

 

ثانياً: تحقيق حول البحث في أصل كلمة (عذاب).

 

أ) متى يُبحث في أصل اللفظ؟

 

البحثُ في أصول ألفاظ اللُّغَة العربية، يدخل في مجال (علم الاشتقاق)؛ قال الأستاذ الدكتور محمد حسن حسن جبل: "الاشتقاقُ هو أكملُ الطّرُق في تعريف مدلولات الألفاظ" كما قال الفخر الرازي، وذلك حَسْمًا للتّردُّد الذي يقع فيه دارِسُ تفسير القرآن الكريم أو الباحثُ في معاني مفرداته، عندما يواجَه بأن هناك أقوالًا كثيرةً في بيان معنى المفردة أو العبارة القرآنية، فيُضطر للاجتزاء بصورة مهتزة أو مُلْتَبِسة عن ذلك المعنى. وهذا يقدح في وثاقة التفسير، ويُسيء إلى اللغة أيضًا.

 

وإنما كان الاشتقاقُ "أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ"؛ لأنه يقوم على استمداد معاني الألفاظ من استعمال العرب لها -مع أخذ تكييفاتهم في الحُسبان- ولا يَخْفَى أنّ استعمالَ العربي لِلَفْظٍ في معنى مُعَيَّنٍ هو الحُجّةُ في هذا؛ لأنّ العربي هو أهل اللغة، وهو هكذا عبَّر بها عما في نفسه." [كتاب المعجم الاشتقاقي المؤصل، أ. د. محمد حسن جبل، مكتبة الآداب - القاهرة الطبعة الأولى، 2010 م، (المقدمة) ج 1 ص 9 - 10].

 

ولقد رأينا أنّه لا يوجد تردُّدٌ أو اختلافٌ بين أهل اللُّغَة في مدلول كلمة (عذاب)؛ فلا داعيَ إذن للبحث عن أصل هذه الكلمة؛ لإعطائها معنًى جديدا لمْ يستعمله اللسان العربي؛ ابْتغاءَ تأويلها والاستدلال بها على انتهاء العذابِ وفناء النّار. قال الدكتور محمّد حسن حسن جبل: "إنّ التَوثُّقَ من أنّ معنى مفردةٍ أو عبارةٍ قرآنيّةٍ هو كذا، أو ليس كذا = هو حقُّ اللّهِ تعالى مُنزِلِ القرآن، وهو حقُّ القرآن، وحقُّ المسلمين، وحقُّ اللغة العربية أيضًا؛ لأن معنى الكلمة القرآنية تعتمد عليه المقرراتُ والأحكامُ العَقَدِيّةُ والتشريعِيّةُ التي أرادها الله تعالى بالتعبير بتلك المفردات أو الكلمات العربية في قرآنه الكريم". [المرجع السابق: ج 1 ص14].

 

ب) لقد وقع اختلافٌ في أصل كلمة (عذاب):

 

  • جاء في «مفردات ألفاظ القرآن» للراغب الأصفهاني (502 ھ) في مادة (عذب): والعَذَابُ: هو الإِيجاعُ الشّدِيدُ، وقدْ عَذَّبَهُ تَعْذِيباً: أكْثرَ حبْسَه في العَذَابِ... واخْتُلِف في أصْلِه، فقال بعضُهم: هو مِن قولِهم: عَذَبَ الرّجلُ: إذا ترك المأكل والنّوم، فهو عَاذِبٌ وعَذُوبٌ، فَالتَّعْذِيبُ في الأصْلِ هو حَمْلُ الإنْسانِ أن يُعَذَّبَ، أي: يجوعَ ويسْهرَ، وقيل: أصْلُه مِن العَذْبِ، فَعَذَّبْتُهُ، أيْ: أزلْتُ عَذْبَ حياتِه على بِناءِ مرّضتُه وقذّيْتُه، وقيل: أصْلُ التَّعْذِيبِ إكثارُ الضّرب بِعَذَبَةِ السّوطِ، أي: طرفِها، وقد قال بعضُ أهلِ اللُّغَةِ: التَّعْذِيبُ هو الضّربُ، وقيل: هو مِن قولِهم: ماءٌ عَذَبٌ إذا كان فيه قذى وكدَرٌ، فيكون عَذَّبْتُهُ كقولك: كدّرتُ عيْشَه، وزلّقْتُ حياتَه، وعَذَبَةُ السّوطِ واللّسانِ والشجرِ: أطرافُها.

 

  • وجاء في «عمدة الحفاظ» للسمين الحلبي (756 هـ) في مادة (عذب): {ولهم عذاب أليم} [البقرة: 174]: الإيجاع الشديد، وأصله من المنع، وسُمِّيَتِ العقوبةُ والإيلامُ عذابًا باعتبار منعِها من مُعاودَة ما عوقب عليه، ومنه الماء العذب لأنه يعذب العطش، أي يمنعه. وقيل: هو من قولهم: عذب الرجل إذا ترك المأكل فهو عاذب وعذوب. فكان التعذيب في الأصل حمل الإنسان على أن يعذب أي يجوع ويسهر. وقيل: بل هو من العذب وهو الخلو بمعنى أن عذبته للسلب، أي أزلت عذوبة حياته نحو مرّضته.

 

هذا، ولقد حرّرَ الأستاذُ الدكتور محمد حسن جبل (1436 ھ) القولَ في أصل كلمة (عذاب) في «المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم»، فجاء فيه: أمّا (العذابُ: النكالُ والعقوبةُ)، فمعناه المادّي -أخذًا من معنى التركيب- أنَّه إهلاكٌ وإفناءٌ لِلْقُوّة والغِلَظِ والحَيَويَّةِ المُنْبَثَّة في البدن، أي: تجْريدٌ منها، بإيقاع الآلام المُؤَدِّيَّة إلى ذلك، كالضّربِ المُبَرِّحِ بصُوَرِهِ، والجَلْد، والكَيِّ بالنّارِ، وقَطْع الأعضاء إلخ. وأيضًا بالإِجاعة والإعطاش ونحوهما - بل هذا أقرب إلى الأصل المادي؛ كذلك يصدق بإيقاع الإهانة والإذلال لِذَوِي الكِبْرِ والاِعتِزاز. [انظر: أ. د. محمد حسن جبل، «المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم» مادة (عذب)، ج 3 ص 1429 - 1430]. انتهى.

 

وهذا المُعجمُ مُؤَصّل ببيانِ العلاقات بيْن ألفاظ القرآن الكريم بأصواتها وبيْن معانيها، وتفسيرِ كلٍّ من ألفاظ القرآن الكريم في سياقاتها القرآنية تفسيراً مُوَثقاً من معاجم اللغة، وتفاسير القرآن الكريم المشهورة.

 

والدكتور محمد حسن جبل كان لُغوياً وأكاديمياً مصرياً، ومُدرِّسًا لأصول اللغة، بكلية اللغة العربية بالمنصورة؛ وموسوعتُه تُعدّ من المصادر الموثوقة والمعتمدة في باب (بيان العلاقات بين ألفاظ القرآن الكريم بأصواتها وبين معانيها).

 

وبهذا التحقيق يتَبَيّنُ لنا أنّه قدْ وقع اختلافٌ في أصل لفظ (عذاب)، وأنّ القولَ بأنّ لفظَ (عذاب) أصلُه من المنع، وأنّ العقوبة سُمِّيَت عذابًا باعتبار منعها من معاودة ما عوقب عليه؛ هو قولٌ غير مُعْتَمَد. والملاحظُ أنّ الراغبَ الأصفهانِيَّ لمْ يذكرْه في كتابه «مفردات ألفاظ القرآن».

 

والاختلافُ الذي حصل في أصل لفظ (عذاب) لا يُغيرُ المعنى اللغوي لهذا اللفظ؛ ولقد بيَّنّا -سابقاً- أنّه لا مجال للاحتجاج بالمعنى اللغوي لِكَلِمةِ (عذاب) على انتهاء عذاب الكفار وفناء النّار؛ فلا فائدةَ إذن من محاولة الرجوع إلى أصل هذا اللفظ للاستدلال به على نهاية العذابِ.

  • الاربعاء PM 05:45
    2020-11-04
  • 1989
Powered by: GateGold