المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412586
يتصفح الموقع حاليا : 302

البحث

البحث

عرض المادة

الزّعْمُ أنّ النّارَ ستفنى بفضلِ رحمةِ اللَّهِ التي سبَقتْ غضبَه، ووَسِعَتْ كلَّ شيْء

أ) قالوا: إنّ رحمةَ الله وسِعَتْ كلَّ شيء، وهذا دليلٌ على أنّ النّارَ ستفنى. ويَسْتَدِلّون على ذلك بآيات من القرآن الحكيم.

 

وهذا القولُ يدلّ على التسرع وعدم فهم مُراد كلام اللّه؛ ولقد قرّر العُلماءُ أنّ "مِن شروط المفسِّر لكتاب اللّهِ: التّحرّي والتثبُّتُ في الفهم، والدِّقةُ في النّقْل، واعتمادُ القويّ الثابت؛ قال الإمامُ عبد الرحمن بن مهدي: "لا يجوز أن يكون الرجلُ إماماً حتّى يعلم ما يصحّ ممّا لا يصحّ، وحتى لا يحتجَّ بكلّ شيء، وحتى يعلم مخارج العلم." [انظر: المُقدمات الأساسية في علوم القرآن، الدكتور عبد الله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، طبعة 2001، ص 297].

 

ومِنْ أهَمِّ طُرُق التفسير: "أنْ يُفسَّرَ القرآنُ بالقرآن، وذلك بأنْ يُسْتكشَفَ معنى الآيةِ من نفس القرآن، وهذا على وجوهٍ: تارةً بمُلاحظة السّياقِ الذي ورَدتْ فيه الآيةُ، وتارةً بملاحظة سياق الآيات، وتارةً بفهم المراد من خلال تأمُّل ورود التفسير في موضعٍآخَرَ في القرآن، وتارةً بِتَتبُّع مواضِعِ التَّكرارِ؛ لأنّ التَّكرارَ في كلّ موضع له من الدلالة ما يسْتقلّ به عن الوضع الآخر، إمّا بزيادةِ تفسيرٍ أو تفصيلٍ أو دليلٍ". [بتصرف من المرجع السابق، ص 297-298].

 

"فالبحثُ عن معنى الآية أو الآيات من خلال جمعِهما، والمقارنةِ بينها وبين مواضعِ تَكْرارِها، طريقٌ عظيمُ الأثرِ في فهم القرآن." [المرجع السابق، ص 298].

 

ونحن سنرجع إلى هذه النصوص، وكيف فهِمَها العلماءُوأهلُ الاختصاص؛ عملاً بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

 

  • النّصُّ الأوّل: قال تعالى: {وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلآخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَاۤ إِلَیۡكَۚ قَالَ عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ. ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ یَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَ وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [الأعراف: 156-157].

 

قال الماوردي في تفسيره: "{ورحمتي وسعت كل شيء}، فيها ثلاثةُ تأويلاتٍ:

 

أحدها: أن مَخْرَجَها عام ومعناها خاص، تأويل ذلك: ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} الآية، قاله ابن عباس.

 

والثاني: أنها على العموم في الدنيا، والخصوص في الآخرة، وتأويل ذلك: ورحمتي وسِعتْ في الدنيا البَرَّ والفاجرَ، وفي الآخرة هي للذين اتقوا خاصّةً، قاله الحسن، وقتادة.

 

والثالث: أنها التوبة، وهي على العموم، قاله ابن زيد."

 

وقال الشيخُ حَسَنين محمد مخلوف (من كبار العلماء المعاصرين، ومُفتي مصر الأسبق، توفي سنة 1990م) في تفسيره «صفوة البيان لمعاني»: "{قال عذابي أصيبُ به من أشاء} جوابٌ من اللّهِ تعالى لنبيِّه موسى بِإِجابةِ سُؤْلِه بقَبُول توبةِ قومِه؛ وحاصلُه -كما قال الآلوسي-: إنّ عذابي الذي تخشى أنْ يُصيبَ قومَك [أي: بني إسرائيلَ]، أصيبُ به من أشاء، فلا يتعيّن قومُك لأنْ يكونوا غرضاً له بعد توبتهم، {ورحمتي وسِعت كلَّ شيء} فلا تَضِيق عن قومك. كيف -وقد تابوا ووَفَدُوا إليَّ- أرُدُّهُم خائبين؟ بل إنّي سأرحمهم، وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم وذراريهم الذين يأتون من بعدهم، ويتّصفون بما يُرضيني ويقومون بما آمرُهم به، وهم مَن أدركوا بعثة النّبِيِّ محمّدٍ صلّى اللّهُ عليه وسلّم، واتّبعوه إيماناً به وبما جاء مِن نُعوتِه في التوراة والإنجيل، فيكونون مِمّن آمن بالكتابَيْن، وأفلح في الدّارين. ووَصْفُ أخْلافِهم بما وُصِفوا به؛ لاسْتِنْهاضِ هِمَم بني إسرائيل إلى الثّبات على التوبة، وما يوجِب الفلاح على الطاعة. والقَصْرُ المُستفادُ مِن الجملة قصْرٌ نِسْبيٌّ، أي: فسأجعلُها خاصّةً بهؤلاء دون مَن بقي منهم على دينه، ولم يُؤمن بالنَّبِيِّ صلّى اللّهُ عليه وسلّم حين بعثته."

 

وقال ابن كثير (774 ھ) عند تفسيره لقوله: {وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} [الأعراف: 56]: "أَيْ: إِنَّ رَحْمَتَهُ مُرْصَدة لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَتْرُكُونَ زَوَاجِرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]."

 

إنّ بابَ الرحمةِ مفتوحٌ في هذه الدنيا لجميع عباد اللّه التائبين مهما كانت ذنوبهم؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاۤءَكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِـَٔایَـٰتِنَا فَقُلۡ سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوۤءَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ} [الأنعام: 54].

 

ومن رحمته تعالى أنّه لا يُعجِّل لعباده العقوبة، قال سبحانه: {وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ یُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا۟ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدࣱ لَّن یَجِدُوا۟ مِن دُونِهِۦ موئلا} [الكهف: 58].

 

  • النَّصُّ الثاني: قال تعالى: {ٱلَّذِینَیَحۡمِلُونَٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥیُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءࣲ رَّحۡمَةࣰ وَعِلۡمࣰا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِینَ تَابُوا۟ وَٱتَّبَعُوا۟ سَبِیلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَٱلۡجَحِیمِ} [غافر: 7].

 

قال ابن كثير (774 ھ): "{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أَيْ: إِنَّ رَحْمَتَكَ تَسَعُ ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَعِلْمُكَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أَيْ: فَاصْفَحْ عَنِ الْمُسِيئِينَ إِذَا تَابُوا وَأَنَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ، مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ: وَزَحْزِحْهُمْ عَنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ."

 

  • النَّصُّ الثالث: قال تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِوَٱلۡأَرۡضِۖقُللِّلَّهِۚكَتَبَعَلَىٰنَفۡسِهِٱلرَّحۡمَةَۚلَیَجۡمَعَنَّكُمۡإِلَىٰیَوۡمِٱلۡقِیَـٰمَةِلَارَیۡبَ فِیهِۚ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ} [الأنعام: 12].

 

قال ابنُ عطيّة (546 ھ) في تفسيره «المحرر الوجيز»: "{كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَحْمَةَ} مَعْناهُ: قَضاها وأنْفَذَها؛ وفي هَذا المَعْنى أحادِيثُ عَنِ النَبِيِّ -عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ- تَتَضَمَّنُ كَتْبَ الرَحْمَةِ. ومَعْلُومٌ مِن غَيْرِ ما مَوْضِعٍ مِنَ الشَرِيعَةِ أن ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ، ولِجَمِيعِ الناسِ في الدُنْيا ... ويَتَضَمَّنُ هَذا الإخْبارَ عَنِ اللهِ تَعالى بِأنَّهُ كَتَبَ الرَحْمَةَ؛ لِتَأْنِيسِ الكُفّارِ، ونَفْيِ يَأْسِهِمْ مِن رَحْمَةِ اللهِ تَعالى إذا تابُوا، وأنَّ بابَ تَوْبَتِهِمْ مَفْتُوحٌ. قالَ الزَجّاجُ: اَلرَّحْمَةُ هُنا إمْهالُ الكُفّارِ، وتَعْمِيرُهم لِيَتُوبُوا."

 

وقال البيضاوي (685 ھ) في تفسيره «أنوار التنزيل»: "{كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الْتَزَمَها تَفَضُّلًا وإحْسانًا، والمُرادُ بِالرَّحْمَةِ ما يَعُمُّ الدّارَيْنِ، ومِن ذَلِكَ الهِدايَةُ إلى مَعْرِفَتِهِ، والعِلْمُ بِتَوْحِيدِهِ بِنَصْبِ الأدِلَّةِ، وإنْزالُ الكُتُبِ والإمْهالُ عَلى الكُفْرِ."

 

نعم، إنّ رحمة الله واسعة، ولكنْ الكفرُ باللّهِ والإشراكُ به أمرٌ فظيعٌ، وصاحبُه ملعونٌ ومطرودٌ من رحمة اللّهِ الواسعة، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا. لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا. وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93].

 

قال القرطبي: "قوله تعالى: {لقد جئتم شيْئا إدًّا} أيْ: مُنكَراً عظيماً، عن ابن عباس ومجاهد وغيرِهِما. قال الجوهري: الْإِدُّ والْإِدَّةُ: الدّاهيّة والأمرُ الفظيع، ومنه قولُه تعالى {لقد جئتم شيئا إدّا}."

 

وقال تعالى عن الشرك: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

 

قال الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري في كتابه «مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة»: "الشرك بالله ظلم عظيم؛ لأنه اعتداء على حق الله تعالى الخاص به وهو التوحيد. فالتوحيدُأعدلُ العدل، والشرك أظلم الظّلم وأقبح القبيح؛ لأنه تَنقُّصٌ لرب العالمين، واستكبارٌ عن طاعته، وصَرْفُ خالِصِ حَقِّه لِغيره، وعدْلُ [أيْ: تسْوِيةُ] غيره به؛ ولِعظيم خطرِه فإنّ مَن لَقِي الله مُشرِكاً، فإن الله لا يغفر له كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]."

 

وقال العلاّمةُ أبو زهرة -عند تفسيره للآية 48 من سورة النساء-: "وفي هذا النصِّ الكريم فتحٌ لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة، ومعنى النص: إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يُشرِكُ به في العبادة أو في الربوبية؛ لأنّ الشركَ انحرافٌ شديدٌ لا يَقبَل الغُفران، إلاّ أنْ يعودَ إلى التّوحيد المطْلَق بعد الإشراك". [زهرة التفاسير، أبو زهرة].

 

  • ولقد اسْتَدلّ بعضُهم بقَوْلِه -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله خلق الرَّحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. وأرسل في خلقه كلِّهم رحمةً واحدة، فلو يعْلم الكافر بكلِّ الَّذي عند الله من الرَّحمة، لم ييْأسْ من الجنَّة، ولو يعلم المسلم بكلِّ الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النَّار" [رواه البخاري].

 

وفي رواية أخرى: «لو يعلمُ المؤمنُ ما عند الله من العقوبة، ما طَمِع بِجَنَّتِهِ أحدٌ، ولو يَعلمُ الكافرُ ما عند الله من الرَّحمة، ما قَنَطَ من جَنَّتِهِ أحدٌ». [رواه مسلم].

 

وهذا الحديثُ ليس فيه دليلٌ على إخراج الكُفّار من النّارِ وفنائها، غايةُ ما فيه -كما جاء في شرحه- أنّ المؤمنَ سيجعله هذا الخبرُ، يخاف ولا يتساهل في الوقوع في المُحرّماتِ خوفًا من عقوبة الله -تعالى-، وأنّ الكافرَ لوِ اطّلعَ على رحمة اللّهِ، لظن أنّه -تعالى- سيرحمه ويدخله الجنة رُغْمَ كفره؛ فهذا لا يعني أنّه سيخرُج من النار ويدخل الجنة؛ لأنّه مُحرّمٌ عليه دخولها، إلّا أنْ يتوبَ ويدْخُلَ في دين الله قبل أن يموت؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وللنُّصوصِ المُحْكمة التي تدل على أبدية النّارِ وخلود الكفار فيها.

 

ب) وقالوا -أيضاً-: إنّ رحمةَ اللَّهِ سبَقَتْ غضَبَهُ؛ وهذا دليلٌ على أنّ رحمة اللّهِ سَتُطْفِئُ غضَبَه، وتفني النّارَ بعْدَ أنْ يُخرِجَ -سبحانَه- كلَّ مَنْ فيها.

 

ويحتجّون على ذلك بقول النّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لمّا خلق الله الخَلْق، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلِب غضبي" وفي رواية: "غَلَبَت غضبي" وفي رواية أخرى: "سبقت غضبي" [متفق عليه].

 

قال ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: "والمُرادُ من الغضب لازمُه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، لأنّ السّبْق والغلبةَ باعتبار التّعلُّق، أي: تعلُّقُ الرحمةِ غالبٌ سابقٌ على تعلق الغضب، لأنّ الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأمّا الغضبُ فإنه متوقف على سابقةِ عملٍ من العبدِ الحادثِ، وبهذا التقرير يندفع اسْتِشْكالُ من أوْرَد وقوعَ العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النار من الموحدين ثم يخرج بالشفاعة وغيرها. وقيل معنى الغلبة الكثرةُ والشمولُ، تقول غلب على فلان الكرَمُ، أي: أكثرُ أفعالِه؛ وهذا كلُّه بِناءً على أن الرحمةَ والغضبَ من صفات الذات، وقال بعض العلماء: الرحمة والغضب من صفات الفعل لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أوّلَ ما خُلِقَ مثلا، ومُقابِلُها ما وقع من إخراجه منها؛ وعلى ذلك استمرّتْ أحوالُ الأمم بتقديم الرحمة في خَلْقِهِم بالتوسع عليهم من الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم. وأما ما أُشْكِلَ مِن أمْرِ مَن يُعذَّبُ مِن الموحدين فالرحمةُ سابقةٌ في حقهم أيضا، ولولا وجودها لخلدوا أبدا".

 

وجاء في رواية عند الترمذي: "إنّ الله حين خلق الخلق، كتب بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي" [رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح غريب].

 

جاء في قاموس «لسان العرب» (ج11 ص69 - مادة: غلب): "وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبي) هُوَ إِشارةٌ إِلى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا الخَلْقَ، كَمَا يُقال: غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ الكَرَمُ أَي هُوَ أَكثر خِصَالِهِ. وإِلا فرحمةُ اللَّهِ وغَضَبُه صفتانِ رَاجِعَتَانِ إِلى إِرادته، لِلثَّوَابِ والعِقاب، وصفاتُه لَا تُوصَفُ بغَلَبَةِ إِحداهما الأُخرى، وإِنما عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِلْمُبَالَغَةِ."

 

وجاء في كتاب «تُحْفة الأحوذي شرح سنن الترمذي»: "وَقَالَ الطّيبِيُّ: أَيْ: لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، حَكَمَ حُكْمًا جَازِمًا وَوَعَدَ وَعْدًا لَازِمًا لَا خُلْفَ فِيهِ، بِأَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. فَإِنَّ الْمُبَالِغَ فِي حُكْمِهِ، إِذَا أَرَادَ إِحْكَامَهُ عَقَدَ عَلَيْهِ سِجِلًّا وَحَفِظَهُ، وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَضَاءِ الْخَلْقِ وَسَبْقِ الرَّحْمَةِ، أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ شُكْرًا لِلنِّعَمِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَدَاءِ حَقِّ الشُّكْرِ، وَبَعْضُهُمْ يُقَصِّرُونَ فِيهِ؛ فَسَبَقَتْ رَحْمَتُهُ فِي حَقِّ الشَّاكِرِ بِأَنْ وَفَّى جَزَاءَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَفِي حَقِّ الْمُقَصِّرِ إِذَا تَابَ وَرَجَعَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ. وَمَعْنَى (سَبَقَتْ رَحْمَتِي تَمْثِيلٌ) لِكَثْرَتِهَا وَغَلَبَتِهَا عَلَى الْغَضَبِ بِفَرَسَيْ رِهَانٍ تَسَابَقَتَا فَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى."

  • الاربعاء PM 05:16
    2020-11-04
  • 1663
Powered by: GateGold