المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412390
يتصفح الموقع حاليا : 355

البحث

البحث

عرض المادة

وَقْفَةٌ تَأمُّلِيَّةٌ مع شجرة الخُلْدِ

قال تعالى: {وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ. فَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوࣱّ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا یُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰۤ. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِیهَا وَلَا تَعۡرَىٰ. وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُا۟ فِیهَا وَلَا تَضۡحَىٰ. فَوَسۡوَسَ إِلَیۡهِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكࣲ لَّا یَبۡلَىٰ} [طه: 116-120].

 

قال الشّيْخُ العلاّمةُ أبو زهرة (1394هـ) في تفسيره: "كان نعيمُ الجَنَّةِ نعيما هادئا آمنا، ولكن لم يُذكَرْ أنه خالد، ومن كان في عيشة راضية تمنّى أن تكون باقية، فجاء إبليس من ناحية هذه الأمنية، وقال لآدم: {هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكࣲ لَّا یَبۡلَىٰ}، وسوس إليهما بقول خفي يشبه وسوسة الذهب، وأثار التمني في نفسه بقوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} الاستفهام هنا للتنبيه، أي: أن هذه الشجرةَ التي نُهِيَ عن الأكل منها هي شجرةُ الخُلدِ، مَنْ أكل منها نال الخلودَ والبقاء والسلطانَ والسيطرة، وهذا هو المعنى المذكور في آية أخرى، إذ قال الله تعالى عنه: {...مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]". [زهرة التفاسير، أبو زهرة، ج 9 ص 4800].

 

إنّ آدمَ -عليْه السلامُ- لمْ يُخبَرْ بالمُدَّةِ التي سيبقى فيها في نعيم الجَنَّة، ورُبّما أنّه لم يُفَكّرْ في هذه المسألةِ، فهو يعلمُ فقط أنّه سيمْكُث في الجَنَّة، دون أن يجُوعَ فِیهَا أو يَعْرَى، ودون أن يظمأ فِیهَا أو يضْحى. وإبليسُ يعرفُ نُقطةَ ضَعْفِ آدمَ، وأنّه يَسْهُلُ عليْه دخولُه من باب الشهوات؛ لأنّه سبق له أنْ درسَ طبيعتَه قبل أنْ ينفخَ الحقُّ - سبْحانَه وتعالَى- فيه الروحَ؛ فلقد وَرَدَ في صحيح مسلم، أنّ النّبِيَّ -صلّى اللّهُ عليْه وسلّم-قال: "لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إبْلِيسُ يُطِيفُ به، يَنْظُرُ ما هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أجْوَفَ عَرَفَ أنَّه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ."

 

وفي روايةٍ أخرى لمسلم أيضاً: "لمَّا صوَّر اللهُ تبارك وتعالَى آدمَ -عليه السَّلامُ- تركه، فجعل إبليسُ يطوفُ به ينظُرُ إليه، فلمَّا رآه أجوفَ، قال: ظفرتُ به، خلقٌ لا يتمالكُ."

 

ولقد علِمَ إبليسُ أنّ آدمَ لمْ يُخبَرْ بالمُدَّةِ التي سيبقى فيها في نعيم الجَنَّة؛ فدخلهُ مِن باب حُبِّ الشهواتِ والملذّاتِ، وخوَّفَه مِن عدم البقاء في نعيم الجَنَّة التي أُدْخِلها، وذلك بإرشاده إلى الأكل من الشجرة التي زعم أنّها شجرةُ الخُلدِ؛ وكأنه قال له: "إنْ لمْ تأكلْ مِن شجرةِ الخلد، فإنّ هذا النعيم الذي أنت فيه لن يدوم وسينقضي."

 

ولا شكّ أنّ كلامَ إبليسَ أفزَع آدمَ وزوجَه، ولا شكّ -أيضاً- أنّ آدمَ أدرك جيداً أنّ معنى الخلد هو البقاء حيًّا لا يموت ولا يخرج من الجَنَّة؛ لأنّه لو فهِم من كلمة الخلدِ المُكْثَ الطويلَ لا الخلودَ الأبدِيَّ، لما اهتمّ بهذه الوسوسة؛ إذْ -لو كان الأمرُ كذلك- فإنّ النعيمَ سيزولُ والمُلْكُ سيبلى مهما طال الزمن، حتّى ولو أكل من تلك الشجرة.

 

ولا شكّ -أيضاً- أنّ آدم عليه السلامُ قد فهم من كلام اللّهِ حين قال له -بعد أن أكل من الشجرة-: {قُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ مِنۡهَا جَمِیعࣰاۖ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدࣰى فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَّ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ} [البقرة: 38-39]، أنّ كلمة {خَـٰلِدُونَ} تعني خلودَ الكُفّارِ في النّارِ الخلودَ الأبدي؛ إذْ لا يوجدُ سبَبٌ يجعل آدم يُفرِّق بين الخلودِ الذي طَمّعَهُ فيه إبليس، والخلودِ في النّارِ الذي توعّد اللّهُ به الكُفّارَ.

 

وهذا يُقوِّي القولَ: بأنّ الأصلَ في معنى الخلودِ في القرآنِ الحكيم، هو الخلودُ الأبدي؛ ولا يُصْرَفُ إلى معنى المُكْثِ الطويلِ إلاّ بدليلٍ آخر؛ ولذلك فإنّ جمهورَ المُفسّرين أوّلوا خلودَ المؤمنِ -الذي يقتلُ أخاه المؤمنَ مُتَعمِّداً- في جهنّمَ بالمُكْث الطويل؛ لأنّ هناك أدِلةً قاطعةً منَ النصوصِ الشرعيةِ على عدم خلود عُصاةِ المؤمنين في جهنّمَ.

 

تنبيه هامّ: إنّنا نجهلُ اللفظَ الحقيقي الذي استعمله إبليسُ في خطابه لآدم، للتّعبير عن البقاءِ حيًّا وعدمِ الموت؛ لأنّنا نجهل اللغةَ التي خاطب بها إبليسُ آدم؛ قال ابن حزم الأندلسي (456 ھ): "ولا ندْري أيَّ لغة هي التي وقَفَ آدمُ عليه السلام عليها أوّلاً، إلا أننا نَقطَع على أنّها أتمُّ اللغاتِ كلِّها وأبْيَنُها عبارةً، وأقلُّها إشكالاً وأشدُّها اختصاراً." [الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، ج 1، الصفحة 31].

 

ولا شكّ أنّ آدم فهِم ذلك اللفظَ الذي استعمله إبليس؛ والقرآنُ الكريم لمّا نزل باللسانِ العربي، عبّر عن البقاءِ حيًّا وعدمِ الموت، بِلفْظِ (الخُلْد).

 

*  نُكْتةٌ: إنّ آدم -عليْه السلامُ- رَغِبَ في الخلود في الجَنَّة، وصدّق إبليسَ، فأكلَ مِن الشجرةِ الممنوعةِ؛ فحُرِمَ من نَعِيمِها وأُخْرِجَ منها. واقْتَضَت الحكمةُ الإلهيّةُ فتَحَ باب الخلود في الجِنانِ لِمَن آمَن وأطاع الرحمن، وفتَحَ باب الخلودِ في النِّيران لِمَن كفر وأطاعَ الشيطانَ.

 

ب- الخُلْدُ في كُتب الغريب.

 

  • قال ابن الهائم (815 ھ) في «التبيان في تفسير غريب القرآن»: "{الْخُلُودِ}:البقاء الدائم الذي لا آخر له."

 

  • وقال الراغب الأصفهاني في «مفردات غريب القرآن» (ص 154): "وأصلُ المُخَلَّد: الذي يبقى مدة طويلة، ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها، ثُمّ اسْتُعير للمبقي دائما."

 

تنبيه: كتاب «مفردات غريب القرآن» للراغب الأصفهاني، يُعَدُّ -كما يقول العلماءُ- "مِن أشهر كتب الغريب، وأحسنِها، وأكثرِها دورانًا في المصنفات والعزو."

 

* إضاءة: فائدةُ معرفة (غريب القرآن).

 

قال مصطفى صادق الرافعي: "وفي القرآن ألفاظٌ اصطلح العلماءُ على تسميتها بالغرائب، وليس المرادُ بغرابتِها أنّهامُنكَرةٌ أو نافرةٌ أو شاذّةٌ، فإن القرآن مُنَزَّه عن هذا جميعِه، وإنّما اللفظةُ الغريبة هاهنا هي التي تكون حسنةً مستغرَبة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلُها وسائرُ الناس... ومَنْشأُ الغرابة في ما عدّوه من الغريب: أن يكون ذلك من لغات متفرّقة... أو: تكون مستعمَلةً على وجهٍ من وجوه الوضع يُخرجها مُخْرَجَ الغريب: كالظلم، والكُفر، والإيمان، ونحوها، ممّا نُقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدَثَة... أو: يكون سياق الألفاظ قد دلّ بالقرينة على معنى معيّن غير الذي يفهم من ذات اللفظ؛ فقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، أي: إذا بينّاه فاعمل به." [مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، ج2 ص71-72].

 

وقال الزركشي: "ومعرفةُ هذا الفن (أي: غريب القرآن) للمُفَسِّر ضروريٌّ، وإلا فلا يَحِلّ له الإقدامُ على كتاب الله تعالى." [البرهان: (1/ 292)، وينظر: الإتقان(2/ 5):].

 

فالظلم -مثلاً- نُقِلَ معناه إلى الشرك أيضاً، والخلودُ اسْتُعيرَ ونُقِل معناه إلى البقاء الدائم الذي لا يفنى، كما ذكر ذلك الراغب الأصفهاني!

 

ج- الخلدُ في معاجم اللُّغَة العربية المعتمدة:

 

  • «لسان العرب»: الخُلْدُ:دوامُ البقاء في دار لا يخرج منها، خَلَدَ يَخْلُدُ خُلْداً وخُلوداً بقي وأَقام، ودارُ الخُلْد الآخرة لبقاءِ أَهلها فيها ... وقوله تعالى {أَيحسب أَنَّ ماله أَخلده} أَي: يعمل عمل من لا يظن مع يساره أَنه يموت ... والمُخلِد من الرجال الذي أَسَنّ ولم يَشِب كأَنه مُخَلَّد لذلك وخَلَد يَخْلِد ويخْلُدُ خَلْداً وخُلوداً أَبطأَ عنه الشيب كأَنما خلق لِيَخْلُدَ.

 

  • «تاج العروس» (خ - ل - د): الخُلْدُ بالضّمّ: البقاء والدَّوامُ في دارٍ لا يخرج منها كالخُلود و{دار الخُلدِ}: الآخِرَةُ لبقاءِ أَهْلِها.

 

  • «القاموس المحيط»: الخُلْدُ، بالضم: البَقاءُ، والدوامُ.

 

  • «مقاييس اللغة»: فأما قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلّدُونَ} [الإنسان 19]، فهو من الخُلْد، وهو البقاء، أي لا يموتون.

 

الاعتراضُ الثاني: زعم البعضُ -أيضاً- أنّ كلمةَ (أبداً) في القرآن الكريم تعني اللُّبْث الطَّوِيل لا غير!

 

أمّا أهلُ التفسير واللُّغَةِ والبيان، فهم متفقون على أنّ كلمة (أبدًا) في القرآن الحكيم تعني المُكْث الأبدي.

 

وبالرُّجوعِ إلى قواميس اللُّغَةِ العربية، نجد ما يأتي:

 

  • والأَبَدُ: الدائم، والتأْبيد: التخليد... وقال عبيد بن عمير: الدنيا أَمَدٌ والآخرة أَبَدٌ. [لسان العرب].

 

  • الأَبَدُ، محرَّكةً: الدَّهْرُ، ـ ج: آبادٌ وأُبُودٌ، والدَّائِمُ، والقديمُ الأَزَلِيُّ...والتَّأْبِيدُ: التَّخْليدُ. ـوالآبِدَةُ: الدَّاهِيَةُيَبْقَىذِكْرُهاأبَداً.[القاموس المحيط - للفيروز آبادي].

 

  • الأبد: الدهر؛ والجمع آباد وأبود. يُقالُ: أبد أبيد، كما يُقال: دهر داهر. ولا أفعله أبد الأبيد، وأبد الآبدين، كما يقال: دهر الداهرين، وعوض العائضين. والأبد أيضا: الدائم. والتأبيد: التخليد. [الصحاح في اللغة].

 

  • أ ب د: (الْأَبَدُ) الدَّهْرُ وَالْجَمْعُ (آبَادٌ) بِوَزْنِ آمَالٍ وَ (أُبُودٌ) بِوَزْنِ فُلُوسٍ وَ (الْأَبَدُ) أَيْضًا الدَّائِمُ. [مختار الصحاح].

 

وقال الراغب الأصفهاني (502 ھ): "قال تعالى: {خالِدِينَ فِيها أَبَداً} [النساء : 122]. الأبد: عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وذلك أنه يقال: زمان كذا، ولا يقال: أبد كذا. وكان حقُّه ألاّ يثنى ولا يجمع، إذ لا يُتصوَّر حصول أبدٍ آخر يُضَمُّ إليه فيثنّى به، لكن قيل: آباد، وذلك على حسب تخصيصه في بعض ما يتناوله، كتخصيص اسم الجنس في بعضه، ثم يثنّى ويجمع؛ على أنّه ذَكَرَ بعضُ الناس أنّ آباداً مُوَلَّدٌ، وليس من كلام العرب العرباء. وقيل: أبد آبد وأبيد، أي: دائم، وذلك على التأكيد. وتأبّد الشيء: بقي أبداً، ويعبّر به عما يبقى مدة طويلة." [«مفردات ألفاظ القرآن»، مادة (أبد)].

 

وقال السمين الحلبي (756 ھ): "الأبدُ: الزمنُ الطويلُ الممتدُّ غيرُ المُنْجَزِئِ، فهو أخصُّ منَ الزمانِ. قالوا: ولذلك يقال: زمانُ كذا، ولا يقالُ: أبدُ كذا. ويقالُ: أبَدٌ آبِدٌ وأبيدٌ على المبالغةِ، أي: دائمٌ؛ قال تعالى: {خالدين فيها أَبدًا} [النساء: 57]، أي: زمانًا لا انقضاءَ لآخرهِ." [«عمدة الحفاظ»، مادة (أبد)].

 

ولقد أجاب العلاّمةُ أبو زهرة عن الاعتراضين السابقين -عند تفسيره للآيتين 168 و 169 من سورة النساء- فقال:"وقد ذكر سبحانه أنهم خالدون في جهنم أبدًا، فأكد سبحانه العذابَ بأنّه عذابٌ خالد دائم، فوصفهم بأنهم خالدون على وجه التأبيد، وقد وصفهم بالخلود الدائم في العذاب ولم يصف العذاب؛ للإشارة إلى أنهم متلبسون به ولتصوير الآلام التي تنزل بهم، وأنهم لا خلاص لهم منها، بل هي ملازمةٌ لهم ملازمةَ الوصْفِ للموصوف.

 

ولقد قال الأصفهاني في معنى الخلود: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤُه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ التغيير والفساد فيه تصفه العرب بالخلود... وأصلُ المُخَلّد الذي يبقى مدة طويلة... والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها. قال تعالى: {وكان ذلك على الله يسيرا}.

 

والأبد قال فيه الراغب: (مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ...)، وإن تفسير الخلود على -ما ذكره الراغب يقتضي- بقاء الناس يوم القيامة بأبدانهم من غير أن يعتريَها فسادٌ ولا فَناءٌ ولا تحلُّلُ أجزاءٍ؛ فأهلُ الجَنَّةِ يبقون بقاءَ تمتع ونعيم، وأهل النار تبقى أجسامُهم في شقاء وعذاب أليم، لا تُبليها النار ولا يُفنيها العذاب، ولا يذهب بالحساسية فيها توالي الاكتواء، {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما} [النساء: جزء من الآية 56].

 

والأبدية معناها الدوام، كما دل على ذلك مجموع النصوص القرآنية، وإنّ تأكيدَ الخلود بالأبدية يدل على بقاء العذاب والنعيم.

 

ذَيَّل اللّهُ سبحانه وتعالى الآيات بهذا؛ ليبين لهم أن الله تعالى غالب على كل شيء، وأن عذابَهم أمرٌ يسيرٌ عليه؛ لإبطال زعمهم في أنّهُم لا يقدر عليهم أحد، ذلك أنّ كل طاغيةٍ من طغاة الدنيا سبَبُ طغيانِه واسترسالِه في شرِّه، ظَنُّه أنْ لن يقدر عليه أحد، مع أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده." [زهرة التفاسير، أبو زهرة].

 

*إضاءة: لا شكّ أنّ كفّار قريش -وهم أعلم بلغة القرآن من غيرهم- قد فهموا من الخلود المذكور في القرآن الكريم، أنه يعني الخلود الأبدي الذي لا انقطاع له؛ ولو أنهم فهموا منه طُولَ المُكْث فقط، لا المُكْثَ الأبدي الذي لا انقطاعَ له لبيّنوا ذلك، ولسألوا عن مدة بقاءِ جهنم، ولتساءلوا عن مصيرهم بعد فنائها: هل سيدخلون الجنة أم أنهم سَيُمْحَوْنَ من الوجود؟ والكفارُ كانوا حريصين جِدّاً على الجدال بالباطل، وردِّ الحقِّ، وبَثِّ الشُّبُهات!

 

ولا شكّ -أيضاً- أنّهُم بعد سماعِهم قولَه تعالى: {خالِدِينَ فِيها أَبَداً} قد فهِموا أنّ كلمة {أبداً} جاءت توكيداً للخلودِ بالأبدية.

 

* استشكالٌ ورفعُه.

 

لقد استُشْكِل على بعض الناس قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]؛ لأنّ ظاهرَهُ خلودُ المؤمن في جهنّمَ إذا قتل مؤمنا متعمّداً، وهذا يتعارضُ معالقولِبعدمِ خلودِ العُصاةِ المؤمنين في النار!

 

قال الشيْخُ ابنُ عثيمين: "{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء : 93].

 

وقعت بين آيتين، كلتاهما تدل على أن ما سوى الشرك فإنه تحت المشيئة، ففي أول سورة النساء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].

 

ثم جاءت آية القتل[النساء : 93]، ثم جاءت الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116].

 

إذن هذه الآيةُ [أي: الآية 93 من سورة النساء] لَا تدل على أن قاتل النفس مخلدٌ أبداً في نار جهنم؛ لأن الآياتِ الأخرى والنصوصَ الأخرى تدل على أن ما دون الشرك فهو تحت المشيئة." [انظر: شرح أصول في التفسير: ص 279].

 

وقال البيضاوي (685 ھ) في «أنوار التنزيل»: "وهو عِنْدَنا إمّا مَخْصُوصٌ بِالمُسْتَحِلِّ لَهُ كَما ذَكَرَهُ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ،... أوِ المُرادُ بِالخُلُودِ المُكْثُ الطَّوِيلُ؛ فَإنَّ الدَّلائِلَ مُتَظاهِرَةٌ عَلى أنَّ عُصاةَ المُسْلِمِينَ لا يَدُومُ عَذابُهم."

 

وقال النسفي (710 ھ) في «مدارك التنزيل»: "{فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها} والخُلُودُ قَدْ يُرادُ بِهِ طُولُ المَقامِ".

 

وقال ابن كثير (774 ھ) في تفسيره: "بَلِ الْخُلُودُ [أي: في هذه الآية] هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ. وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ."

 

وقال الشيخُ حَسَنين محمد مخلوف -مُفتي الديار المصرية سابقاً-: "{فَجَزَاۤؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَـٰلِدࣰا فِیهَا} المُرادُ من الخلودِ هنا: المكثُ الطّويل لا الدّوام؛ لتظاهر النصوص على أنّ عُصاةَ المؤمنين لا يُخلّدون في النّارِ." [صَفْوةُ البيانِ، لمعاني القرآن].

 

وقال ابن جُزَي (741 ھ) في «التسهيل لعلوم التنزيل» -عند تفسيره للآية 93 من سورة النساء: "وتأوّلَها الأشْعريّةُ بأربعة أوجه: أحدها: أنْ قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمناً، والثاني: قالوا معنى المتعمد هنا المُسْتحِلّ للقتل، وذلك يؤول إلى الكفر، والثالث: قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي، وإنما هو عبارة عن طول المدة، والرابع: أنها منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116]."

 

ويرى الأستاذُ خالد السبت -في كتابه «شرح كتاب التسهيل لابن جزي»- أنّه لا يوجد في الآية ما يدل على أن حكم الخلود خاص بالكافرِ أو المؤْمنِ الذي يسْتَحِلُّ القتْلَ؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بسبب نُزول هذه الآية.

 

ويرى -أيضاً- أنّ هذه الآيةَ ليست منسوخةً بقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}[النساء:116]؛ لسببين:

 

الأول: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال؛ لأنّه لا يوجد نصٌّ قاطع على ذلك.

 

الثاني: هو أن هذه الآية من قبيل الخبر، والأخبار لا يتطرقُ إليها النسخ، إلّا إذا كانت تتضمن معنى الإنشاء (الأمر أو النهي)، أما هذا فلا يتضمن معنى الإنشاء فهو خبرٌ محض، والأخبار لا يتطرق إليها النسخ؛ لأنّنسْخَالأخبارِ تكذيبٌ لها.

 

ورجّح الأستاذُ خالد السبت الوجْهَ الثالثَ، فقال: "وهذا أقرب هذه الأجوبة: أن الخلود في كلام العرب يأتي بمعنيين:

 

الأول: هو البقاء الأبدي السرمدي، وهذا هو الغالب في القرآن، وذلك في وعيد الكفار.

 

الثاني: هو البقاء لمدة طويلة، فالعرب تسميه خلودًا، ومثل هذا لا يكون من قبيل التأويل، فهذا معنًى صحيحٌمعروفٌ في كلام العرب.

 

فلا يُحكم بالخلود والبقاء الأبدي والسرمدي على أحد من أهل الإيمان إذا قارف ذنبًا دون الإشراك، ويكون ذلك أيضًا جمعًا بين النصوص لئلا يُفهم أنها متناقضة." [شرح كتاب التسهيل لابن جزي، أ. د. خالد السبت].

 

وإتيانُ الخلود في كلام العرب بمَعْنَيَيْن -كما قال الشيخ الدكتور خالد السبت- يُؤَيِّدُه قولُ الراغب الأصفهاني في «مفردات غريب القرآن» -كما رأينا سابقاً-: "وأصلُ المُخَلَّد: الذي يبقى مدة طويلة، ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها، ثم اسْتُعير للمبقي دائما."

 

هذا، ويمكن أن نستخلص ممّا سبق: أنّ الخلود في النّارِ في حق الكافر، هو خلودٌ أبدي سَرْمَدِي كما جاء مصرّحا به في نصوصٍ أُخَر؛ لأن سبَبَه هو الكفرُ. وأمّا الخلودُ في النّارِ في حق المؤمن المُوَحِّد الذي يقتل أخاه المؤمنَ ظُلماً؛ فهو خلود بمعنى طول المكث؛ لورود النصوص الكثيرة على أنّ عُصاةَ المؤمنين لا يُخلّدون في النّارِ.

 

وطول المكث في النّارِ دليلٌ على خطورة قتل المؤمن المُوَحِّد بدون حق، ولقد بيّن النَّبِيُّ -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- ذلك بقوله: "لَزوالُ الدُّنيا أهْوَنُ على الله مِن قَتْل رجلٍ مُسلمٍ" [رواه الترمذي، صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/56].

 

* إضاءةٌ: حوْلَ قوْلِهِ تعالى: {وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ یُدۡخِلۡهُ نَارًا خَـٰلِدࣰا فِیهَا وَلَهُۥ عَذَابࣱ مُّهِینࣱ} [النساء: 14].

 

هذه الآيةُ لا دليلَ فيها -أيضاً- على أنّ العُصاةَ والفُسّاقَ مِن أهْلِ الإيمان يُخلَّدون في النّارِ؛ وإليك البيان:

 

قال ابن جرير الطبري (310 ھ) في تفسيره «جامع البيان»: "فإن قال قائل: أوَ مُخَلَّدٌ في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟ قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًّا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحادَّ اللهَ ورسولَه في أمرهما =على ما ذكر ابن عباس من قول من قالَ حين نزل على رسول الله -صلّى اللّهُ عليْه وسلّم- قول الله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} إلى تمام الآيتين: أيُورَّث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدوَّ ولا يحوز الغنيمة، نصفَ المال أو جميع المال؟ استنكارًا منهم قسمةَ الله ما قسم لِصغارِوَلَدِ الميت ونسائه وإناث ولده- ممن خالف قسمةَ الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله، استنكارًا منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرَهم ابن عباس، ممن كان بين أظهُر أصحاب رسول الله -صلّى اللّهُ عليْه وسلّم- من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية= فهو من أهل الخلود في النار؛ لأنه باستنكاره حكمَ الله في تلك، يصير بالله كافرًا، ومن ملة الإسلام خارجًا."

 

وقال ابنُ أبي زَمَنِين (399 ھ) في «تفسير القرآن العزيز»: "{وَمن يعْص الله وَرَسُوله} فِي قسْمَة الْمَوَارِيث {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} الْآيَة، وَذَلِكَ أَن الْمُنَافِقين كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء وَلَا الصّبيان الصغار؛ كَانُوا يظهرون الْإِسْلَام وهم على مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الشّرك، وَكَانَ أهلُ الْجَاهِلِيَّة لَا يورثون النِّسَاء."

 

وقال الواحدي (468 ھ) في «التفسير البسيط»: "وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال الضحاك: المعصية ههنا الشرك؛ وقال عكرمة عن ابن عباس: من لم يرض بقسم الله، ويتعدى ما قال الله يدخله نارًا؛ وقال الكلبي: يعني: يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالًا."

 

وقال ابن الجوزي (597 ھ) في تفسيره «زاد المسير»: "قَوْلُهُ تَعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ} فِلْمْ يَرْضَ بِقَسْمِهِ {يُدْخِلْهُ نارًا}، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قَطَعَ لِلْعاصِي بِالخُلُودِ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ إذا رَدَّ حُكْمَ اللَّهِ وكَفَرَ بِهِ، كانَ كافِرًا مُخَلَّدًا في النّارِ."

 

وقال ابن كثير (774 ھ) في «تفسير القرآن العظيم»: "{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أَيْ: لِكَوْنِهِ غيَّر مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بالإهانة في العذاب الأليم المقيم."

 

وقال صديق حسن خان (1307 ھ) في تفسيره «فتح البيان»: "فإذا كفر كان حكمُه حكمَ الكُفّارِ في الخلود في النار، إذا لم يتب قبل موته، وإذا مات وهو مُصِرٌّ على ذلك كان مخلداً في النار؛ فلا دليلَ في الآية للمعتزلة على أن العصاةَ والفُسّاقَ مِن أهل الإيمان يخلدون في النار."

 

وقال الشّيْخُ العلاّمةُ السعدي (1376 ھ) في تفسيره «تيسير الكريم الرحمن»: "{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شُبْهَة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي؛ فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصيةٌوطاعةٌ، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوصُالمُتواتِرةُ على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانعٌ لهم من الخلود فيها."

  • الاربعاء PM 05:04
    2020-11-04
  • 1374
Powered by: GateGold