المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409065
يتصفح الموقع حاليا : 243

البحث

البحث

عرض المادة

الأدِلّة الكافِيّة، والرُّدودُ الشّافِيّة

الحمْدُ لِلّهِ ربِّ العالَمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ النّبِيِّينَ والمُرسَلِين، وبعدُ:

 

لقد كثُرَ الكلامُ في أبَدِيّةِ النّارِ، التي نُقِلَ إجماعُ العُلماءِ عليها، وخاضَ فيها بعضُ الناس، وذهبوا إلى القول بفنائها، وأتوا بأدلة واهِية، ظانّين أنّها كافيةٌ، لِنَسْف أدِلّة أهل العلمِ والتحقيق، القائلين بأبدية العذاب والحريق.

 

إنّ أكثرَ الناسِ يقعون في المعاصي رغم إيمانهم بعذاب جهنم؛ لأنهم يُفكّرون في الاستمتاع باللحظة الآنِية، ولا يُفكّرون في العاقبةِ الآتية؛ ولأنّ خوفَهم ممّا يشاهدون أكبرُ من خوفهم ممّا لا يشاهدون، وفي الحديث النّبَوِيّ: "ليس الخبرُ كالمُعايَنَة." [رواه أحمد وصحّحه الحاكم].

 

ولقد اتفق عُلماءُ السُّنّة على أنّ عُصاةَ المؤمنين الذين يدخلون النار لا يَخْلُدون فيها، وهم منها مُخرَجون؛ ولكنْ القولُ بفنائِها قد يجعلُ بعضَ ضِعافِ النُّفوس مِن المسلمين، يَتَجرَّؤون على ارْتَكاب كبائر الذنوب والآثاموالخروجِ من دائرة الإسلام؛ وذلك لأنّ الخوفَ من الخلود في النار هو الذي يُبْعِدُ المسلمَ من الكفرِوالإلحادِ، والوقوعِ في الشركِ الأكبر، الذي هو أعظمُ ذنْبٍ عند الله. واليهودُ لمْ يتَجَرَّؤُوا على اللّهِ ويُحَرِّفوا التوراة، ويكفروا برسالة الإسلام، إلاّ لِاعْتقادهم أنّهم لن يخلدوا في نارِ جهنّمَ؛ قال تعالى: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].

 

قال الواحدي (468 ھ) في «التفسير البسيط»: "وقولُه تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} يعني: اليهود لما أوْعدَهم رسولُ الله -صلّى اللّهُ عليه وسلّم- بالنار عند تكذيبهم إياه، قالوا: لن تمسَّنا النار إلّا أيامًا معدودة: أي: قليلة."

 

وقال العلاّمةُ الطاهر بن عاشور (1393 ھ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: "{وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ} ووَجْهُ المُناسبَةِ أنَّ قَوْلَهم {لَنْ تَمَسَّنا النّارُ} دَلَّ عَلى اعْتِقادٍ مُقَرَّرٍ في نُفُوسِهِمْ يُشِيعُونَهُ بَيْنَ النّاسِ بِألْسِنَتِهِمْ، قَدْ أنْبَأ بِغُرُورٍ عَظِيمٍ مِن شَأْنِهِ أنْ يُقْدِمُوا عَلى تِلْكَ الجَرِيمَةِ وغَيْرِها، إذْ هم قَدْ آمَنُوا مِنَ المُؤاخَذَةِ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً تُعادِلُ أيّامَ عِبادَةِ العِجْلِ أوْ أيّامًا عَنْ كُلِّ ألْفِ سَنَةٍ مِنَ العالَمِ يَوْمًا، وإنَّ ذَلِكَ عَذابٌ مَكْتُوبٌ عَلى جَمِيعِهِمْ؛ فَهم لا يَتَوَقَّوْنَ الإقْدامَ عَلى المَعاصِي لِأجْلِ ذَلِكَ، فَبِالعَطْفِ عَلى أخْبارِهِمْ حَصَلَتْ فائِدَةُ الإخْبارِ عَنْ عَقِيدَةٍ مِن ضَلالاتِهِمْ.

 

ولِمَوْقِعِ هَذا العَطْفِ حَصَلَتْ فائِدَةُ الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ إذْ يَعْجَبُ السّامِعُ مِن جُرْأتِهِمْ عَلى هَذا الإجْرامِ!"

 

وهذا يُبَين خطورةَ هذه المسألةِ، وأنّ القولَ بفناء النار، قد يدفع بعضَ النفوس إلى اقتراف أعظم الموبقات، وإعلان الكفر والإلحاد!

 

ولِخطورة هذه المسألةِ؛ فإنّ المُهْتمّين بالبحث فيها عدَدُهم كبيرٌ، ويكفي أنْ نعلم أنّ مبحث «دعوى أن شيخ الإسلام يرى فناء النار!» للدكتور عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن، قد أُعْجِبَ به أكثرُ من مليون ومائة ألف قارئ!

 [انظرhttps://www.saaid.net/monawein/taimiah/20.htm :]

 

وهذا يُبينَ أهميةَ الاهتمامِ بهذه المسألةِ، وبيانِ أنّ الحقَّ فيها هو القولُ بِأبَدِيّة النّار؛ سَدًّا لأبواب الكفر والإلحاد والفتن.

 

وقد يقول بعضُهم: إنّنا نقول بفناء النارِ؛ ليَعلمَ الكُفّارُ والملاحدةُ أنّ الإلهَ الذي ندعوهم إليه رحيمٌ بعباده!

 

ولكن هل هذا سيفتحُ قلوبَهُم للإيمان، أمْ أنّهم سيزدادون كُفراً وانغِماساً في العِصيان؟ وهل ستُنكِرون بعضَ صفاتِ اللهِ، التي يرى الملاحدةُ أنها لا تُناسِبُ مقامَ الألوهية، مثل: صِفة الانتقام التي جاءت في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47]؟

 

وهل ستُنكرون عذاب جهنّمَ، الذي يرى الملاحدةُ أنّ مقام الألوهية يجب أن يتنزّه عن تعذيب عباده، مهما فعلوا من الخطاياوالذنوب العظام؟

 

إنّ مسألةَ أبدِيَّةِ النّارِ تُعَدُّ مِنَ الأمور الغيبيةِ، التي لا مجالَ للخوضِ فيها باستعمالِ العقلِ وحدَه، بل لابدّ مِنَ الرجوع إلى القرآن الكريم والسُّنّة النبوية، ولا بد من النظر في أقوال أهل التفسير، وأهل اللُّغَةِ والبيان.

 

وفي هذا العصر، كثُرَ الباحثون الذين يتسرّعون في رَدِّ ما اتّفق عليه المُفسِّرون والعلماءُ في مسائل العقيدة، وكثُرَتِ الشُّبَهُ في الدين، وأصبح كثير من الشباب في حَيْرةٍ مِن أمرهم، ويطلبون الأدلّةَ القَوِيّةَ والمُقنعة التي ترد على هذه الشُّبه؛ ولم يعودوا يقتنعون ببعض الكلمات؛ لإشفاء غليل البحث والمعرفة، وردِّ شُبُهاتِ بعض المُعاصرين الذين يزعمون أنهم يُخاطبون شبابَ اليوم بأسلوبٍ عقلانِي، يناسب التقدم والحداثة!

 

ولهذا السبب ارتأيتُ أنْ أكتبَ بحثاً في هذه المسألةِ، مُتَتَبِّعاً النصوص الشرعية، وأقوال المفسرين والعلماء الأخيار، مع الاجتهاد في حسن الانتقاء والاختيار. ولقد أكثرتُ من إيراد الأدلّة على أبديّة النّار، وأكثرتُ -أيضاً- من إيراد الشُّبُهاتِ والرّدودِ عليها بالنُّصوصِ الشّرْعيّةِ، والحُجَجِ العقلِيّة.

  • الاربعاء PM 04:01
    2020-11-04
  • 879
Powered by: GateGold