المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409007
يتصفح الموقع حاليا : 259

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن شعائر الحج وآدابه طقوس وعادات مقتبسة من الجاهلية

الزعم أن شعائر الحج وآدابه طقوس وعادات مقتبسة من الجاهلية(*)

مضمون الشبهة:        

يدعي بعض المتوهمين أن معظم شعائر الحج وآدابه عادات وطقوس مأخوذة من العادات الجاهلية القديمة في الحج، ويستدلون على ذلك بوجود بعض العادات الجاهلية في شعائر الحج عند المسلمين، منها: تقبيل الحجر الأسود، والطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، ورجم إبليس، وتوقيت الحج، والتزود في موسم الحج، والتكسب بالتجارة في موسم الحج، كل هذه العادات في نظرهم عادات جاهلية، ولم يأت الإسلام فيها بجديد عما كان موجودا من قبل.

وهم يهدفون من وراء ذلك إلى الزعم بأن الإسلام لم يأت بجديد يخالف ما كان موجودا من قبل لدى الديانات السابقة عليه، سواء في اليهودية أم المسيحية أم الجاهلية الوثنية أم المجوسية وغير ذلك من الديانات القديمة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الحج لغة: القصد، واصطلاحا: قصد البيت الحرام والوقوف والطواف والسعي بشروط مخصوصة، وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب، والسنة، والإجماع.

2) الحج في الإسلام ليس مجرد مجموعة من الشعائر التي يقوم بها المسلمون دون هدف، بل إن للحج مقاصد وحكما يظهر من خلالها مدى أهمية هذه الفريضة في الدين الإسلامي.

3) الإسلام يقر ما ورثه العرب عن دين إبراهيم - عليه السلام - من مناسك الحج، ويبطل بدع المشركين التي أدخلوها على هذه الفريضة من عند أنفسهم.

4) من يتفهم ويستشعر عظمة شعائر الحج وآدابه في الإسلام التي يدعي هؤلاء أنها مأخوذة من الديانات السابقة، يجد أنها تختلف اختلافا كبيرا من حيث الشكل والمضمون عن شعائر الحج في باقي الديانات.

5) تتحول العادات في الإسلام إلى عبادات، وذلك إذا صاحبها إخلاص النية لله عز وجل، فإن كان لدى الجاهليين بعض عادات حسنة يفعلونها، وأقرها الإسلام، وفعلها المسلم بهدف التقرب إلى الله أصبحت عبادة.

التفصيل:

أولا. الحج لغة واصطلاحا، ودليل مشروعيته من الكتاب والسنة والإجماع:

الحج لغة: هو القصد، حج إلينا فلان: أي قدم، وحجه يحجه حجا: قصده ورجل محجوج أي مقصود[1]. واصطلاحا: هو قصد موضع مخصوص - وهو البيت الحرام وعرفة - في وقت مخصوص - أشهر الحج - للقيام بأعمال مخصوصة - وهي الوقوف بعرفة والطواف والسعي - بشروط مخصوصة.

دليل مشروعيته:

الحج ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه، نصت على ذلك كل مصادره التشريعية.

  1. يقول الله تعالى: )ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا( (آل عمران:٩٧)، وقوله: )على الناس( صيغة إلزام وإيجاب، وذلك دليل على الفرضية.
  2. وأما الدليل من السنة النبوية: فمنها حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج». [2] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا...»[3].
  3. وأما إجماع الأمة: فقد أجمع المسلمون على وجوبه للمستطيع، وهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ويكفر جاحده [4].

ثانيا. المقاصد من الحج وآثاره الطيبة في حياة الفرد والجماعة:

يقول الله عز وجل: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28)( (الحج).

إن قوله ليشهدوا منافع لهم يفتح بابا رحبا للتأمل في هذه المنافع المشهودة، والآثار الطيبة في حياة الفرد والجماعة، نذكر منها:

  1. الحجشحنةروحيةوعاطفية:

إن الأرض المقدسة، وما لها من ذكريات، وشعائر الحج، وما لها من أثر في النفس، وقوة الجماعة، وما لها من إيحاء في الفكر والسلوك، كل هذا يترك أثرا واضحا في أعماق المسلم، فيعود من رحلته أصفى قلبا، وأطهر مسلكا، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عودا أمام الشر، فالحج شحنة روحية كبيرة يتزود بها المسلم فتملأ جوانحه خشية لله وعزما على طاعته، وتهز كيانه المعنوي هزا، وتعيده كأنما هو مولود جديد يستقبل الحياة، وكله طهر ونقاء.

  1. الحجثقافةوتدريب:

فالحج فيه توسيع لأفق المسلم الثقافي، ووصل له بالعالم من حوله، وقد قالوا السفر نصف العلم. وهو تدريب على ركوب المشقة، وترك الدعة ومفارقة الأهل، والحياة الرتيبة بين الآل والصحاب، ومن حكمة الله أن جعل الحج مع السنة القمرية ليتعود المسلم على تحمل كل الأجواء والصعوبات [5].

  1. المنافعالتجارية:

والحج من الجانب المادي فرصة متاحة لتبادل المنافع التجارية على نطاق واسع بين المسلمين يقول تعالى: )ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم( (البقرة: ١٩٨)، مع ملاحظة قوله: )فضلا من ربكم(، أي أنه نوع من العبادة.

  1. المساواةوالوحدةوالسلام:

الحج تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام، فليست مجرد شعارات، أو نداءات جوفاء بل هي واقع مطبق في عقل المسلم وقلبه، وفي مجتمعه، ومن هنا نرى في الحج معنى المساواة في أجلى صورها، فلا تحس بفقر فقير، ولا غنى غني، ولا فرق بين ما يلبسه الأمير، وما يلبسه المسكين الفقير، ولا فرق بين أبيض ولا أسود، ولا عربي ولا أعجمي.

فنرى في الحج معنى الوحدة جليا كالشمس، وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، والهدف، والعمل، والقول، فأي وحدة أعمق من هذه الوحدة؟ والحج أيضا طريقة فذة لتدريب المسلم على السلام، فهي رحلة سلام إلى أرض سلام، وهي بيت الله الحرام: )ومن دخله كان آمنا( (آل عمران: ٩٧)، والذي قال فيه عمر: «لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه»[6]، وهذا السلام يشمل الإنسان والطير في الجو، والصيد في البر، والنبات في الأرض، فلا يروع حيوان، ولا ينقطع شجر الأرض ولا حشائشها.

وفي هذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد[7] شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى[8] خلاها، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر[9]، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر» [10].

  1. الحجمؤتمرعالمي:

الحج يتيح للمسلم أن يشهد أعظم مؤتمر سنوي إسلامي، فهناك يجد المسلم إخوانا له من جميع أنحاء العالم، اختلفت ألوانهم، ولغاتهم، وجمعتهم رابطة الإسلام، ينشدون نشيدا واحدا: "لبيك اللهم لبيك".

ولهذا المؤتمر أكثر من معنى، وأكثر من إيحاء، إنه يحيي في المسلم الأمل، ويبعث الهمة، ويشعر بالقوة؛ لأن التجمع يوحي دائما بالقوة، والذئب إنما يأكل من الغنم الشاردة، ويعلم المسلم بحقوق إخوته المسلمين، فلا عجب إن كانت هذه العبادة "الحج" قذي في أعين الكثيرين من خصوم الإسلام، فيشهرون أقلامهم لتشويهه والطعن فيه، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [11].

ثالثا. الإسلام يقر ما ورثه العرب عن دين إبراهيم من مناسك:

لا بد أن نشير أولا إلى أن الحج عبادة لم ينفرد بها الإسلام بل عرفتها اليهودية، والنصرانية، من قبل، بل عرفتها كذلك بعض الديانات الوضعية.

وقد بنى إبراهيم - عليه السلام - الكعبة للحج، وقد أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، قال تعالى: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27)( (الحج).

وقد ورث العرب هذه العبادة وشعائرها من دين إبراهيم - عليه السلام - ثم إن العرب انحرفوا عن الحنيفية دين إبراهيم - عليه السلام - واستبدلوا بدين الله تعالى مبتدعات أتوا بها من عند أنفسهم، فجاء الإسلام فأقر ما كان من دين إبراهيم - عليه السلام - وأبطل مبتدعات المشركين، مما يؤكد عدم تأثر الإسلام بما كان من شعائر عند العرب قبل الإسلام، فالإسلام جاء مهيمنا على ما سبقه من الشرائع والأديان، ومصححا لانحرافات أتباع هذه الأديان.

فكما سبق أن قلنا إن القرشيين ورثوا ملة إبراهيم، وإسماعيل - عليهما السلام - ولكنهم بدلوا وغيروا، وعبدوا الأوثان من دون الله، وأدخلوا في شريعة الحج طقوسا، وعادات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تكن من ملة إبراهيم - عليه السلام - ومن ثم جاء الإسلام لينفض ركام الوثنية عن ملة الخليل إبراهيم، ومن ثم لا عجب أن تتشابه مقررات الحج، كما كان يمارسها الجاهليون قبل الإسلام مع مقررات الإسلام [12].

فشريعة الله واحدة، وإنما جاء الإسلام ليردها إلى أصولها الإلهية، وينقيها من لوثات الوثنية، ويطبعها بطابع الإسلام، فليس معنى أن العرب الجاهليين فعلوا شيئا ما أن يتركه الإسلام كي لا يتشابه مع المشركين!!

قال محمد بن السائب الكلبي: " كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها، كانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات، وكانوا يحجون البيت، ويعتمرون ويطوفون بالبيت سبعا، ويمسحون بالحجر ويسعون بين الصفا والمروة".

ومن هنا يتبين لنا أن الإسلام أقر المناسك التي لم تصبها لوثات الوثنية، وألغى كل ما فيه وثنية، فلم يكن الإسلام أبدا ناقلا عن هذه العقائد، وإنما مصححا لما حرف فيها.

وإن أكبر دليل على ما ذكرنا هو هذه الفروق الشاسعة بين مناسك الحج في الإسلام، وما كان يؤديه العرب الجاهليون من مناسك وثنية منها:

عن ابن عباس - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأي الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فحميت، ورأي إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بأيديهما الأزلام فقال: قاتلهم الله، والله إن - أي: ما - استقسما بالأزلام قط»[13]. كان العرب الجاهليون يحجون البيت لعبادة الأصنام التي كانت حول الكعبة، فقد كان هبل أعظم أصنامهم على ظهر الكعبة، وكان إساف ونائلة بين الصفا والمروة [14].

لقد تميزت قريش بشعائر لا يشاركهم فيها أحد؛ لأنهم كانوا أهل الحرم، وولاة البيت مثل ترك الوقوف بعرفة، والإفاضة منها، وقالوا نحن أهل الحرم، فلا نعظم غيره، وسموا أنفسهم الحمس. وقالوا: لا ينبغي للحمس أن يعملوا الأقط[15]، ولا يسلؤوا السمن[16] وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إلا في بيوت الجلد ما داموا حرما.

والطواف بالبيت عراة لغير الحمس، إذا لم يجدوا ثياب الحمس، أما المرأة فكانت تضع ثيابها كلها إلا درعها، وثوب صغير تلبسه المرأة في البيت.

من مظاهر الوثنية عندهم ما كانوا يرددونه في التلبية أثناء الحج، قال ابن عباس رضي الله عنه: «كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قد قد"، فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت» [17].

وهذه الوثنية في العقائد والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، جاء الإسلام فأزاحها، وأقام دين الله تعالى بعيدا كل البعد عن شبهات المبطلين وافتراءات المفترين، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقيم العوج، ويقيل العثرة، ويرد الحنيفية إلى نصابها وليتم دين الله في صورته التي تناسب الإنسانية في كل زمان ومكان [18].

فبعد دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة في عام الفتح حطم الأصنام التي كانت حول مكة، ومحا الصور التي كانت داخلها، وأبطل ما كانت تتميز به قريش عن سائر العرب، فجعل إفاضتهم من حيث يفيض كل الناس، يقول تعالى: )ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس( (البقرة: ١٩٩)، وحمل على العري المذري فأبطله، يقول تعالى: )يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف).

وجاءت التلبية في الحج موحدة بين كل الناس، وهي شعار التوحيد، فالحاج يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

وهذا إقرار بوحدانية الله، المنزه عن كل شرك، وشكر له على نعمته التي أتمها على المسلمين.

فأين شعائر الإسلام النقية من كل شائبة من هذه الشعائر الوثنية التي كان العرب الجاهليون يفعلونها؟! إن أي عقل منصف يستطيع أن يتبين هذه الفروق الواضحة بين شعائر الإسلام في الحج، وبين ما ابتدعه المشركون في دين إبراهيم عليه السلام.

رابعا. بطلان زعم أن شعائر الحج طقوس وثنية:

إن عبادة الحج في الإسلام وما تشمل عليه من مناسك مثل الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، واستلام الحجر الأسود، ورمي الجمار، إنما هي أعمال أبعد ما تكون من الوثنية سواء في شكلها الظاهري، وكذلك فيما تحتويه من حكم وأسرار بليغة لا تنكرها الفطرة السليمة ولا العقل السليم؛ ولهذا وجب التحدث عن كل منسك على حدة.

  1. الطوافبالبيت:

إن الأمم تغالي بكثير من ذكرياتها، وتقرن بها مشاعر نفسية واجتماعية بعيدة المدى، وقد ربط النصارى أنفسهم بقبر المسيح، وطريق الآلام - كما يزعمون - وربط اليهود أنفسهم بحائط المبكى، وأسسوا عليه حقوقا ما أنزل الله بها من سلطان، فلماذا يستغرب من المسلمين أن يرتبطوا بأماكنهم المقدسة ارتباطا - يبدو - عندما يدرس - أقرب إلى الرشد، وأبعد عن الوهم؟

والكعبة هي بيت الله الحرام الذي بني لتقام فيه وعنده الصلوات لله وحده، وقد قيل لإبراهيم وهو يؤسسه: )وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26)( (الحج).

وهذه الكعبة هي أول مسجد بني في الدنيا لتوحيد الله، ونبذ الشركاء، وتمحيص العبادة لرب العالمين [19].

من أجل ذلك تنبعث الوفود من المشارق والمغارب لترى البيت الذي تصلي إليه، ولتطوف حوله طواف تقدير واحترام.

ويقول الحجيج وهم يطوفون بالبيت "لبيك لا شريك لك لبيك" إنهم لا يعبدون البيت، وإنما يعبدون رب البيت، ومن زعم أن الكعبة كلها، أو بعضها يضر أو ينفع فهو خارج من الإسلام.

وحكمة أخرى لا تقل جلالا عن سابقتها، تفسر الطواف حول البيت العتيق، وهي هذه الذكريات التاريخية المرتبطة ببناء البيت، وهي الدعوات الحارة على ألسنة الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام -: )ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك( (البقرة: ١٢٨).

والتي كانت من آثارها بعثة النبي الخاتم بعد قرون طوال، فإذا لم يحج المسلمون البيت الذي بدأ عنده تاريخهم، فأين يحجون؟!

  1. السعيبينالصفاوالمروة:

إن الناظر إلى "المسعى" وهو يموج بحشود كثيفة تطوف بين الصفا والمروة، يجد أنه ترسيخ لعقيدة التوكل على الله، وإن وهت الأسباب المادية.

فمن قرون خلت حيث كانت هذه البقعة يسودها الوحشة، والانقطاع، لا أنيس هنالك، ولا عمران، جاء إبراهيم - عليه السلام - بامرأته وابنه الرضيع، ثم قال للأم الضعيفة، سأتركك هنا.

وتساءلت هاجر دهشة: تتركنا هنا؟ حيث لا زرع ولا ضرع، ولا دار؟

قال: نعم، قالت آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.

قالت: إذن لا يضيعنا، وانصرف الأب، ونفد الزاد والماء من هاجر، وانطلقت الأم بين الربوتين، تبحث عن غوث للرضيع، الذي يوشك أن يهلك، وبعد أمد جاء الملك، وفجر بئر زمزم، وحامت الطير حول الماء الدافق، وأقبل الناس على المكان يعمرونه.

إن ثقة هاجر في الله أثمرت الخير، ولم يخذلها الله بعد ما آوت إليه فجاء الإسلام، وقرر هذه الشعيرة لعل المسلمين أن يعوا هذا الدرس، وهو التوكل على الله مع ضعف الأسباب المادية أو انعدامها [20].

  1. استلاموتقبيلالحجرالأسود:

لا بد أن نقرر أولا أن ما يفعله المسلمون في موسم الحج من تقبيل للحجر الأسود، إنما هو اتباع لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل فعلا، إلا بأمر ربه.

ولا يعتقد أي من المسلمين الذي يقبلون الحجر الأسود أنه يضر، أو ينفع بذاته، وأنه كما كان يظن الجاهليون في الأصنام، ولهذا نجد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما قبل الحجر الأسود قال: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك» [21].

وفي رواية مسلم عن سويد بن غفلة قال: «رأيت عمر قبل الحجر والتزمه، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفيا» [22] [23].

ومما هو جدير بالذكر كما يقول الشيخ محمد طاهر الكردي رحمه الله: "إن العرب في جاهليتها مع عبادتهم الأحجار، وبالأخص حجارة مكة، والحرم، لم يسمع عنهم أن أحدا عبد الحجر الأسود، أو المقام، مع عظيم احترامهم لهما[24]، ومحافظتهم عليهما.

والسر في ذلك عصمة الله تعالى، فإنهما لو عبدا من دون الله في الجاهلية، ثم جاء الإسلام بتعظيمهما. لقال أعداء الإسلام إنه لم يخلص من شائبة الشرك، وهذا من فضل الله تعالى".

في سياق مناقشة هذه الشبهة، وتبيان الحكمة من بعض شعائر الحج كتقبيل الحجر الأسود، يقول د. القرضاوي: الدراسة السطحية آفة من آفات المتعلمين عندنا، والتعجل في إصدار الحكم قبل الرسوخ في العلم، ودون الرجوع إلى أهل الذكر، ثمرة سيئة لهذه السطحية. وما أصدق ما قيل: إن الذين يتشككون في الدين إما جهلاء، أو متعلمون تضخمت في أذهانهم بعض المعلومات، ذلك أن إثارة الشبهات حول موضوع كاستلام الحجر الأسود، ورد الأحاديث فيه ببساطة ضلال مبين، وغفلة عن طبيعة العلم، وطبيعة الدين:

طبيعة العلم: أن ترد جزئياته إلى قواعده، وعلم الحديث له قواعده وأصوله التي وضعها علماؤه لمعرفة المقبول من المردود في الأحاديث، وطبقوها بكل أمانة ودقة ما استطاعوا، وبذلوا جهود الأبطال في سبيل تنقية السنن النبوية، وتبليغها إلينا. أما قيمة الأحاديث التي رووها في شأن الحجر الأسود فنورد عليك بعضها.

سئل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن استلام الحجر الأسود، فقال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله» [25].

وعن نافع قال: «رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله» [26].

وعن عمر رضي الله عنه:«أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك» [27].

قال الطبري: إنما قال عمر - رضي الله عنه - ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت تفعل العرب في الجاهلية، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته، كما كانت الجاهلية تعبد الأوثان. والأحاديث المذكورة أحاديث قوية صحيحة ثابتة، لم يطعن فيها عالم من علماء السلف أو الخلف، على أن الأمر أكثر من ذلك، فإن هذه سنة عملية تناقلتها الأجيال منذ عهد النبوة إلى الآن بلا نكير من أحد، فأصبحت من مسائل الإجماع، ولا تجتمع الأمة على ضلالة وهذا وحده أقوى من كل حديث يروى، ومن كل قول يقال.

هذا من ناحية العلم، وأما من ناحية الدين فالمؤمنون يعرفون تمام المعرفة أنه يقوم أول ما يقوم على الإيمان بالغيب - في جانب الاعتقاد -، وعلى الخضوع والانقياد لأمر الله - في جانب العمل - وهذا هو معنى لفظ الدين، ولفظ العبادة.

والإسلام - باعتباره دينا - لا يخلو من جانب تعبدي محض، وإن كان أقل الأديان في ذلك. وفي الحج - خاصة - كثير من الأعمال التعبدية، ومنها تقبيل الحجر الأسود، والأمور التعبدية هي التي تعقل حكمتها الكلية وإن لم يفهم معناها الجزئي، والحكمة العامة فيها هي حكمة التكليف نفسه، وهي ابتلاء الله لعباده ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.

الأمور التعبدية هي التي تكشف عن العبودية الصادقة لله من العبودية الزائفة. العبد الصادق يقول عند أمر الله مقالة الرسول والمؤمنين: )سمعنا وأطعنا( (البقرة:285)، والعبد المتمرد على ربه يقول ما قاله اليهود من قبل: )سمعنا وعصينا( (البقرة: ٩٣)، ولو كان كل ما يكلف به العبد مفهوم الحكمة للعقل جملة وتفصيلا، لكان الإنسان حينما يمتثل إنما يطيع عقله قبل أن يكون مطيعا لربه.

وحسب المسلم أنه حين يطوف بالبيت أو يستلم الحجر يعتقد أن هذا البيت وما فيه أثر من آثار إبراهيم عليه السلام، ومن إبراهيم عليه السلام؟ إنه محطم الأصنام، ورسول التوحيد وأب الملة الحنيفية السمحة: )إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120)( (النحل).

في السياق نفسه سئل د. القرضاوي عن شرعية التبرك بحجر موجود بمقام السيد البدوي بطنطا، به أثر قدم غائر، يقال إنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال الشيخ: ما أضاع المسلمين إلا الإفراط والتفريط، فبعضهم يسرف في الاعتقاد حتى يؤمن بالخرافة، ويتبرك بالأحجار والآثار التي لم يشرعها دين، ولم يأذن بها الله.

وآخر يقتر في الاعتقاد حتى يثير الشبهات حول الحجر الأسود نفسه، غير أن الحق بين الاثنين. فالإسلام قد أبطل التبرك بالأحجار كلها، لم يستثن من ذلك إلا الحجر الأسود للحكمة التي ذكرناها.

والحجر الموجود في طنطا كالأحجار، ليس هناك تاريخ يثبت أن هذا الحجر من عهد رسول الله، ولا أن أثر القدم هو أثر قدمه - عليه السلام - وليس عند أحد سند بهذا أبدا.

هذه واحدة…والثانيةأنرسولالله - صلىاللهعليهوسلم - لميأمرأمتهبالتمسحوالتبركبمواضعأقدامه،وتعظيمهاإلىدرجة التقديس، وإنما كان يحذر من كل ما يشم منه رائحة الغلو في التعظيم، ويوصد كل باب يخشى منه دخول الفتنة، لهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا»[28]، «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [29].

وكان أصحابه على هديه كذلك…أسرععمربقطع شجرة الرضوان التي بايع المؤمنون رسول الله تحتها في الحديبية، وجاء ذكرها في القرآن، قطعها - رضي الله عنه - حين رأي بعض الناس يذهبون إليها متبركين.

إن تقبيل الحجر الأسود أمر "تعبدي" والأمور التعبدية امتثال محض لله يوقف عندها ولا يقاس عليها غيرها. وما أحسن قول عمر رضي الله عنه: «لولا إني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك».

وأما استناد بعضهم إلى حديث: «لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه» فإنه استناد إلى باطل صراح، والحديث قال فيه ابن حجر: لا أصل له، وقال ابن تيمية: موضوع [30].

  1. رميالجمار:

المقصود برمي الجمار هو رمي إبليس اللعين بالحصى ثلاث مرات في كل مرة يرمي سبع حصيات، وإنما يفعل المسلمون ذلك لإحياء هذه الواقعة الجليلة التي حدثت لخليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - وابنه إسماعيل عليه السلام.

فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:«ثم لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان ثم عرض له عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه أبيكم ربما تتبعون» [31].

وهناك حكمة أخرى من هذا الرمي، وهو أنها عمل رمزي يقصد به إحياء روح العداوة للشيطان، وأنه أحقر من أن يسيطر علي المسلم [32].

هذه هي شعائر الحج، كما فرضها الله - عز وجل - وكما يفهمها المسلمون في كل عصر ومصر. لا كما يفهمها المتعصبون ضد الإسلام، فكل شعيرة من شعائر الحج، كما ذكرنا بالتفصيل تحتوي على العديد من الأسرار البديعة والحكم البليغة، تكشف عن العبودية الصادقة لله من العبودية الزائفة فالعبد الصادق يقول عند أمر الله مقالة الرسول والمؤمنين: )سمعنا وأطعنا(، والعبد المتمرد على ربه يقول ما قاله اليهود: )سمعنا وعصينا(، ولو كان كل ما يكلف به العبد مفهوم الحكمة جملة وتفصيلا، لكان الإنسان حينما يمتثل إنما يطيع عقله قبل أن يكون مطيعا لربه[33]. هذا إن لم تكن هذه العبادات مفهومة المغزى، فما بالنا وشعائر الإسلام كلها تحتوي على معين لا ينضب من الحكم والأسرار.

  1. التزودأثناءالحج:

يقول تعالى: )وتزودوا فإن خير الزاد التقوى( (البقرة: ١٩٧)، والتزود هو الأمر باتخاذ الزاد، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد.

وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس» [34] [35].

وقال أبو الفرج ابن الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد، وظنوا أن هذا هو التوكل، وهم على غاية الخطأ. فلا عجب إذن أن يأتي القرآن الكريم مصححا لهذا الفهم الخاطئ، لمعنى التوكل، وليحث المسلمين على حفظ ماء الوجه، والامتناع عن سؤال الناس.

  1. جوازالتجارةفيالحج:

يقول تعالى: )ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم( (البقرة: ١٩٨)، والجناح هو الإثم، والفضل هنا بمعنى التجارة.

قد يظن بعض الناس أن إباحة القرآن الكريم للتجارة من الأمور البديهية، ولكن المتأمل لأحوال العرب قبل الإسلام يتبين له أن الأمر خلاف ذلك، فقد نزل القرآن الكريم ليخاطب كل العقول بكل مستوياتها، وقد كان بعض العرب في الجاهلية يتحرجون من التجارة في موسم الحج، فنزل القرآن الكريم ليرفع هذا الحرج، والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: «كانت عكاظ، ومجنة، وذو مجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم - أي مواسم الحج - فنزلت: )ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم(» [36].

وهناك فائدة أخرى تستفاد من هذه الآية، وهي دليل على جواز التجارة في الحج للحاج، مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا [37].

ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه وعن أبي أمامة التيمي قال: «قلت لابن عمر - رضي الله عنهما -: إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: إنه لا حج لك. فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الآية: )ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم(، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك حجا» [38] [39].

إذن فليس الأمر كما يدعي بعض المتوهمين من أن الإسلام اقتبس أدبيات الحج من عادات جاهلية، بل كان الإسلام مهيمنا عليها مصححا لها لتوافق الإنسانية في كل مراحلها.

خامسا. العادة في الإسلام تتحول إلى عبادة إذا صاحبها إخلاص النية لله وقصد بها طاعته:

نعم لقد أمر الله تعالى بالتزود في موسم الحج، وكذلك أجاز التكسب بالتجارة في موسم الحج، ولقد فصلنا أسباب هذا الأمر فيما سبق، وأن نزول هذا الأمر بخصوص جماعة من الناس تركوا التزود وآخرين تحرجوا من التجارة في موسم الحج.

ولكن بالإضافة إلى ذلك، فهذا الأمر للناس جميعا ليبين حقيقة مهمة في حياة المسلم، وهي إخلاص النية لله حتى في العادات المألوفة؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين أن يتوضأ الإنسان قاصدا النظافة، فحسب وآخر يتوضأ طاعة لله، وبين إنسان يصلي قاصدا الرياضة، وآخر قاصدا طاعة الله، وامتثال أمره، لا شك أنه في حالة الطاعة المطلقة تكون العبادة أمثل وأصدق تعبيرا عن المقصود [40].

وكذلك هناك فرق كبير بين أن يتزود الإنسان في الحج؛ لأن هذا من عاداته في السفر، وبين أن يتزود امتثالا لأمر الله تعالى، ولا أن يبتغي من التجارة الربح الدنيوي، فحسب بل لأن الله أمره بذلك، وجعل ذلك من فضله ليبين أنه نوع من أنواع العبادة، ولا شك أن أثر ذلك في علم النفس الإنسانية، يكون أكثر إيجابية مما لو كان مجرد عمل تعود عليه.

وحول الحكمة وراء فريضة الحج بمناسكها المعروفة، يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: "الدين الإسلامي كله أسرار وعجائب، ويكفيك دليلا على كونه أكبر آيات الله في هذا العالم، أنه تعالى كون به في بضع وعشرين سنة أمة أحدثت في الوجود أكبر وأعظم الحوادث الاجتماعية والانقلابات العمرانية، وتربعت في ظله خلافة الله في الأرض قرونا كثيرة كانت خلالها أعجوبة العالم الإنساني دنيا ودينا، ورفعت أعلام الحرية والإخاء، والعلم إلى أعلى ما يصل إليه إمكان البشر، ولم تزل لليوم حية حياة قوية، وإن كانت كامنة كونا وقتيا، يظهر من ذلك انتشار نفوذها الروحاني في كل الأمم بصفة تبشر بضرورة رجوعها إلى مجدها القديم، والقبض على زمام أمور النوع البشري كله بتلك اليد الرحيمة التي خلصته بها من قتلة عواطفه من قبل.

كل أصل وركن، وفرض، وسنة من هذا الدين تحته أسرار، وأنوار تعوز الدرس الطويل والشرح الضافي والبحث العميق، ويدل عليه دلالة محسوسة انتقال العرب بمجرد العمل بها من حالتهم الأصلية، إلى حالة أخرى أقل ما يقال فيها أنهم أصبحوا بها مثلا يضرب في الفضائل في جميع الأمم حتى أعدى أعدائهم، وإنا لنرى بأعيننا أن العالم الغربي مسوق بدوافع الطبيعة ونواميس الحياة إلى العمل بتلك التعاليم، والاهتداء بنورها في حوالك أحوالهم، ولو كان متطرفوهم قد غالوا في التشهير عليها ووصموها بما هي بريئة منه.

هذه مسألة الطلاق التي طالما حاولوا أن يغضوا بها من أبصارنا، ويحطوا من كرامتنا، قد التجئوا أخيرا إلى عدها علاجا شافيا لكثير من المفاسد العائلية التي لها أسوأ أثر في كيان الهيئة الاجتماعية، وقد أصبح لديهم محاكم مخصوصة للتطليق في كل بلد متمدنة.

الحج هو اجتماع الألوف المؤلفة من المسلمين المبعثرين في سائر أرجاء العالم المختلفين في الأجناس واللغات، في بقعة واحدة ملبين بالروح، والجسم معا نداء ربهم، وهم من بساطة الملبس، والتساوي في الدرجات على صورة لا توازيها صورة في أي شرع من الشرائع ولا مدنية من المدنيات الأرضية.

وهم بين أمير ومأمور، وحاكم ومحكوم، وعربي وتركي، وأفغاني وفارسي، وهندي وسوداني، وحبشي وصيني، وأوربي وأوقيانوسي، وبين أبيض ناصع، وأصفر فاقع، وأحمر قاتم، وأسود فاحم. والكل شخوص بالأعين والأفئدة إلى نقطة واحدة، ليس في ضمائرهم إلا موضع واحد، تركوا الأهل والوطن، وهجروا المال والسكن، خاضوا غمرات البحار الزاخرة، واقتحموا الصحاري الغامرة، لعبت هوج الرياح بهم تارة على السفائن، ولفحتهم لواقح السموم طورا في السباسب - الصحاري - خلعوا عاداتهم وتقاليدهم، وغيروا لباسهم ومأكلهم، وصعدوا وهم على هذه الصورة التجريدية على سطح جعل يضم أشتاتهم ويلم جمعهم، فماذا يكون من أثر هذا الموقف المهيب عليهم. وماذا تكون نتيجة هذا المنظر الفخم على أفئدتهم وأرواحهم؟

لا شك أن تركز كل الأشعة المنبعثة من صميم معانيهم إلى غرض واحد ونقطة مشتركة، وهم على هذه الصورة من المساواة والبساطة على قمة ذلك الجبل الذي وقف عليه قبلهم بناة مجد هذه الأمة الكريمة من الشهداء، والصالحين، والعلماء العاملين والأولياء المقربين، وفوق هؤلاء كلهم خاتم النبيين محمد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأجمعين.

كل ذلك يوحى إلى سرائرهم، وينقش في صميم روعهم، ويصور لهم في الباب فطرهم، حقيقة معنى "الله أكبر" وناهيك برجل يعتقد أن الله أكبر.

من يعتقد أن الله أكبر لا يرضخ للذل، ولا يستكين للعبودية، ولا يلين قيادة في يد غاشم، من يعتقد أن الله أكبر لا يخاف بطش العوادي ولا يرهب قرع الحوادث، ولا ترتعد فرائصه من نازلة مهما عظمت.

من يعتقد أن الله أكبر لا يستعظم الأقوياء، ولا يكبر الأعلياء ولا يستجدي الكبراء، من يعتقد أن الله أكبر لا ينسحر بمدنية ولا يؤله قوة أجنبية، ولا ييأس من بلوغ أمته أقصى المكانات العمرانية.

يقولون إذا كان هذا أثر الحج فأين نحن منه اليوم؟ قلنا إن أركان الإسلام كلها مرتبطة ببعضها ولا يغني شيء عن شيء منها. وقد ترك المسلمون كل تلك الأركان، وبعضهم يأتيها صورة لا حقيقة، فكيف تؤثر فيهم هذا الأثر الباهر الذي أحدثته في آبائنا الأولين الذين كانوا يراعونها على حقيقتها [41].

الخلاصة:

الحج لغة هو القصد وفي الشرع هو قصد البيت الحرام، وعرفة في وقت مخصوص للقيام بأعمال مخصوصة وهي الوقوف بعرفة والطواف والسعي.

الحج ركن من أركان الإسلام، وفرض من فروضه نص علي ذلك القرآن الكريم والسنة الشريفة، وإجماع المسلمين.

للحج في الإسلام أسرار بليغة، وآثار طيبة في حياة الفرد، والجماعة، فالحج شحنة روحية تجعل المسلم أصفى قلبا، وأقوى عزيمة على الخير، وهو بمثابة تدريب على ركوب المشقة، وتوسيع أفق المسلم الثقافي بالإضافة إلي المنافع المادية التي تعود على الجماعة، مثل تبادل المنافع التجارية، وهو أيضا تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا، التي جاء بها الإسلام مثل المساواة والوحدة والسلام، وهو يتيح للمسلم أن يشهد أعظم مؤتمر شورى إسلامي تلاشت فيه الأجناس واللغات والألوان، واجتمعت على نشيد "لبيك اللهم لبيك".

لقد ورث العرب هذه العبادات "الحج" وشعائرها من دين إبراهيم - عليه السلام - ثم إن العرب انحرفوا عن الحنيفية دين إبراهيم - عليه السلام - واستبدلوا بدين الله مبتدعات أتوا بها من عند أنفسهم، فجاء الإسلام مهيمنا على ما سبقه من الشرائع، والأديان، ومصححا لانحرافات أتباع هذه الأديان، فأقر ما كان عليه العرب من دين إبراهيم، وأبطل مبتدعات المشركين.

إن مناسك الحج مثل الطواف بالكعبة، واستلام الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، أبعد ما تكون عن الوثنية، فهي دليل على الطاعة الخالصة لأوامر الله عز وجل، وهي إحياء للذكريات الطيبة التي حدثت لخليل الله إبراهيم - عليه السلام - وزوجه هاجر وابنهما إسماعيل عليه السلام، وهي كذلك إحياء للمعاني السامية التي تحتوى عليها هذه المناسك.

لقد أمر الله تعالى بالتزود في موسم الحج، وأجاز التجارة لتتحول هذه الأمور المألوفة في حياة الناس إلى عبادات يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وطاعته، ولا شك أن آثار ذلك على النفس الإنسانية تكون أكثر إيجابية، مما لو كان مجرد عمل تعود عليه.

 

 

 

(*) البحث عن الحقيقة الكبرى، محمد عصام قصابي، دار الفكر، دمشق، 2002م. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر،، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م. أقطاب العلمانية في العالم العربي الإسلامي، طارق منينة، دار الدعوة، مصر، 2000م. التبشير العالمي ضد الإسلام، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة النور، القاهرة، 1992م. اتجاهات حديثة في الفكر العلماني، د. محمد الخير عبد القادر، الدار السودانية للنشر، السودان، 1999م. اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، إدوارد جيبون، ترجمة: محمد سليم سالم، مراجعة: محمد أبو ريدة، دار الكتب المصرية، القاهرة، د. ت. قناة الحياة الفضائية، القمص زكريا بطرس، الحلقة 17. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.

[1]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: حجج.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (8)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (122).

[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (3321).

[4]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف الكويتية، دار الصفوة، الكويت، ط1، 1412هـ/ 1992م، ج17، ص24.

[5]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 24، 1416 هـ/ 1995م، ص303.

[6]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب المناسك، باب ما يبلغ الإلحاد ومن دخله كان آمنا (9229).

[7]. يعضد: يقطع.

[8]. يختلى: النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا.

[9]. الإذخر: حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب، وتستخدم في تطييب الموتى.

[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة (1737)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها (3368).

[11]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 24، 1416 هـ/ 1995م ، ص310.

[12]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص370.

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: ) واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) ( (النساء) (3174)، وفي مواضع أخرى.

[14]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص372.

[15]. الأقط: لبن محمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ أو يطبخ به.

[16]. سلأ السمن: أذابه بالتسخين.

[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها (2872).

[18]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص373.

[19]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط 2، 2004م، ص69.

[20]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط 2، 2004م، ص70، 71.

[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1520)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (3128).

[22]. الحفي: اللطيف الرقيق.

[23]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (3128).

[24]. فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام، سائد بكداش، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط3، 1420هـ، ص59.

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب تقبيل الحجر (1533).

[26]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب استلام الركنين اليمانين في الطواف (3124).

[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1520)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (3126).

[28]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8790)، وأبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2044)، وصححه الألباني في صحيح ابي داود (1796).

[29]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما (1324)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها (1212).

[30]. فتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، القاهرة، ط6، 1416 هـ/ 1996م، ج1، ص361: 364 بتصرف.

[31]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 456)، باب العين أحاديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (12293)، والحاكم في مستدركه، أول كتاب المناسك (1713)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1156).

[32]. فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام، دار البشائر الإسلامية، لبنان، ط3، 1420هـ، ص59.

[33]. فتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، القاهرة، ط 6، 1416 هـ/ 1996م، ج1، ص361.

[34]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: ) وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ( (البقرة: ١٩٧) (1451).

[35]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص411.

[36]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب ما جاء في قول الله تعالى: ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10) ( (الجمعة) (1945)، وفي مواضع أخرى.

[37]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص413.

[38]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب الكري (1735)، والدراقطني في سننه، كتاب الحج، باب المواقيت (250) وصححه الألباني في صحيح ابي داود (1525).

[39]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص414.

[40]. الإسلام، د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط12، 1997م، ص159.

[41]. الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، د. ت، ص773 وما بعدها.

  • الجمعة AM 03:19
    2020-10-30
  • 1207
Powered by: GateGold