المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413283
يتصفح الموقع حاليا : 322

البحث

البحث

عرض المادة

الطعن في بعض الأحاديث لذكرها ألفاظا جنسية صريحة

الطعن في بعض الأحاديث لذكرها ألفاظا جنسية صريحة(*)

مضمون الشبهة:

يطعن منكرو السنة في بعض الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة بشأن بيان العلاقة بين الرجال والنساء وما يرتبط بها من أحكام؛ بحجة أن هذه الأحاديث قد اشتملت على ألفاظ جنسية صريحة، يمنع الحياء من إطلاقها، وتأبى الفطرة السليمة أن يصرح بها. ويستدلون على ذلك بما رواه البخاري من حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «لما أتى ماعز بن مالك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها؟ - لا يكني - قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه»، فهذا تصريح في أمر جنسي تعافه الأذن، وتأباه الفطر السليمة - على حد زعمهم.

ويتساءلون: أليس هذا التصريح الجنسي يعد دليلا كافيا لرد هذا الحديث؟ فكيف يتلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك الألفاظ الإباحية دون كناية أو تعريض، مع العلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشد حياء من العذراء في خدرها؟ أليس في هذه الألفاظ الإباحية من أمثال الملامسة والمضاجعة والمباضعة - ما يثير شهوات الأمة ويهيج غرائزها؟ رامين من وراء ذلك إلى الطعن في السنة النبوية الشريفة، والتشكيك فيما اشتملت عليه من أحاديث صحيحة.

وجه إبطال الشبهة:

  • الأحاديثالنبويةالمشتملة على ألفاظ جنسية صريحة تدل على حالات الجماع والمعاشرة - أحاديث صحيحة ثابتة، رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد بطرق مختلفة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تطعن هذه الأحاديث بحال من الأحوال في حياء النبي - صلى الله عليه وسلم -حيث إنه كان يكتفي بالتعريض والكناية عند ذكر ما يستحيى من ذكره في أمور الحياة العادية، بينما كان يذكر - صلى الله عليه وسلم - هذه الألفاظ صراحة عند إقامة الحدود، وما يجب التثبت فيه واليقين؛ لأن الأمر يتعلق بإزهاق نفوس بشرية، والنفس البشرية لها حرمتها.

التفصيل:

لقد جاء الإسلام دعوة عالمية شاملة لكل البشر جميعا على مر العصور، ولم يقتصر على أمة بعينها أو على زمان بعينه؛ ومن ثم فإن الدين الإسلامي قد امتلك المقومات والصلاحيات التي تكفل له البقاء على امتداد الزمن، ولذلك لم يكن الإسلام مجرد علاقة بين العبد وربه فقط، وإنما كان دينا للحياة كلها بشتى جوانبها، فنظم حياة الفرد في مجتمعه، وكفل له الحياة الآمنة المطمئنة، ووضع التشريعات، وسن القوانين والأحكام التي تكفل لهذا المجتمع الاستقرار وحسن التعايش، وبين لهم جانب المعاملات، وفصله تفصيلا دقيقا، فضلا عن جانب العقائد والعبادات، فلم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرا من أمور الدين - كبيرها وصغيرها - إلا قد بينه أتم بيان، وفصله على أكمل وجه؛ حتى يترك الأمة الإسلامية وهي على الطريق المستقيم الذي يقربنا إلى الجنة، ويبعدنا عن النار.

وصدق الله - سبحانه وتعالى - حينما قال: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة)، وقال - سبحانه وتعالى - أيضا: )وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28)( (سبأ)، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه...»[1] الحديث.

فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على المداومة على حث الأمة على فعل كل ما يقربها إلى طاعة الله وجنته ونعيمها، وعلى اجتناب كل ما يؤدي إلى سخط الله وغضبه. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم معلم على مر العصور وامتداد التاريخ؛ بشهادة القرآن والسنة والوقائع التاريخية.

وروى الإمام مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «... إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا»[2].

وروى أيضا عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: «... ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه..»[3] الحديث.

وجاء في الحديث عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان قال: «قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل..»[4] الحديث.

فالتشريع الإسلامي شامل لجميع نواحي الحياة، في كل زمان ومكان، فما شرع منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة صالح للعمل به حتى اليوم، وبعد اليوم إلى يوم القيامة.

من خلال هذا البيان الموجز يتأكد لنا أنه لا غرابة - أبدا - من تفصيل النبي - صلى الله عليه وسلم - للعلاقة بين الرجال والنساء تفصيلا دقيقا، فبين للناس ما يحل لهم في هذا الشأن وما يحرم عليهم، وسن لهم في ذلك الأحكام والتشريعات والحدود، واحتاج الأمر في تطبيق هذه الحدود إلى شيء من اليقين والتثبت، فاختلفت المواقف والظروف في هذا الشأن، فلا ضير من التصريح ببعض الألفاظ الجنسية التي يعرض بها غالبا في هذه المواقف؛ حتى نصل إلى درجة اليقين من ثبوت الفعل، وعليه يتم تنفيذ الحكم، وتطبيق الحد.

فالأحاديث الواردة بهذه الألفاظ الجنسية الدالة على حالات الجماع والمعاشرة أحاديث صحيحة، ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواها أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد، بطرق متعددة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

فقد روى الإمام البخاري من حديث يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما أتى ماعز بن مالك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها؟ - لا يكني - قال: فعند ذلك أمر برجمه»[5].

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جرير عن يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - بلفظه[6].

ورواه الإمام أبو داود في سننه بهذا الإسناد[7]، كما روي - أيضا - من حديث وكيع عن هشام بن سعد، قال: حدثني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه، قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك - وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج - فأتاه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأقم علي كتاب الله. حتى قالها أربع مرار، قال صلى الله عليه وسلم: إنك قد قلتها أربع مرات، فبمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم، قال فأمر به أن يرجم...»[8] الحديث. ورواه الإمام أحمد أيضا بهذا الإسناد[9].

وقد روى الإمام مسلم هذه الحادثة دون ذكر هذه الألفاظ صراحة، فروى أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: «رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قصير أعضل، ليس عليه رداء، فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك؟ قال: لا. والله إنه قد زنى الآخر - يقصد نفسه -...» الحديث [10].

ورواه أيضا من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه»[11].

فهذه الأحاديث الواردة بهذا الشأن كلها أحاديث صحيحة، جاءت في الصحيحين وفي كتب السنة الأخرى، بطرق صحيحة مختلفة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي ثابتة لا طعن في صحتها.

وإن ثبوت هذه الأحاديث وصحتها لا يطعن بحال من الأحوال في حياء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلقه، فكفى النبي - صلى الله عليه وسلم - شرفا أن يثني عليه رب العزة، بقوله تعالى: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، فلقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص دائما على الإشارة والتعريض والكناية عندما يكون في معرض الكلام عن موضوع من الموضوعات التي يستحيى التلفظ فيها بألفاظ جنسية معينة، كالنكاح والزنا والمعاشرة الزوجية وما يتعلق بذلك؛ ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصرح عندما يكون بصدد القضاء في أحكام معينة؛ إذ الأمر جد خطير، لا يحتمل الكناية، لما سيترتب على ذلك من أحكام تصل إلى القتل.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص على الاكتفاء بالإشارة والتعريض عند ذكر ما يستحيى منه، ولا عجب في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم: «كان أشد حياء من العذراء في خدرها»[12].

وقد ورد في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها: «أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض؟ فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها، فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال: سبحان الله! تطهري بها، فقالت عائشة - وكأنها تخفي ذلك: تتبعين أثر الدم...»[13] الحديث.

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير»[14].

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي - حتى كأنه يقول: قد أضر بك - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن الحياء من الإيمان»[15].

قال أبو العباس القرطبي: "الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزيا، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جمع له النوعان، فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا"[16].

وجاء في صحيح البخاري عن عائشة: «أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من المحيض؟ قال: خذي فرصة ممسكة فتوضئي ثلاثا، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحيى فأعرض بوجهه، أو قال: توضئي بها، فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم»[17].

وقد تواترت الأحاديث التي تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض ويشير إلى الألفاظ التي يستحى منها بخصوص موضوعات معينة كالجماع والمعاشرة.

وقد علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كيف يكون التعريض والإشارة في مثل هذه الأمور، فهذا قول السيدة عائشة - رضي الله عنها: «... كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضخ طيبا»[18].

قال ابن حجر: "قوله: «فيطوف» كناية عن الجماع"[19].

فقد عبرت السيدة عائشة - رضي الله عنها - بقولها«فيطوف» بدلا من أن تقول مثلا: فيجامع أو فيضاجع إلى غير ذلك من الألفاظ التي من الممكن أن يستحيى منها.

وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: «كنت رجلا مذاء، فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته - فسأل، فقال: توضأ، واغسل ذكرك»[20].

وقد ذكر ابن حجر في "الفتح" معقبا على الحديث السابق: "فيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحيى منه عرفا، وحسن المعاشرة مع الأصهار، وترك ذكر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها، وقد تقدم استدلال المصنف به في العلم لمن استحيى فأمر غيره بالسؤال؛ لأن فيه جمعا بين المصلحتين: استعمال الحياء، وعدم التفريط في معرفة الحكم"[21].

فلا يصح على الإطلاق القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصرح دائما بالألفاظ الجنسية التي تثير الشهوة لدى من يسمعها؛ فها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يشدد على وجوب تعهد الحياء في أكثر من حديث، وجاءت أفعاله - صلى الله عليه وسلم - تؤكد ذلك، وترسخ ذلك أيضا لدى الصحابة من بعده.

أما الطريق الأخرى التي كان يسلكها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكر ما يستحيى منه - هي التصريح، وذلك في مجال الأحكام والأمور التي هي من أساسيات الدين، وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - في أكثر أحاديثه التي كان يصرح فيها بتلك الألفاظ، أن يقدم بتمهيد لطيف يلطف به ما سيذكره بعد ذلك من ألفاظ يستحيى منها؛ وذلك بغية التعليم والإحاطة.

فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم مثل الوالد، إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ونهى عن الروث، والرمة، ولا يستطيب الرجل بيمينه»[22].

وقد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المقدمة أمام المقصود؛ إعلاما بأنه يجب عليه تعليمهم أمر دينهم، كما يلزم الوالد تعليم ولده ما يحتاج إليه مطلقا ولا يبالي بما يستحيى من ذكره، فهذا تمهيد منه - صلى الله عليه وسلم - لما بينه من آداب قضاء الحاجة، وهي من الأمور التي يستحيي منها، ولا سيما في مجالس العظماء، وإيناسا منه - صلى الله عليه وسلم - للمخاطبين؛ لئلا يحتشموا عن السؤال فيما يعرض لهم مما يستحيى منه[23].

وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن»[24].

فقد أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا أن يمهد ويلطف لما سيذكره بعد ذلك من أمر يستحيى منه، وهو إتيان النساء في أدبارهن، فكأنه يريد أن يقول: إن الله لا يستحي من الحق؛ فتقبلوا ما سأذكره لكم لأنه حق وصدق.

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض ويشير؛ ولكن إذا اقتضى الموقف والحال ذكر لفظة يستحيى منها كان يصرح بها - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك بيان حكم أو قضاء في مسألة مهمة؛ للاستحياء من ذكر ألفاظ تتعلق بتلك المسألة، لا سيما تلك الأحاديث التي قضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم الزنا.

يتضح ذلك في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما أتى ماعز بن مالك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أنكتها؟ قال: فعند ذلك أمر برجمه».

فالأمر هنا يتعلق بقضاء حكم الزنا وهو الرجم حتى الموت، وهو من أشد الحدود في الإسلام؛ فكان لزاما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقصي في الأمر، ويتأكد من ارتكاب هذا الرجل - ماعز بن مالك - الزنا، ليقيم عليه الحد، فعسى أن يكون قد قبل أو غمز أو نظر، فقال له ماعز: لا يا رسول الله، فلم يكتف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقالها صريحة؛ حتى تكون هي الفاصلة: أنكتها؟ فلما اعترف بحدوث هذا الفعل أمر به، فأقام عليه الحد عندئذ.

ذكر ابن حجر في "الفتح": "ومحل وجود الحياء منه - صلى الله عليه وسلم - في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا: «أنكتها لا يكني»[25].

فإن من قواعد الشريعة أن الحدود تدرأ وتدفع بالشبهات، حتى يشرع القاضي أن يلقن المتهم الحجة، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - لماعز ما قاله: «لعلك قبلت؟ أو غمزت أو نظرت؟»

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي رواه مسلم أنه قال: «فقال له: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه»[26].

وفي رواية أخرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى قومه، فقال: «أتعلمون بعقله بأسا، تنكرون منه شيئا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل، من صالحينا، فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضا، فسأل عنه، فأخبروه: أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة، حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم»[27].

حتى أنه جاء في بعض الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بشمه لعله قد شرب خمرا، فقال: «أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم...»[28] الحديث.

وقد ذكر ابن حجر في مناقب هذا الحديث: "وفيه التثبت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته؛ لما وقع في هذه القصة من ترديده، والإيماء إليه بالرجوع، والإشارة إلى قبول دعواه إن ادعى إكراها، أو خطأ في معنى الزنا، أو مباشرة دون الفرج مثلا أو غير ذلك، وفيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد، والتصريح فيه بما يستحيى من التلفظ به من أنواع الرفث في القول؛ من أجل الحاجة الملجئة لذلك، وفيه نداء الكبير بالصوت العالي، وإعراض الإمام عمن أقر بأمر محتمل لإقامة الحد؛ لاحتمال أن يفسره بما لا يوجب حدا أو يرجع"[29].

فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصرح بذلك اللفظ إلا لدفع ما يتوهم من شبهة، فقد لا يكون يدري ما الزنا، أو يظن أن التقبيل والغمز ونحو ذلك هو الزنا، فاحتاج الأمر إلى التصريح الذي ليس معه خفاء ولا لبس.

ومما يقوي ذلك ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز - حين قال زنيت -: لعلك غمزت، أو قبلت، أو نظرت إليها؟ قال: كأنه يخاف أن لا يدري ما الزنا»[30].

وقال ابن حجر - أيضا: "ويؤخذ من قوله: «هل أحصنت» وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها"[31].

فسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسلمي: «أنكتها؟» لم يكن في جلسة أنس ومرح وخمر، ولم يكن في لحظة غزل، ولم يكن في معرض رواية قصص جنسية، بل كان في موقف حكم وقضاء. فهذا رجل يأتي بنفسه ليعترف بجريمة الزنا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي هو قائد المسلمين، وهو القاضي الذي يقضي بين الناس بما شرع الله، وعلى القاضي أن يتأكد من الجريمة أمامه، ولا يتسرع في إصدار الأحكام دون تأكد ودراية، فلعل هذا الرجل لا يدري ما هو الزنا الموجب للحد، ولعله ظن أن القبلة أو اللمسة أو النظرة إلى ما حرم الله من المرأة هو زنا موجب للحد.

فهنا يجب على القاضي أن يستخدم الوسائل الممكنة للتأكد من ارتكاب هذا الرجل تلك الجريمة، فحياة هذا الرجل أمام قصاص نهايته الموت، وأي خطأ هنا لا يمكن إصلاحه أبدا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على ألا يقام على الرجل حد لا يستحقه، فهذا والله هو كمال العدل والتعقل والتدبر.

علاوة على أن هذه الألفاظ إنما تدل على غرام العرب آنذاك بالدقة المتناهية؛ إذ كانوا يعبرون عن كل وضع، وعن كل حالة بكلمة خاصة، علاوة على أن كثيرا منها هو من باب المجاز والكناية والتلميح الراقي، مما لا يفهمه الجهلاء الهجامون على التعرض لما لا يحسنون[32].

وخلاصة القول في ذلك؛ أن الحياء جزء أساسي من ضروريات الإسلام عامة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما أكد على ذلك؛ بدليل ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته الكرام، فالقاعدة أنه لا بد من التعريض عند ذكر ألفاظ يستحيى منها؛ ولكن إذا كان الأمر يتعلق بالأحكام فلا تعريض؛ إذ الحاجة ملحة للتصريح لبيان الموقف وسداد الحكم، وبذلك يتبين سقوط الشبهة وبطلانها.

الخلاصة:

  • لقدنزلالتشريعالإسلاميشاملاكلنواحيالحياةدقيقهاوجليلها،وقدوضحالنبي - صلىاللهعليهوسلم - كلأمورالدينأتمالتوضيح؛ليتركناعلىالمحجةالبيضاءليلهاكنهارها،لايزيغعنهاإلاهالك.
  • إنالأحاديثالواردةفيشأنأحكامالعلاقةالجنسيةمن جماع ومباشرة - أحاديث صحيحة في أعلى درجات الصحة، رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، بطرق مختلفة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي لا تطعن في حياء النبي صلى الله عليه وسلم.
  • لقدحرصالصحابة - رضياللهعنهم - علىالعملبقولالنبيصلىاللهعليه وسلم: "إن الله لا يستحيي من الحق"؛ فكانوا لا يتورعون عن السؤال عن كل ما يتعلق بالدين في شتى العبادات؛ بغية التفقه في الدين.
  • إذاكانالنبي - صلىاللهعليهوسلم - بصددالحديثعنبعضالأمورالتييستحيىالتلفظبألفاظها،كانيكتفيبالتعريضوالكناية،ولكنإذا كان الأمر يتعلق بالأحكام وأساسيات الدين، فكان طريقه - صلى الله عليه وسلم - هو التصريح؛ لأن الأمر هنا يترتب عليه أحكام خطيرة تصل إلى حد القتل.
  • لقدكانالنبي - صلىاللهعليهوسلم - حيياحتىوصفبأنهكانأشدحياءمنالعذراءفيخدرها،وكانيكتفيبالتلميح أو التعريض والكناية في كل ما يخدش الحياء من الألفاظ أو غيرها، وحياته - صلى الله عليه وسلم - مليئة بذلك، بل هذا نعته وصفته، ولكن هناك بعض الأمور التي تستوجب التصريح ولا يجوز فيها التعريض، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالدماء وقتل شخص أو حياته؛ فإن الله لا يستحيي من الحق.

 

 

(*) اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 2000م.

[1]. صحيح لغيره: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: البيوع، (2/ 5)، رقم (2136). وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره برقم (1700).

[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطلاق، باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا بالنية، (6/ 2307)، رقم (3625).

[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، (3/ 1103)، رقم (1179).

[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، (2/ 784)، رقم (595).

[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟ (12/ 138)، رقم (6824).

[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم، (4/ 143)، رقم (2433). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[7]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، (4/ 255)، رقم (4429). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4427).

[8]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، (4/ 251)، رقم (4421). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4419).

[9]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث هزال رضي الله عنه، رقم (21940). وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن في تعليقه على أحاديث المسند.

[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2634)، رقم (4344).

[11]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2634)، رقم (4341).

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: الحياء، (10/ 538)، رقم (6119).

[13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، (2/ 880)، رقم (734).

[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: الحياء، (10/ 537)، رقم (6117).

[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: الحياء، (10/ 538)، رقم (6118).

[16]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 539).

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيض، باب: غسل المحيض، (1/ 496)، رقم (315).

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الغسل، باب: إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد، (1/ 448)، رقم (267).

[19]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 449).

[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه، (1/ 451)، رقم (269).

[21]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 453).

[22]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، (13/ 100)، رقم (7362). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[23]. فيض القدير، المناوي، تحقيق: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ/ 1994م، (2/ 723) بتصرف.

[24]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، من حديث خزيمة بن ثابت، رقم (21907). وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات.

[25]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 667).

[26]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2634)، رقم (4341).

[27]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2637)، رقم (4352).

[28]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، (6/ 2636)، رقم (4351).

[29]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (12/ 128).

[30]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند ابن عباس، (5/ 4)، رقم (3000). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[31]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (12/ 129).

[32]. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص84.

 

  • الخميس PM 09:51
    2020-10-15
  • 1073
Powered by: GateGold