المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409067
يتصفح الموقع حاليا : 251

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن القرآن الكريم به ألفاظ تجرح الحياء

                  الزعم أن القرآن الكريم به ألفاظ تجرح الحياء(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم به ألفاظ تجرح الحياء؛ وذلك كلفظ "مني" في قوله عز وجل: )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37)( (القيامة)، ولفظ "الفروج" في قوله عز وجل: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور: 31)، ولفظ "الحور العين" في قوله عز وجل: )وزوجناهم بحور عين (20)( (الطور)، ولفظ "الترائب" في قوله عز وجل: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق)، إلى غير ذلك من الألفاظ**.

وجها إبطال الشبهة:

العربية الفصحى لغة مهذبة، ولقد نزل القرآن بها؛ فحافظ على نقائها، واستخدم من الأساليب أحسنها، ومن الألفاظ أعذبها، ومن التراكيب أفضلها.

وقد زعم بعض المغالطين أن بالقرآن الكريم ألفاظا تجرح الحياء؛ مثل: "المني" في قوله تعالى: )ألم يك نطفة من مني يمنى (37)( (القيامة)، ومثل: "الفروج" و "الفرج" في مثل قوله تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور)، وقوله تعالى: )التي أحصنت فرجها( (التحريم:12)، ومثل: "الحور العين" في قوله تعالى: )وزوجناهم بحور عين (20)( (الطور)، ومثل: "الترائب" في قوله تعالى: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق).

وهذا الزعم باطل مردود عليه من وجهين هما:

1)    استعراض معاني الكلمات التي استدلوا بها ينفي هذه الشبهة؛ إذ إن:

  • "المني": النطفة، وهي سائل مبيضي غليظ تسبح فيه الحيوانات المنوية وهو ماء الرجل الذي يكون منه الولد، فهل في التعبير به ما يخدش الحياء؟
  • "الفرج": هو الشق بين الشيئين، وكني به عن السوءة، والتعبير بالكناية أهذب من التصريح، فأي خدش للحياء في هذه الكناية؟
  • "الحور العين": هن نساء أهل الجنة وأطلق عليهن ذلك لحسنهن وجمال عيونهن الزائد، فهل في هذا ما يخدش الحياء؟
  • "الترائب": هي عظام الصدر مما يلي الترقوتين وموضع القلادة، وهذه تسمية شائعة عند العرب ولا حرج فيها.

2)  هل هذه المفردات هي ما يخدش الحياء؟ أم تلك النصوص الكاملة في الكتب المحرفة التي تمتلئ بما يهيج الشهوات ويصف الفواحش.

التفصيل:

إن هذه الكلمات التي ادعى بعضهم أنها تجرح الحياء: "المني"، "الفرج"، "الحور العين"، "الترائب" إنما هي في الحقيقة ألفاظ مهذبة تعبر عن معانيها في صراحة ووضوح مع الأدب الرفيع والحياء الجم، في أسلوب يربي الحياء وينشئه في النفوس، وتعبير جميل يزرع الفضيلة ويقيمها في المجتمعات، وهذا النبع الصافي هو الذي تربى عليه أصحاب الفضائل، والهمم العالية الذين ضربوا أروع الأمثلة في فضائل الأخلاق ومحاسن الأعمال، وإن الخاطر ليتساءل: كيف جرحت هذه الكلمات القرآنية حياء هؤلاء المجروحين في عدالتهم؟! ولماذا هم - من دون خلق الله كلهم - الذين أثرت في حيائهم وخدشته؟! وهم يتفوهون، بل ويفعلون ما هو أشد شناعة، وأعظم قبحا من ذلك، ويشيع في كتاباتهم وموروثاتهم الثقافية، ومروياتهم الدينية ما يندى له الجبين من الألفاظ التي تشمئز منها النفوس الطيبة وتقشعر منها القلوب الطاهرة.

إن هذه الكلمات لا يوجد أدق ولا أشد تهذيبا منها في مواضعها وسياقاتها، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها ليضعوها في أماكنها لما أدت نفس المعنى بنفس البلاغة والبيان والذوق المؤدب الرفيع؛ فاللغة مليئة بالألفاظ والكلمات التي تعبر عن نفس المعاني المرادة، ولكنها كلمات سوقية بعيدة عن الحياء؛ فابتعد التعبير القرآني عنها، وآثر اللفظ المهذب الذي يدل على المعنى ولا يثير الشهوة الجنسية، بل يسمو بالمشاعر ويوجهها نحو الكمال، ويضبط العواطف والغرائز إلى الصواب والرشاد.

ونحن ندعو الذين يزعمون هذا الزعم أن يتأملوا دقة القرآن وبلاغته في اختيار هذه الألفاظ للتعبير عن الدلالات المقصودة منها، كما ندعوهم أيضا إلى أن يأتوا لنا ببديل لهذه الألفاظ للتعبير عن هذه الدلالات بهذه الدقة القرآنية، إذا كانت الألفاظ التي استخدمها القرآن لا تعجبهم.

وهنا يجدر بنا أن نستعرض معنى كل لفظ من هذه الألفاظ ودلالته بتفصيل أكثر؛ ليتبين بطلان ما زعموا:

أولا. معاني الكلمات التي استدلوا بها تنفي هذه الشبهة:

  1. المني:

من خلال مطالعة المعاجم نجد أن هذا اللفظ يعني: النطفة، وهو سائل أبيض غليظ تسبح فيه الحيوانات المنوية، ومنشؤه إفراز الخصيتين، ونجد أن كل موضع أو سياق ورد فيه هذا اللفظ في القرآن الكريم، إنما كان حكاية لخلق الإنسان بأسلوب مهذب، وليس فيه ما يخدش الحياء.

فالقرآن الذي يصور لنا العلاقة بين المرأة والرجل في قوله عز وجل: )هن لباس لكم وأنتم لباس لهن( (البقرة: ١٨٧) يصورها بكناية بديعة؛ حيث شبه الزوجين وهما في مخدعهما باللباس المشتمل على لابسه، والمراد: قرب أحدهما من الآخر، واشتماله عليه كما تشتمل الملابس على الأجسام، أين هذا من الكلام الفاضح الذي ينشر صباح مساء في الروايات الفاضحة، وأغلفة المجلات والصحف، وما يشاهد في القنوات الفضائية من ممارسة الفاحشة بدون تستر كالحيوانات؟!

ولنتساءل: ما البديل إذا أردنا أن نتحدث عن قضية خلق الإنسان غير هذا اللفظ إن كنتم ترون أنه خادش للحياء؟

  1. الفرج:

تذكر المعاجم العربية أن "الفرج" هو: الثغر، والشق بين شيئين[1]، وما بين الرجلين، وكني به عن السوءة وغلب عليها وكثر حتى صار كالصريح، وهو قبل الإنسان أو دبره، ولعل هذا أرقى لفظ يمكن أن يطلق على العورة، وإلا فما البديل الأكثر تهذيبا، أو مراعاة للحياء إذا كان لفظ الفرج يجرح الحياء؟!

  1. الحور العين:

كان الأولى بمن ظن أن هذا اللفظ لفظ فاضح أن يرجع إلى أي تفسير أو معجم عربي؛ ليجد نفسه يجهل معنى من أبسط كلمات القرآن، ومنها الحور العين.

فالحور: جمع حوراء، وهي شديدة بياض العين، شديدة سوادها[2].

والعين: جمع عيناء، وهي واسعة العين التي استدارت حدقتها، ورقت جفونها، وابيض ما حواليها.

وهذا الوصف كما قال اللغويون والمفسرون: لا يكون في بني آدم، وإنما قيل للنساء: "حور العيون"؛ تشبيها لهن بالظباء والبقر في جمال عيونها.

وهذا الوصف ورد في القرآن الكريم لإحدى النعم التي يتنعم بها المؤمنون في الجنة جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا.

إن اللفظ الذي يجرح الحياء، أو اللفظ القبيح، هو ذلك الذي يستحي المرء أن يتلفظ به أمام الناس. والسؤال: هل يستحيي أحد من التلفظ بـ "الحور العين" أمام أحد؟!

  1. الترائب:

ومن هذه الكلمات لفظ "الترائب" في قوله عز وجل: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق)، وكان الأولى بالمعترض - ما دام يريد أن يثبت ذكاءه - أن يطالع كتب التفسير، أو حتى المعاجم؛ ليتعلم أولا، ثم ليزداد إعجابه وإيمانه بالقرآن الكريم، ولا يزال هكذا، يطالع ويتدبر ويتأمل، فيتعلم ويتبصر حتى يجد نفسه أشد المحبين للقرآن وأصدق الموقنين به، وأول من يصحح خطأ المتوهمين ويزيل لبس من أساء الفهم. إن كلمة الترائب جمع تريبة، وهي: أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة من يسرته. وقيل: هي موضع القلادة، أي ما بين الثديين. وقيل: هي عظام النحر والصدر، وقيل: هي عصارة القلب، ومنه يكون الولد.

وهذه الكلمة وردت في القرآن الكريم للتعبير عن المكان الذي ينشأ فيه الماء الذي يكون منه الولد؛ فهو في الرجل يخرج من بين "الصلب"، وفي المرأة يخرج من بين "الترائب"، وفي هذا ما فيه من الإعجاز العلمي الذي نحيل الجميع إلى مطالعته[3].

والسؤال التقليدي: ما الذي يجرح الحياء في هذا اللفظ؟ وإن كان يجرح الحياء فما البديل؟ ولماذا سكت عنه العرب؟

ثانيا. هل هذه المفرادات المهذبة هي ما يخدش الحياء؟ أم تلك النصوص الطويلة في الكتب المحرفة - المقدسة عند أصحابها - التي تمتلئ بما يهيج الشهوات ويصف الفواحش والمنكرات، فإذا كان المعترض يستنكر الألفاظ المذكورة في القرآن، فماذا عساه يقول عن تلك النصوص في العهدين القديم والجديد، ولننظر مثلا إلى "نشيد الإنشاد" الذي بلغ الغاية في وصف الفاحشة وفجاجة التعبير عن لقاء الرجل والمرأة الجنسي، فجاء فيه:

"نشيد الأنشاد الذي لسليمان: ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر. لرائحة أدهانك الطيبة. اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى. اجذبني وراءك فنجري. أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك.. لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون. ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد! نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة. ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته. صرة المر حبيبي لي. بين ثديي يبيت.. ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة. عيناك حمامتان. ها أنت جميل يا حبيبي وحلو، وسريرنا أخضر". (نشيد الإنشاد 1: 1 - 16).

"شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء". (نشيد الإنشاد 2: 6، 7).

"ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم! دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعة يدي صناع. سرتك كأس مدورة، لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن. ثدياك كخشفتين، توأمي ظبية. عنقك كبرج من عاج. عيناك كالبرك في حشبون عند باب بث ربيم. أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق. رأسك عليك مثل الكرمل، وشعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل. ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات! قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد. قلت: «إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها». وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر. لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين. أنا لحبيبي، وإلي اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل، ولنبت في القرى. لنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل نور الرمان؟ هنالك أعطيك حبي. اللفاح يفوح رائحة، وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة، ذخرتها لك يا حبيبي". (نشيد الإنشاد 7: 1 - 13).

وهذه قطوف يسيرة من النص الكامل، ولو أردنا الاستقصاء لنقلنا نشيد الإنشاد بنصه كاملا هنا.

وإذا كان المعترض يعتبر (المني، الفروج، الحور العين، الترائب) ألفاظا جارحة، فماذا يمكن أن يقول عما جاء في الكتاب المقدس - علاوة على ما ذكرنا - من تصوير نبي الله إبراهيم - عليه السلام - في سفر التكوين بأنه ديوث يتاجر بعرض امرأته، ويلقنها الكذب وينكر فحولته، وهي توافقه على ذلك وتسلم قيادها لفرعون: "وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراى امرأته: «إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر. فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته. فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك أختي، ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك». فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا. ورآها رءوساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى أبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال". (سفر التكوين 12: 11 - 16).

أو ما اتهم به داود - عليه السلام - من أنه يضاجع النساء زنا: "وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: «إني حبلى».. وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت».. فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب". (صموئيل الثاني 11: 2 - 27).

ثم تتوالى المشاهد الجنسية الفاضحة لتصل إلى ذروتها مع سيدنا لوط عليه السلام، والذي اتهم بأنه يمارس الجنس مع بناته فيحبلن منه، يقول الكتاب المقدس: "وقالت البكر للصغيرة: «أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: «إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما". (التكوين 19: 31 - 36).

والسؤال: هل يمكن تعليم الأطفال مثل هذا الكلام؟! إننا نحفظ القرآن الكريم للأطفال، وليس فيه كلمة واحدة نخجل منها، وماذا يمكن أن يقولوه للأطفال إذا سألوهم عن معنى: "وسكبوا عليهما زناهم"؟!

ثم ماذا يمكن أن يقولوه أيضا لو أن فتاة سألت عن معنى: "فحبلت ابنتا لوط من أبيهما"؟!

ونكتفي بهذا القدر الذي يظهر الفرق الواسع، والبون الشاسع بين التزام النص القرآني، وبين انحطاط المؤلفات البشرية وسقوطها على مدى آلاف السنين.

الأسرار البلاغية والإعجاز العلمي في هذه الآيات:

  • قوله عز وجل: )من مني يمنى (37)( (القيامة) أي يصب في الرحم، فإن قيل: ما الفائدة في قوله: )من مني يمنى(، قلنا: فيه إشارة إلى حقارة حاله؛ كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة؛ فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد على طاعة الله عز وجل، إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمـز؛ كمـا في قولـه تعالـى في عيسـى ومريــم: )كانا يأكلان الطعام( (المائدة: 75)، والمراد منه قضاء الحاجة[4].

وهنا يعلق الأستاذ سيد قطب بقوله: وهذه اللمسة )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36)( (القيامة: 36) هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات والأهداف والغايات والعلل والأسباب التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.

وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى: )ألـم يـك نطفـة من منـي يمنـى (37) ثـم كــان علقــة فخلــق فســوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39)( (القيامة)، فما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟

ألم يك نطفة صغيرة من الماء، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟! ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟! ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟!

ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟! مؤلفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟! والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي، وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته، والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر، وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، وهو خلية صغيرة ضعيفة لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟!

وفي النهاية.. من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة "الذكر والأنثى"؟ أي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكرا؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ بل من ذا الذي يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟!

إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير قال ـ عز وجل ـ: )فجعـل منـه الزوجيـن الذكــر والأنثــى (39)( (القيامة).

وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضا على الجنس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق التي تعالجها السورة: )أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى (40)( (القيامة).

بلى! سبحانه! فإنه لقادر على أن يحيي الموتي! بلى! سبحانه! فإنه لقادر على النشأة الأخرى! بلى! سبحانه! وما يملك الإنسان إلا أن يخشع أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضا.

وهكذا تنتهي السورة بهذا الإيقاع الحاسم الجازم، القوي العميق، الذي يملأ الحس ويفيض بحقيقة الوجود الإنساني، وما وراءها من تدبير وتقدير[5].

  • في قوله تعالى: )خلق من ماء دافق (6)( (الطارق)، والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة، وأريد بالماء الدافق المني، ودافق قيل: بمعنى مدفوق، على تأويل اسم الفاعل بالمفعول، وقيل من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلا من ماءين؛ ماء الرجل وماء المرأة؛ ولذا كان خلق عيسى - عليه السلام - خارقا للعادة؛ لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم، وبالامتزاج صارا ماء واحدا، ووصفه "بالدفق" قيل: باعتبار أحد جزئية، وهو مني الرجل، وقيل: باعتبار كليهما، ومني المرأة دافق أيضا إلي الرحم، ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل في قوله تعالى: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق)، أي: من بين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره والترائب، أي: ومن بين ترائب كل امرأة أي: عظام صدره، جمع تربية، وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدور، وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قول امرئ القيس:

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسجنجل[6]

ولكي تتضح وجوه الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)( لا بد من عرض السياق الذي وردتا فيه، وهو: قوله تعالى: )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10)( (الطارق). الماء الدافق: تعبير وصفي للمني؛ لأنه سائل تركيبه يماثل قطيرات الماء، إلا أنه حي تتدفق تكويناته وتتحرك بنشاط، ويصدق عليها الوصف بصيغة اسم الفاعل "دافق"؛ لدلالته علي الحركة الذاتية، وجميع الأوصاف عدا وصف الماء بالدافق تتعلق بالإنسان؛ لأن بدء خلقه هو محور الحديث والموضوع الرئيس، وهو المستدل به على إمكان الإرجاع حيا. وضمير "له" في قوله تعالى: )فما له من قوة ولا ناصر( لا يستقيم عوده إلى الماء، وإنما إلى الإنسان، والإرجاع هو إعادة الخلق للحساب بقرينة وقت الإرجاع يوم تبلى السرائر.

ولا توجد ضرورة لتشتيت مرجع الضمائر في )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6)( و "رجعه" في )إنه على رجعه لقادر (8» و )(فما له من قوة ولا ناصر (10)(، ولذا الأولى عود ضمير "يخرج" في )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( إلى الإنسان كذلك مثلها، خاصة أن المني لا يخرج بذاته كذلك، وإنما من الخصية، والوصف بالإخراج آية مستقلة كبيان متصل بأصل الحديث عن الإنسان وبيان القدرة المبدعة وسبق التقدير، ومكان الإعادة أظهر في إخراج الذرية من ظهور الأسلاف، والتلازم قائم بين إخراج الإنسان للدنيا وليدا وإرجاعه حيا، بينما لا تلازم بين إخراج المني وإرجاع الإنسان، وخروج ذرية الإنسان من الظهر مبين في قوله: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم( (الأعراف:١٧٢)، وقوله: )وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم( (النساء: ٢٣)، ولم يرد في القرآن فعل "الإخراج" متعلقا بالمني، بينما ورد كثيرا متعلقا بالإنسان؛ لبيان خروجه للدنيا وليدا وخروجه حيا للحساب، وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهر، وموضع خروجها علي طريق هجرتها، قطاع عرضي بين نشأة الغدة التناسلية في المنطقة الظهرية للجنين (الأسبوع 5 - 6) وهجرة أصولها الخلوية بين بدايات العمود الفقري والضلوع قبل انفصالها وتميزها.

والحقيقة العملية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهم الجنينية، ثم تخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري، وبدايات الضلوع؛ ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم، وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن؛ حيث الحرارة أقل وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية، وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني، إذا لم تكمل رحلتها[7].

والتعبير )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق) يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية، ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير والاقتدار والإتقان والإحكام في الخلق منذ تكوين البدايات في الأصلاب وهجرتها خلف أحشاء البطن ابتداء من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر، وحتى يولد الأبوان ويبلغا ويتزاوجا وتخلق الذرية، مما يماثل نطفة ماء التركيب عديمة البشرية من المني لكنها حية، تتدفق ذاتيا لتندمج مع نطفة نظير؛ فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين، ويستمر فعل الإخراج ساري المفعول؛ ليحكي قصة جيل آخر لجنين يتخلق؛ ليخرج للدنيا وليدا، وينمو فيغفل عن قدرة مبدعه، وكل هذا الإتقان المتجدد في الخلق ليشمل تاريخ كل إنسان، قد عبر عنه العليم الحكيم بلفظة واحدة تستوعب دلالتها كل الأحداث "يخرج"، فأي اقتدار وتمكن في الخلق والتعبير، ومع كل تلك المشاهد المتجددة، هل يرد مجرد هاجس علي الخاطر: أنبعث حقا ونحاسب؟!

  • من دلائل الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( أنه احتوى على تفاصيل الخلق الإنساني المشروحة في علم الأحياء، وقد عرفت أن بعض علماء الغرب الخبراء في علم الأجنة أعلنوا إسلامهم عندما رأوا الدقة التي تحدث بها القرآن عن أطوار الخلق ومراحله، ولا يعرف هذا في كتاب سابق، وإن العامة والخاصة يدركون أن بداية الخلق من ماء يمر بمجاري البول، تشرف عليه غدد معقدة متصلة بالجهاز البولي[8].

وهذا يتحقق في قوله تعالي: )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق) فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار.. إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل، وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية.. ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر. حتى كان نصف القرن الأخير؛ حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان!

والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير.. بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي.. هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يدا خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة. وتشي بأن هنالك حافظا من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل، ومن الإرادة والقدرة في رحلتها الطويلة العجيبة. وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته!

هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر؛ إذ إن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة.. هذه الخلية التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء؛ حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية تحول بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج! وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة: عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا.. وتعرف هذه الخلية الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة.. تعرف ماذا هي فاعلة وماذا تريد.. حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق! إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة.. عمارة الجسم الإنساني[9].

وقال المراغي: )فلينظر الإنسان مم خلق (5)( أي فلينظر بعقله وليتدبر في مبدأ خلقه؛ ليتضح له قدرة واهبه وأنه علي إعادته أقدر: )خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)(، حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا، بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري "سلسلة ظهره"، وترائبه هي عظام صدره، وإذا رجعنا إلي علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب، فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينه يجاور الكلي ويقع بين الصلب والترائب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع، فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما، وفي إمدادهما بالدم الشرياني، وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم، وجاء به رب العالمين، ولم يكشف العلم هذا إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب، هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف؛ فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم، وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه؛ فتقف الخصية في طريقها، ولا تنزل إلى الصفن، فتحتاج إلى عملية جراحية، وإذا هدى الفكر إلى كل هذا في مبدأ خلق الإنسان فهذا يسهل علينا أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث في اليوم الآخر، قال ـ عز وجل ـ: )إنــه على رجعــه لقــادر (8)( (الطارق) أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء، قادر أن يرده حيا بعد أن يموت.

واقتدار الخالق شاخص في كل العرض، بينما يتملى الخيال مشاهد أعرضت عن الإنسان فعبرت عنه بالغائب في ومضات تعريه من الخيلاء، وتفاجئه بأصله ومصيره طاوية حياته ومماته، وكأنه لم يكن في مقابل مشهد استكباره في تبجح صارخ يعلنه الاحتجاج المستهل بحرف الفاء؛ ليفصح بأصل دلالته على التعقيب عن محذوف يكشف ما يجول في طوية نفسه: )فلينظر الإنسان مم خلق(؛ كأنه صيحة مدوية مؤنبة تقول: ألم تحدثك نفسك؟ وليس للإنسان في تلك المحاكمة إلا حضور باهت داخل قفص الاتهام في زاوية من المخيلة، بينما تشخص عيانا أدلة التجريم؛ وكأنه تعالى يقول: )أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى (40)( (القيامة) وهذا المشهد الأصغر لتعري السرائر مثال مشهد يوم عظيم )يوم تبلى السرائر (9)(، فتأمل الاتساق في عرض المشاهد تصوير عجيب يكشف ما قبل فتح الستار، وحتى بعد ضمه تبقى في الخاطر شتى صور العقاب، وتؤز في المسامع نيرانا تتشوق لمن يشك لحظة في قدرة الخلاق سبحانه! أسلوب مذهل جامع فريد لا يبلغه اليوم أي كتاب ينسب للوحي قد بلغ الذورة في التصوير وثراء المعنى، مع الغاية في إيجاز اللفظ، وأما التفاصيل العلمية التي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل، فهي بعض دلائل النبوة التي تسطع اليوم أمام النابهين[10].

 

(*) موقع زكريا بطرس.

[1]. لسان العرب، ابن منظور،مادة: فرج.

[2]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: حور.

[3]. من آيات الإعجاز العلمي: خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1429 هـ/ 2008م، ص359.

[4]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.

[5]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج6، ص3878: 3881 بتصرف.

[6]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.

[7]. مع الطب في القرآن، د. عبد الحميد دياب، د. أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، د. ت.

[8]. نحو تفسير موضوعي لسور القرآن، محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، ط8، 1426هـ/ 2005م، ص511.

.[9] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م.، ج6، ص3879.

[10]. مع الطب في القرآن، د. عبد الحميد دياب، د. أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، د. ت.

 

  • الاثنين PM 04:03
    2020-09-07
  • 1098
Powered by: GateGold