المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409078
يتصفح الموقع حاليا : 375

البحث

البحث

عرض المادة

توهم تناقض موقف القرآن الكريم من العرب مدحا وذما

               توهم تناقض موقف القرآن الكريم من العرب مدحا وذما(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن القرآن يناقض بعضه بعضا؛ حيث مدح العرب في قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: ٢)، وذمهم في قوله عز وجل: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا( (التوبة: ٩٧)، فكيف يكون هذا**؟!

وجوه إبطال الشبهة:

الأصل في بلاغة الكلام ألا يناقض بعضه بعضا، بل يجب أن يكون في إطار فكري واحد؛ ليحقق معنى متسقا وهذا ما نلحظه بوضوح تام في السياق القرآني منسق الأداء معجز النظم، أما ما توهمه بعضهم من اضطراب موقف القرآن من العرب مدحا وذما فوهم باطل من وجوه:

1)  اللغة تفرق بين كلمتي: "الأعراب" و "العرب"؛ فكلمة "العرب" تختلف في مدلولها عن كلمة "الأعراب"، فكل الأعراب عرب، ولا عكس، وقد بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - من العرب، وليس من الأعراب، وعليه فإن الآية الأولى نزلت في "العرب"، والثانية في "الأعراب".

2)  لو لم يكن العرب على الرجس والضلالة ما بعث الله فيهم رسولا ليزكيهم؛ فليس بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم بمدح لهم بل هو امتنان عليهم؛ ومن ثم لا يوجد تعارض بين الآيتين.

3)  الذم الذي وجه للأعراب لم يوجه إليهم حال إيمانهم، وكذلك لم يوجه إليهم جميعا، ولم ينف عنهم وجود صفات طيبة تؤهلهم لقبول الإيمان والتحسن معه، مما لا يمنع أن يوجه إلى بعضهم الذم، وإلى الباقين المدح.

التفصيل:

أولا. هناك فرق بين "الأعراب" و "العرب" في اللغة، وقد بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - من العرب غير الأعراب.

فـ "العرب" هم سكان القرى المستقرون في أماكن ثابتة، وبدهي أن الذي يحيا في القرية ويتوطنها له جيران، وله قانون يحكمه، وله إلف بالمكان، وإلف بالمقيمين، ويتعاون مع غيره، ويتطبع بسكان القرية، ويألفهم ويألفونه، ومع الإلف والائتلاف يكون اللين في التعامل، بخلاف من يحيا في البادية؛ فهو يمتلئ بالقسوة، والفظاظة والشراسة؛ لأن بيئته نضحت عليه، والوحدة عزلته[1].

وأما "الأعراب" من سكان البوادي، فليس لهم استقرار في مكان، إنما يتتبعون مواضع الكلأ، وليس لهم توطن، ولا أنس لهم بمقام ولا بمكان، ومعنى ذلك أنه ليس لهم سياسة عامة تحكمهم في تلك البادية، وكل واحد منهم متفرد برأيه، أو متبع لرئيس القبيلة، وما داموا بهذا الشكل، وليس عندهم توطن يوحي بالمعاشرة، التي تقتضي اللين في الجانب وحسن التعامل؛ فإنه لذلك يقال عن كل واحد منهم "مستوحش"، أي: ليس له ألفة بمكان، أو جيران، أو قانون عام.

ولما كان ذلك من شأن الأعراب، ودل على قصورهم عن المرتبة الكاملة؛ فصاروا دون من سواهم، وترتبت على ذلك أحكام ثلاثة:

  1. أنهم لا حق لهم في الفيء ولا الغنيمة.
  2. إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقيق التهمة.
  3. أن إمامتهم لأهل الحاضرة ممنوعة؛ لجهلهم بالسنة، وتركهم الجمعة[2].

لذا فإنهم منفصلون تماما عن العرب في الصفات والأحكام، فإن كان الله - عز وجل - قد امتدح العرب في آية سورة الجمعة، فإنه في آية سورة التوبة لم يذمهم، بل ذم الأعراب الذين تقدم وصفهم؛ إذن فلا وجه للتعارض بين الآيتين.

ثانيا. قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة): ليس بمدح لهم وإنما هو امتنان عليهم، وفيه معنى أنهم كانوا على الرجس والضلالة، وإلا ما بعث فيهم رسول ليزكيهم.

 والتزكية مشتقة من: زكا يزكو زكاة، وهي كلمة متضمنة لمعنيين: الطهارة والنماء؛ لذا كانت مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع العرب الأميين ذات شقين:

الأول: تطهير العقول من خرافات الشرك وأباطيله، وتطهير القلوب من قسوة الجاهلية وغلظتها، وتطهير الإرادات من الشهوات البهيمية، وتطهير السلوك من رذائل الجاهلية.

والثاني: تنمية العقول بالمعرفة، والقلوب بالإيمان، والإرادات بالتوجه إلى عمل الصالحات، والسلوك بالتزام العدل والإحسان ومكارم الأخلاق، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد علم العرب الكتاب والحكمة، وزكاهم أعظم تزكية بما هدم فيهم من أفكار الوثنية، وانحرافات الجاهلية، وما بنى فيهم من معارف التوحيد، وفضائل الإيمان، فكانوا - بحق - خير أمة أخرجت للناس؛ كما وصفهم عز وجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)( (آل عمران).[3]

ثم إن معنى الأميين أنهم لا يقرأون ولا يكتبون، كما أن الله عز وجل تحدث عنهم في الآية نفسها وسماهم ضالين قبل النزول، وفي غيرها سمى عصرهم عصر الجاهلية، وسمى تصرفاتهم حمية الجاهلية، وسمى سلوكهم موتا وكفرا، وجهلا وظلاما، ولكنه أرسل رسوله؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور[4].

وإن انتفى المدح عن هؤلاء العرب قبل البعثة، فقد انتفى وجه التعارض المتوهم بين مدحهم مرة، وذمهم أخرى.

ثالثا. الذم الذي وجهه الله إلى الأعراب لم يوجه إليهم جميعا، ولم يوجه إليهم حال إيمانهم، ولم ينف عنهم وجود صفات طيبة تؤهلهم لقبول الإيمان منهم، وهذا يثبت من عدة وجوه:

  1. ورود هذه الآية في فئة محددة من الأعراب هم أسد وغطفان.
  2. مذمة الله - عز وجل - للأعراب كان في حال كفرهم، ولعل في صيغة التفضيل "أشد" مع سياق الآيات ما يدل على أنه عز وجل يقارن كفرا بكفر؛ مما يؤكد أن حديثه عن الكفار منهم فقط، فهم الأشد كفرا من منافقي المدينة، قال تعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا( (التوبة: ٩٧).

أما عندما تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم فإن الأمر يتغير تماما، فالذي يسلم يتغير من الغلظة للرقة، وقد كان حال سيدنا عمر بن الخطاب قبل الإسلام، ثم حاله بعده خير برهان، على الرغم من أنه لم يكن من الأعراب.

  1. الأعراب ليسوا كلهم بنفس الغلظة والجفاء، وإنما هو من باب وصف الجنس بوصف لبعض أفراده[5]، وقد امتدح الله الأعراب المؤمنين بعد ذلك في نفس سورة التوبة بنص قوله تعالى: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)( (التوبة)، وبالنظر في الآيات السابقة نجد الدليل القاطع على امتداح الله لبعض الأعراب على حسن إسلامهم، وكذا في قوله تعالى: )وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90)( (التوبة).
  2. ثم إن اتصافهم بصفات الغلظة والخشونة لم ينف عنهم وجود الصفات الأخرى الحسنة، والتي تحمد فيها الخشونة والغلظة، وهي الشجاعة، والصراحة، والكرم، والإباء، وهي أقرب إلى الخير إذا اعتقدوا وآمنوا به[6].
  3. ثم إن اتصافهم بالغلظة والجفوة يرجع إلى أسباب، هي:
  • تربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا.
  • بعدهم عن مشاهدة العلماء، ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانوا أطلق لسانا بالكفر من منافقي المدينة.

وهذا الحال تغير بالطبع بعد الإسلام؛ إذ انضموا تحت لواء واحد بإمام واحد، هو النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا يعتادون الجماعة، التي تجمع أرواح المسلمين في كل شيء من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأعياد، وحقوق الأخوة والجيران، والأضياف، فيتنازلون عن كثير من غلظتهم وجفوة طباعهم، بل وتنسلخ منهم انسلاخا مع انطوائهم تحت هذا اللواء الجديد، ومع الوقت تذوب شخصياتهم في هذه التعاليم، فيصير الواحد منهم مسلما يوجه أمره لله، ينقاد لتعاليمه، وتصير أخلاقه كما يحب الله ورسوله، ويتحول من الطباع الغليظة إلى المشاعر الرهيفة: من عطف على الفقراء والمساكين، وبكاء من خشية الله... إلخ.

ومن كل ما سبق يتبين أن الذم الذي وجهته الآية للأعراب لم يشملهم كلهم، بل إن فيهم من امتدحه القرآن وأثنى عليه، مما ينفي التعارض بين الآيتين، هذا إذا افترضنا أن الآية في سورة الجمعة تكلمت عنهم، وهذا غير صحيح[7].

الأسرار البلاغية في الآيتين:

  • قال عز وجل: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97)( (التوبة)، وقال ـ عز وجل ـ: )هـو الذي بعث في الأميين رسـولا منهـم( (الجمعة: 2).

الآية الأولى استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذرين من الأعراب، والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب، فلما تقضى الكلام على أولئك توجه إلى بقية الأعراب[8].

والمتأمل في قوله تعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو(، أي: كائنا من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية: إما باعتبار الجنس؛ فلا تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمي، أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر؛ وفي هذه الحالة تدل على أنه أمي، وقد اختار هذا الرأي جمع من المفسرين، فالمعنى: رسولا من جملتهم أميا مثلهم، )يتلو عليهم آياته( مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم[9].

  • في قوله: )في الأميين( للظرفية: أي ظرفية الجماعة، ولأحد أفرادها، ويفهم من الظرفية معنى الملازمة، أي رسولا لا يفارقهم، فليس مارا بهم كما يمر المرسل بمقالة، أو بمألكة يبلغها إلى القوم ويغادرهم[10]. وفي وصف الأمي بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من المقابلة؛ لأن المتعارف أن التعليم والتلاوة مضادة للأمية.

تلك كانت بعض الأسرار البيانية والملامح البلاغية في الآيتين الكريمتين، والتي توضح بما لا يدع مجالا للشك عظمة هذا الكتاب الحكيم، وإعجازه في نظمه ومفرداته، ومعانيه، فهو حقا كما وصفه ربنا عز وجل: )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه( (فصلت: ٤٢).

 

 

(*) الرد على كتاب "أخطاء إلهية في القرآن الكريم"، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.

[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5435: 5437 بتصرف يسير.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص231: 233 بتصرف.

[3]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/ 2000م، ص93.

[4]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج2، ص873.

[5]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسيره الآية 97 التوبة.

[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص12.

[7]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص546.

[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ص10.

[9]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.

[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج13، ص207.

 

  • الاثنين PM 03:50
    2020-09-07
  • 1077
Powered by: GateGold