المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412258
يتصفح الموقع حاليا : 348

البحث

البحث

عرض المادة

توهم خطأ القرآن الكريم في إعادة ضمير الجمع على مثنى

                     توهم خطأ القرآن الكريم في إعادة ضمير الجمع على مثنى(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض الواهمين أن القرآن الكريم جانب الصواب، فأعاد ضمير الجمع على المثنى، وذلك في قوله عز وجل: )هذان خصمان اختصموا في ربهم( (الحج: ١٩)، والصواب في زعمهم أن يقال: "هذان خصمان اختصما"**.

وجه إبطال الشبهة:

الأصل في الضمير أن يوافق الاسم الذي يعود عليه ويطابقه في نوعه: التذكير والتأنيث، وفي عدده: الإفراد والتثنية والجمع.

ومن لا يتأمل قوله تعالى: )هذان خصمان اختصموا في ربهم( (الحج: ١٩)، يظن أن في الآية تناقضا واختلافا بين الضمير والاسم الذي يعود عليه؛ فالضمير "واو الجماعة" للجمع، ويعود على المثنى وهو "خصمان"، وهذا مخالف لقواعد اللغة، والصواب في زعمهم أن يقال: "هذان خصمان اختصما".

ويمكن الرد على ذلك بما يلي:

  • المثنى الحقيقي لفظا ومعنى في اللغة العربية: ما كان واحده فردا في الوجود، وهذا القسم إذا وصف أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.
  • المثنى لفظا لا معنى، وضابطه ما كان واحده فردا من عدة، وليس فردا واحدا، فهذا القسم إذا وصف أو استؤنف الحديث عنه؛ جاز فيه مراعاة اللفظ أو مراعاة جانب المعنى، وبالنسبة للآية فقد روعي فيها جانب المعنى؛ فأعاد الضمير جمعا على "خصمان" المثنى اللفظي.

التفصيل:

 المثنى في اللغة نوعان: مثنى في اللفظ والمعنى، ومثنى في اللفظ فقط.

فالأول. المثنى الحقيقي: وهو ما كان لفظا ومعنى، نحو: رجلان، وهذا لا يجوز أن يستأنف الحديث عنه إلا بصيغة المثنى، وذلك في مثل قوله عز وجل: )قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما( (المائدة: ٢٣)، فلوحظ أن الله تعالى استأنف الكلام على الرجلين بصيغة المثنى، ولم يستأنفه بصيغة الجمـع، وليــس المثنـى في الآيــة الكريمـة: )هـذان خصمان اختصموا( من هذا النوع.

والثاني. المثنى لفظا لا معنى - وهو بيت القصيد في هذه الشبهة - وقد تعلق بكلمة الخصم التي ثنيت؛ ذلك أنها تطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت الخصومة، كما في قوله تعالى: )وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21)( (ص).

وفي آية سورة الحج: )هذان خصمان اختصموا(؛ لمراعاة تثنية اللفظ أتى باسم الإشارة الموضوع للمثنى "هذان"، ولمراعاة العدد أتى بضمير الجماعة في "اختصموا"[1].

قال الرازي: احتج من قال: أقل الجمع اثنان بقوله تعالى: )هذان خصمان اختصموا(، والجواب: "الخصم" صفة وصف بها الفوج، أو الفريق؛ فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، فقوله: "هذان" إشارة للفظ، و "اختصموا" إشارة للمعنى، كقوله تعالى: )ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا( (محمد: ١٦)[2].

قال الألوسي: وذكر أن لفظ "الخصم" في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد المذكر وغيره، وقال أبو البقاء: أكثر الاستعمال توحيده؛ فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء[3].

وقال الشعراوي: كلمة "خصم" من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد، والمثنى، والجمع، وكذلك المذكر والمؤنث، كما في قوله: )وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21)( (ص)، وكذا قوله تعالى: )خصمان بغى بعضنا على بعض( (ص: ٢٢).

 والمراد بقوله: )هذان خصمان(، قوله تعالى: )وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب( (الحج: ١٨)، والخصومة تحتاج إلى فصل بين المتخاصمين، والفصل يحتاج إلى شهود، ولكن إذا جاء الفصل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود )وكفى بالله شهيدا (28)( (الفتح) [4].

هذا فضلا عن أن المثنى الحقيقي واحده فرد في الوجود، كما ألمحنا آنفا.

وعلى هذا فإنه لا يوجد أي تجاوز في الآية السابقة، بل يصح تماما عود ضمير الجمع على المثنى اللفظي، وهذا مما لا تنكره العربية ولا تأباه.

الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:

  • في التحول عن التثنية إلى الجمع في قوله: )هذان خصمان اختصموا في ربهم( سر بلاغي؛ حيث أسند فعل الاختصام إلى ضمير الجماعة "اختصموا"، لا إلى ضمير التثنية "اختصما" الملائم لظاهر السياق.

ولكـي نستوضـح سـر هذا العـدول في الآيـة الكريمـة نود أولا أن نلاحظ أن هذه الآية مسوقـة لبيـان مصيـر كـل مـن الخصميـن - المؤمنين والكفار - يوم القيامة: )فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20)( (الحج)، )إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) ( (الحج).

وفي آية سابقة على تلك الآية يخبرنا الله - عز وجل - بأن يوم القيامة هو موعد الفصل بين الأديان، وأصحاب الملل المختلفة: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد (17)( (الحج).

وقد جاء فعل "الاختصام" - الذي تمثل فيه العدول عن التثنية إلى الجمع - بصيغة الماضي "اختصموا"، مما يدل على أن الخصومة بين الخصمين قد حدثت قبل زمن الإشارة إليهما "هذان خصمان".

إن "الخصمين" المشار إليهما في الآية الكريمة هما في الأصل تلك الفرق أو الملل المختلفة التي حددتها الآية السابقة عليها؛ وعلى ذلك فإن التثنية في "هذان خصمان" هي - والله أعلم - للدلالة على أن تلك الفرق سوف تستحيل يوم القيامة - بعد أن يفصل الله بينها - إلى فريقين؛ مؤمنين وكفار فحسب.

أما الجمع في "اختصموا" فمرده إلى الحال التي كانت عليها تلك الفرق في الدنيا، من تعدد التسميات، واختلاف المذاهب، وتضارب المسالك في قضية العقيدة وتصور الألوهية؛ وعليه فلا يجوز الإخبار عن الخصومة والاختلاف بين تلك الطوائف المتعددة بطريق التثنية "اختصما"[5].

  • هناك استعارة تمثيلية في قوله عز وجل: )قطعت لهم ثياب من نار(، والإرداف بقوله: )يصب من فوق رءوسهم الحميم(، فلا نكاد نلمح موطنا بلاغيا في إشارة من إشارات النظم الحكيم المعجز إلا ويلاحقنا آخر؛ ففي قوله تعالى: )قطعت لهم ثياب من نار( استعارة تمثيلية؛ حيث جعل تقطيع الثياب وتفصيلها على قدود الكفار بمثابة الإحاطة بهم، مع التهكم الذي ينطوي عليه، أي: أنها تشتملهم وتحتويهم كما تشتمل الثياب لابسها وتحتويه، أما الروعة فهي كامنة في قوله: )يصب من فوق رءوسهم الحميم(، وهو ما يسمى بـ "الإرداف"؛ فإن الثياب تشمل جميع الجسد غير الرأس، وأفرد الرءوس بالذكر بقوله: "يصب"[6].

وقوله عز وجل: )فالذين كفروا(، يعنى من الفرق الذين تقدم ذكرهم. )قطعت لهم ثياب من نار(، أي: خيطت وسويت، وشبهت النار بالثياب؛ لأنها لباس لهم كالثياب، وقوله: قطعت، أي: تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار، وذكر بلفظ الماضي؛ لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق.

وعلى هذا فالخطأ ليس في القرآن، إنما فيمن قصر فهمهم عن إدراك بلاغة القرآن.

 

 

(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.

www.saaid.net. . www.islameyat.com. www.ebnmaryam.com

[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص229.

[2]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.

[3]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.

[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج16، ص9756.

[5]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص99، 100.

[6]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج6، ص417.

 

  • الاثنين PM 03:28
    2020-09-07
  • 1714
Powered by: GateGold