المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412536
يتصفح الموقع حاليا : 381

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن الاختلاف اللفظي بين الآيات المتشابهة لا دلالة له

               الزعم أن الاختلاف اللفظي بين الآيات المتشابهة لا دلالة له(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أنه لا قيمة للاختلاف اللفظي بين الآيات المتشابهة في القرآن الكريم، ويمثلون لذلك بقوله عز وجل: )فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)( (التوبة)، وقوله عز وجل: )ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)( (التوبة) **.

وجوه إبطال الشبهة:

في القرآن الكريم آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، والمحكم ما لا تعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، والمتشابه منه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى.

ويزعم بعض مثيري الشبهات حول القرآن الكريم أن الخلاف في اللفظ بين المتشابه في القرآن الكريم لا فائدة منه، وهو خلاف ظاهري، ومثلوا لهذا بقوله عز وجل: )فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)( (التوبة)، وقوله تعالى: )ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم( (التوبة: ٨٥)، ويزعمون أن الاختلاف بين الآيتين اختلاف يسير بين بعض الألفاظ، ولا يغير في المعنى قليلا ولا كثيرا. وفات هؤلاء إدراك ما بين الآيتين من اختلاف واضح في المدلول والسياق.

وزعمهم هذا مردود من وجوه:

1)  أن الآيتين وإن تشابهتا في الألفاظ، فقد اختلفتا في السياق؛ إذ أراد بالأولى: قوما من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها، وأراد بالثانية: أقواما آخرين، والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة، لم يكن ذكره مع بعضهم مغنيا عن ذكره مع الآخرين.

2)  أن التفاوت اللفظي بين الآيتين ناشئ عن تفاوت في المدلول، والمعنى المراد التعبير عنه، وهذا حاصل في أربعة وجوه، وهي:

  • قوله عز وجل: )فلا تعجبك(: "الفاء" لمناسبة التعقيب والترتيب، وقوله: )ولا تعجبك( "الواو" لمناسبة عطف نهي على نهي قبله، ولا تفريع فيها، والمعني: "لا تصل ولا تقم ولا تعجبك".
  • قوله )أموالهم ولا أولادهم( مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد علي انفراد، وقوله: )أموالهم وأولادهم( نهي عن إعجاب المجموع، ويتضمن النهي عن الإعجاب بكل واحد.
  • قوله عز وجل: )ليعذبهم( وقوله: )أن يعذبهم( بالتناوب بين "اللام" و "أن"، تنبيها على أن التعليل في أحكام الله محال، وأنه أينما وردت، فمعناه: "أن"، ومثله في القرآن كثير.
  • قوله عز وجل: )في الحياة الدنيا( ورد على الأصل، لأنه في سياق الحديث عن أموالهم في حياتهم، أما قوله: )الدنيا( فورد بعد ذكر موت المنافقين في الآية التي قبلها، فهم بمنزلة الأموات، وحياتهم لا حياة فيها.

3)  أن في تكرار[1] المعنى وتعدد النزول - لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين - قوة في تقرير ما نزل وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال المخاطب، خصوصا والمنهي عنه حقيق بذلك؛ لعموم البلوي بمحبته، والإعجاب به، مما يوجب التحذير منه مرة بعد مرة.

التفصيل:

أولا. لا يوجد في القرآن ما يعد من قبيل تكرار النصوص بما يغني أحدها عن الباقي، بل إن النص القرآني إذا ما اتفق مع نص آخر، فإن الأداء الخاص ومقتضيات الأحوال تختلف، ومن ينظر إلى خصوصيات الأحوال ومقتضياتها، يعلم أن هذا تأسيس، وليس تكرارا، فقد تحمل آيتان معنى عاما واحدا، ولكن كل آية تمس خصوصية ما.

قال أبو علي في تعليقه على آيتى سورة التوبة: ظاهره أنه تكرير، وليس بتكرير؛ لأن الآيتين في فريقين من المنافقين، ولو كان تكريرا، لكان - مع تباعد - لفائدة التذكير، وقيل: أراد بالأولى: لا تعظمهم في حال حياتهم؛ بسبب كثرة المال والولد، وبالثانية: لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق[2].

ثانيا. ثمة تفاوت بين الألفاظ المستخدمة في الآيتين، كل وما يتناسب مع طبيعة السياق الوارد فيه، وهذا التفاوت حاصل بين هاتين الآيتين من وجوه أربعة؛ هي:

  1. قوله تعالى في الآية الأولى: )فلا تعجبك( بـ "الفاء"، وقوله: ولا تعجبك( بـ "الواو" في الآية الثانية، وذلك أن الآية الأولى وردت بعد قوله: ولا ينفقون إلا وهم كارهون (5)( (التوبة)، فوصفهم بأنهم كارهون للإنفاق، وإنما كرهوا ذلك الإنفاق؛ لأنهم معجبون بكثرة تلك الأموال؛ فلهذا المعنى نهاه الله عن ذلك الإعجاب بـ "فاء التعقيب"، وفي الثانية: لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف "الواو"[3].

وخلاصة القول: أنه جيء بـ "الفاء" هنا لمناسبة التعقيب، والمعنى: لا ينفقون إلا وهم كارهون للإنفاق، معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهى عن الإعجاب المتعقب له، وجيء بـ "الواو" لمناسبة عطف نهي على نهي قبله[4]؛ أي: ولا تصل، ولا تقم، ولا تعجبك.

  1. أثبت "لا" في قوله: )أموالهم ولا أولادهم(، وأسقطها في الآية الثانية: )وأولادهم(، ولهذا التفاوت مدلولان هما:

الأول: أن ذكر "لا" في الآية مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد على انفراد، ويتضمن ذلك النهي عن المجموع. وإسقاط "لا" في الثانية نهي عن إعجاب المجموع، ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد؛ فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين"[5].

الثاني: في إسقاط "لا" في الآية الثانية دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين، وإنما هي في الأولى؛ لزيادة التأكيد، أي: أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد، وكان إعجابهم بأولادهم أكثر[6].

  1. قوله في الآية الأولى: )إنما يريد الله ليعذبهم(، وفي الثانية: )إنما يريد الله أن يعذبهم(، فيه تنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال، وأنه أينما ورد حرف "اللام"، فمعناه كقوله: )وما أمروا إلا ليعبدوا الله( (البينة: ٥) أي: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله.

و "اللام" هنا في "ليعذبهم" لام تدخل على الفعل، واسمها "لام العاقبة"، وهي تعني أننا ربما نقوم بالفعل لهدف معين، ولكن قد تكون عاقبته شيئا آخر غير الذي قصدناه، بل تكون عكس الذي قصدناه، ومثاله قول الحق عز وجل: )فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا( (القصص: ٨) [7]، وهكذا الحال هنا؛ فالمال والأولاد نعم لم يقصد الله من ورائها عذاب هؤلاء، لكنهم بعملهم غير الشرعي استحقوا العذاب بعد أن فتنوا بنعم الله عليهم؛ إذن هي "لام العاقبة"[8].

  1. قوله تعالى في الآية الأولى: )في الحياة الدنيا(، وفي الثانية: )في الدنيا(، فذكر "الحياة" في الأولى على الأصل وحذفها في الثانية؛ تنبهيا على خسة الدنيا"[9]، فهي لا تسمى "حياة"، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على تمام دناءتها.

ولما تقدمها ذكر موت المنافقين ناسب أن لا تسمى "حياة "[10]؛ فقد صاروا إلى حياة أخرى، وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثا[11].

ثالثا. الآيتان تتلاقيان في المعنى العام مع احتفاظ كل آية بنظمها المتسق مع سياقها، ولو اعتبرنا أن تكرار النهي حاصل بين الآيتين، فالمنهي عنه حقيق بذلك؛ لعموم البلوى بمحبته والإعجاب به[12].

وتجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه، ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين.

وإن أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه فلا حرج في ذلك؛ ذاك أن أشد الأشياء جذبا للقلوب واستهواء لها، هو الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان بهذه المنزلة من التغرير والإغواء يجب التحذير منه مرة بعد مرة[13].

وما دام النهي في الآيتين على هذه الدرجة من الأهمية؛ فلا ضير إن كرره القرآن مع احتفاظ كل نهي بنظمه؛ بما لا يغني أحدهما عن الآخر، ويبقى مجمل النهي عالقا في الذهن ماثلا للأعين؛ علها تمتثل.

الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:

في الآيتين اتصال من جهة الدلالة، وانفصال من جهة الألفاظ، وهذا الوجه الأخير هو ما أغفله هؤلاء، وقالوا بعموم الاتصال بين الآيتين، ولعل هذا الخلاف بين الألفاظ في الآيتين موطن البلاغة فيهما، ولعل القارئ يقف على هذا الرأي إن أدرك الفرق أولا، ثم التمس وجه اتساقه في سياقه الذي ذكر فيه ثانيا، ومن أسرار هذه المخالفة:

  • العطف بـ "الفاء" في قوله تعالى: )فلا تعجبك(؛ لمناسبة التفريع قبلها على مذمة حالهم في أموالهم[14]؛ ولذلك عطف بـ "الواو" في الثانية، فقال: )ولا تعجبك(؛ لعدم التعلق؛ ولمجيئها من قبيل عطف نهي على نهي[15].
  • في قوله تعالى: )أموالهم ولا أولادهم(، أثبت "لا" مراعاة للترتيب، فأراد أن يبتدئ بالأدنى، ثم يترقى إلى الأشرف[16]. وفي الآية الأخرى ذكر )أموالهم وأولادهم( بالعطف بـ "الواو"؛ للتساوي بينهما في التحقير في نظر المسلمين، فناسبه إسقاط "لا"؛ ليدل على عدم التفاوت بينهما؛ فكلاهما مقصود، ومضرته لا تقل عن الآخر.
  • قوله تعالى: )أن يعذبهم( وفي الأخرى )ليعذبهم( فقد قدرت "أن " بعد "اللام"، وهو كثير في الاستعمال، ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ، وهو تفنن[17].
  • وقوله تعالى: )في الدنيا( ذكر الصفة، وحذف الموصوف، وفيه تنبيه على كمال ذمها، فلقد بلغت في الخسة والمهانة، إلى حيث إنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة، بل يجب عند ذكرها الاقتصار على لفظ الدنيا[18]، فلقد أصبحت الصفة علما على الموصوف، فإن قيل الدنيا فقط علمت أن هذه الصفة إن أطلقت أريد بها "الحياة"، وفي هذا الأسلوب من التزهيد فيها، والتحقير من شأنها ما تغني الإشارة إليه عن ذكره.

هذا وإن التقت الآيتان في المعنى العام فليس فيه تكرار للمعنى، خصوصا والمنهى عنه حقيق بذلك؛ لعموم البلوى بمحبته والإعجاب به، مما يوجب التحذير منه مرة بعد مرة.

 

 

(*). www.saaid.com

[1]. التكرار: هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ، والمعنى المراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو لغرض من الأغراض.

[2]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[3]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[4]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[5]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[6]. تفسير الخازن، علاء الدين علي البغدادي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1955م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[7]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5191، 5192.

[8]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[9]. تفسير الخازن، علاء الدين علي البغدادي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1955م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[10]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج6، ص287.

[12]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م ، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[13]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[14]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص286.

[15]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[16]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.

[17]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص278 بتصرف.

[18]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج4، ص147.

 

  • الاثنين AM 04:21
    2020-09-07
  • 1222
Powered by: GateGold