المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409076
يتصفح الموقع حاليا : 379

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن وجود المتشابه في القرآن الكريم ينافي إعجازه وبلاغته، ولا فائدة منه

         الزعم أن وجود المتشابه في القرآن الكريم ينافي إعجازه وبلاغته، ولا فائدة منه(*)

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المشككين أن المتشابهات في القرآن الكريم تنافي بلاغته، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( (آل عمران: ٧).

ويتساءلون: ألا يعد وجود هذه المتشابهات نقصا في البلاغة والإحكام**؟!

وجوه إبطال الشبهة:

من أصول البلاغة أن يكون الكلام محكما موجزا بعيدا عن التكرير والإعادة؛ حتى يصيب معانيه في قوة ورصانة.

ويتوهم بعض أصحاب الشبهات أن المتشابهات من آيات القرآن تقلل من بلاغته وإحكامه، وتبعد به عن القوة والرصانة، ويدعون بأن قوله تعالى: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( دليل على أن المتشابهات لا فائدة منها، ولا تحقق فهما دقيقا محكما لمعاني القرآن كما يتوهمون.

وقد رد اللغويون وعلماء البلاغة على هذه الشبهة بالوجوه الآتية:

1) أن آيات القرآن، إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.

2) أن الحكمة من إنزال المتشابه في القرآن أن القرآن نزل بلغة العرب، وتبعا لمعانيها ومذاهبها، وهي لغة فيها الإيجاز والإطناب، والاختصار والإطالة، والتوكيد والتجريد، والتلميح والتصريح، والخفي والجلي.

3) أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادها وطلبها، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء).

التفصيل:

أولا. آيات القرآن: إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.

المحكم والمتشابه في القرآن:

يوصف القرآن كله بأنه محكم؛ كما في قوله تعالى: )الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود) والمراد بالإحكام هنا: اتفاقه وعدم تطرق النقص والخلل إليه.

ويوصف كذلك بأنه كله متشابه، كما في قوله تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم( (الزمر: ٢٣). ومعنى متشابه: أنه يشبه بعضه بعضا في صدق أخباره، وعدالة أحكامه، وسمو بلاغته، وروعة نظمه، ونصوع حقائقه، وتصديق بعضه بعضا؛ فلا تناقض فيه ولا تضارب.

ويوصف القرآن أيضا بأن بعضه محكم، وبعضه متشابه، وهو ما جاء في قوله عز وجل: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7)( (آل عمران)؛ فقسمت الآية الكريمة آيات الكتاب قسمين: محكمات هن أم الكتاب وأساسه ومعظمه، وأخر متشابهات، والمراد بالمحكم هنا: البين بنفسه، الدال على معناه بوضوح، فلا يعرض له شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى؛ كما قال الراغب في "مفرداته"[1].

معنى المتشابه ومظاهر تشابهه وأسبابه:

والمراد بالمتشابه هنا: ما أشكل تفسيره؛ لمشابهته غيره، إما من حيث اللفظ وإما من حيث المعنى؛ فلذا قيل: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، أو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.

قال الراغب: وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:

  1. محكم على الإطلاق.
  2. متشابه على الإطلاق.
  3. محكم من وجه ومتشابه من وجه آخر[2].

والمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب:

  1. متشابه من جهة اللفظ فقط.
  2. متشابه من جهة المعنى فقط.
  3. متشابه من جهتيهما.

وبين الراغب أن المتشابه من جهة اللفظ ضربان: منه ما يرجع إلى غرابة اللفظ أو اشتراكه، ومنه ما يرجع إلى جملة الكلام المركب.. إلخ.

والمتشابه من جهة المعنى: ما يتعلق بأوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه.

ثم ذكر الإمام الراغب المتشابه من جهة اللفظ والمعنى جميعا بأضربه الخمسة، ومثل لها من جهة الكمية؛ كالعموم والخصوص، أو من جهة الكيفية؛ كالوجوب والندب، أو من جهة الزمان؛ كالناسخ والمنسوخ، أو من جهة المكان؛ كالأمور المتصلة بعادات الجاهلية، وما كان عليه العرب، أو من جهة الشروط التي يصلح بها العمل أو يفسد. ثم جمع المتشابه على ثلاثة أضرب:

  • ضرب لا سبيل للوقوف عليه؛ كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.
  • وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته؛ كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة.
  • وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم. ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه في قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

قال: وإذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله: )وما يعلم تأويله إلا الله( ووصله بقوله: )والراسخون في العلم( جائز، وأن لكل واحد منهم وجها، حسبما دل عليه التفصيل المتقدم.

وخلاصة هذا الكلام: أن في القرآن آيات محكمات واضحات الدلالة، بينات المعنى، لا تحتاج إلى غيرها لبيان مفهومها ومضمونها، وهذه هي أم الكتاب، وأصله الذي يجب أن يرد إليه ما سواه؛ ليفهم في ضوئه.

وهناك آيات متشابهات تشابها كليا حقيقيا فلا يمكن أن يعلمها إلا الله - ولا يحاول أن يعرف حقيقتها إلا الذين في قلوبهم زيغ وانحراف - أو تشابها جزئيا إضافيا وهذا هو أكثر المتشابه، وهو الذي يعلمه الراسخون برده إلى المحكمات التي هي الأصل[3].

يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في "الإتقان": "قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب؛ لأنه إليها ترد المتشابهات، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله في كل ما تعبدهم به من معرفته، وتصديق رسله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وبهذا الاعتبار كانت "أمهات". ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.

ومعنى ذلك: أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة، كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات. ومراد الشارع منها التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين ورسخ العلم، لم تبال بما أشكل عليك.

ومراد هذا الذي في قلبه زيغ: التقدم إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع.

وهذا كما يوجد في كتاب الله، يوجد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من لوازم الكلام، ومقتضيات الخطاب، فإذا وجد في كلام الله المعجز؛ فلأن يوجد في كلام رسوله من باب أولى[4].

ثانيا. ربما يسأل أحدهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن من أراد لعباده الهدى والتبيان؟

والجواب: أن القرآن نزل بلغة العرب ومعانيها ومذاهبها، فلا حرج من وجود المتشابه في القرآن.

فالقرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز، والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء وإغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليها إلا اللقن[5] وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.

ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا؛ حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس.

 وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، منه ما يجل ومنه ما يدق؛ ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه ويدرك أقصاه؛ ولتكون للعالم فضيلة النظر وحسن الاستخراج؛ ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.

ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا لم يكن عالم ومتعلم، ولا خفي ولا جلي؛ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها؛ فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.

وعلى هذا المثال كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف، الذي يتحير فيه العالم المتقدم، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز[6].

وأصل التشابه: أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان؛ قال الله - عز وجل - في وصف ثمر الجنة: )وأتوا به متشابها( (البقرة: ٢٥)؛ أي: متفق المناظر، مختلف الطعوم، وقال: )تشابهت قلوبهم( (البقرة: ١١٨)؛ أي: يشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة.

ومنه يقال: اشتبه علي الأمر، إذا أشبه غيره؛ وشبهت علي: إذا لبست الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه؛ لأنهم يشبهون الحق بالباطل.

ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها والتباسها بها[7].

ثالثا. القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادهـا وطلبهـا، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) ( (النساء).

 ففي قوله تعالى: )منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران:٧)، دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى: )كتاب أحكمت آياته( (هود: ١)، وقال: )تلك آيات الكتاب الحكيم (1)( (يونس: ١)، والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها( (الزمر: ٢٣)، والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى:،)ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء: ٨٢)، فلا تعارض بين هذه الآيات؛ لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.

وسبب وقوع المتشابه في القرآن: هو كونه دعوة وموعظة، وتعليما، وتشريعا باقيا، ومعجزة. وقد خوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع؛ فجاء على أسلوب مناسب لجميع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم[8] الخطابة والمقالة؛ فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة. وإعجاز القرآن منه إعجاز نظمي، ومنه إعجاز علمي، وهو فن جليل من الإعجاز؛ فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها - فيما تعرض إليه - جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو عليه في نفس الأمر، وربما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم[9].

على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:

أحدهما: كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين؛ حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.

 والآخر: تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة؛ حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة - في كل زمان - لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة؛ من أجل هذا كانت الشريعة صالحة لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم، تبعا لاختلاف مراتب العصور.

 فإذا أدركت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بـ "المتشابه" في القرآن[10].

الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:

  • في قوله تعالى: )هن أم الكتاب(، قال الشريف الرضي: هذه استعارة، والمراد بها: أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله، فهي بمنزلة الأم له، وكأن سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها؛ كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إليها في همه[11].
  • قوله تعالى: )الراسخون في العلم( استعارة، والمراد به: المتمكنون في العلم تشبيها لهم برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوارة، وهو أبلغ من أن يقال: والثابتون في العلم.
  • في قوله تعالى: )كل من عند ربنا( زيدت كلمة "عند" للدلالة على أن "من" هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي؛ أي: هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه، وليس كقوله تعالى:)ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك( (النساء: ٧٩).
  • )وما يذكر إلا أولو الألباب( (آل عمران: ٧) تذييل - ليس من كلام الراسخين - مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم[12].

 

 

(*) www.islameyat.com.

[1]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص254.

[2]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص267، 268.

[3]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص268: 270 بتصرف.

[4]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج3، ص682.

[5]. اللقن: سريع الفهم.

[6]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص87.

[7]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص100: 103 بتصرف.

[8]. هجيراهم: أي عادتهم ودأبهم.

[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص156، 157.

[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص158.

[11]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص169، 170 بتصرف يسير.

[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ص168.

 

  • الاثنين AM 03:40
    2020-09-07
  • 1095
Powered by: GateGold