المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409044
يتصفح الموقع حاليا : 248

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار البعث والمعاد وإحياء الخلق يوم القيامة مرة أخرى واعتبار ذلك أسطورة وسحرا

                                

إنكار البعث والمعاد وإحياء الخلق يوم القيامة مرة أخرى واعتبار ذلك أسطورة وسحرا(*)

مضمون الشبهة:

ينكر الدهريون[1] ومن وافقهم من مشركي العرب البعث والمعاد، ويؤيد هذا بعض الفلاسفة فينكرون البداءة والمعاد، ويعتبرون إحياء الخلق مرة أخرى من قبيل الأسطورة والخرافة، كما زعمت طائفة أخرى أن البعث يكون للأرواح دون الأجساد. قال سبحانه وتعالى: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)( (الجاثية).

وجوه إبطال الشبهة:

1)  البعث حقيقة مؤكدة ومحددة بأجل معدود.

2)  الذي قدر على بدء الحياة قادر على إعادتها.

3)  القادر على خلق ما هو عظيم قادر على خلق ما هو دونه.

4)  قدرته - سبحانه وتعالى - على تحويل الخلق من حال إلى حال دليل على قدرته على البعث والإحياء بعد الإماتة.

5)  قصة من أنكر البعث خير دليل على قدرة الله تعالى على البعث والنشور يوم القيامة.

6)  إحياء بعض الأموات في هذه الحياة دليل واقعي على قدرته - عز وجل - على البعث البعث.

7)  ضرب المثل بإحياء الأرض بالماء وكذلك دورة النبات؛ للاستدلال على صحة البعث.

8)  حكمة الله وعدله يقتضيان بعث العباد للجزاء والحساب.

9)  اتفاق جميع الأنبياء على الإخبار بالمعاد.

10)               ضلال منكري البعث؛ حيث لا دليل لهم ولا برهان.

التفصيل:

هذه شبهة داحضة أكثر المشركون مقولتها، وهي من أكثر مزاعمهم وشبههم تردادا وتكرارا في القرآن، فهم يزعمون أنهم لن يبعثوا، ويستبعدون المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا، ويعتبرون ذلك أسطورة وسحرا، وقد حكى القرآن عنهم وذلك في غير موضع، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر( (الجاثية: ٢4) وقال - سبحانه وتعالى - حاكيا عنهم قولهم: )إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين (37)( (المؤمنون) وقال عز وجل: )زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا( (التغابن: ٧)، وقال أيضا: )ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7)( (هود)، وقال - سبحانه وتعالى - أيضا: )وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة( (سبأ:٣) ومثل ذلك كثير في القرآن.

وهؤلاء المنكرون للبعث الذين أخبر القرآن عنهم ليسوا فرقة واحدة، بل يمكن تصنيفهم - من خلال ردود القرآن عليهم - إلى ثلاثة أصناف:

الأول: الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية، ومثلهم الشيوعيون[2] في عصرنا، وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن خالق؛ فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية، ومنكرون لوجود الخالق أصلا. وهؤلاء ناقشهم الله - عز وجل - أولا في وجود الخالق ووحدانيته - كما سبق أن بينا - ثم يأتي بعد ذلك إثبات المعاد؛ لأن الإيمان بالمعاد فرع الإيمان بالله.

الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم: )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25)( (لقمان). فهم مع اعترافهم بوجود الخالق - عز وجل - ينكرون البعث والنشور يوم القيامة، وقد حكى القرآن عنهم ذلك، حيث قالوا: )أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (68)( (النمل). وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون بالله، ولكنهم - في الوقت نفسه - يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إماتتهم! وهم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء، ومن هؤلاء طائفة من اليهود يسمون "الصادوقيون"[3] يزعمون أنهم يؤمنون بتوراة موسى، وهم يكذبون بالبعث والنشور والجنة والنار!

الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية من النصارى، وهؤلاء هم الذين يعتقدون أن الذي ينعم أو يعذب يوم القيامة إنما هو الروح فحسب، وقال بقولهم كثير من الفلاسفة والفرق الضالة[4].

وقد رد القرآن على هؤلاء المنكرين للبعث المكذبين بالمعاد ما زعموه في غير موضع من آياته بالأدلة والبراهين القاطعة المثبتة للبعث والنشور، ومن ذلك:

أولا. بين القرآن الكريم أن البعث حقيقة مؤكدة ومحددة بأجل معدود:

لقد نوع الحق - سبحانه وتعالى - أساليب الإخبار عن تلك الحقيقة، فتارة يجزم المولى - عز وجل - بوقوع ذلك اليوم ومن ذلك قوله )إن الساعة آتية أكاد أخفيها( (طه: ١٥) وقوله: )إن الساعة لآتية لا ريب فيها( (غافر: ٥٩)، وقوله: )إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)( (الأنعام)، وقوله: )إنما توعدون لصادق (5)( (الذاريات)، وفي بعض الأحيان يخبر عن اقترابه، ومنه قوله عز وجل: )إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا (7 (المعارج)، وقوله: )( اقتربت الساعة وانشق القمر (1)( (القمر)، وفي مواضع أخرى يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه، ومنه قوله تعالى: )الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87)( (النساء)، أو يأمر رسوله بالإقسام على وقوع البعث وتحققه وذلك في معرض الرد على المكذبين به المنكرين له[5].

ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53)( (يونس)، ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: )وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب( (سبأ: ٣)، ويؤكد القرآن أن يوم القيامة يوم محدد لا يزاد في موعده ولا ينقص، قال سبحانه وتعالى: )قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)( (سبأ)، إذن فهو ميعاد معدود محرر لا يزاد في موعده ولا ينقص، قال سبحانه وتعالى: )إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر( (نوح: ٤)، فذلك وعد صادق، وخبر لازم، وأجل لا شك فيه، قال )ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103) وما نؤخره إلا لأجل معدود (104)( (هود).

ثانيا. ومن الأدلة العقلية المفحمة التي برهن بها القرآن على البعث والمعاد أنه استدل على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى:

نشاهد كل يوم حياة جديدة تخلق: أطفال يولدون، وطيور تخرج من بيضها، وحيوانات تلدها أمهاتها، وأسماك تملأ البحر والنهر، يرى الإنسان ذلك كله بأم عينيه، ثم ينكر أن يقع مثل ذلك مرة أخرى بعد أن يبيد الله هذه الحياة. إن الذين يطلبون دليلا على البعث يغفلون عن أن خلقهم على هذا النحو أعظم دليل على ذلك، فالقادر على خلقهم ابتداء، قادر على إعادة خلقهم مرة أخرى [6].

وقد أخبر الله - عز وجل - أن الإنسان نفسه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته،قال سبحانه وتعالى: )ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66)( (مريم).

ويبرهن - عز وجل - بالبداءة على الإعادة، يعني أنه - عز وجل - قد خلق الإنسان ولم يك شيئا، أفلا يمكنه - عز وجل - إعادته ثانية وقد صار شيئا موجودا؟! قال سبحانه وتعالى: )أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67)( (مريم).

وهذا بيان لهؤلاء، مفاده أن الذي قدر على البدء قادر على الإعادة، وهذا بطريق الأولى والأحرى، قال سبحانه وتعالى: )قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه( (الجاثية:٢٦)، فكما هو قادر على أن يخرجكم من العدم إلى الوجود، فهو قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها، قال سبحانه وتعالى: )وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧) وقال - سبحانه وتعالى - أيضا: )فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة( (الإسراء:٥١)، أي: فالذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ثم صرتم بشرا تنتشرون قادر على إعادتكم مهما تكن حالتكم.

ويذكرنا القرآن الكريم في موضع آخر بالخلق الأول للإنسان، فأبونا آدم خلقه الله من تراب؛ فالقادر على جعل التراب بشرا سويا، لا يعجزه أن يعيده بشرا سويا مرة أخرى بعد موته، كما يذكرنا بخلقتنا نحن - ذرية آدم - فإنه خلقنا من سلالة من ماء مهين، تحول هذا الماء فأصبح نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم تحولت إلى مضغة.

إلى أن نفخ فيها الروح وجعلها إنسانا سويا، فالقادر على الخلق المشاهد المعلوم قادر على إعادته وإحيائه بعد موته، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7)( (الحج) [7].

ثالثا. ومن الأدلة القوية في هذا الصدد ما ساقه القرآن دليلا للعقل أن يتفكر فيه، إذ بين أن من جملة خلقه تعالى ما هو أعظم من خلق الناس؛ فالقادر على خلق الأعظم لا شك قادر على خلق ما هو دونه:

لقد نبه الله - عز وجل - كل من له عقل - يعي به - على قدرته على إعادة الخلق مرة أخرى، وذلك بدليل أنه خلق السماوات والأرض، فقدرته على إعادة الخلق أسهل من خلقه السماوات والأرض، قال تعالى: )لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس( (غافر: ٥٧)، وقال سبحانه وتعالى: )أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى( (الأحقاف: ٣٣)، وقال أيضا: )أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه( (الإسراء: ٩٩)، وقال أيضا: )أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81)( (يس). ويوضح ذلك قول ابن تيمية بعد أن ساق هذه النصوص -: "فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك"[8].

رابعا. ومن ردود القرآن على منكري البعث أيضا ما بينه الحق - سبحانه وتعالى - برهانا للعقل البشري أن يتدبره من أن قدرته - سبحانه وتعالى - على تحويل الخلق من حال إلى حال لا يعجزها إعادة الخلق بعد الممات:

إن من تمام ألوهيته وربوبيته تعالى قدرته سبحانه على تحويل الخلق من حال إلى حال، فهو يميت ويحيي، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ويخلق ويفني، قال سبحانه وتعالى: )إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96)( (الأنعام)، فمن الحبة الجامدة الصماء يخرج نبتة غضة خضراء تزهر وتثمر، ثم تعطي هذه النبتة الحية حبوبا جامدة، ومن الطيور الحية يخرج البيض الميت، ومن البيض الميت تخرج الطيور المتحركة المغردة التي تنطلق في أجواز الفضاء!

إن تقلب العباد: موت فحياة فموت فحياة، دليل عظيم على قدرة الله التي تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه، ولذلك يقول المولى عز وجل: )كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)( (البقرة) [9].

خامسا. ساق القرآن بعض أدلة البعث في معرض الرد على واحد من مكذبي المعاد:

يحكي القرآن عن أحد هؤلاء المشركين المستبعدين البعث - وهو العاص بن وائل - حين جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء، ويقول: «يا محمد، أيبعث الله هذا بعد ما أرم؟! قال صلى الله عليه وسلم: "نعم يبعث الله هذا، يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم"، قال: فنزلت الآيات: )أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77)( (يس)» [10].

ونزلت في هذه القصة الآيات الأخيرة من سورة يس، وفيها يقول الحق سبحانه وتعالى: )أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78)( (يس)، فهذا المشرك ضرب لله مثلا ونسي أنه خلقه من نطفة، فلم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه )أفعيينا بالخلق الأول( (ق: ١٥)، ولذاقال - عز وجل - جوابا على سؤاله المتهافت: )قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79)( (يس)، أي: يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها أين ذهبت وتفرقت وتمزقت، ثم ضرب الله له مثلا آخر وهو الشجر الأخضر الذي يوقد منه النار، فالله بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، وكذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد، لا يعجزه شيء، قال سبحانه وتعالى: )الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)( (يس)، ثم يقدم القرآن استدلالا آخر على إعادة الأجساد بخلق السماوات والأرض بما فيها من الكواكب السيارة، والجبال، والبحار، والرمال، وما بين ذلك، قال سبحانه وتعالى: )أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81)( (يس).

ففي هذه القصة نلاحظ أن الله - سبحانه وتعالى - ساق من الأدلة ما يكفي لإقناع هذا المشرك وغيره بحقيقة البعث والمعاد؛ إذ احتج بالإبداء على الإعادة، ثم بقدرته على تحويل الخلق من حال إلى ضده، ثم أكد ذلك بأن القادر على خلق الأعظم قادر من باب أولى على خلق الأيسر منه، فسبحان من يقول للشيء كن فيكون، فملكوت كل شيء بيده، وكل إليه راجع، قال سبحانه وتعالى: )وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)( (يس).

سادسا. إحياء بعض الأموات في هذه الحياة دليل واقعي على قدرته - عز وجل - على البعث والنشور يوم القيامة:

لقد ذكر القرآن الكريم عددا من القصص التي أحيا الله فيها بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، وكذلك ما أيد الله به بعض رسله من إحياء الموتى على أيديهم، وفي كل ذلك أعظم دليل على قدرته تعالى على البعث والنشور، فحدثنا القرآن عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فتعجب من إحياء الله لها بعد موتها وقد كان مؤمنا لا شاكا، ولكن الله أعلمه ذلك يقينا؛ أي بالمعاينة، قال سبحانه وتعالى: )أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259)( (البقرة).

وحدثنا عن إبراهيم - عليه السلام - الذي دعا ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فكان هذا المشهد الذي حدثنا القرآن عنه، قال تعالى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة).

وحدثنا عن عيسى - عليه السلام - الذي كان يصنع من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، فقد قال لقومه: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49)( (آل عمران).

وحدثنا عن أصحاب الكهف الذين ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة، قال تعالى: )ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)( (الكهف)، وقال أيضا: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25)( (الكهف).

وحدثنا عن قوم موسى عليه السلام، هؤلاء الذين قالوا له: )لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة( (البقرة: ٥٥)، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ثم بعثهم الله بعد موتهم هذا، قال تعالى: )فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56)( (البقرة).

وحدثنا عن قتل بني إسرائيل قتيلا واتهام كل قبيل القبيل الآخر بقتله، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، فذبحوها بعد أن تعنتوا في طلب صفاتها، ثم أمرهم بعد ذبحها أن يضربوا القتيل بجزء منها، فأحياه الله وهم ينظرون فأخبر عمن قتله، قال تعالى: )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة).

سابعا. ومن الأدلة التي ساقها القرآن الكريم على البعث أيضا - أنه لفت نظر الناس إلى ذلك حين ضرب المثل بإحياء الأرض بما ينبته فيها من النبات بعد نزول الماء، فكذلك تعاد الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية:

  • قال سبحانه وتعالى: )فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير (50)( (الروم).
  • وقال: )والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9)( (فاطر).
  • وقال: )ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير (39)( (فصلت).
  • وقال: )والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11)( (الزخرف).

والمعنى المراد من هذا كله هو: الاستبصار والاستدلال؛ أي: استدلوا بذلك على أن من قدر عليه قادر من باب أولى على إحياء الموتى، وهذا من قبيل الاستدلال بالشاهد على الغائب[11].

ثامنا. ومن أهم الأدلة الناصعة التي ذكرها القرآن على البعث أنه بين الحكمة منه:

إن الحكمة والعدل يقتضيان بعث العباد يوم القيامة للجزاء والحساب؛ إذ إن الخلق يصبح عبثا وباطلا إذا لم يكن هناك يوم آخر يبعث فيه الناس، ويحاسبون على أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا؛ أي أن الحياة تصبح عبثا، وخلق السماوات والأرض يصبح باطلا لو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف، قال سبحانه وتعالى: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115)( (المؤمنون) [12].

وقال أيضا: )إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4)( (يونس)، فحكمة الله وعدله يقتضيان أن يبعث عباده ليجزيهم بما قدموا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فالله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه به، فمن العباد من استقام على طاعته وبذل نفسه وماله في سبيل ذلك، ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله وطغى وبغى، أفيليق بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح ولا يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟! )أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (36) أم لكم كتاب فيه تدرسون (37) إن لكم فيه لما تخيرون (38)( (القلم)[13].

فنحن نشاهد في حياتنا الدنيا ظالمين ظلوا على ظلمهم حتى لحظة الموت، ومظلومين ظلوا مظلومين إلى آخر حياتهم، أفيكون هذا عدلا وحكمة إن كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف؟! وأين هو العدل والظالم لم يقتص منه والمظلوم لم يقتص له؟! وأين هي الحكمة في خلق حياة تجري أحداثها على غير مقتضى العدل، ثم تنتهي على هذه الصورة؟!

أيكون من الحق أن الذين أجابوا داعي الله فآمنوا به واستقاموا على طريقه، يعيشون ويموتون في الهوان والذل كأنهم هم المغضوب عليهم، وأن الذين لم يستجيبوا لله ولم يؤمنوا به يعيشون ويموتون هانئين منعمين كأنهم هم الذين نالوا رضوان الله؟!

كلا بغير شك.

ولا يجوز ذلك في حق الله.

لا يجوز في حق عدالته وحكمته - سبحانه وتعالى - أن تكون الأمور على هذه الصورة، وإلا تكون الحياة عبثا لا معنى لها ولا حكمة فيها...

لذلك جاء هذا السؤال الإنكاري: )أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35)( (القلم).

حاشا لله أن يكون ذلك:

إنما ذلك ظن الذين كفروا، فهم الذين يظنون أن الأمر سواء، وأنه لا حساب ولا عقاب، فكأنهم يقولون إن الله خلق السماوات والأرض باطلا: )وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)( (ص).

فقد نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا ينكرون البعث، ولكن العجيب أن الجاهلية المعاصرة تنتج نماذج تنطبق عليها الآية الكريمة تماما، ومن هؤلاء: سارتر الوجودي[14] الملحد، الذي يقول: إن الوجود كله عبث وكله باطل، وإن حياة الإنسان لا معنى لها ولا حكمة فيها: )ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27)( (ص)[15].

تاسعا. ومن الأدلة على البعث ما ذكره القرآن من اتفاق جميع الأنبياء على الإخبار بالمعاد: فالإيمان بالقيامة والجنة والنار من أصول الإيمان التي يشترك الأنبياء جميعا وأتباعهم الصادقون في معرفتها والإيمان بها:

فقد أخبر القرآن عن هؤلاء الأشقياء أهل النار الذين يقرون بأن رسلهم أنذرتهم باليوم الآخر، قال تعالى: )تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)( (الملك)، وقال تعالى أيضا: )فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71)( (الزمر).

فالكفار جميعا عندما يسألون عند ورودهم النار يقرون بأن رسلهم خوفتهم لقاء ذلك اليوم، ولكنهم كفروا وكذبوا.

وهذا الذي قررته الآيات السابقة بينه الله - عز وجل - في غير موضع من كتابه، فقد أخبر الحق - سبحانه وتعالى - أن مقتضى عدله وحكمته ألا يعذب أحدا لم تبلغه الرسالة ولم تقم عليه الحجة، قال تعالى: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء)، وقال أيضا: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)( (النساء)، من أجل ذلك عمت الرسالة كل البشر، قال تعالى: )إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)( (فاطر).

كما ذكر القرآن الكريم أنه ما من نبي من الأنبياء إلا أنذر قومه يوم القيامة وأخبرهم بالبعث والنشور من أجل الجزاء والحساب، وذلك حين قص قصص الأنبياء في القرآن الكريم[16].

عاشرا. يؤكد القرآن الكريم في أكثر من موضع أن المنكرين للبعث والمعاد لا يستندون إلى دليل ولا يقيمون على دعواهم تلك أي برهان:

فما عندهم من علم بالبعث والمعاد إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)( (الجاثية) وقال سبحانه وتعالى: )وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32)( (الجاثية).

وقال سبحانه وتعالى: )بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66)( (النمل).

ويؤكد القرآن أيضا في أكثر من موضع أن هؤلاء المستبعدين المعاد والقيامة والبعث يعيشون في الوهم والضلال البعيد، قال سبحانه وتعالى: )أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8)( (سبأ)، وقال أيضا: )ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18)( (الشورى)، فهم في جهل وضلال بين؛ لأن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى.

الخلاصة:

  • الموجد للشيء بعد العدم قادر على إعادة بعثه بعد فنائه؛ فالقادر على الخلق من عدم قادر على إعادة الخلق بعد إفنائه.
  • المنكر للبعث والمعاد وإحياء الخلق يوم القيامة يعيش في الوهم والضلال، فالأمثلة على ذلك متعددة، والأدلة كثيرة، ومن ذلك إحياء الله - عز وجل - للأرض بعد موتها ببعض الأمطار يسقطها عليها.
  • هناك بون كبير بين حقيقة البعث والمعاد وبين الأسطورة والسحر، ولقد شاهد بعض البشر - في فترات مختلفة من التاريخ - عودة الحياة إلى الجثث الهامدة، وجاء القرآن الكريم بقصص من ذلك، كقتيل بني إسرائيل، وكالذي مر على قرية، ومن ذلك أيضا قصة إبراهيم - عليه السلام - والأربعة من الطير، وإحياء عيسى - عليه السلام - للموتى بإذن الله عز وجل.

 

 

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (سبأ/ 3، 7، 29، 35، التغابن/ 7، يونس/ 53، الملك/ 25، ق/ 3، 15، الدخان/ 35، الجاثية/ 24، 32، يس/ 48، 78، الصافات/ 16، 17، 53، السجدة/ 10، 28، النمل/ 67، 68، 71، المؤمنون/ 35، 37، 82، 83، الأنبياء/ 38، مريم/ 66، الكهف/ 36، الإسراء/ 49، 51، 98، النحل/ 38، الرعد/ 5، هود/ 7، الشعراء/ 138، الواقعة/ 47، 48، النازعات/ 10، 12).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (سبأ/ 3، يونس/ 53، 54، التغابن/ 7، سبأ/ 8، 30، الجاثية/ 26، الإسراء/ 5، 52، 99، النحل/ 38، 40، هود/ 8، الأعراف/ 25، طه/ 55، الواقعة/ 49، 50، الحج/ 5، 7، الشورى/ 18، الصافات/ 18، 19، يس/ 79: 83، السجدة/ 29، 30، الأنبياء/ 39، 40، مريم/ 67، الكهف/ 21، 37، الروم/ 27).

[1]. الدهريون: جمع دهري، وهو الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة، ويقول ببقاء الدنيا، أو بأن العالم موجود أزلا وأبدا ولا صانع له.

[2]. الشيوعيون: هم من يعتنقون المذهب الشيوعي، مذهب كارل ماركس، وهو نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يقوم على الإنتاج الجماعي وإشاعة الملكية وإزالة الطبقات الاجتماعية، وأن يعمل الفرد على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته.

[3]. الصادوقيون: جماعة قليلة العدد نسبيا، ولكن معظمها كان من المثقفين والأعيان، واسمها مشتق من صادوق رئيس الكهنة في أيام داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ وقد حصروا تعليمهم في الكتاب المقدس فقط، زاعمين أن حرف الناموس المكتوب وحده هو الملزم، وينكرون القيامة.

[4]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص61، 62، 84 بتصرف.

[5]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص63: 66 بتصرف.

[6]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص66 بتصرف.

[7]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص67.

[8]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68.

[9]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص69، 70.

[10]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة يس (3606)، وصححه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص45 بتصرف.

[12]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص387.

[13]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص75، 76.

[14]. الوجودي: القائل بمذهب الوجود أو الوجودية، وهو مذهب فلسفي يرى أن الوجود سابق على الماهية، وأن الإنسان حر يستطيع أن يصنع نفسه، ويتخذ موقفه كما يبدو له؛ تحقيقا لوجوده الكامل.

[15]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص390.

[16]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص77: 81 بتصرف.

 

  • الخميس PM 03:44
    2020-09-03
  • 1116
Powered by: GateGold