المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412258
يتصفح الموقع حاليا : 355

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى خطأ القرآن في وصفه السماء بالبناء

دعوى خطأ القرآن في وصفه السماء بالبناء(*)

مضمون الشبهة:

من جملة ما درج عليه المغالطون نفي الإعجاز العلمي في القرآن، ومن ذلك نفيهم للإعجاز العلمي في وصف القرآن السماء بالبناء، الوارد في قوله سبحانه وتعالى:) والسماء وما بناها (5) ((الشمس)، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28)((النازعات)، وفي قوله سبحانه وتعالى أيضًا: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)((ق)، زاعمين أن المعنى القرآني لا يتجاوز أن يكون حديثًا عن خلق الله للسماء، وليس فيه ما يشير إلى أجرامها المختلفة التي اكتشفها العلماء حديثًا.

وجه إبطال الشبهة:

إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن السماء تشير إلى كونها بناءً بديعًا محكمًا؛ لذلك نجد ارتباط لفظ "البناء" بالسماء في آيات كثيرة من القرآن، وقد أشارت الآيات. موطن الاشتباه. إلى وجود الكواكب والنجوم التي تكوِّن المجرات، فضلًا عن المادة المظلمة التي تمثل معظم الكون في منظر رائع بديع بدون شقوق ولا فروج، وهذا يتطابق مع ما تم اكتشافه في العصر الحديث؛ حيث رأى العلماء السماء بناءً محكمًا لا فروج فيه، تزينه الكواكب والنجوم والمجرات وتجمعاتها في منظر بديع، حتى إنهم أطلقوا عليه في أبحاثهم "لبنات البناء الكوني"، وقد سبقهم القرآن إلى هذا المصطلح منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

 

عندما بدأ العلماء باكتشاف الكون أطلقوا عليه كلمة "فضاء" (Space)؛ وذلك لظنهم أن الكون مليء بالفراغ، ولكن بعدما تطورت معرفتهم بالكون واستطاعوا رؤية بنيته بدقة مذهلة، ورأوا نسيجًا كونيًّا محكمًا ومترابطًا، بدءوا بإطلاق مصطلح جديد هو "بناء". إنهم بالفعل بدءوا برؤية بناء هندسي محكم، فالمجرات وتجمعاتها تشكِّل لبنات هذا البناء، كما بدءوا يتحدثون عن هندسة بناء الكون، ويطلقون مصطلحات جديدة، مثل: الجسور الكونية، والجدران الكونية، وأن هناك مادة غير مرئية تُسمَّى المادة المظلمة، وهذه المادة تملأ الكون، وتسيطر على توزيع المجرات فيه، وتشكل جسورًا تربط هذه المجرات بعضها ببعض([1]).

  • حقيقة البناء الكوني:

لقد استطاع علماء الفلك بعد تطور الأجهزة الحديثة أن يدركوا حقيقة البناء الذي ذكره القرآن في أكثر من آية من آيات القرآن، ويقدِّر علماء الفلك قطر الجزء المدرَك بأكثر من أربعة وعشرين بليونًا من السنين الضوئية (24 بليون 9,5 مليون مليون كم)، وهذا الجزء من السماء الدنيا دائم الاتساع إلى نهاية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وبسرعات لا يمكن للإنسان اللحاق بها؛ وذلك لأن سرعة بعض المجرات عنا وعن بعضها بعضًا تقترب من سرعة الضوء المقدرة بنحو ثلاث مئة ألف كيلو متر في الثانية، وهذا الجزء المدرك من الكون مبني بدقة بالغة على وتيرة واحدة، تبدأ بتجمعات فلكية حول النجوم، كمجموعتنا الشمسية التي تضم بالإضافة إلى الشمس عددًا من الكواكب والكويكبات والأقمار والمذنبات التي تدور في مدارات محددة حول الشمس، وتوضع أمثال هذه المجموعة الشمسية في مجموعات أكبر تعرف باسم المجرات، وتكوِّن عشرات من المجرات المتقاربة ما يعرف باسم المجموعة المحلية، وتلتقي المجرات ومجموعاتها المحلية فيما يعرف باسم الحشود المجرية، وتنطوي تلك في مجموعات محلية للحشود المجرية، ثم في حشود مجرية عظمى، ثم في تجمعات محلية للحشود المجرية العظمى إلى ما هو أكبر من ذلك إلى نهاية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

 

 

 

صورة توضح البناء الكوني

مكونات السماء:

  1. المجموعة الشمسية:

 

تضم مجموعتنا الشمسية بالإضافة إلى الشمس كواكب تسعة هي (من حيث القرب من الشمس): عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون، بلوتو. ثم مدارات المذنبات التي لم تعرف لها حدود، هذا بالإضافة إلى عدد من التوابع (الأقمار) التي يقدر عددها بواحد وستين قمرًا تدور حول بعض من هذه الكواكب، وآلاف الكويكبات المنتشرة بين كل من المريخ والمشتري، التي يعتقد أنها بقايا لكوكب منفجر وآلاف الشهب والنيازك وكميات من الدخان (الغاز الحار والغبار).

وكواكب المجموعة الشمسية تدور كلها حول الشمس في اتجاه واحد، وفي مستوى واحد تقريبًا ما عدا بلوتو، وذلك في مدارات شبه دائرية (إهليلجية) بحيث تقع الشمس في إحدى بؤرتي كل مدار من هذه المدارات، وأبعد نقطة على المدار يصل إليها الكوكب تُسمَّى الأوج، وأقرب نقطة تُسمَّى الحضيض، ومتوسط مجموعهما يمثل متوسط بعد الكوكب عن الشمس، وكذلك تزداد سرعة الكوكب بقربه من الشمس وتقل ببعده عنها، بحيث يمسُّ الخط الوهمي الواصل بينه وبين الشمس مساحات متساوية في وحدة الزمن.

وتقدر المسافة بين الشمس وأقرب كواكبها (عطارد) بنحو ثمانية وخمسين مليونًا من الكيلو مترات (57,9 مليون كم)، كما تقدر المسافة بين الشمس وأبعد الكواكب المعروفة عنها (بلوتو) بنحو ستة بلايين من الكيلو مترات (5,5913 مليون كم)، ويلي مدار بلوتو إلى الخارج سحابة ضخمة من المذنبات التي تدور حول الشمس في مدارات يقدر بُعد بعضها عن الشمس بأربعين ألف وحدة فلكية (أي نحو ستة تريليونات من الكيلو مترات)، وإذا كان امتداد المجموعة الشمسية يُعبَّر عنه بأبعد مسافة نعرفها حول الشمس تتم فيها حركة مدارية حول هذا النجم، فإن مدار بلوتو لا يمكن أن يعبر عن حدود مجموعتنا الشمسية. وعليه؛ فإننا في زمن التقدم العلمي والتقني المذهل الذي نعيشه لم ندرك بعد حدود مجموعتنا الشمسية!

وإذا كان هذا هو حال المجموعة الشمسية التي هي جزء من ملايين الأجزاء من مجرتنا المعروفة التي تمثل بهذا النظام والشكل جزءًا من ملايين الأجزاء من المجرات وتجمعاتها؛ فكيف يكون نظام الكون وكيف تكون عظمته؟!

  1. مجرة الدرب اللبني:

 

تنطوي مجموعتنا الشمسية مع حشد هائل من النجوم يُقدَّر بنحو التريليون (مليون مليون مليون) نجم، فيما يعرف باسم "مجرة الدرب أو الطريق اللبني" (درب اللبانة) على هيئة قرص مفلطَح يُقدَّر قطره بنحو مئة وعشرين ألف سنة ضوئية، ويقدر سمكه بعشر ذلك (أي نحو عشرة الآلاف سنة ضوئية)، وتقع مجموعتنا الشمسية على بُعد يقدر بنحو ثلاثين ألف سنة ضوئية من مركزه، وعشرين ألف سنة من أقرب أطرافه.

وتتجمع النجوم حول مركز المجرة فيما يشبه النواة، وتلتوي الأجزاء الخارجية من قرص المجرة مكوِّنة أذرعًا لولبية تعطي لمجرتنا هيئتها الحلزونية، وترتبط النجوم في مجرتنا (وفي كل مجرة) مع بعضها بعضًا بقوى الجاذبية، مشكِّلة نظامًا يتحرك في السماء كجسم واحد، وتتجمع النجوم في مجرتنا في أربع جمهرات نجمية (StellarPopulations) على النحو الآتي:

  • انتفاخ النواة المركزية للمجرة (TheGalaxyNuclearBulge):

 

ويوجد حول مركز المجرة بقطر يبلغ 32,000 سنة ضوئية محتويًا نواة المجرة (TheGalactic Nucleus)التي يبلغ قطرها 16 سنة ضوئية، وتتكدس فيه أعداد هائلة من النجوم القديمة تكدسًا شديدًا، مع قليل من الغاز والغبار اللذين يوجدان عادة بين النجوم.

  • قرص المجرة (The Galactic Disc):

 

ويتكون من طبقتين: قرص رقيق بسمك لا يتعدَّى الألف سنة ضوئية إلا بقليل (1060سنة ضوئية) أي نحو 1% من سمك المجرة المقدَّر بأكثر من عشرة آلاف سنة ضوئية، ويمتد إلى مسافة 50,000 سنة ضوئية من مركز المجرة إلى كل طرف من أطرافها، ويحيط به قرص آخر سميك يبلغ سمكه أربعة أضعاف سمك القرص الرقيق (4238 سنة ضوئية من مركز المجرة). ويحوي قرص المجرة نجومًا حديثة التكوين نسبيًّا بالإضافة إلى غازات وغبار ما بين النجوم.

ولما كان للمجرات الشبيهة بمجرتنا أذرع لولبية مكوَّنة أساسًا من الغاز الكوني والغبار ومن نجوم صغيرة نسبيًّا، يتوقع الفلكيون أن يكون لقرص مجرتنا أذرع مشابهة تمامًا وذلك لوحدة البناء في الكون المدرك.

  • الهالة الداخلية للمجرة (The Inner Galactic Halo):

 

وتنتشر حول قرص المجرة بامتداد يصل إلى 130,000سنة ضوئية من مركز المجرة، وتختلط بقرصها السميك عند اتصالها به، وتشتمل على تجمعات كروية للنجوم (Globular clusters) وعلى عديد من الغازات والأتربة البينيَّة للنجوم.

وتشير قراءات المركبة الفضائية المعروفة باسم "المستكشف الدولي بواسطة الأشعة فوق البنفسجية" (The International Ultraviolet explorer Spacecraft) إلى أن بعض الغازات في هذه الهالة المجرية هي غازات حارة تصل درجة حرارتها إلى مئة ألف درجة مطلقة، وتحتوي الهالة الداخلية للمجرة على عدد من النجوم القديمة نسبيًّا.

  • الهالة الخارجية للمجرة أو تاج المجرة

(The outer Galactic Haloor the Galactic Corona):

وهي حالة معتمة للمادة في هيئة غير معروفة قد تكون مكونة من أعداد كبيرة من النجوم المنكدرة، أو الثقوب السوداء، أو كميات مكدَّسة من النيوترونات (Neutrinos)، وتتركز على مسافات تتراوح بين مئتي ألف وثلاث مئة ألف سنة ضوئية من مركز المجرة، الأمر الذي يزيد في أبعاد مجرتنا من خمسة إلى ستة أضعاف ما كان معروفًا إلى أواخر السبعينيات من القرن العشرين.

 ويوجد في تاج مجرتنا من خمسة إلى عشرة أضعاف ما في باقي أجزاء المجرة مجتمعة من كتلة، وهذه الكتل الإضافية الهائلة في مجرتنا توقعتها حسابات الجاذبية وعبَّرت عنها باسم "مشكلة الكتل المفقودة" (The Missing Mass Problem)، وقد أدَّت هذه الحسابات إلى الحقيقة القائمة، التي مؤداها أن 95% من كتلة مجرتنا مكوَّن من مواد غير معروفة لنا تمامًا، وسبحان الذي أنزل من فوق سبع سماوات ومن قبل أربعة عشر قرنًا قوله الحق: )فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول رسول كريم (40)((الحاقة).

وتنتشر بين النجوم سحب دخانية يغلب على تركيبها غاز الإيدروجين الحامل للغبار على هيئة هباءات متناهية في الدقة من المواد الصلبة مكوِّنة ما يعرف باسم المادة بين النجوم (MatterThe Interstellar) التي تمتص ضوء النجوم فتخفيها؛ ولذلك فإن الراصد لمجرتنا من الأرض لا يرى بوضوح أكثر من 15% من مجموع مكوناتها إلا باستخدام المقربات (التلسكوبات الراديوية).

وبالمقارنة بالمجرات الشبيهة يعتقد كثير من الفلكيين أن قرص مجرتنا يجرُّ معه أذرعه اللولبية التي قد ترتفع فوق مستوى النواة، ويعتقدون كذلك أن السحب الدخانية في تلك الأذرع تتحرك بسرعات تتراوح بين الخمسين والمئة كيلو متر في الثانية، وتتراكم هذه السرعات الخطية على سرعة دوران محورية تقدر بنحو 250 كم في الثانية دون أن تنفصل أذرع المجرة عن نواتها بسبب التفاوت في سرعة الأجزاء المختلفة منها.

وهذا الدوران التفاضلي (التفاوتي) يؤدي إلى تسارع المادة الدخانية بين النجوم، ثم إلى كبح سرعتها، الأمر الذي ينتج عنه تكثيفها بدرجة كبيرة؛ ومن ثم تهيئتها لتخلق النجوم الابتدائية (The Pro-or Proto-stars) التي تتطور إلى ما بعد ذلك من مراحل، ومن نجوم مجرتنا ما هو مفرد، وما هو مزدوج وما هو عديد الأفراد. وتدور نجوم مجرتنا في حركة يمينية أساسية منتظمة حول مركز المجرة في اتجاه القطر الأصغر لها، مع وجود الدوران الجزئي لمختلف أجزائها.

 

 

 

 

                                        

  صورة لمجرتنا في وسط الجزء المدرك من السماء الدنيا

 

  1. تجمعات المجرات (Galactic Groups):

 

يحصي علماء الفلك في الجزء المدرك من السماء الدنيا مئتي ألف مليون مجرة -على الأقل- بعضها أكبر من مجرتنا كثيرًا، وبعضها الآخر أصغر قليلًا، والمجرات عبارة عن تجمعات نجمية مذهلة في أعدادها، يتخللها الدخان الكوني بتركيز متفاوت في داخل المجرة الواحدة، التي قد تضم عشرات البلايين إلى بلايين البلايين من النجوم.

وتتباين المجرات في أشكالها كما تتباين في أحجامها وفي شدة إضاءتها، فمنها الحلزوني، والبيضاني (الإهليلجي)، وما هو غير محدد الشكل، ومنها ما هو شديد الإضاءة، وما يبدو على هيئة نقاط باهتة لا تكاد تدرك بأكبر المناظير المقربة (المقاريب)، وتقع أكثر المجرات ضياء في دائرة عظمى تحيط بنا في اتجاه عمودي تقريبًا على مستوى مجرتنا. وتبلغ كتلة الغازات في بعض المجرات ما يعادل كتلة ما بها من نجوم وتوابعها، في حين أن كتلة الغبار تقل عن ذلك بكثير، وكثافة الغازات في المجرة تقدَّر بنحو ذرة واحدة لكل سنتيمتر مكعب، بينما يبلغ ذلك 1910 ذرات/ سم3 في الغلاف الغازي للأرض عند سطح البحر.

وتترتب المجرات في مجموعات تتعاظم في الكبر بالتدريج على النحو الآتي إلى نهاية لا يعلمها إلا الله الخالق سبحانه وتعالى:

  • المجموعة المحلية(The Local Group):

 

تحشد مجرتنا "درب اللبانة" في مجموعة من أكثر من عشرين مجرة في تجمُّع يُعرَف باسم "المجموعة المحلية للمجرات" (The Local Group of Galaxies)، يبلغ قطرها مليون فرسخ فلكي؛ أي يساوي 3,261,500 سنة ضوئية؛ لأن الفرسخ الفلكي الواحد (Astronomical Parsec) يساوي 3,2615 من السنين الضوئية. وتحتوي المجموعة المحلية التي تتبعها مجرتنا على ثلاث مجرات حلزونية، وأربع مجرات غير محددة الشكل، وأعداد من المجرات البيضانية العملاقة والقزمة، وقد تحتوي على عدد أكبر من المجرات الواقعة في ظل مجرتنا، ومن هنا تصعب رؤيتها.

  • الحشود المجرية والحشود المجرية العظمى (Galactic Clusters andSuperclusters):

 

هناك حشود للمجرات أكبر من المجموعة المحلية من مثل حشد مجرات برج العذراء (The Virgo Cluster Of Galaxies) الذي يضم مئات المجرات من مختلف الأنواع، ويبلغ طول قطره مليوني فرسخ فلكي؛ أي أكثر من ستة ملايين ونصف من السنين الضوئية (6,523,000 سنة ضوئية)، ويبعد عنا عشرة أضعاف تلك المسافة (أي عشرين مليون فرسخ فلكي). وهذه الحشود المجرية تصدر أشعة سينية بصفة عامة، وتحوي فيما بينها دخانًا توازي كتلته كتلة التجمع المجري، وتتراوح درجة حرارته بين عشرة ملايين ومئة مليون درجة مطلقة، ويحوى هذا الدخان الإيدروجيني نسبًا ضئيلة من هباءات صلبة مكوَّنة من بعض العناصر الثقيلة بما في ذلك الحديد (بنسب تقترب مما هو موجود في شمسنا)، وقد يشير ذلك إلى اندفاع تلك العناصر من نجوم متفجرة وصلت فيها عملية الاندماج النووي إلى مرحلة إنتاج الحديد (من مثل المستعرات العظمى). وتحوي بعض الحشود المجرية أعدادًا من المجرات قد تصل إلى عشرة آلاف مجرة، ويحصي علماء الفلك آلافًا من تلك الحشود المجرية ويقررون تكدسها في حشود أكبر يسمونها باسم الحشود المجرية العظمى (Galactic Super clusters).وقد أحصى الفلكيون منها أعدادًا كبيرة على بعد مليوني سنة ضوئية منا.

ومن المعتقد اليوم أن المجموعة المحلية (The Local Group) التي تنتمي إليها مجرتنا (درب اللبانة)، والحشود المجرية المحيطة بها من مثل حشد مجرات برج العذراء (The Virgo Cluster Of Galaxies) تكوِّن تجمُّعًا أكبر يعرف باسم الحشد المجري المحلي الأعظم (The Local Galactic Super cluster) يضم قرابة المئة من الحشود المجرية على هيئة قرص واحد يبلغ قطره مئة مليون من السنين الضوئية، ويبلغ سمكه عشر ذلك (أي عشرة ملايين من السنين الضوئية)، وهي نسبة سمك مجرتنا نفسها (درب اللبانة) إلى طول قطرها، فسبحان الذي بنى السماء على نمط واحد بهذا الانتظام الدقيق ليشهد له بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه.

وتبدو الحشود المجرية والحشود المجرية العظمى على هيئة كروية تدرس في شرائح مقطعية تكون أبعادها في حدود (150 × 100 × 150) سنة ضوئية، وأكبر هذه الشرائح يُسمَّى مجازًا باسم "الحائط العظيم" (The Great wall)، يزيد طوله على 250 مليون سنة ضوئية، وقد تمَّ الكشف أخيرًا عن نحو مئة من الحشود المجرية العظمى التي تكوِّن حشدًا أعظم على هيئة قرص يبلغ طول قطره (2) بليوني سنة ضوئية، وسمكه مئتي مليون سنة ضوئية (وهي نفس نسبة سمك كل من مجرتنا إلى طول قطرها، وسمك الحشد المجري المحلي الأعظم الذي تنتمي إليه مجرتنا إلى طول قطره). ويعتقد عدد من الفلكيين المعاصرين أن في الجزء المدرك من الكون تجمعات أكبر من ذلك.   

 

 

هذه الصورة توضح بعض مجرات السماء

والنجوم في مختلف تجمعاتها وحشودها، وعلى مختلف هيئاتها ومراحل نموها -تمثل أفرانًا نووية كونية يخلق الله سبحانه وتعالى فيها مختلف صور المادة، والطاقة اللازمة لبناء الجزء المدرك من الكون بعمليات الاندماج النووي بين نوى العناصر الخفيفة كالإيدروجين والهيليوم لإنتاج العناصر الأعلى في وزنها الذري.

وبالإضافة إلى النجوم وتوابعها المختلفة هناك السدم (Nebulae) على تعدد أشكالها وأنواعها، وهناك المادة بين النجوم، وهناك المادة الداكنة، وغير ذلك من مكونات الجزء المدرك من الكون، المحسوس منها وغير المحسوس من مختلف صور المادة والطاقة المدسوسة في ظلمة الكون، ويقدِّر الفلكيون كتلة الجزء المدرك من السماء الدنيا بمئة ضعف كتلة المادة والطاقة المرئية المحسوسة، بمعنى أننا في زمن تفجر المعرفة الذي نعيشه، لا ندرك إلا عشرة في المئة فقط من الجزء الذي وصل إليه علمنا من السماء الدنيا، وسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربع مئة سنة قوله تعالى:)وما أوتيتم من العلم إلا قليلا( (الإسراء:٨٥)، وقوله تعالى:)لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57)((غافر)([2]).

 

إن هذا الكون العظيم يدل على عظمة خالقه سبحانه وتعالى وإحكامه له في شكل بناء محكم، فبعد أن اكتشف الفلكيون تلك المناطق المظلمة من الكون المدرك في "كوكبة العواء" أو "كوكبة راعي الشتاء" التي تقع في نصف الكرة الشمالي، وظنوها فراغات هائلة أو فقاعات عظيمة، تبين لهم بعد ذلك أن أمثال تلك المناطق المظلمة منتشرة في مختلف أرجاء الكون المنظور، وحتى في داخل مجرتنا، وأنها من أساسيات النظام الكوني ومن أسرار بنائه، وأن لها دورًا مهمًّا في تماسك ذلك البناء.

وفي سنة 1989م تم اكتشاف ما يسمى باسم "الحائط العظيم"، وهو عبارة عن حشد هائل من تجمعات المجرات يبلغ طوله نحو مئتين وخمسين مليونًا من السنين الضوئية، وعرضه نحو مئتي مليون سنة ضوئية، وسمكه نحو خمسة عشر مليونًا من السنين الضوئية، وقد اكتشف الفلكيون في داخل هذا "الحائط العظيم" عديدًا من المناطق المظلمة الشاسعة الأبعاد، التي تفصل بين كل من المجرات والتجمعات المجرية بمختلف مستوياتها، وتبدو هذه المناطق المظلمة وكأنها مناطق جذب فائقة الشدة، مرتَّبة ترتيبًا دقيقًا وبأشكال هندسية محدَّدة، وتتوزع المجرات حولها، وكأنها خلايا عظيمة البناء متصلة بشكل هندسي بديع حول المناطق المظلمة التي يبدو أنها مشدودة إلى مراكز تلك المناطق بقوى فائقة للغاية إلى ما قد أشير إليه آنفًا باسم المادة الداكنة التي يراها البعض أربطة كونية شديدة على هيئة جسيمات فائقة الكتلة لم يُتمكَّن من اكتشافها بعد؛ أو على هيئة قوة كهرومغناطيسية ذات موجات غير معروفة تؤثر في المادة التي تنتشر حولها، وقد تكون ناتجة عن الحركة الدورانية الشديدة في كل أجرام السماء، وهذه الكتل المظلمة أو الفقاعات الدخانية الضخمة التي لا تحوي أي أجرام منظورة، قد تضم بجوار المادة الداكنة والأجرام غير المنظورة أعدادًا هائلة من الجسيمات المادية والإشعاعات الكونية، وربما بعض الغازات المتأينة المعروفة باسم "البلازما"، ويبدو أنها من أسرار بناء السماء، ومن ضرورات قيامها واتزانها، ومن لوازم انتشار كل من المادة والطاقة في مختلف أرجائها، وأن لها دورًا مهمًّا في بناء التجمعات المجرية العظمى يفوق دور تجاذب المجرات فيما بينها([3]).

إن هذا البناء العجيب العظيم قد جعل بعض العلماء يذكرون مسمَّى "لبنات البناء الكوني"، وهذا مثال على كلمات رددها علماء غربيون حديثًا، وهي موجودة في القرآن قبل مئات السنين، ففي أحد الأبحاث التي أطلقها المرصد الأوربي الجنوبي يصرِّح مجموعة من العلماء بأنهم يفضلون استخدام كلمة "لبنات بناء من المجرات" بدلًا من كلمة "المجرات" ويؤكدون أن الكون مزين بهذه الأبنية تمامًا كالخرز المصفوفة على العقد أو الخيط! ففي هذا البحث يقول بول ميلر وزملاؤه:

The first galaxies or rather، the first galaxy building blocks، will form inside the threads of the web. When they start emitting light, they will be seen to mark out the otherwise invisible threads, much like beads on a string.

ومعناه: (إن المجرات الأولى أو بالأحرى لبنات البناء الأولى من المجرات سوف تتشكل في خيوط النسيج، وعندما تبدأ ببث الضوء سوف تُرى وهي تحدد مختلف الخيوط غير المرئية، وتشبه إلى حد كبير الخرز على العقدة).

وليس هذا هو العالم الوحيد الذي يعتقد ذلك، بل جميع العلماء يؤكدون حقيقة البناء الكوني، ولا تكاد تخلو مقالة أو بحث من استخدام مصطلح بنية الكون، وهذا يدل على أن العلماء متفقون اليوم على هذه الحقيقة العلمية؛ أي حقيقة البناء.

وليس هذا فحسب، بل إن بعض العلماء تكلموا عن تزيين الكواكب والنجوم والمجرات والثقوب السوداء لهذا الكون العظيم؛ لذلك نجدهم عندما يتحدثون عن البناء الكوني يتحدثون أيضًا عن تشبيه جديد، وهو أن المجرات وتجمعاتها تشكِّل منظرًا رائعًا بمختلف الألوان: الأزرق، والأصفر، والأخضر مثل الخرز على العقد، أو مثل اللآلئ المصفوفة على خيط؛ أي إن هؤلاء العلماء يرون بناءً وزينة، ففي إحدى المقالات العلمية نجد كبار علماء الفلك في العالم يصرحون بعدما رأوا بأعينهم هذه الزينة:

Scientists say that matter in the Universe forms a cosmic web, in which galaxies are formed along filaments of ordinary matter and dark matter like pearls on a string.

ومعناه: (يقول العلماء: إن المادة في الكون تشكل نسيجًا كونيًّا، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد).

هم في أبحاثهم إذًا يتساءلون عن كيفية بناء الكون، ثم يقررون وجود بناء محكم، ويتحدثون عن زينة هذا البناء، ويقررون أن الكون يمتلئ بالمادة العادية المرئية والمادة المظلمة التي لا تُرى، أي لا وجود للفراغ أو الشقوق أو الفروج فيه، حتى الفراغ بين المجرات الذي ظن العلماء أنه خالٍ تمامًا، اتضح حديثًا أنه ممتلئ تمامًا بالمادة المظلمة، وهذا يثبت أن السماء خالية من أي فروج أو شقوق أو فراغ.

وهذا هو أحد العلماء يؤكد أن الكون بأكمله عبارة عن بناء عظيم فيقول:

One of the most obvious facts about the Universe is that it shows a wealth of structure on all scales from planets, stars and galaxies up to clusters of galaxies and super-clusters extending over several hundred million light years.

ومعنى هذا: (إن من أكثر الحقائق وضوحًا حول الكون أنه يظهر غنى في البناء على كافة المقاييس من الكواكب والنجوم والمجرات، وحتى تجمعات المجرات والتجمعات المجرية الكبيرة الممتدة لعدة مئات الملايين من السنوات الضوئية)([4]).

 

 

 

 

هذه الصورة توضح أن المادة في الكون تشكل نسيجًا كونيًّا، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد

 

ومما سبق بيانه يتضح لنا أن السماء بناء متماسك متين ومحكم بكيفية فريدة ربانية، بحيث لا نرى في خلق الرحمن من تفاوت، فلا خلل ولا اضطراب في هذا التشييد الضخم، بل هناك توازن كوني دائم إلى أجل مسمى، فرب العالمين قد بناها وزيَّنها وأوحى في كل سماء أمرها بتقدير واتساع دون أن يكون لها فروج([5]).

2) التطابق بين الحقيقة العلمية وإشارات القرآن الكريم:

لقد اعتاد المغالطون أن ينفوا ما أشار إليه القرآن الكريم من لمحات علمية إعجازية، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى:)والسماء وما بناها (5)((الشمس)، وهذه الإشارة التي سبق إليها القرآن، وتحدث عنها بدقة فائقة قد أثبتها العلم الحديث، بل إنه صوَّب خطأهم عندما زعموا أن الكون عبارة عن فضاء خارجي في بداية اكتشافاتهم العلمية، ثم بدءوا يغيِّرون مصطلحهم من "فضاء" إلى "بناء". إذًا هم اكتشفوا أنهم مخطئون فعدلوا عنها إلى ما هو أدق وأصح منها بعدما اكتشفوا المادة المظلمة، ولكن القرآن الكريم المنزَّل من الذي يعلم أسرار السماوات والأرض أعطانا التعبير الدقيق مباشرة، بل إنه أثبت البناء والتزيين في آية واحدة يقول سبحانه وتعالى:)أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)((ق)، بل إنه تحدَّى الكفار والمشركين بهذا الخلق العظيم الهائل قائلًا: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27)((النازعات).

 

  • المعنى اللغوي لكلمة "البناء":

لقد ارتبط لفظ البناء في آيات القرآن الكريم بلفظ السماء، وهذا دليل على سبق القرآن الكريم لكل الكشوف العلمية الحديثة، وإذا عدنا إلى المعاجم العربية لنتعرف إلى معنى كلمة "بنى" فإننا نجد معناها: بنى الشيء بنيًا وبناءً وبنيانًا: أقام جداره ونحوه([6]).

ويقول صاحب لسان العرب: بنى فلان بيتًا بناءً، وابتنى دارًا، والبنيان: الحائط، ولفظ البناء تشبيهًا بذلك من حيث كان مسكونًا وحاجزًا ومظلًّا بالبناء من الآجر والطين والجص([7]).

ويقول الطاهر ابن عاشور: البناء: جَعْلُ بيت أو دار من حجارة أو آجر أو أدم أو أثواب من نسيج الشعر مشدودة بعضها إلى بعض بغرز أو خياطة ومقامة على دعائم، فما كان من ذلك بأدم يُسمَّى "قبة"، وما كان بأثواب يسمَّى خيمة وخباء.

وبناء السماء: خلقها، استُعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع، وقد أكَّد هذا البناء بتوضيحه في الآية الثانية، والسَّمْك: الرفع في الفضاء كما اقتصر عليه الراغب سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها وهو مصدر سمك، والرفع: جعل جسم معتليًا وهو مرادف للسمك، فتعدية فعل "رفع" إلى "السمك" للمبالغة في الرفع([8]).

وهكذا نجد أن كلمة بناء تدل دلالة قاطعة إذا أُضيفت إلى كلمة السماء على هذا البناء المتكامل في الفضاء، فنرى الكواكب والنجوم والمجرات وتجمعات المجرات والثقوب السوداء، كل ذلك في بناء متكامل يشهد بعظمة بانيها وخالقها سبحانه وتعالى.

  • أقوال العلماء والمفسرين تؤكد إشارة القرآن للحقيقة العلمية:

لقد أكدت آراء المفسرين تلك الحقيقة العلمية عند تفسيرهم للآيات التي تحدثت عن بناء السماء.

يقول الإمامالطبري رحمه الله:  )والسماء وما بناها(5)((الشمس)،يقول جل ثناؤه: والسماء ومن بناها، يعني: ومن خلقها. وبناؤه إياها: تصييره إياها للأرض سقفًا، وبنحو ذلك قال أهل التأويل.

 

وعن مجاهد قال: "والسماء وما بناها" قال: الله بنى السماء.

وفي تفسير قوله سبحانه وتعالى:  )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها (6)((ق)؛ أي فسوَّيناها سقفًا محفوظًا، وزيَّناها بالنجوم (وما لها من فروج) يعني: وما لها من صدوع وفتوق.

 

وقال في تفسير قوله سبحانه وتعالى:  )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27)((النازعات).

 

يقول: وعنى بقوله: "بناها": رفعها فجعلها للأرض سقفًا.

وقوله سبحانه وتعالى: )رفع سمكها فسواها (28)((النازعات)، يقول سبحانه وتعالى: فسوى السماء فلا شيء أرفع من شيء، ولا شيء أخفض من شيء، ولكن جميعها مستوي الارتفاع والامتداد([9]).

 

ويقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )أم السماء بناها (27)((النازعات)، وقد كرَّر ذكر البناء في السماوات في مواضع كثيرة؛ لأن البناء باقٍ إلى قيام الساعة لم يسقط منه شيء ولم يعدم منه جزء، وهي كالبناء المبني الثابت، وأنها ترى كالقبة المبنية فوق الرءوس([10]).

 

وقال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله سبحانه وتعالى:  )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها(قال: "بناها": أي: رفعها فوقكم كالبناء، "رفع سمكها"، أي: أعلى سقفها في الهواء، ويقال: سمكت الشيء: أي رفعته في الهواء وسمك الشيء سموكًا: ارتفع. وقال الفراء: كل شيء حمل شيئًا من البناء وغيره فهو سمك، وقوله سبحانه وتعالى: "فسواها" أي خلقها خلقًا مستويًا، لا تفاوت فيه ولا شقوق ولا فطور([11]).

 

وفي تفسير قوله سبحانه وتعالى: "كيف بنيناها" فرفعناها بلا عمد، و"زيناها" بالنجوم، "وما لها من فروج" جمع فرج وهو الشق. وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق([12]).

ويقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله عز وجل: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها( قوله تعالى: "بناها" فسَّره بقوله: "رفع سمكها فسواها"؛ أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكلَّلة بالكواكب في الليلة الظلماء([13]).

وقال في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)((ق)؛ أي: زيناها بالمصابيح، و "ما لها من فروج" قال مجاهد: يعني شقوق. وقال غيره: يعني فتوق، وقال غيره: صدوع. والمعنى متقارب([14]).

وقال في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون (47)( (الذاريات) أي: جعلناها سقفًا محفوظًا رفيعًا، و"إنا لموسعون"؛ أي: قد وسَّعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد حتى استقلَّت([15]).

ويقول الشيخ سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله سبحانه وتعالى: "والسماء وما بناها": "وما هنا مصدرية، ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا، تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها، فأما حقيقة السماء فلا ندريها، وهذا الذي نراه فوقنا متماسكًا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه، أما كيف هو مبني، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولًا ولا آخرًا، فذلك لا ندريه، إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي التي تمسك هذا البناء"([16]).

 )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها( (النازعات): "هذه السماء الأشد خلقًا بلا مراء.. "بناها".. والبناء يوحي بالقوة والتماسك، والسماء كذلك متماسكة، لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها، ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها، ولا تتهاوى ولا تنهار، فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء. )رفع سمكها فسواها (28) ((النازعات)، وسمك كل شيء قامته وارتفاعه، والسماء مرفوعة في تناسق وتماسك، وهذه هي التسوية:)فسواها (والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق، والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة، وتنسِّق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ـ توسِّع من معنى هذا التعبير، وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة، التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافًا منها، ووقفوا تجاهها مبهورين، تغمرهم الدهشة، وتأخذهم الروعة، ويعجزون عن تعليلها بغير افتراض قوة كبرى مدبِّرة مقدِّرة، ولو لم يكونوا من المؤمنين بدين من الأديان إطلاقًا"([17]).

 

إن هذا التطابق بين أقوال المفسرين في تفسير الآيات التي تؤكد أن السماء بناء محكم ومزين بكل ما فيه من كواكب ونجوم، وبين ما توصَّل إليه العلم الحديث. ليؤكد هذا السبق للقرآن الكريم؛ لذلك وجدنا العلماء يتساءلون عن كيفية هذا البناء، ويقررون أن الكون يمتلئ بالمادة العادية المرئية والمادة المظلمة التي لا تُرى؛ أي لا وجود للفراغ أو الشقوق أو الفروج فيه. والمفاجأة أن القرآن يتحدَّث بدقة تامة وتطابق مذهل عن هذه الحقائق في آية واحدة، والأعجب من ذلك أن هذه الآية تخاطب الملحدين والمنكرين الذين كذبوا بالقرآن، وتدعوهم للنظر والتأمل والبحث عن كيفية هذا البناء وهذه الزينة الكونية، وتأمل ما بين هذه الزينة كإشارة إلى المادة المظلمة، تمامًا مثلما يرون. يقول سبحانه وتعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) ((ق)،والفروج في اللغة هي الشقوق، ثم نتأمل كيف يتحدث هؤلاء العلماء في أحدث اكتشاف لهم عن كيفية البناء لهذه المجرات، وكيف تتشكَّل وكيف تُزين السماء كما تزيِّن اللآلئ العقد، وتأمَّل أيضًا ماذا يقول البيان الإلهي مخاطبًا هؤلاء العلماء وغيرهم من غير المؤمنين:  )وما لها من فروج(، حتى الفراغ بين المجرات، الذي ظنَّه العلماء أنه خالٍ تمامًا، اتضح حديثًا أنه ممتلئ تمامًا بالمادة المظلمة، وهذا يثبت أن السماء خالية من أي فروج أو شقوق أو فراغ([18]).

3) وجه الإعجاز:

لقد استخدم القرآن الكريم لفظ "بناء" في أكثر من آية، لوصف ما في الكون من نظام محكم وبديع، وفي هذا إشارة إلى سبق القرآن الكريم لكل الحقائق العلمية الحديثة، يقول الله عزَّ وجل:)والسماء وما بناها (5) ((الشمس)، ويقول سبحانه وتعالى: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها(27)((النازعات)، ويقول سبحانه وتعالى: )أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) ((ق) وغيرها من الآيات التي تربط لفظ "البناء" بـ "السماء"، وسبحان من أنزل هذا القرآن الحق، يطلب منهم أن ينظروا إلى السماء من فوقهم، ويطلب منهم أن يبحثوا كيف بناها وكيف زيَّنها، وهم يتحدثون عن هذا البناء، وأنهم يرونه واضحًا، ويتحدثون عن شكل المجرات الذي يبدو لهم كالخرز الذي يزيِّن العقد، ونجدهم في أبحاثهم يستخدمون كلمات القرآن نفسها، ففي المقالات الصادرة حديثًا نجد هؤلاء العلماء يطرحون سؤالًا يبدءونه بالكلمة القرآنية "كيف" نفسها، وهذا يدل على أن مصطلحات القرآن تُستخدم اليوم في الاكتشافات العلمية الحديثة دون تغيير، ودليل على سبق القرآن إلى استخدام هذه المصطلحات وبشكل أكثر دقة ووضوحًا وجمالًا، ولو بحثنا في هذه الآيات التي تناولت بناء الكون لوجدنا أن البيان الإلهي يؤكد دائمًا هذه الحقيقة؛ أي البناء الكوني المتماسك بشدة.

إن ضخامة هذا الكون بكل ما فيه من كواكب ونجوم ومجرات ومجمعات لهذه المجرات، وهذا التناسق الكامل بين كل هذه المخلوقات الموجودة في الكون مع اتساعها وعظمة حجمها. حريٌّ أن يُقسم الله سبحانه وتعالى به في قوله: )والسماء وما بناها (5)( (الشمس) والله لا يقسم إلا بعظيم. أليس في هذا دلالة على عظمة الخالق، وعلى كون هذا القرآن من عنده سبحانه وتعالى خالق هذا الكون بكل ما فيه من عجائب وغرائب؟!

 

 

(*) نقض النظريات الكونية، محمد بن عبد الله الإمام؛ ط. 1، اليمن – صنعاء: دار الآثار للنشر والتوزيع؛ 1429هـ/ 2008م، 550ص.

 

[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، شركة حرف لتقنية المعلومات، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص32- 33.

 

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص279- 290.

 

[3]. المرجع السابق، ص360- 362.

 

[4]. البناء الكوني: كلمات قرآنية يردِّدها علماء الغرب، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (23)، المحرم 1427هـ، ص16، 17.

 

[5]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مرجع سابق، ص44.

 

[6]. المعجم الوسيط، مادة: بنى.

 

[7]. لسان العرب، مادة: بنى.

 

[8]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، مج15، ج30، ص84، 85.

 

[9]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، ط.1، مؤسسة الرسالة، 1420هـ/ 2000م، ج24، ص205.

 

[10]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها(27)(.

 

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مؤسسة الرسالة، ط.1، 1427هـ/ 2006م، ج19، ص203، 204.

 

[12]. المرجع السابق، ج17، ص6 بتصرف.

 

[13]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط.2، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1420هـ/1999م، ص468 بتصرف.

 

[14]. المرجع السابق، ج4، ص222 بتصرف.

 

[15]. المرجع السابق، ج4، ص237 بتصرف.

 

[16]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3916، 3917.

 

[17]. المرجع السابق، ج6، ص3816.

 

[18]. البناء الكوني: كلمات قرآنية يردِّدها علماء الغرب، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، العدد (23)، ص16 بتصرف.

 

  • الخميس AM 02:22
    2020-09-03
  • 1321
Powered by: GateGold