المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413779
يتصفح الموقع حاليا : 238

البحث

البحث

عرض المادة

عبادة الصور والتماثيل

شمل اقتباس النصرانية من الديانات والوثنيات المجاورة كل أمور العقيدة والشريعة والشعائر، كما شمل الذوق والإحساس والمظاهر العامة، فلم يكن شيء من عقائدها وطقوسها إلا وعليه بصمات وثنية واضحة يتجلى ذلك في التماثيل والصور التي لا يخلو منها دير أو كنيسة رغم أن شريعة التوراة تحرم التصوير ونحت التماثيل وتعده من أعمال الوثنيين (سفر التثنية).ونشأت عبادة الصور والتماثيل -كأية بدعة أخرى- محدودة النطاق، ثم نمت تدريجياً وانتشرت في أرجاء واسعة، لكنها لم تدخل في صلب الديانة المسيحية بصفة رسمية إلا في مجمع نيقية الثاني كما سيأتي:يقول: (ول ديورانت): "كانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل، وتعدها بقايا من الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة، ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية، ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور، ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب، حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة".وأطلق الشعب العنان لفطرته، فحول الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجد لها الناس ويقبلونها، ويوقدون الشموع، ويحرقون البخور أمامها ويتوجونها بالأزهار ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي.(وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص كنت ترى الصور المقدسة في كل مكان في الكنائس والأديرة والمنازل والحوانيت وحتى أثاث المنازل والحلي والملابس نفسها لم تخل منها، وأخذت المدن التى تتهددها أخطار الوباء أو المجاعة أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية، أو على ما فيها من الأولياء والقديسين .. للنجاة من هذه الكوارث) (1)تلك هي الصورة مجملة في القرون المسيحية الأولى، ولكن المد الإسلامي العظيم في القرن الثامن الذي شمل معظم المعمورة أحدث بتعاليمه التوحيدية الخالصة أثراً قوياً في البيئات الوثنية المجاورة -لا سيما دولة الروم النصرانية- وبفضل هذا التأثير أحس الغربيون بسخافة معتقداتهم وضحالة تفكيرهم مبهورين بما لدى المسلمين من عقيدة ناصعة وحضارة شامخة.لذلك، فقد قامت في الغرب في فترات متقطعة من تاريخه حركات معادية لهذه البدعة من أشهرها: محاولة الامبراطور (ليو الثالث) الذي أصدر مرسوماً يطلب فيه طمس الصور وإزالة التماثيل، وأراد بذلك أن يزيل عن أمته ودينها هذه الوصمة الشنيعة التي تظهره بمظهر النقص أمام أعدائه المسلمين، لكن الكنيسة رفضت ذلك وضجت الأديرة والكنائس وثار الشعب، واتفق الكل على خلعه والمناداة بإمبراطور آخر.غير أن الحركة لم تمت، بل ظل أوارها يستعر، فاجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا (جريجوري الثاني)، وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل (1).وفي عهد أحفاده عاد الصراع من جديد، وظلت المسألة تتأرجح بين الحرمة والحل حتى دعت الامبراطورة (إيريني) التي كانت معاصرة لهارون الرشيد رجال الدين في العالم المسيحي إلى عقد مجمع عام لبحث المسألة واتخاذ قرار حاسم حيالها، فاجتمع مجمع نيقية الثاني سنة (787) وحضر (350) أسقفاً واتخذ القرار الآتي:إنا نحكم بأن توضع الصور ليس في الكنائس والأبنية المقدسة والملابس الكهنوتية فقط بل في البيوت وعلى الجدران في الطرقات؛ لأننا إن أطلنا مشاهدة ربنا يسوع المسيح ووالدته القديسة والرسل وسائر القديسين في صورهم شعرنا بالميل الشديد إلى التفكير فيهم والتكريم لهم، فيجب أن تؤدى التحية والإكرام لهذه الصور، لا العبادة التي لا تليق إلا بالطبيعة الإلهية (1).وبذلك انتصرت وثنية الكنيسة على أفكار معارضيها ردحاً من الزمان، وحسبت أن العبادة تعني الركوع والسجود ولا شيء غير ذلك.وبعد ذلك بقرابة ثلاثة قرون، اتصل الغرب الوثني بالشرق المسلم اتصالاً أقوى عن طريق الحروب الصليبية، فكان ذلك عاملاً فعالاً في بعث الحركة المناهضة لعبادة الصور والتماثيل، ونادى كثير من المصلحين الكنيسيين بذلك، وبظهور الحركة الإصلاحية تزعم البروتستانت الحرب على الصور والتماثيل وحرمتها كنائسهم، إلا أن الغالبية الكاثوليكية لا تزال تقدسها وتلعن محطميها.وربما دهش المرء إذا علم أن تقديس الصور عادة غربية شائعة في عصرنا الحاضر ليس في الأوساط الدينية فحسب، بل في الأوساط العامة وبعض المثقفين (2).وبلغ بصورة المسيح وأمه حد الابتذال والامتهان، وكانت الطامة الكبرى في الأفلام السينمائية حيث وصل السخف والاستهتار بإحدى الشركات السويدية (وربما كانت يهودية) سنة (1397هـ) إلى إنتاج فيلم عن (حياة المسيح الجنسية) والغريب أن الدول الغربية اتخذت موقفاً سلبياً تجاه هذه الفعلة الشريرة، بينما بعثت بعض المنظمات الإسلامية نداءات لإيقاف الفيلم.ولم يقتصر الأمر على المسيح وأمه، بل إن الكنيسة تجرأت على البارئ جل شأنه، وصورته كما تصور المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.يقول الأستاذ ناصر الدين دينيه:"الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لم يتخذ فيه الإله شكلاً بشرياً أو ما إلى ذلك من الأشكال، أما في المسيحية فإن لفظ الله تحوطها تلك الصورة الآدمية لرجل شيخ طاعن في السن، قد بانت عليه جميع دلائل الكبر والشيخوخة والانحلال، فمن تجاعيد الوجه غائرة إلى لحية بيضاء مرسلة مهملة تثير في النفس ذكرى الموت والفناء، ونسمع القوم يصيحون (ليحيي الله) فلا نرى للغرابة محلاً، ولا نعجب لصيحاتهم وهم ينظرون إلى رمز الأبدية الدائمة، وقد تمثل أمامهم شيخاً هرماً قد بلغ أرذل العمر فكيف لا يخشون عليه من الهلاك والفناء؟! وكيف لا يطلبون له الحياة؟! كذلك (يا هو) الذي يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي، فهم يجعلونه في مثل تلك المظاهر المتهالكة، تراه في متحف الفاتيكان ونُسَخ الأناجيل القديمة المصورة" (1).هذا وليس تصوير الإله انحرافاً في نظر الكنيسة؛ فإن أحد علمائها يقرر (أنه لا يمكننا أن نفهم الله إلا عن طريق تصوره بالصور البشرية) (2).ولنا بعد ذلك أن نتصور ما تحدثه هذه الوثنية الساذجة في نفس الإنسان الغربي المتثقف ومدى ما تنفره من الدين وتجعله فريسة الأفكار الإلحادية المتخفية بلباس (العلم والمعرفة).بقي أن نعلم أنه لم تكن عبادة الصور والتماثيل هي الاقتباسة الوثنية الوحيدة، بل كانت الأمم الأوروبية المتوحشة تدخل في النصرانية اسمياً مع بقاء عقائدها وتقاليدها الوثنية بحالها وتتغاضى الكنيسة عن ذلك مقابل الخضوع لها ودفع الضرائب المستحقة، فلم تكن تهدف إلى هداية الناس، بل إلى بسط سلطانها ونفوذها، لا سيما وأنها ليست مهتدية في ذاتها.ومن أوضح الأمثلة على ذلك دخول الجزر البريطانية في المسيحية، فقد كان البريطانيون شديدي التمسك بوثنيتهم. ودار بينهم وبين الكنيسة صراع طويل، ولما رأى البابا (جريجوري) ذلك (اصطنع اللين مع من بقي في إنجلترا من الوثنيين، وأجاز تحويل الهياكل إلى كنائس بأن تحول عادة التضحية بالثيران في يسر ولطف إلى ذبحها لإنعاشهم لمديح الله، وبهذا كان كل ما طرأ على الإنجليز من تغير، هو تحولهم من أكل لحم البقر حين يحمدون الله إلى حمد الله حين يأكلون لحم البقر) (1).

  • الاحد PM 07:50
    2016-04-03
  • 3860
Powered by: GateGold