المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413606
يتصفح الموقع حاليا : 243

البحث

البحث

عرض المادة

عِصْمةُ الأنبياء والرسل

كتبه: عبد المجيد فاضل.

بسم الله الرحمن الرحيم.

تمهيد:

الحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياء وسيدِ المرسلين، وبعدُ:

قال الحقُّ سبحانه: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ﴾ [البقرة: 285].

ذكر الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره لهذه الآية، أنَّ مِنْ مراتِبِ الإيمان بِالرُّسُلِ: "أنْ يَعْلَمَ كَوْنَهم مَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ".

هذا، ولقد أفْرَدْتُ بحثاً خاصًّا بِعِصمةِ رسولِنا وحبيبِنا مُحَمَّدٍ ﷺ من الذنوبِ، بعنوان «عصمةُ النَّبِيِّ الطّاهِر مِنَ الزّلّات والصّغائِر»؛ وأَمَّا هذا البحثُ فهو يَنشُد بيانَ عصمةِ باقي الأنبياء والمرسلين، وإلْقاءَ الضوء على أهَمِّ النصوص التي يُشعِر ظاهرُها أنّ بعضَهم قد وقَعوا في بعض الذنوب والمعاصي.

الفصل الأوّل: المُقدّماتُ المُمَهِّداتُ.

المقدّمة الأولى: تعريف العصمة:

قال ابن منظور الأنصاري (ت 711هـ) في «لسان العرب»: "عصم: العِصْمة فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: المَنْعُ. وعِصْمةُ اللَّهِ عَبْدَه: أَنْ يَعْصِمَه مِمَّا يُوبِقُه. عَصَمه يَعْصِمُه عَصْماً: منَعَه ووَقَاه".

وعرَّف علي بن محمد الشريف الجرجاني (ت 816هـ) العِصمة بقوله: "العِصمة: مَلَكَةُ اجتنابِ المعاصي مع التَّمَكُّنِ منها". [كتاب التعريفات، علي بن محمد الشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 1403هـ - 1983م، ص148].

وقال الإمامُ مجد الدين الفيروزآبادي (ت 817هـ) مُعرِّفاً عصمةَ الأنبياء: "وعِصمة الأَنبياءِ: حِفْظ الله تعالى إِيّاهم بما خصّهم به من صفاءِ الجوهر، ثم بما أَوْلاهم من الفضائل النفسيّة والجسميّة، ثمّ بالنُصْرة وتثبيتِ أَقدامهم، ثم بإِنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم، وبالتوفيق". [بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، مجد الدين الفيروزآبادي، تحقيق: محمد علي النجار، نشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، عام النشر: 1412هـ – 1992م، ج4 ص73].

وقال الإمامُ القرطبي (671 هـ) – عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} –: "وَسُمِّيَتِ الْعِصْمَةُ عِصْمَةً لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ".

المقدّمة الثانية: وجوبُ معرفة شرَف الأنبياء وتعظيمهم.

لقد أشار القاضي عياض إلى أنَّ أجساد الأنبياءِ كانت في الأرض، وقلوبَهم كانت تُحلِّق في السماء، فقال في كتابه (الشفا): "قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ مَلَكࣰا لَّجَعَلۡنَـٰهُ رَجُلًا}، أي: ما كان إلا في صورة البشر الذين يمكنكم مخالطتهم إذ لا تطيقون مقاومةَ الملَك، ومخاطبتَه، وَرُؤْيَتَهُ، إِذَا كَانَ عَلَى صُورَتِهِ..

وَقَالَ تَعَالَى: {قُل لَّوۡ كَانَ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَلَـٰۤىِٕكَةࣱ یَمۡشُونَ مُطۡمَىِٕنِّینَ لَنَزَّلۡنَا عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَلَكࣰا رَّسُولࣰا}، أَيْ: لَا يُمْكِنُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ إِرْسَالُ الْمَلَكِ إِلَّا لِمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاصْطَفَاهُ وَقَوَّاهُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ.

فَالْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ، يُبَلِّغُونَهُمْ أوامرَه ونواهيه ووعْدَه ووعيدَه، ويُعرِّفوهم بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ، وَجَلَالِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَمَلَكُوتِهِ..

فَظَوَاهِرُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ وَبِنْيَتُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بأوصاف البشر، طارئٌ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَنُعُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ..

وَأَرْوَاحُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بِأَعْلَى مِنْ أَوْصَافِ الْبَشَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى، مُتَشَبِّهَةٌ بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ سَلِيمَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ والآفات..

لَا يَلْحَقُهَا غَالِبًا عَجْزُ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا ضَعْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ.. إِذْ لَوْ كَانَتْ بَوَاطِنُهُمْ خَالِصَةً لِلْبَشَرِيَّةِ كَظَوَاهِرِهِمْ لَمَا أَطَاقُوا الْأَخْذَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَرُؤْيَتَهُمْ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ، وَمُخَالَّتَهُمْ. كَمَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُمْ مِنَ البشر.

ولو كانت أجسادُهم وَظَوَاهِرُهُمْ مُتَّسِمَةً بِنُعُوتِ الْمَلَائِكَةِ وَبِخِلَافِ صِفَاتِ الْبَشَرِ لَمَا أَطَاقَ الْبَشَرُ وَمَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ مُخَالَطَتَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى.

فَجُعِلُوا مِنْ جِهَةِ الْأَجْسَامِ وَالظَّوَاهِرِ مَعَ الْبَشَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ وَالْبَوَاطِنِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ.

كَمَا قَالَ ﷺ: «لو كنت مُتّخِذاً من أمتي خليلا لاتخذت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ.. لَكِنْ صاحبُكم خليل الرحمن».. وَكَمَا قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي».

وقال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ.. إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويسقيني»؛ فبواطنهم منزهة عن الآفات، مطهرة عن النقائص والاعتلالات". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص224-227].

ولهذا السبب وجب توقيرُ الأنبياءِ، والتّأدّب عند ذِكرِهم، جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية): "يَجِبُ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ تَوْقِيرُ الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ تَعْظِيمُهُمْ وَإِكْرَامُ ذِكْرِهمْ، وَتَجَنُّبُ أَيِّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ". [الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، ج40 ص46].

المقدّمة الثالثة: أهمِّيّةُ البحث في مسألة عصْمةِ الأنبياء.

إنّ مسألةَ عصْمةِ الأنبياء لها علاقة باتباعهم والتّأسِّي بهم؛ ولذلك اهتمّ جمهورُ علماء الأصول بالبحث فيها ودراستها، قال الدكتور محمد حسن هيتو: "لقد قدّم جمهورُ الأصوليين هذا البحثَ على الخوض في أفعال الأنبياء وأقوالهم؛ لِمَا في اعتقاد العصمة من الأهمية لِمَا يصدر عنهم عليهم الصلاة والسلام". [الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، الدكتور محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1421هـ - 2000م، ص269].  

ولقد خاض كثيرٌ من النّاسِ في هذه المسألة، واختلفوا فيها باختلاف مشاربهم وأهدافهم، قال الأستاذ الدكتور مصطفى سعيد الخن: "إنَّ مسألة عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هي من المسائل التي اتسع فيها دائرة الخلاف، وتنوّعت فيها الأقوالُ على تعدد المذاهب، من سُنّة ومعتزلة وشيعة وغير ذلك، سواء أكانت المعاصي قبل النُّبُوَّة أو بعدها، وسواء في ذلك صغائر المعاصي أم كبائرها". [الكافي الوافي في أصول الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور مصطفى سعيد الخن، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1421هـ - 2000م، ص123].

ولأنّ هذه المسألةَ تعدّدَتْ فيها الأقوالُ، فإنها تحتاج إلى بيان المقبول منها والمردودِ؛ حتى لا يقعَ مَنْ لَا اطِّلاعَ له فريسةَ الفِرق والمذاهب الضّالّة، الذين يطعنون في عصمة الأنبياء، وهدفُهم الحقيقي هو التّمهيدُ للطعن في عصمة النَّبِيِّ ﷺ. والطعنُ في عصمته ﷺ، هو بِدايةُ الطريق الذي يسلكه أعداءُ السُّنَّةِ النّبَوِيَّةِ لإنكار حُجِّيَّتَها؛ ولقد قال أحد رؤوس مُنْكِري السُّنَّةِ – الذين يُسمّون أنفسهم "القرآنيين" –  بعد أنْ بدأ بِالطعن في عصمة الأنبياء، وختم كلامه بالطعن في عصمة النَّبِيِّ ﷺ: "والعبرة الكبرى هي بشرية النبي، وأن عصمتَه – من الله جل وعلا – فيما يخص الوحي فقط؛ ليصل لِلناسِ، ومع ذلك فالمُحمديون لا يفقهون".

ويعني بالوحي: القرآن الكريم فقط، وسَمّى الْمُسلمين بالمُحمَّدِيِّين؛ لأنَّهم يؤمنون بحُجِّيَّةِ السُّنَّةِ النّبَوِيَّةِ التي جاء بها نَبيُّنا محمَّد ﷺ. فَهُمْ عنده لا يفقهون! [انظر مقال لأحمد صبحي منصور، بعنوان (أخطاء الأنبياء) المنشور بموقع “الحوار المتمدن“، بتاريخ 1/9/2015].

المقدّمة الرابعة: الأنبياءُ معصومون من الصغائر كلِّها كعصمتهم من الكبائر، هو قولُ جمهورٍ من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو الأسْلَمُ لعامّة المسلمين.

قال الإمامُ ابنُ حَزْم الظاهري (ت 456 هـ) في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل): "وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز عَلَيْهِم كَبِيرَةٌ من الْكَبَائِر أصْلاً، وجوّزوا عَلَيْهِم الصَّغَائِر بالعمد، وَهُوَ قَول ابْن فورك الْأَشْعَرِيّ؛ وَذَهَب جَمِيع أهل الْإِسْلَام من أهل السّنة والمعتزلة والنَّجَّارِيَّة والخوارج والشيعة إِلَى أَنه لَا يجوز الْبَتَّةَ أَن يَقع من نَبِي أصلاً مَعْصِيّة بِعَمْدٍ، لَا صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة... وَهَذَا القَوْل الَّذِي نَدِينُ الله تَعَالَى بِهِ، وَلَا يحل لأحدٍ أَن يَدِينَ بسواه". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، مكتبة الخانجي - القاهرة، ج4، ص2].

وقال القاضي عياض (544هـ) في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى)/ القسم الثالث، الباب الأول: "أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ. وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كِتْمَانِ الرِّسَالَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي التَّبْلِيغِ. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ[أي: غيرُ المُخِلّة] فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ بِالْمَصِيرِ إِلَى امْتِثَالِ أَفْعَالِهِمْ، وَاتِّبَاعِ آثَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ مُطْلَقًا، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَرِينَةٍ.. بَلْ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ.. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حكم ذلك...

وَأَيْضًا فَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الصَّحَابَةِ قَطْعًا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ ﷺ كَيْفَ تَوَجَّهَتْ، وَمِنْ كُلِّ فَنٍّ كَالِاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ، فَقَدْ نَبَذُوا خَوَاتِيمَهُمْ حِينَ نَبَذَ خَاتَمَهُ، وَخَلَعُوا نِعَالَهُمْ حِينَ خَلَعَ، وَاحْتِجَاجُهُمْ بِرُؤْيَةِ ابْنِ عُمَرَ إِيَّاهُ جَالِسًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ‏.‏

وَاحْتَجَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ شَيْءٍ مِمَّا بَابُهُ الْعِبَادَةُ أَوِ الْعَادَةُ بِقَوْلِهِ‏:‏ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُهُ...

وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نُحِيطَ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا عَلَى الْقَطْعِ اتِّبَاعُهُمْ أَفْعَالَهُ، وَاقْتِدَاؤُهُمْ بِهَا‏.‏ وَلَوْ جَوَّزُوا عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمَا اتَّسَقَ هَذَا وَلَنُقِلَ عَنْهُمْ، وَظَهَرَ بَحْثُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَا أَنْكَرَ ﷺ عَلَى الْآخَرِ قَوْلَهُ، وَاعْتِذَارُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ‏.‏..

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَمَنَعَهَا قَوْمٌ وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ.

وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَنْزِيهُهُمْ مَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَعِصْمَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ الرَّيْبَ.. فَكَيْفَ وَالْمَسْأَلَةُ تَصَوُّرُهَا كَالْمُمْتَنِعِ.. فَإِنَّ الْمَعَاصِي وَالنَّوَاهِي إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الشَّرْعِ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص335].

وقال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره (المحرر الوجيز) – عند تفسيره لقوله تعالى: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128] –: "وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ في مَعْنى التَبْلِيغِ، ومِنَ الكَبائِرِ، ومِنَ الصَغائِرِ الَّتِي فِيها رَذِيلَةٌ. واخْتُلِفَ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَغائِرِ، والَّذِي أقُولُ بِهِ: أنَّهم مَعْصُومُونَ مِنَ الجَمِيعِ".

* وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) – عند تفسيره لقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [البقرة: 36] –: "وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمُ الذَّنْبُ حَالَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ لَا الْكَبِيرَةُ وَلَا الصَّغِيرَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنْهُمْ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَلَالِ وَالشَّرَفِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ صُدُورُ الذَّنْبِ عَنْهُ أَفْحَشَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} [الْأَحْزَابِ: 30]، وَالْمُحْصَنُ يُرْجَمُ وَغَيْرُهُ يُحَدُّ، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَقَلَّ حَالًا مِنَ الْأُمَّةِ فَذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ...

وَخَامِسُهَا: أَنَّا نَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَقْبَح مِنْ نَبِيٍّ رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى وَحْيِهِ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ يَسْمَعُ رَبَّهُ يُنَادِيهِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ تَرْجِيحًا لِلَذَّتِهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى نَهْيِ رَبِّهِ وَلَا مُنْزَجِرٍ بِوَعِيدِهِ. هَذَا مَعْلُومُ الْقُبْحِ بِالضَّرُورَةِ...

وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ لَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 44].

وَقَالَ: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ} [هُودٍ: 88]، فَمَا لا يلق بِوَاحِدٍ مِنْ وُعَّاظِ الْأُمَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 90]، وَلَفْظُ الْخَيْرَاتِ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا يَنْبَغِي وَتَرْكُ مَا لَا يَنْبَغِي، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فَاعِلِينَ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَتَارِكِينَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهُمْ".

تعقيب: لقد نبّه الإمامُ ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) إلى أنّ المعصيةَ – كبيرةً كانت أو صغيرةً – لا بُدَّ أنْ تنقصَ مِن إيمان صاحبها، فقال: "وَأَمَّا صِيَانَةُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِضْعَافُ الْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ وَالْوُجُودِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ – كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ – «إِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ فَأَذْنَبَ نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ؛ وَذَلِكَ الرَّانُّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]». فَالْقَبَائِحُ تُسَوِّدُ الْقَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ، وَالْإِيمَانُ هُوَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ. وَالْقَبَائِحُ تَذْهَبُ بِهِ أَوْ تُقَلِّلُهُ قَطْعًا؛ فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ نُورَ الْقَلْبِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُطْفِئُ نُورَ الْقَلْبِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ كَسْبَ الْقُلُوبِ سَبَبٌ لِلرَّانِّ الَّذِي يَعْلُوهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْكَسَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا كَسَبُوا، فَقَالَ: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]. وَأَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ سَبَبٌ لِتَقْسِيَةِ الْقَلْبِ، فَقَالَ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]. فَجَعَلَ ذَنْبَ النَّقْضِ مُوجِبًا لِهَذِهِ الْآثَارِ مِنْ تَقْسِيَةِ الْقَلْبِ، وَاللَّعْنَةِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ، وَنِسْيَانِ الْعِلْمِ.

فَالْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ كَالْمَرَضِ وَالْحُمَّى لِلْقُوَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ". [مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثالثة 1416 هـ - 1996م، ج2 ص27].

وقال الشيخُ ابن تيمية (ت 728هـ): "الإنسانُ لا يفعل الحرام إلا لِضَعْفِ إيمانِه ومحبته". [قاعدة في المحبة، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة – مصر، ص 104].

فلا يمكن أن نتصوّرَ أن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – تنقُص محبّتُهم لربِّهم ويضعُف إيمانهم؛ ويقعون في معصية ولو كانت صغيرة!

* وقال شمس الدين القرطبي (ت 671هـ) – صاحبُ (التفسير الجامع لأحكام القرآن) –: "وقال جمهورٌ من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلِّها كعصمتهم من الكبائر؛ لأنا أُمِرْنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسِيَرِهم مطلقاً من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم؛ إذْ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة والحظر أو المعصية، ولا يصح أن يُؤمَرَ المرءُ بامتثال أمرٍ لعله معصية، لا سيما على مَن يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين". [التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، أبو عبد الله شمس الدين القرطبي، تحقيق ودراسة: الدكتور: الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ، ص609-610].

* وقال الشيخُ سيد سابق (ت 1420 هـ): "الرسلُ اصطفاهم الله واختارهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].

ونزّههم عن السيئات، وعصمهم من المعاصي، صغيرها وكبيرها.

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161].

وحلّاهم بالأخلاق العظيمة من الصدق، والأمانة، والتفاني في الحق، وأداء الواجب،... وهُم وإنْ تفاوتوا في الفضل، إلا أنهم بلغوا الغاية من السمو الروحي والصلة بالله...

وهكذا نجد النصوص الكثيرة الواردة في القرآن بشأن الأنبياء والرسل، تُضْفي عليهم من الطُّهر والنزاهة والقداسة، ما يجعل منهم النموذج الحي، والصورة المُثْلى للكمال الإنساني.

ومِثل هؤلاء، لا يمكن إلا أن يكونوا معصومين من التورط في الإثم، ومُنزهين عن الوقوع في المعاصي، فلا يتركون واجبًا، ولا يفعلون محرّمًا، ولا يتصفون إلا بالأخلاق العظيمة التي تجعل منهم القدوة الحسنة، والمَثل الأعلى الذي يتجه إليه الناس، وهم يحاولون الوصول إلى كمالهم المُقدَّر لهم.

والله عز وجل هو الذي تولى تأديبهم وتهذيبهم وتربيتهم وتعليمهم، حتى كانوا قممًا شامخة، وأهلاً للاصطفاء والاجتباء...

فهذه الآيات أدلةٌ بيّنة على مدى الكمال الإنساني الذى أفاضه الله على أنبيائه ورسله، ولو لم يكونوا كذلك لسقطت هيبتُهم في القلوب، ولَصَغُر شأنُهم في أعين الناس، وبذلك تضيع الثقة فيهم، فلا يَنْقاد لهم أحد، وتذهب الحكمة من إرسالهم ليكونوا قادةَ الخلْق إلى الحق؛ بل لو فعلوا شيئًا مما يتنافى مع الكمال الإنساني بأن يتركوا واجبًا، أو يفعلوا محرّمًا، أو يرتكبوا ما يتنافى مع الخلق الكريم، لكانوا قدوة سيئة، ولم يكونوا مُثلاً عُليا، ومناراتِ هدى.

إن رسل الله يدركون بِحِسهم الذى تميزوا به على غيرهم من البشر، أنهم دائمًا في حضرة القدس، وأنهم يُبصِرون الله في كل شيء، فيرون مظاهر جماله وجلاله، ودلائل قدرته وعظمته، وآثار حكمته ورحمته، يرون ذلك في أنفسهم وفيمن حولهم: في الأرض والسماء، وفى الليل والنهار، وفي الحياة والموت، فتمتلئ قلوبهم إجلالاً لِلَّه ووقارًا له، فلا يبقى فيها مكانٌ لشيطان، ولا موضع لهوى، ولا جنوح لشهوة، ولا إرادة لشيء سوى إرادة الحق والتفاني فيه والاستشهاد من أجله". [العقائد الإسلامية، سيد سابق، دار الكتاب العربي - بيروت، ص181-183].

ملحوظة هامّة: قال الإمامُ أبو حامد الغزالي (ت 505هـ): "والذين أثبتوا الصغيرة اضطربوا، ومثارُ الاضطراب في أنه هل يُوَرِّثُ التنفير؟". [المنخول من تعليقات الأصول، أبو حامد الغزالي، حققه وخرج نصه وعلق عليه: الدكتور محمد حسن هيتو، دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان، دار الفكر دمشق - سورية، الطبعة الثالثة، 1419 هـ - 1998 م، ص311].

فإذا كان الذين أثبتوا الصغيرة قد اضطربوا في مسألة وقوع الأنبياء في الصغائر غير المُخِلّة هل تُنفِّرُ من التّأسِّي بهم أم لا، فالأوْلى والأسلمُ لعامّةِ المسلمين تركُ مذهبهم، والأخذُ بمذهب الجمهور الذين يقولون بعصمة الأنبياء من جميع الذنوب كبيرِها وصغيرِها.

المقدّمة الخامسة: القولُ بعصمة الأنبياء من جميع الصغائر لا يُعدُّ غُلُوًّا.

لقد اتّهم الشيخُ ابن تيمية جميعَ العلماء والأئمة، الذين أوجبوا عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصَّغَائِرِ كلِّها بتحريف كلام الله، جاء ذلك في آخر هذا النصِّ المنسوب إليه، الذي قال فيه: "الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ كَانَ مِنْ أَبِي الْجِنِّ وَأَبِي الْإِنْسِ أَبَوَيْ الثَّقَلَيْنِ الْمَأْمُورَيْنِ، وَكَانَ ذَنْبُ أَبِي الْجِنِّ أَكْبَرَ وَأَسْبَقَ وَهُوَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ السُّجُودُ إبَاءً وَاسْتِكْبَارًا؛ وَذَنْبُ أَبِي الْإِنْسِ كَانَ ذَنْبًا صَغِيرًا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}، وَهُوَ إنَّمَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْ الشَّجَرَةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبِ، وَأَنَّ آدَمَ تَأَوَّلَ حَيْثُ نُهِيَ عَنْ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّخْصُ فَأَخْطَأَ؛ أَوْ نَسِيَ وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي لَيْسَا مُذْنِبَيْنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُوجِبُ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصَّغَائِرِ، وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ شَيْءٍ وَوَقَعُوا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ". [مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ - 1995م، ج20 ص88-89].

فإذا كان من حق ابن تيمية – وهو يُعتبَرُ مِن أهل الاجتهاد والنظر – أن يرفضَ تأويلَ بعض النصوص التي ظاهرُها وقوعُ الصغائر من الأنبياء، فمِن حق كلِّ مَن كان مِن أهل الاجتهاد والنظر – أيضاً – أنْ يُؤوِّلَ هذه النصوص التي رأى أنها قابلةٌ لِحمْلِها على غير ظاهرِها، ورأى أنّ هذا أوْلَى؛ لأن فيه تبرِئةً للأنبياء من الوقوع في الصغائر ولو كانت غيرَ مُخِلّة؛ ولأن في ذلكَ – أيضاً – تعظيمًا لهم عليهم الصلاة والسلام، ومِن تعظيمهم حُسْنُ الاعتقاد فيهم والابتعادُ عن سوء الظن بهم.

هذا، ولقد بالغَ آخرون وزعموا أنّ القولَ بعصمة الأنبياء من جميع الذنوبِ كبيرِها وصغيرِها، يُفضي بالناس إلى رفعهم إلى مرتبة الألوهية.

والغريب في الأمر أنّ الشيخَ الألباني كان يميل إلى هذا القول، فلقد ثبت عنه أنه قال: "نحن نعتقد أن العصمة المقطوع بها للأنبياء أو الرسل إنما هي:

أولاً: العصمة في تبليغ الدعوة.

وثانياً: العصمة عن الوقوع في الذنوب الكبائر وهم يَعْلَمونها.

أما أن يقعوا في صغيرة من الصغائر التي لا يترتب من ورائها إلا انتفاء الكمال المطلق؛ فهذا لا بأس أن يقع شيء من ذلك من الأنبياء والرسل، وذلك ليبقى مستقراً في قلوب المؤمنين أن الكمال المطلق لله رب العالمين وحده لا شريك له". [دروس للشيخ الألباني، ج7 ص8].

وهذا غريب؛ لأن الألباني أتى بدليل عقلي، ليس عليه دليل من الكتاب أو السُّنَّةِ، وهو مخالِف لمنهجه في الاستدلال الذي لا يعتمد فيه إلاَّ على القرآن وما صحَّ عنده من الأحاديث!

ولا ندري هل الشيخُ الألباني اطّلع على أقوال الأئمة الكبار في هذِه المسألة أم لا؟

ويُجابُ عن هذا الكلام بما يأتي:

1- أين الدليلُ من القرآن أو السُّنَّةِ على أن القول بعصمة النَّبِيِّ ﷺ من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها فيه غلُوٌّ، أو أنَّهُ يرفع النَّبِيَّ ﷺ إلى مرتبة الألوهية؟

2- قال اللهُ عن ملائكتِه: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: جزء من الآية 6].

وقال تعالى: {وَقَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰاۗ سُبۡحَـٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادࣱ مُّكۡرَمُونَ. لَا یَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ یَعۡمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27].

قال ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ، وَلَا يُخَالِفُونَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عِلْمه مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾".

إنّ الملائكةَ (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ)، ولم يقل أحد إن الاعتقاد بعصمة الملائكة يفضي بالناس إلى تعظيمهم وعبادتهم مع الله تعالى.

3- إن القرآن قد بيّن لنا أنّ النَّبِيَّ ﷺ بشرٌ مثلنا، فقالَ تَعالى: {قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادࣰا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدࣰا. قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱۖ فَمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا} [الكهف: 109-110].

قال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَمالَ كَلامِ اللَّهِ أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِأنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ التَّواضُعِ فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ﴾ أيْ: لا امْتِيازَ بَيْنِي وبَيْنَكم في شَيْءٍ مِنَ الصِّفاتِ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلَيَّ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الواحِدُ الأحَدُ الصَّمَدُ".

وقال تعالى: {قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعࣰا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرࣱ وَبَشِیرࣱ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ} [الأعراف: 188].

قال الإمامُ النسفي (710 هـ) في تفسيره (مدارك التنزيل): "﴿قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلا ما شاءَ اللهُ﴾ هو إظْهارٌ لِلْعُبُودِيَّةِ، وبَراءَةٌ عَمّا يَخْتَصُّ بِالرُبُوبِيَّةِ مِن عِلْمِ الغَيْبِ، أيْ: أنا عَبْدٌ ضَعِيفٌ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي اجْتِلابَ نَفْعٍ، ولا دَفْعَ ضَرَرٍ كالمَمالِيكِ إلّا ما شاءَ مالِكِي مِنَ النَفْعِ لِي، والدَفْعِ عَنِّي".

إنّ الأنبياء بَشَرٌ بِنصِّ القرآن الكريم، فلا خوفَ إذن على المؤمن مِنْ أن يعتقد بعصمةِ الأنبياء من جميع الصغائر، وليس من اللازم أنْ نقولَ بوقوعِهم في الصغائر غير المُخِلة، حتى لا نقعَ في الغُلُوِّ فيهم.

4- إن القرآن الكريم لَمّا أراد أن يُثبت بشرية عيسى عليه السلام، لم يذكر أنه كان يقع في صغائر الذنوب، بل ذكر أنه كان يأكل الطعام هو وأمُّه، كما قال تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].

قال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ﴾ استدلال على أنهما ليسا بإلهين؛ لاحتياجهما إلى الغذاء الذي لا يحتاج إليه إلا مُحْدَث مفتقر، ومن كان كذلك فليس بإله؛ لأن الإله منزه عن صفة الحدوث، وعن كل ما يلحق بالبشر".

وقال محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ عِيسى وأُمَّهُ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ، وذَكَرَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ كانُوا كَذَلِكَ:

كَقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ [الفرقان: 20].

وقَوْلِهِ: ﴿وَما جَعَلْناهم جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ [الأنبياء: 8].

وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ [الفرقان: 7]".

5- إنّ بعضَ المفسرين قالوا بعصمة النَّبِيِّ يحيى عليه السلام، وذلك في المواضع الآتية:

أ- عند تفسيرهم لقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِیَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِی مِن لَّدُنكَ ذُرِّیَّةࣰ طَیِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِیعُ ٱلدُّعَاۤءِ. فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُوَ قَاۤىِٕمࣱ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا وَحَصُورࣰا وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ} [آل عمران: 38-39].

قال ابنُ جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره: "﴿وَحَصُوراً﴾ أي لا يأتي النساء فقيل: خلقه الله كذلك، وقيل: كان يمسك نفسه، وقيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب".

وقال الإمامُ  ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءِ: “اعْلَمْ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى أَنَّهُ كَانَ ﴿حَصُورًا﴾ لَيْسَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ هَيُّوبًا، أَوْ لَا ذَكَرَ لَهُ، بَلْ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا حُذَّاقُ الْمُفَسِّرِينَ وَنُقَّادُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: هَذِهِ نَقِيصَةٌ وَعَيْبٌ وَلَا تَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ، أَيْ لَا يَأْتِيهَا كَأَنَّهُ حُصِرَ عَنْهَا".

تعقيب: المعتمد عند جمهور المفسرين أنَّ كلمة ﴿وَحَصُوراً﴾ معناها أنه لا يأتي النساء، قال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره «المحرر الوجيز»: "وأجْمَعَ مَن يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الصِفَةَ لِيَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما هي الِامْتِناعُ مِن وطْءِ النِساءِ، إلّا ما حَكى مَكِّيٌّ مِن قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ الحَصُورُ عَنِ الذُنُوبِ أيْ لا يَأْتِيها".

لطيفة: قال العلاّمةُ الطاهر ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: "والحَصُورُ فَعُولٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ مِثْلَ رَسُولٍ. أيْ حَصُورٌ عَنْ قُرْبانِ النِّساءِ.

وذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ في أثْناءِ صِفاتِ المَدْحِ إمّا أنْ يَكُونَ مَدْحًا لَهُ، لِما تَسْتَلْزِمُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ البُعْدِ عَنِ الشَّهَواتِ المُحَرَّمَةِ، بِأصْلِ الخِلْقَةِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لِمُراعاةِ بَراءَتِهِ مِمّا يُلْصِقُهُ أهْلُ البُهْتانِ بِبَعْضِ أهْلِ الزُّهْدِ مِنَ التُّهَمِ، وقَدْ كانَ اليَهُودُ في عَصْرِهِ في أشَدِّ البُهْتانِ والِاخْتِلاقِ، وإمّا ألّا يَكُونَ المَقْصُودُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ مَدْحًا لَهُ لِأنَّ مَن هو أفْضَلُ مِن يَحْيى مِنَ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ كانُوا مُسْتَكْمِلِينَ المَقْدِرَةَ عَلى قُرْبانِ النِّساءِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ لِيَحْيى إعْلامًا لِزَكَرِيّاءَ بِأنَّ اللَّهَ وهَبَهُ ولَدًا إجابَةً لِدَعْوَتِهِ، إذْ قالَ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٥] وأنَّهُ قَدْ أتَمَّ مُرادَهُ تَعالى مِنِ انْقِطاعِ عَقِبِ زَكَرِيّاءَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَها، وذَلِكَ إظْهارٌ لِكَرامَةِ زَكَرِيّاءَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.

ووُسِّطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بَيْنَ صِفاتِ الكَمالِ تَأْنِيسًا لِزَكَرِيّاءَ وتَخْفِيفًا مِن وحْشَتِهِ لِانْقِطاعِ نَسْلِهِ بَعْدَ يَحْيى".

ب- وعند تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿یَـٰیَحۡیَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَـٰبَ بِقُوَّةࣲۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِیࣰّا. وَحَنَانࣰا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةࣰۖ وَكَانَ تَقِیࣰّا﴾ [مريم: 12-13].

قال ابن جرير الطبري (310 هـ) شيخُ المفسرين في تفسيره: "وقوله: ﴿وَزَكاةً﴾ يقول تعالى ذكره: وآتينا يحيى الحكم صبيا، وزكاة: وهو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة ربه".

وقال الإمامُ ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "وَقَوْلُهُ: ﴿وَزَكَاةً﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى ﴿وَحَنَانًا﴾ فَالزَّكَاةُ الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الزَّكِيُّ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَزَكَاةً﴾ قَالَ: بَرَكَةً ﴿وَكَانَ تَقِيًّا﴾ طَهُرَ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِذَنْبٍ".

قال ابنُ عَطيّةَ (546 هـ) في تفسيره: "و(الزَكاةُ) التَطْهِيرُ والتَنْمِيَةُ في وُجُوهِ الخَيْرِ والبِرِّ، و(التَقِيُّ) فَعِيلٌ مِن تَقْوى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ورُوِيَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ ولَهُ ذَنْبٌ؛ إلّا ما كانَ مِن يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ»، وقالَ قَتادَةُ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَعْصِ اللهَ قَطُّ بِصَغِيرَةٍ ولا بِكَبِيرَةِ ولا هَمَّ بِامْرَأةٍ". انتهى كلام ابن عطية.

والحديث الذي ذكره ابنُ عطية ورد عن النَّبِيِّ ﷺ بِلفظ: "ما من أَحَدٍ مِن وَلَدِ آدمَ إلا قد أخطأَ أو هَمَّ بخطيئةٍ، ليس يحيَى بنَ زكريا وما ينبغي لأَحَدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ من يونسَ بنِ مَتَّى عليهِ السلامُ". [أخرجه أحمد في مسنده، وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح].

وقال الإمامُ الحافظُ ابنُ حجرَ العسقلانيُّ (ت 852 هـ): "قَوْلُهُ: اُشْتُهِرَ فِي الْخَبَر: «مَا مِنَّا إلَّا مَنْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ إلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا». قُلْت : الْمَشْهُورُ بِلَفْظِ: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ، أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، أَوْ عَمِلَهَا، إلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، لَمْ يَهُمَّ بِخَطِيئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا»/ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَلَفْظُهُمَا: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إلَّا قَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا». وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْنٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ ، وَكَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ حَجَّاجِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا أَيْضًا". [التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ابن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1419هـ - 1989م، ج4 ص480].

ولقد أورد الشيخُ الألباني – رحمه الله – نفسُه هذا الحديث في «السلسلة الصحيحة» بلفظ: "ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا ". [سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، الشيخُ الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، رقم الحديث 2984، ج6 ص1206].

المقدّمة السادسة: زلاّتُ الأنبياء ذُنوبٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مقامِ النُّبُوَّةِ، وكمالِ طاعتِهم، وَليْست كَذُنُوبِ غَيْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ.

قال القاضي عياض: "فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِي بِمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَأْوِيلِ الْمُحَقِّقِينَ.. فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى}، وَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنَ اعْتِرَافِ الْأَنْبِيَاءِ بِذُنُوبِهِمْ، وَتَوْبَتِهِمْ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ، وَبُكَائِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَإِشْفَاقِهِمْ؟ وَهَلْ يُشْفَقُ وَيُتَابُ وَيُسْتَغْفَرُ مِنْ لَا شَيْءَ؟ فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الرِّفْعَةِ وَالْعُلُوِّ، وَالْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ، وَعِظَمِ سُلْطَانِهِ وَقُوَّةِ بَطْشِهِ، مِمَّا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْخَوْفِ مِنْهُ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالْإِشْفَاقِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ فِي تَصَرُّفِهِمْ بِأُمُورٍ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا، ولا أُمِرُوا بِهَا، ثُمَّ وُوخِذُوا عَلَيْهَا، وَعُوتِبُوا بِسَبَبِهَا، وَحُذِّرُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا.. وَأَتَوْهَا عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ، أَوِ السَّهْوِ، أَوْ تَزَيُّدٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الْمُبَاحَةِ، خَائِفُونَ وَجِلُونَ. وَهِيَ ذُنُوبٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَلِيِّ مَنْصِبِهِمْ. وَمَعَاصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ طَاعَتِهِمْ. لَا أَنَّهَا كَذُنُوبِ غَيْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ. فَإِنَّ الذنب مأخوذ من الشيء الدنيء الرَّذْلِ، وَمِنْهُ (ذَنَبُ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: آخِرُهُ، وأذناب الناس رذّا لهم، فَكَأَنّ هَذِهِ أَدْنَى أَفْعَالِهِمْ وَأَسْوَأُ مَا يَجْرِي مِنْ أَحْوَالِهِمْ، لِتَطْهِيرِهِمْ، وَتَنْزِيهِهِمْ، وَعِمَارَةِ بَوَاطِنِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالذِّكْرِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ، وَالْخَشْيَةِ لِلَّهِ وَإِعْظَامِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.. وَغَيْرُهُمْ يَتَلَوَّثُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ مَا تَكُونُ بالإضافة إلى هَذِهِ الْهَنَاتِ فِي حَقِّهِ كَالْحَسَنَاتِ، كَمَا قِيلَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ، سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ» أَيْ: يَرَوْنَهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَلِيِّ أَحْوَالِهِمْ كَالسَّيِّئَاتِ وَكَذَلِكَ (الْعِصْيَانِ) التَّرْكُ وَالْمُخَالَفَةُ، فَعَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظَةِ كَيْفَمَا كَانَتْ مِنْ سَهْوٍ، أَوْ تَأْوِيلٍ، فَهِيَ مُخَالَفَةٌ وَتَرْكٌ. وَقَوْلُهُ: {غوى} أي: أَنَّ تِلْكَ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا.. وَ(الْغَيُّ) الْجَهْلُ. وَقِيلَ: أَخْطَأَ مَا طَلَبَ مِنَ الْخُلُودِ إِذْ أَكَلَهَا.. وَخَابَتْ أُمْنِيَّتُهُ.

وَهَذَا يُوسُفُ عليه السلام وُوخِذ بِقَوْلِهِ لِأَحَدِ صَاحِبَيِ السِّجْنِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}. قِيلَ: «أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ اللَّهِ»، وَقِيلَ: «أُنْسِيَ صاحبُه أن يذكره لسيده الملك».

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْلَا كَلِمَةُ يُوسُفَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ». قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: لَمَّا قَالَ ذَلِكَ يُوسُفُ قِيلَ لَهُ: اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا!. لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ.. فَقَالَ: يَا رَبِّ أَنْسَى قَلْبِي كَثْرَةُ الْبَلْوَى.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «يُؤَاخَذُ الْأَنْبِيَاءُ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ لِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَهُ وَيُجَاوِزُ عَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِهِمْ فِي أَضْعَافِ مَا أَتَوْا به مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ. وَقَدْ قَالَ الْمُحْتَجُّ لِلْفِرْقَةِ الْأُولَى – عَلَى سِيَاقِ مَا قُلْنَاهُ –: «إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُؤَاخَذُونَ بِهَذَا مِمَّا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا ذَكَرْتَهُ وَحَالُهُمْ أرفع، فحالُهم إذن فِي هَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِمْ».

فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ: أَنَّا لَا نُثْبِتُ لَكَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي هَذَا عَلَى حَدِّ مُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِمْ.. بَلْ نَقُولُ: «إِنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَيُبْتَلُونَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ اسْتِشْعَارُهُمْ لَهُ سَبَبًا لِمَنْمَاةِ رُتَبِهِمْ كَمَا قَالَ: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى}.

وقال لداود: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ} الْآيَةَ، وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِ مُوسَى: {تُبْتُ إِلَيْكَ}، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ}. وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ وَإِنَابَتِهِ: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ.. } إلى {وَحُسْنُ مَآبٍ}.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: «زَلَّاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الظَّاهِرِ زَلَّاتٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كَرَامَاتٌ وَزُلَفٌ»، وَأَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ.

وَأَيْضًا فَلْيُنَبَّهْ غَيْرُهُمْ مِنَ البشر منهم، أو ممن ليس من دَرَجَتِهِمْ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِذَلِكَ فَيَسْتَشْعِرُوا الْحَذَرَ وَيَعْتَقِدُوا الْمُحَاسَبَةَ لِيَلْتَزِمُوا الشُّكْرَ عَلَى النِّعَمِ، وَيُعِدُّوا الصَّبْرَ عَلَى الْمِحَنِ، بِمُلَاحَظَةِ مَا وَقَعَ بِأَهْلِ هَذَا النِّصَابِ الرَّفِيعِ الْمَعْصُومِ، فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية – 1407 هـ، ج2 ص 385 وما بعدها].

تعقيب وردُّه: يرى بعضُ الذين يُجوِّزون وقوعَ الأنبياء في صغائر الذنوب غيرِ الخسيسة أو غيرِ المُخِلَّة، أنّ الحكمة من ذلك هو أنْ يتوبوا بعد المعصية؛ حتى يرفع اللهُ درجاتهم، ويُنعِم عليهم بِمحبَّتِه ويفرح بتوبتهم، ولا يحرمهم لذةَ الإنابة إليه سبحانه!

 قال في (مجموع الفتاوى): "وَإِنَّمَا ابْتَلَى اللهُ الْأَنْبِيَاءَ بِالذُّنُوبِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ بِالتَّوْبَةِ وَتَبْلِيغًا لَهُمْ إلَى مَحَبَّتِهِ وَفَرَحِهِ بِهِمْ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَشَدَّ فَرَحٍ، فَالْمَقْصُودُ كَمَالُ الْغَايَةِ لَا نَقْصُ الْبِدَايَةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ لَا يَنَالُهَا إلَّا بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الْبَلَاءِ". [مجموع الفتاوى، ابن تيمية الحراني، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، نشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، ج20 ص89].

وهذا القولُ مردودٌ؛ لأن التوبةَ قد تكون من معصية، وقد تكون من شعور من تقصير؛ ولا دليلَ على أنّ اللهَ لا يفرح إلاَّ بتوبةِ مَن تاب من معصية. ومقامُ النُّبُوَّةِ يجعلُ النَّبِيَّ بِمُجرّدِ أنْ يقعَ في هفوةٍ أو تقصيرٍ يستشعر الخوف والندم، ويهرع إلى باب التوبة؛ وبهذا يَنْعَمُ بِكَمال القرب من الله تعالى ومَحبَّتِه، ومن لذة الإنابة إليه سبحانه وتعالى.

المقدّمة السابعة: دور الإسرائيليات في المِساس بعصمة الأنبياء.

إنّ وُرود الإسرائيليات في أكثرِ كتب التفسير كان له أثرٌ كبير على بعض العلماء الذين قالوا بعدم عصْمةِ الأنبياء والرسل، قال الشيخُ الدكتورُ عبدُ الله بنُ يوسفَ الجديع – عند نقده التفسير بالمأثور لإيراده الإسرائيليات –: "الإسرائيليّات: هي الأَخبارُ المنقولة عن أهل الكتاب من غير طريق القرآن والسّنن الثّابتة عن النّبيّ ﷺ، كالّذي يُحكَى عن كعب الأحبار وكان من أحبار اليهود فأسلم، ووهب بن منبّه، وقد اعتنى بأخبارهم، وغيرهما.

ولم يكد يوجد كتاب في التّفسير بالمأثور يخلو من إيراد الإسرائيليات". [المقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله بن يوسف الجديع، مركز البحوث الإسلامية ليدز - بريطانيا، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص343].

ثُمَّ قال: "فخُلاصة القول في الإسرائيليّات في نظر الصّحابة أنّها ثلاثة أقسام:

1 - خبر جاء في القرآن أو السّنّة ما يصدّقه، فهو حقّ.

2 - خبر جاء في القرآن أو السّنّة ما يكذّبه، فهو باطل.

3 - خبر لم يأت ما يصدّقه أو يكذّبه، فلا يوصف بكونه حقّا أو باطلا.

وعلى هذا جرى أكثر من جاء بعدهم من تلامذتهم من التّابعين، كأصحاب ابن عبّاس، فإذا استثنيتَ تفسير مجاهد، فما أقلّ تلك الأخبار عنهم، لكن وقع من آخرين توسّع في ذلك، مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وشهر بن حوشب، ونوف البكاليّ، وتبيع بن عامر الحميريّ، ثمّ محمّد بن إسحاق صاحب «السّيرة»، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

واتّباعُ منهج الصّحابة في ذلك عاصِمٌ ممّا في تلك الأخبار من الأباطيل، كالّذي يحكونه في شأن الأنبياء من النّقائص، وبدء الخليقة من الغرائب المخالفة والخرافة.

ولا ريب أنّ ما يؤخذ على كتب التّفسير بالمأثور، هو ذكر تلك الأخبار بمنزلة ما يذكر في تفسير الآية لبيان معناها من النّصوص النّبويّة والشّواهد اللّغويّة، مع السّكوت عن نقدها. وهذا خطأ جسيم، فتلك الأخبار إن سلمت من النّكارة فإنّها لا تثبت لذاتها، إنّما تُقبَل بشواهدها، كما تقدّم، فإذا لزم ذلك فقد أغنانا ذكر شاهدها عنها، وإن كانت لا شاهد لها، فمجرّد ذكرها مُنَزَّلَة مَنْزِلَةَ التّفسير للآية، يقدح من المعاني في الأذهان ما يكون لبعض النّاس بمَنْزِلَةِ خبر الصّادق الّذي لا ينطق عن الهوى، خاصّة مع ما تمتاز به تلك الأخبار من الغرابة، والنّفس تميل بالطّبع إلى مثل ذلك". [المرجع السابق، ص350-351].

وقال الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في معرِضِ ذكر سبب وجود الإسرائيليات في التفسير: "والمراد بها اللون اليهودي واللون النصراني في التفسير وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية. ومبدأ دخولها في التفسير يرجع لعهد الصحابة، غير أن الصحابة وإن تشوَّقوا لمعرفة التفاصيل لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شيء، ولم يقبلوا منهم كل شيء، مع توقفهم فيما يُلْقَى إليهم ما دام يحتمل الصدق والكذب، امتثالاً لقول الرسول ﷺ: «لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذبوهم وقولوا آمنا بالله» [رواه البخاري]. فلم يسألوهم عن شيء يتصل العقيدة، ولم يعدِلوا عما ثبت عن النبي ﷺ. كذلك لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة ...

وهكذا لم يَخرُجِ الصحابةُ عن دائرة الجواز التي حددها لهم الرسول في قوله: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار». [رواه البخاري]. كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا». أباح الأول أن يُحدِّثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب للعبرة والعظة بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبا، والثاني يُرادُ منه التوقف فيما يُحدّث به أهل الكتاب مما يكون محتملا للصدق والكذب، أما ما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه.

أما التابعون: فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب وكثرت في عهدهم الروايات الإسرائيلية لكثرة من دخل منهم في الإسلام، فظهرت في هذا العهد جماعةٌ حشَوْا التفسير بكثير من القصص المتناقضة، كمقاتل بن سليمان. وهكذا تزايد أمر الإسرائيليات حتى كان جماعةٌ بعد عصر التابعين لا يردون قولا، ثم في عصر التدوين وُجِد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذه القصص الإسرائيلية؟". [علوم القرآن الكريم، الأستاذ الدكتور نور الدين عتر، مطبعة دار السلام - دمشق، الطبعة الأولى، 1441 هـ - 2020 م، ص 75].

وقال الدكتور محمد بن محمد أبو شُهبة (ت 1403هـ): "وقد جاء في كتب التفسير على اختلاف مناهجها إسرائيلياتٌ كواذبُ، ومروياتٌ بواطلُ، لا يُحصيها العد، وذلك فيما يتعلق بقصص الأنبياء والمرسلين والأمم والأقوام السابقين وقد رُوِيت عن بعض الصحابة، والتابعين وتابعيهم، وورد بعضها مرفوعًا إلى النبي ﷺ كذبًا وزورًا.

وهذه المرويات والحكايات لا تَمُتُّ إلى الإسلام، وإنما هي من خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم، وافتراءاتهم على الله، وعلى رسله، رواها عن أهل الكتاب الذين أسلموا، أو أخذها من كتبهم بعض الصحابة والتابعين، أو دُسّت عليهم، بل فيها ما حَرَّفوا لأجله التوراة، وذلك مثل ما فعلوا في قصة إسحاق بن إبراهيم، وأنه هو الذبيح، كما سيأتي.

ولا يمكن استقصاء كل ما ورد من الإسرائيليات، وإلَّا لَاقْتضَى هذا مجلدات كبارا، ولكني سأكتفي بما هو ظاهر البطلان، ولا يتفق وسنن الله في الأكوان، وما يخل بالعقيدة الصحيحة في أنبياء الله ورسله التي يدل عليها العقل السليم، والنقل الصحيح". [الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد أبو شُهبة، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م، مبحث (الإسرائيليات في قصص الأنبياء والأمم السابقة)، ص178].

وقال أيضاً – مُنبِّهاً على ما جاء مِن روايات باطلة في تفسير الطبري –: "وقد أُخِذ على تفسير ابن جرير: أنه يذكر الروايات من غير بيانٍ وتمييزٍ لصحيحها من ضعيفها، والظاهرُ أنه من المُحَدثين الذين يرون أن ذكر السند – ولو لم ينص على درجة الرواية – يُخْلي المؤلفَ عن المؤاخذة والتبعة.

ولمْ يَسلَمْ تفسير ابن جرير – على جلالة مؤلِّفِه – من الروايات الواهية والمنكرة، والضعيفة والإسرائيليات، وذلك مثل ما ذكره من حديث الفتون، وفي قصص الأنبياء، وما ذكره في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش، على ما يرويها القُصّاص والمبطلون، وإن كان ذكر الرواية الصحيحة، ويا ليته اقتصر عليها". [المصدر السابق، ص123].

وقال الأستاذ الدكتور نور الدين عتر مُوضِّحاً سبب عدم حُكْم الطبري على الإسرائيليات وتمييز صحيحها من ضعيفها: "ويمتاز عمل ابن جرير في التفسير بالمأثور أنه يورد الروايات بأسانيدها، لكنه وقد التزم هذا الأسلوب لم يلتزم الصحة فيما يورده، كما أنه قلّما يعقّب على الروايات بتصحيح أو تضعيف، وذلك لأنه كان يرى – فيما يبدو – أن مَنْ أسْنَد فقد حمّلك البحثَ عن رجال السند ودرْسه، وكان عصرُه عصرَ العلمِ بهذا الفن، يسهل على طالب العلم معرفةُ حالِ الرواياتِ أسانيدَ ومتوناً، فاعْلم ذلك وراعِه". [علوم القرآن الكريم، الأستاذ الدكتور نور الدين عتر، مطبعة دار السلام - دمشق، الطبعة الأولى: 1441 هـ - 2020 م، ص 81].

وقفة هامّةٌ: كيف يجب أن يتعاملَ الباحثون في التفسير مع الإسرائيليات؟

قال الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في مبحث (موقف المفسر إزاء الإسرائيليات): "يجب أن يكون المفسر يقظا جدا ليستخلص ما يوافق العقل ويتقيد بمقدار الضرورة. ويجب أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا وجد في سنة نبينا ﷺ بيانا للقرآن، ويجوز أن يذكر خلاف المتقدمين بشرط أن لا يُطلقه بل ينبه على الصحيح ويزيف غيره، لئلا يُوقِع القُرّاءَ في الاضطراب، على أن مِن الخير للمفسر كلِّ الخير الإعراضَ عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يُعٌدّ صارفا عن القرآن وشاغلا عن التدبر في حكمته وأحكامه". [المرجع السابق، ص 76].

الفصل الثاني: إضاءاتٌ حولَ بعضِ النّصوصِ التي ظاهِرُها وقوعُ الأنبياءِ عليهم السلامُ في الذنوب والآثام.

روى البيهقي عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: "إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ تَجِدُ عَلَيْهِ فِيهِ فَاطْلُبْ لَهُ الْعُذْرَ بِجَهْدِكَ، فَإِنْ أَعْيَاكَ فَقُلْ: لَعَلَّ عِنْدَهُ أَمْراً لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمِي".

ورَوى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرَاً، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرَاً، فَقُلْ: لَهُ عُذْرٌ".

ورَوى عَنْ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّدٍ قال: "إذا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ الشَّيْءُ تُنْكِرُهُ فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْرَاً وَاحِدَاً إِلَى سَبْعِينَ عُذْرَاً، فَإِنْ أَصَبْتَهُ وَإِلَّا قُلْ: لَعَلَّ لَهُ عُذْرَاً لَا أَعْرِفُهُ".

فإذا كان المسلمُ مُطالَباً بالْتِماس الأعذار لأخيه المسلم المشهور بالصلاح، فإن التماسَ الأعذارِ للأنبياءِ وقَبولِها أوْلَى، تأدُّباً معهم، واحتراماً لمكانتهم؛ ولذلك فإن مجموعة من أهل العلم يرون أنَّ ما نُقِلَ عن الأنبياء مِمّا يُشعِر بِمعصِيّةٍ، ما دام له مَحْمَلٌ آخَرُ مقبولٌ حُمِل عليه، وصُرِف عن ظاهِرِه؛ لأنّ ذلك أحْوطُ مِن نسبةِ المعاصي إليهم، وأمّا إذا لمْ يوجَدْ له محمَلٌ فيُفسَّرُ على أنَّهُ كان قبل البعثة، أو مِن قَبِيل ترك الأولى، أو أنَّهُ من قَبِيل صغائرَ صدرت عنهم سهواً. وهذا مَسلكُ مجموعة من العلماء، منهم: القاضي عياض، والإمامُ النّووِيُّ، وابن حزم الظاهري، وغيرهم.

قال الإمامُ ابنُ حَزْم الظاهري (ت 456 هـ) في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل): "ونقول أَنه يَقع من الْأَنْبِيَاء السَّهْو عَن غير قصد، وَيَقَع مِنْهُم أَيْضا قصْدُ الشَّيْء يُرِيدُونَ بِهِ وَجه الله تَعَالَى والتقرب مِنْهُ، فيوافق خلاف مُرَاد الله تَعَالَى، إِلَّا أَنه تَعَالَى لَا يُقِرهم على شَيْء من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أصْلا، بل ينبههم على ذَلِك وَلَا بُدَّ، إثرَ وُقُوعه مِنْهُم". [الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، مكتبة الخانجي – القاهرة، ج4، ص2].

وقال القاضي عياض (ت 544 هـ ): "اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِظَوَاهِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ.. إِنِ الْتَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفْضَتْ بِهِمْ إلى تجويز الكبائر وخرق الإجماع، وما لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ.

فَكَيْفَ وَكُلُّ مَا احتجو بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ وَتَقَابَلَتِ الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموا مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ إِجْمَاعًا وَكَانَ الْخِلَافُ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ قَدِيمًا، وَقَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ قَوْلِهِمْ، وَصِحَّةِ غَيْرِهِ، وَجَبَ تَرْكُهُ وَالْمَصِيرُ إِلَى مَا صَحَّ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية: 1407 هـ، الفصل الثالث عشر: الردّ على من أجاز عليهم من الصّغائر، ج2 ص353-354].

وقال الشيخُ سيد سابق (ت 1420 هـ): "وما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهرُه بأنهم ارتكبوا ما يتنافى مع عصمتهم، فهو ليس على ظاهره". [العقائد الإسلامية، سيد سابق، دار الكتاب العربي – بيروت، 3ص183].

وهذه أهمُّ النصوصِ التي يُشعِر ظاهرُها أن الأنبياء قد وقَعوا في بعض الذنوب التي تتنافى مع عصمتهم، وتأويلات بعض أهل التحقيق من العلماء لها:

أولاً: ما ورد في شأن أبينا آدم عليه السلام:

1) قال تعالى: {فَوَسۡوَسَ إِلَیۡهِ ٱلشَّیۡطَـٰنُ قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكࣲ لَّا یَبۡلَىٰ. فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَ ٰ تُهُمَا وَطَفِقَا یَخۡصِفَانِ عَلَیۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰۤ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ. ثُمَّ ٱجۡتَبَـٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَیۡهِ وَهَدَىٰ} [طه: 120-122].

* قال الواحدي (468 هـ) في تفسيره: "وقد أكل آدم من الشجرة التي نُهِيَ عنها باستزلال إبليسَ، وخداعه إياه بالله، والقَسَم إنه لمن الناصحين، حين دلاه بغرور، ولم يكن ذنبُه عن إرصاد وعداوة وإرهاص كذنوب أعداء الله، فنحن نقول: عصى وغوى، كما قال الله في القرآن ولا نقول: آدم عاصٍ وغاوي؛ لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدم، ولا نية صحيحة".

* وقال القاضي عياض (ت 544 هـ): "وَأَمَّا قِصَّةُ آدَمَ عليه السلام وقوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْها} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} وقوله: {أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} وَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى}، أَيْ: جَهِلَ، وَقِيلَ: أَخْطَأَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِعُذْرِهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «نَسِيَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لَهُ، وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ» بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} الآية.

قيل: «نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمَا».

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ». وَقِيلَ: «لَمْ يَقْصِدا الْمُخَالَفَةَ اسْتِحْلَالًا لَهَا، وَلَكِنَّهُمَا اغْتَرَّا بِحَلِفِ إِبْلِيسَ لَهُمَا {إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وتوهّما أن أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ حَانِثًا. وَقَدْ رُوِيَ عُذْرُ آدَمَ بِمِثْلِ هَذَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ.

وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: «حَلَفَ بِاللَّهِ لَهُمَا حَتَّى غرّهما.. والمؤمن يُخْدَع.

وقيل: «نسي ولم يَنْوِ الْمُخَالَفَةَ فَلِذَلِكَ قَالَ: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أَيْ: قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ». وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أن (العزم) هنا الحزمُ وَالصَّبْرُ.

وَقِيلَ: «كَانَ عِنْدَ أَكْلِهِ سَكْرَانَ وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ»؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ خَمْرَ الْجَنَّةِ أَنَّهَا لَا تُسْكِرُ. فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُلَبَّسًا عَلَيْهِ غَالِطًا؛ إِذِ الِاتِّفَاقُ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِي والساهي عن حكم التكليف.

وقال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ: «إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَدَلِيلُ ذلك قوله: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} فذكر أنَّ الِاجْتِبَاءَ وَالْهِدَايَةَ كَانَا بَعْدَ الْعِصْيَانِ».

وَقِيلَ: «بَلْ أَكَلَهَا مُتَأَوِّلًا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا.. لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ نَهْيَ اللَّهِ عَنْ شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَا عَلَى الْجِنْسِ».

وَلِهَذَا قِيلَ: «إِنَّمَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التَّحَفُّظِ لَا مِنَ الْمُخَالَفَةِ».

وَقِيلَ: «تَأَوَّلَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ»". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص366-369].

* تنبيهٌ هامّ: نبَّه العلاّمةُ ابن عاشور (1393 هـ) إلى أمرٍ هامٍّ في تفسيره «التحرير والتنوير» قائلاً: "ولَيْسَ في هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَنَدٌ لِتَجْوِيزِ المَعْصِيَةِ عَلى الأنْبِياءِ ولا لِمَنعِها؛ لِأنَّ ذَلِكَ العالَمَ لَمْ يَكُنْ عالَمَ تَكْلِيفٍ". وهذا يُوَافق ما ذهب إليه الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ.

2) قال تعالى: {وَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ. فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّۖ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ. فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ} [البقرة: 35-37].

* قال القرطبي (671 هـ) في تفسيره: "وَقِيلَ: أَكَلَهَا نَاسِيًا، وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنَّهُمَا نَسِيَا الْوَعِيدَ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ حَتْمًا وَجَزْمًا فَقَالَ: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَلْزَمُهُمْ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ لِكَثْرَةِ مَعَارِفِهِمْ وَعُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُمْ كَانَ تَشَاغُلُهُ عَنْ تَذَكُّرِ النَّهْيِ تَضْيِيعًا صَارَ بِهِ عَاصِيًا، أَيْ مُخَالِفًا".

* وقال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره: "فائدة: اختلفوا في أكل آدم من الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان، لقوله تعالى: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ [طه: 115]".

* وقال علاء الدين البخاري الحنفي (ت 730 هـ):" قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ (الإمامُ السَّرْخَسيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أَمَّا الزَّلَّةُ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهَا الْقَصْدُ إلَى عَيْنِهَا، وَلَكِنْ يُوجَدُ الْقَصْدُ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ».

قَالَ: «وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الزَّلَّةَ أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ زَلَّ الرَّجُلُ فِي الطِّينِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْقَصْدُ إلَى الْوُقُوعِ وَلَا إلَى الثَّبَاتِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَلَكِنْ وُجِدَ الْقَصْدُ إلَى الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ الزَّلَّةَ مَا يَتَّصِلُ بِالْفَاعِلِ عِنْدَ فِعْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِعَيْنِهِ وَلَكِنَّهُ زَلَّ فَاشْتَغَلَ بِهِ عَمَّا قَصَدَهُ بِعَيْنِهِ وَالْمَعْصِيَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَقْصِدُهُ الْمُبَاشِرُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عَلَى الزَّلَّةِ مَجَازًا». (*)

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ الْحَرَامُ مَقْصُودًا فِي الزَّلَّةِ، فَفِيمَ الْعِتَابُ؟ قُلْنَا: إنَّ الزَّلَّةَ لَا تَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَقْصِيرٍ يُمْكِنُ لِلْمُكَلَّفِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عِنْدَ التَّثَبُّتِ، فَاسْتِحْقَاقُ الْعِتَابِ – بِنَاءً عَلَيْهِ – كَمَنْ زَلَّ فِي الطَّرِيقِ، يَسْتَحِقُّ اللُّوَّمَ لِتَرْكِ التَّثَبُّتِ وَالتَّقْصِيرِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ): وَلَيْسَ مَعْنَى الزَّلَّةِ أَنَّهُمْ زَلُّوا عَنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ وَعَنْ الطَّاعَةِ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ مَعْنَاهَا الزَّلَلُ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَصْوَبِ إلَى الصَّوَابِ. وَكَانُوا يُعَاقَبُونَ لِجَلَالِ قَدْرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى". [كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري، دار الكتاب الإسلامي، ج3 ص200].

(*) انظر كلامَ شمس الأئمة الإمامُ السرخسي (ت 483 هـ/ وقيل: ت 490 هـ) في كتاب (أصول السرخسي، أبو بكر محمد السرخسي، حقق أصوله: أبو الوفا الأفغاني (رئيس اللجنة العلمية لإحياء المعارف النعمانية)، نشر: لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد بالهند، ج2 ص86).

3) قَالَ تَعَالَى: {فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیم} [البقرة: 37].

* قال العلاّمةُ الطاهر بن عاشور (1393 هـ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: "جاءَ بِالفاءِ إيذانًا بِمُبادَرَةِ آدَمَ بِطَلَبِ الْعَفْوِ. والتَّلَقِّي اسْتِقْبالُ إكْرامٍ ومَسَرَّةٍ... فالتَّعْبِيرُ بِتَلَقّى هُنا مُؤَذِنٌ بِأنَّ الكَلِماتِ الَّتِي أخَذَها آدَمُ كَلِماتٌ نافِعَةٌ لَهُ، فَعُلِمَ أنَّها لَيْسَتْ كَلِماتِ زَجْرٍ وتَوْبِيخٍ بَلْ كَلِماتُ عَفْوٍ ومَغْفِرَةٍ ورِضًا، وهي إمّا كَلِماتٌ لُقِّنَها آدَمُ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى لِيَقُولَها طالِبًا المَغْفِرَةَ، وإمّا كَلِماتُ إعْلامٍ مِنَ اللَّهِ إيّاهُ بِأنَّهُ عَفا عَنْهُ بَعْدَ أنْ أهْبِطَهُ مِنَ الجَنَّةِ اكْتِفاءً بِذَلِكَ في العُقُوبَةِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّها كَلِماتُ عَفْوٍ عَطْفُ (فَتابَ عَلَيْهِ) بِالفاءِ إذْ لَوْ كانَتْ كَلِماتِ تَوْبِيخٍ لَما صَحَّ التَّسَبُّبُ، وتَلَقِّي آدَمَ لِلْكَلِماتِ إمّا بِطَرِيقِ الوَحْيِ أوِ الإلْهامِ ولَهم في تَعْيِينِ هَذِهِ الكَلِماتِ رِواياتٌ أعْرَضْنا عَنْها لِقِلَّةِ جَدْوى الِاشْتِغالِ بِذَلِكَ، فَقَدْ قالَ آدَمُ الكَلِماتِ فَتِيبَ عَلَيْهِ فَلْنَهْتَمَّ نَحْنُ بِما يَنْفَعُنا مِنَ الكَلامِ الصّالِحِ والفِعْلِ الصّالِحِ ... وَالتَّوْبَةُ تَتَرَكَّبُ مِنْ عِلْمٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ، فَالْعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ الذَّنَبِ وَالْحَالُ هُوَ تَأَلُّمُ النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَيُسَمَّى نَدَمًا، وَالْعَمَلُ هُوَ التَّرْكُ لِلْإِثْمِ وَتَدَارُكُ مَا يُمْكِنُ تَدَارُكَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا النَّدَمُ فَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، قُلْتُ: أَيْ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ لِأَنَّ أَحَدَ الجزءيْن غَيْرُ مَعْرِفَةٍ.

ثمَّ التَّعْبِير بتاب عَلَيْهِ هُنَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ أَكْلَ آدَمَ مِنَ الشَّجَرَةِ خَطِيئَةٌ إِثْم غَيْرَ أَنَّ الْخَطِيئَةَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا جَزَاءُ عِقَابٍ أُخْرَوِيٍّ وَلَا نَقْصٌ فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهَا أَوْجَبَتْ تَأْدِيبًا عَاجِلًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَئِذٍ فِي طَوْرٍ كَطَوْرِ الصِّبَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ ارْتِكَابُهَا بِقَادِحٍ فِي نُبُوءَةِ آدَمَ عَلَى أَنَّهَا لَا يَظْهَرُ أَنْ تُعَدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ بَلْ قِصَارُهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْأَمْرِ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَفِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّغَائِرِ خِلَافٌ بَيْنِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَبَيْنَ الْمَاتُرِيدِيِّ وَهِيَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، عَلَى أَنَّ نُبُوءَةَ آدَمَ فِيمَا يَظْهَرُ كَانَتْ بَعْدَ النُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ عِصْمَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ إِذِ الْعِصْمَةُ عِنْدَ النُّبُوءَةِ.

وَعِنْدِي – وَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِهِمْ – أَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَمْ يَكُنْ عَالَمَ تَكْلِيفٍ بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ، بَلْ عَالَمَ تَرْبِيَةٍ فَقَطْ فَتَكُونُ خَطِيئَةُ آدَمَ وَمَعْصِيَتُهُ مُخَالَفَةً تَأْدِيبِيَّةً وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعُقُوبَاتِ التَّأْدِيبِيَّةِ بِالْحِرْمَانِ مِمَّا جَرَّهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِطْلَاقُ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّوْبَةِ وَظُلْمِ النَّفْسِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَعْرُوفِ بَلْ هِيَ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَة وَتَوْبَةٌ بِمَعْنَى النَّدَمِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْتِزَامِ حُسْنِ السُّلُوكِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَعْنى الرضى لَا بِمَعْنَى غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ بِمَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي حِرْمَانِهَا مِنْ لَذَّاتٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ لَذَّةٍ قَلِيلَةٍ فَهُوَ قَدْ خَالَفَ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَهُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إِلَى قَوْله خالِدُونَ [الْبَقَرَة: 38-39] فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ بِهِ لَهُمْ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَزَاؤُهَا جَهَنَّمُ فَأَوْرَدَ عَلَيَّ بَعْضُ الْحُذَّاقِ مِنْ طَلَبَةِ الدَّرْسِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ عَالَمَ تَكْلِيفٍ فَكَيْفَ كَفَرَ إِبْلِيسُ بِاعْتِرَاضِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ؟ فَأَجَبْتُهُ بِأَنَّ دَلَالَةَ أُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ حَاصِلَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ حُصُولًا أَقْوَى مِنْ كُلِّ دَلَالَةٍ زِيَادَةً عَلَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ شَاهِدٌ بِالْحِسِّ الدَّلَائِلَ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ وَبِعَلَمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِمِثْلِهِ لِلْمَلَائِكَةِ فَكَانَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَالتَّغْلِيطُ إِنْكَارًا لِمُقْتَضَى تِلْكَ الصِّفَاتِ فَكَانَ مُخَالَفَةً لِدَلَائِلِ الْإِيمَانِ فَكَفَرَ بِهِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَجَزَاءُ ذَلِكَ فَلَا يُتَلَقَّى إِلَّا بِالْإِخْبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ لَمْ تَحْصُلْ يَوْمَئِذٍ وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُمْ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الْآيَةَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ".

الحكمة من ذِكْرِ خطأ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:

* قال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) عند تفسيره لقوله تعالى: {یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ لَا یَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ كَمَاۤ أَخۡرَجَ أَبَوَیۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ یَنزِعُ عَنۡهُمَا لِبَاسَهُمَا لِیُرِیَهُمَا سَوۡءَ ٰ⁠ تِهِمَاۤ إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ} [الأعراف: 27]: "اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ قِصَصِ الأنْبِياءِ – عَلَيْهِمُ السَّلامُ – حُصُولُ العِبْرَةِ لِمَن يَسْمَعُها، فَكَأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ قِصَّةَ آدَمَ وبَيَّنَ فِيها شِدَّةَ عَداوَةِ الشَّيْطانِ لِآدَمَ وأوْلادِهِ أتْبَعَها بِأنْ حَذَّرَ أوْلادَ آدَمَ مِن قَبُولِ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ فَقالَ: ﴿يابَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكم مِنَ الجَنَّةِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الشَّيْطانَ لَمّا بَلَغَ أثَرُ كَيْدِهِ ولُطْفُ وسْوَسَتِهِ وشِدَّةُ اهْتِمامِهِ إلى أنْ قَدَرَ عَلى إلْقاءِ آدَمَ في الزَّلَّةِ المُوجِبَةِ لِإخْراجِهِ مِنَ الجَنَّةِ، فَبِأنْ يَقْدِرَ عَلى أمْثالِ هَذِهِ المَضارِّ في حَقِّ بَنِي آدَمَ أوْلى. فَبِهَذا الطَّرِيقِ حَذَّرَ تَعالى بَنِي آدَمَ بِالِاحْتِرازِ عَنْ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ فَقالَ: ﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ﴾ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أنْ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ كَما فَتَنَ أبَوَيْكم، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُرُوجُهُما مِنها".

* وقال الإمامُ ابن كثير (774 هـ) عند تفسيره لهذه الآية: "يَقُولُ تَعَالَى مُحَذِّرًا بَنِي آدَمَ مِنْ إِبْلِيسَ وَقَبِيلِهِ، وَمُبَيِّنًا لَهُمْ عَدَاوَتَهُ الْقَدِيمَةَ لِأَبِي الْبَشَرِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي سَعْيِهِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ، إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ، وَالتَّسَبُّبِ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا هَذَا إِلَّا عَنْ عَدَاوَةٍ أَكِيدَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا﴾ [الْكَهْفِ: 50]".

* وقال النسفي (710 هـ) عند تفسيره لقوله تعالى : {فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَ ٰ⁠ تُهُمَا وَطَفِقَا یَخۡصِفَانِ عَلَیۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰۤ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ} [طه: 121] "﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ ضَلَّ عَنِ الرَأْيِ، وعَنِ ابْنِ عِيسى: خابَ، والحاصِلُ أنَّ العِصْيانَ وُقُوعُ الفِعْلِ عَلى خِلافِ الأمْرِ والنَهْيِ، وقَدْ يَكُونُ عَمْدًا فَيَكُونُ ذَنْبًا وقَدْ لا يَكُونُ عَمْدًا فَيَكُونُ زَلَّةً. ولَمّا وُصِفَ فِعْلُهُ بِالعِصْيانِ خَرَجَ فِعْلُهُ مِن أنْ يَكُونَ رُشْدًا فَكانَ غَيًّا؛ لِأنَّ الغَيَّ خِلافُ الرُشْدِ، وفي التَصْرِيحِ بِقَوْلِهِ ﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ والعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ وزَلَّ آدَمُ، مَزْجَرَةٌ بَلِيغَةٌ ومَوْعِظَةٌ كافَّةً لِلْمُكَلَّفِينَ، كَأنَّهُ قِيلَ لَهُمُ: انْظُرُوا أوِ اعْتَبِرُوا كَيْفَ نُعِيَتْ عَلى النَبِيِّ المَعْصُومِ حَبِيبِ اللهِ زَلَّتُهُ بِهَذِهِ الغِلْظَةِ، فَلا تَتَهاوَنُوا بِما يَفْرُطُ مِنكم مِنَ الصَغائِرِ فَضْلًا عَنِ الكَبائِرِ".

* وقال النسفي أيضاً – عند تفسيره لقوله تعالى: {فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ} [البقرة: 37] –: "﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ أيِ: اسْتَقْبَلَها بِالأخْذِ والقَبُولِ والعَمَلِ بِها. وبِنَصْبِ آدَمَ ورَفْعِ كَلِماتٍ: مَكِّيٌّ، عَلى أنَّها اسْتَقْبَلَتْهُ بِأنْ بَلَغَتْهُ، واتَّصَلَتْ بِهِ، وهُنَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعْرافُ: 23] وفِيهِ مَوْعِظَةٌ لِذَرِّيَّتِهِما حَيْثُ عَرَفُوا كَيْفِيَّةَ السَبِيلِ إلى التَنَصُّلِ مِنَ الذُنُوبِ".

فائدة: موقف أبي بكر بن العربي من الحديث عن خطأ آدم عليه السلام:

قال أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) في معرِض حديثه عن خطأ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ، إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِ اللَّهِ عَنْهُ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ. وَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا، الْمُمَاثِلَيْنِ لَنَا، فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ، النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ". [أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م، ج3 ص259].

ثانياً: ما ورد في شأن نوح عليه السلام:

قال تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحࣱ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ. قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ. قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِی وَتَرۡحَمۡنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ} [هود:  45-47].

أوَّلًا- هناك مَن فسّر هذه الآيات على أساس أن نوحا عليه السلام كان يظن أنّ ابنه كان مؤمناً؛ منهم:

* أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) حيث قال في تفسيره: "وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ...) الآية، فقال: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

هذا – واللَّه أعلم – كان عند نوح أن ابنه كان على دينه، لِمَا لعلَّه كان يُظهِر الموافقةَ له، وإلّا لا يحتمل أن يقول: (إن ابني من أهلي) ويسأله نجاته، وقد سبق منه النهي في سؤال مثله؛ حيث قال: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). ولا يحتمل أن يكون يعلم أنه على غير دينه، ثم يسأل له النجاة بعدما نهاه عن المخاطبة في الذين ظلموا، فقال: (إنه ليس من أهلك) في الباطن والسر، وإلَّا خرج هذا القولُ مخرجَ تكذيب رسوله، لكن الوجه فيه ما ذكرنا: أنه كان في الظاهر عنده أنه على دينه لِمَا كان يُظهِر له الموافقة، وكان لا يعرف ما يضمره، فسأله على الظاهر الذي عنده؛ وكذلك أهل النفاق كانوا يظهرون الموافقة لرسولِ اللَّه ﷺ وأصحابِه ويضمرون الخلاف له، وكانوا لا يعرفون نفاقهم إلا بعد اطلاع الله إياه. فعلى ذلك نوحٌ كان لا يعرف ما كان يضمر هو؛ لذلك خرج سؤاله فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذي وعدت النجاة لهم، أو ليس من أهلك؛ لأنه لم يؤمن بي ولم يصدقك فيما أخبرت أنه عمل غير صالح...

وقوله – عَزَّ وَجَلَّ –: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ): يحتمل هذا نهيا عن سؤال ما لم يؤذن له من بعد؛ لأن الأنبياء – عليهم السلام – كانوا لا يسألون شيئًا إلا بعد الإذن لهم في السؤال، وإن كان يسع لهم السؤال، أو أن يكون عتابًا لما سبق، والأنبياء - عليهم السلام - كانوا يُعاتَبون في أشياء يحل لهم ذلك؛ نحو قوله لرسول اللَّه ﷺ: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)، وقد كان له ﷺ الأمرُ بالقعود والنهي عن الخروج بقوله: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، ونحوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ): هو كما نهى رسول اللَّه: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وأمثاله، وإن كان معلوما أنه لا يكون من الجاهلين، وهو ما ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء، بل بالنهي تظهر العصمة!

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) إني أعوذ بك أن أعود إلى سؤالٍ لا أعلم بالإذن في السؤال هذا يحتمل.

وقوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي: إن لم ترحمني بالعصمة من العَوْد إلى مثله أكن من الخاسرين، هذا يشبه أن يكون.

ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما لا يستوجبون المغفرة والرحمة إلا برحمة اللَّه وفضله، على ما روي عن رسول اللَّه ﷺ أنه قال: "لن يدخل أحدٌ الجنة إلا برحمة اللَّه"، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته".

وقوله تعالى: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ): هو طلب المغفرة بالكناية، وهو أبلغ وأكبر من قوله: اللهم اغفر لي؛ لأن في قوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) قطع رجاء المغفرة من غيره، وإخبار ألَّا يملك أحد ذلك، وليس في قوله: اغفر لي قطع كون ذلك من غيره؛ لذلك كان ذلك أبلغ من هذا، وكذلك سؤال آدم وحواء المغفرة حيث قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية، هو سؤال بالكناية فهو أبلغ في السؤال». [تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة)، أبو منصور الماتريدي، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م، ج6 ص136-138].

* والإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) حيث جاء في تفسيره «مفاتيح الغيب»: "ونَخْتِمُ هَذا الكَلامَ بِالبَحْثِ عَنِ الزَّلَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في هَذا المَقامِ، فَنَقُولُ: إنَّ أُمَّةَ نُوحٍ – عَلَيْهِ السَّلامُ – كانُوا عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: كافِرٌ يَظْهَرُ كُفْرُهُ، ومُؤْمِنٌ يُعْلَمُ إيمانُهُ، وجَمْعٌ مِنَ المُنافِقِينَ، وقَدْ كانَ حُكْمُ المُؤْمِنِينَ هو النَّجاةُ، وحُكْمُ الكافِرِينَ هو الغَرَقُ، وكانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وأمّا أهْلُ النِّفاقِ فَبَقِيَ حُكْمُهم مَخْفِيًّا، وكانَ ابْنُ نُوحٍ مِنهم، وكانَ يَجُوزُ فِيهِ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وكانَتِ الشَّفَقَةُ المُفْرِطَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الأبِ في حَقِّ الِابْنِ تَحْمِلُهُ عَلى حَمْلِ أعْمالِهِ وأفْعالِهِ، لا عَلى كَوْنِهِ كافِرًا بَلْ عَلى الوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ، فَلَمّا رَآهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ القَوْمِ طَلَبَ مِنهُ أنْ يَدْخُلَ السَّفِينَةَ، فَقالَ: ﴿سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ﴾ [هُودٍ: 43] وذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى كُفْرِهِ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ أنَّ الصُّعُودَ عَلى الجَبَلِ يَجْرِي مَجْرى الرُّكُوبِ في السَّفِينَةِ في أنَّهُ يَصُونُهُ عَنِ الغَرَقِ، وقَوْلُ نُوحٍ: ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ إلّا مَن رَحِمَ﴾ [هُودٍ: 43] لا يَدُلُّ إلّا عَلى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يُقَرِّرُ عِنْدَ ابْنِهِ أنَّهُ لا يَنْفَعُهُ إلّا الإيمانُ والعَمَلُ الصّالِحُ، وهَذا أيْضًا لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلِمَ مِنَ ابْنِهِ أنَّهُ كانَ كافِرًا، فَعِنْدَ هَذِهِ الحالَةِ كانَ قَدْ بَقِيَ في قَلْبِهِ ظَنُّ أنَّ ذَلِكَ الِابْنَ مُؤْمِنٌ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَخْلِيصَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، إمّا بِأنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الدُّخُولِ في السَّفِينَةِ، وإمّا أنْ يَحْفَظَهُ عَلى قُلَّةِ جَبَلٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ مُنافِقٌ، وأنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ دِينِهِ، فالزَّلَّةُ الصّادِرَةُ عَنْ نُوحٍ – عَلَيْهِ السَّلامُ – هو أنَّهُ لَمْ يَسْتَقْصِ في تَعْرِيفِ ما يَدُلُّ عَلى نِفاقِهِ وكُفْرِهِ، بَلِ اجْتَهَدَ في ذَلِكَ، وكانَ يَظُنُّ أنَّهُ مُؤْمِنٌ، مَعَ أنَّهُ أخْطَأ في ذَلِكَ الِاجْتِهادِ؛ لِأنَّهُ كانَ كافِرًا، فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إلّا الخَطَأُ في هَذا الِاجْتِهادِ، كَما قَرَّرْنا ذَلِكَ في أنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الزَّلَّةُ إلّا لِأنَّهُ أخْطَأ في هَذا الِاجْتِهادِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ الصّادِرَ عَنْ نُوحٍ – عَلَيْهِ السَّلامُ – ما كانَ مِن بابِ الكَبائِرِ، وإنَّما هو مِن بابِ الخَطَأِ في الِاجْتِهادِ، واللَّهُ أعْلَمُ".

* والإمامُ القرطبي (671 هـ) حيث قال في تفسيره: "وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ ابْنَهُ لِقَوْلِهِ: "وَأَهْلَكَ" وَتَرَكَ قوله: ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ [هود: 49] فَلَمَّا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِ} يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله: {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} أَيْ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ لَسْتَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مُؤْمِنًا فِي ظَنِّهِ، وَلَمْ يَكُ نُوحٌ يَقُولُ لِرَبِّهِ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِ} إِلَّا وَذَلِكَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَسْأَلَ هَلَاكَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ يَسْأَلُ فِي إِنْجَاءِ بَعْضِهِمْ، وَكَانَ ابْنُهُ يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا بِمَا هُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ، أَيْ عَلِمْتُ مِنْ حَالِ ابْنِكَ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ مُنَافِقًا، وَلِذَلِكَ اسْتَحَلَّ نُوحٌ أَنْ يُنَادِيَهُ".

ثانياً- وهناك مَن فسّر هذه الآيات على أساس أن نوحا عليه السلام كان يعلم أنّ ابنه كان كافراً؛ منهم:

* العلاّمةُ الطاهر بن عاشور (1393 هـ) حيث قال في تفسيره «التحرير والتنوير»: "فالمَعْنى: أنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لا يَجْهَلُ أنَّ ابْنَهُ كافِرٌ، ولِذَلِكَ فَسُؤالُ المَغْفِرَةِ لَهُ عَنْ عِلْمٍ بِأنَّهُ كافِرٌ، ولَكِنَّهُ يَطْمَعُ لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُ لِأجْلِ قَرابَتِهِ بِهِ، فَسُؤالُهُ لَهُ المَغْفِرَةُ بِمَنزِلَةِ الشَّفاعَةِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ أخْذٌ بِأقْصى دَواعِي الشَّفَقَةِ والرَّحْمَةِ بِابْنِهِ.

وقَرِينَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: ﴿وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ﴾ المُفِيدُ أنَّهُ لا رادَّ لِما حَكَمَ بِهِ وقَضاهُ، وأنَّهُ لا دالَّةَ عَلَيْهِ لِأحَدٍ مِن خَلْقِهِ، ولَكِنَّهُ مَقامُ تَضَرُّعٍ وسُؤالِ ما لَيْسَ بِمُحالٍ.

وقَدْ كانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - غَيْرَ مَنهِيٍّ عَنْ ذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ تَقَرَّرَ في شَرْعِهِ العِلْمُ بِعَدَمِ المَغْفِرَةِ لِلْكافِرِينَ، فَكانَ حالُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَحالِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قالَ لِأبِي طالِبٍ «لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»  قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 113] الآيَةَ".

ثالثاً: ما ورد في شأن إبراهيم عليه السلام:

1) قال تعالى: {وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِیمُ لِأَبِیهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ. وَكَذَ ٰلِكَ نُرِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِیَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِینَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ. فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ. فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ. إِنِّی وَجَّهۡتُ وَجۡهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِیفࣰاۖ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ. وَحَاۤجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـࣰٔاۚ وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَیۡفَ أَخَافُ مَاۤ أَشۡرَكۡتُمۡ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَیۡكُمۡ سُلۡطَـٰنࣰاۚ فَأَیُّ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ. ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یَلۡبِسُوۤا۟ إِیمَـٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ. وَتِلۡكَ حُجَّتُنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَـٰتࣲ مَّن نَّشَاۤءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیمࣱ} [الأنعام: 74-83].

* قال العلاّمةُ ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، هَلْ هُوَ مَقَامُ نَظَرٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ؟ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَامُ نَظَرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾".

ثُمَّ قال ابن كثير: "وَالْحَقُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْهَيَاكِلِ وَالْأَصْنَامِ...

وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ. إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ الْآيَاتِ/ [الْأَنْبِيَاءِ: 51-52] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: 120 -123] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 161] .

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: كلُّ (مولود يولد على الْفِطْرَةِ)، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاۤءَ) وَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الرُّومِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الْأَعْرَافِ: 172] وَمَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقٍّ سَائِرِ الْخَلِيقَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ ﴿أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: 120] - نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَامِ؟! بَلْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالسَّجِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ".

* وقال الشيخُ العلاّمةُ ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: "وقَوْلُهُ ﴿هَذا رَبِّي﴾ أيْ خالِقِي ومُدَبِّرِي فَهو مُسْتَحِقٌّ عِبادَتِي. قالَهُ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ جَرْيًا عَلى مُعْتَقَدِ قَوْمِهِ؛ لِيَصِلَ بِهِمْ إلى نَقْضِ اعْتِقادِهِمْ فَأظْهَرَ أنَّهُ مُوافِقٌ لَهم لِيَهَشُّوا إلى ذَلِكَ؛ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِمْ بِالإبْطالِ إظْهارًا لِلْإنْصافِ وطَلَبِ الحَقِّ. ولا يَرِيبُكَ في هَذا أنَّ صُدُورَ ما ظاهِرُهُ كُفْرٌ عَلى لِسانِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ لَمّا رَأى أنَّهُ ذَلِكَ طَرِيقٌ إلى إرْشادِ قَوْمِهِ وإنْقاذِهِمْ مِنَ الكُفْرِ، واجْتَهَدَ فَرَآهُ أرْجى لِلْقَبُولِ عِنْدَهم ساغَ لَهُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِقَصْدِ الوُصُولِ إلى الحَقِّ وهو لا يَعْتَقِدُهُ، ولا يَزِيدُ قَوْلُهُ هَذا قَوْمَهُ كُفْرًا، كالَّذِي يُكْرَهُ عَلى أنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الكُفْرِ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ فَإنَّهُ إذا جازَ ذَلِكَ لِحِفْظِ نَفْسٍ واحِدَةٍ وإنْقاذِها مِنَ الهَلاكِ كانَ جَوازُهُ لِإنْقاذِ فَرِيقٍ مِنَ النّاسِ مِنَ الهَلاكِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ أوْلى. وقَدْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِإذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالوَحْيِ...

وقَوْلُهُ ﴿فَلَمّا أفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ قَصَدَ بِهِ تَنْبِيهَ قَوْمِهِ لِلنَّظَرِ في مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الحَقِّ وأنَّهُ واحِدٌ، وأنَّ الكَوْكَبَ والقَمَرَ كِلَيْهِما لا يَسْتَحِقّانِ ذَلِكَ، مَعَ أنَّهُ عَرَّضَ في كَلامِهِ بِأنَّ لَهُ رَبًّا يَهْدِيهِ وهم لا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأنَّهم قائِلُونَ بِعِدَّةِ أرْبابٍ. وفي هَذا تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِ قَوْمِهِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرَ الكَواكِبِ. ثُمَّ عَرَّضَ بِقَوْمِهِ أنَّهم ضالُّونَ وهَيَّأهم قَبْلَ المُصارَحَةِ لِلْعِلْمِ بِأنَّهم ضالُّونَ، لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ يُدْخِلُ عَلى نُفُوسِهِمُ الشَّكَّ في مُعْتَقَدِهِمْ أنْ يَكُونَ ضَلالًا، ولِأجْلِ هَذا التَّعْرِيضِ لَمْ يَقُلْ: لَأكُونَنَّ ضالًّا، وقالَ ﴿لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ لِيُشِيرَ إلى أنَّ في النّاسِ قَوْمًا ضالِّينَ، يَعْنِي قَوْمَهُ...

وقَوْلُهُ ﴿قالَ يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾، إقْناعٌ لَهم بِأنْ لا يُحاوِلُوا مُوافَقَتَهُ إيّاهم عَلى ضَلالِهِمْ لِأنَّهُ لَمّا انْتَفى اسْتِحْقاقُ الإلَهِيَّةِ عَنْ أعْظَمِ الكَواكِبِ الَّتِي عَبَدُوها فَقَدِ انْتَفى عَمّا دُونَها بِالأحْرى...

وهَذا قَدْ جَرَيْنا فِيهِ عَلى أنَّ قَوْلَ إبْراهِيمَ لَمّا رَأى النَّيِّراتِ ”هَذا رَبِّي“ هو مُناظَرَةٌ لِقَوْمِهِ واسْتِدْراجٌ لَهم، وأنَّهُ كانَ مُوقِنًا بِنَفْيِ إلَهِيَّتِها، وهو المُناسِبُ لِصِفَةِ النُّبُوءَةِ أنْ يَكُونَ أُوحِيَ إلَيْهِ بِبُطْلانِ الإشْراكِ وبِالحُجَجِ الَّتِي احْتَجَّ بِها عَلى قَوْمِهِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن قالَ: إنَّ كَلامَهُ ذَلِكَ كانَ نَظَرًا واسْتِدْلالًا في نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾، فَإنَّهُ يُشْعِرُ بِأنَّهُ في ضَلالٍ لِأنَّهُ طَلَبُ هِدايَةٍ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبالِ أيْ لِأجْلِ أداةِ الشَّرْطِ، ولَيْسَ هَذا بِمُتَعَيِّنٍ لِأنَّهُ قَدْ يَقُولُهُ لِتَنْبِيهِ قَوْمِهِ إلى أنَّ لَهم رَبًّا بِيَدِهِ الهِدايَةُ، كَما بَيَّنّاهُ في مَوْضِعِهِ، فَيَكُونُ كَلامُهُ مُسْتَعْمَلًا في التَّعْرِيضِ. عَلى أنَّهُ قَدْ يَكُونُ أيْضًا مُرادًا بِهِ الدَّوامُ عَلى الهِدايَةِ والزِّيادَةِ فِيها، عَلى أنَّهُ قَدْ يَكُونُ أرادَ الهِدايَةَ إلى إقامَةِ الحُجَّةِ حَتّى لا يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ.

فَإذا بَنَيْنا عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ اسْتِدْلالًا في نَفْسِهِ قَبْلَ الجَزْمِ بِالتَّوْحِيدِ فَإنَّ ذَلِكَ كانَ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مَعْناهُ نُرِيهِ ما فِيها مِنَ الدَّلائِلِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ ووَحْدانِيَّتِهِ قَبْلَ أنْ نُوحِيَ إلَيْهِ ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿رَأى كَوْكَبًا﴾ بِمَعْنى نَظَرَ في السَّماءِ فَرَأى هَذا الكَوْكَبَ ولَمْ يَكُنْ نَظَرَ في ذَلِكَ مِن قَبْلُ، ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿قالَ هَذا رَبِّي﴾ قَوْلًا في نَفْسِهِ عَلى نَحْوِ ما يَتَحَدَّثُ بِهِ المُفَكِّرُ في نَفْسِهِ، وهو حَدِيثُ النَّفْسِ، كَقَوْلِ النّابِغَةِ في كَلْبِ صَيْدٍ:

قالَتْ لَهُ النَّفْسُ إنِّي لا أرى طَمَعًا وأنَّ مَوْلاكَ لَمْ يَسْلَمْ ولَـمْ يَصِـدِ

وقَوْلِ العَجّاجِ في ثَوْرٍ وحْشِيٍّ:

ثُمَّ انْثَنى وقالَ في التَّفْكِـيرِ ∗∗∗ إنَّ الحَياةَ اليَوْمَ في الكُرُورِ

وقَوْلِهِ هَذا رَبِّي وقَوْلِهِ ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ وقَوْلِهِ ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ في حَقائِقِهِ مِنَ الِاعْتِقادِ الحَقِيقِيِّ. وقَوْلُهُ ﴿قالَ يا قَوْمِ﴾ هو ابْتِداءُ خِطابِهِ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أنْ ظَهَرَ الحَقُّ لَهُ فَأعْلَنَ بِمُخالَفَتِهِ قَوْمَهُ حِينَئِذٍ".

* وقال الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان»: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيَلُّ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذا رَبِّي﴾، الآياتِ، قَوْلُهُ: ﴿هَذا رَبِّي﴾ [الأنعام: 76]، في المَواضِعِ الثَّلاثَةِ مُحْتَمَلٌ لِأنَّهُ كانَ يَظُنُّ ذَلِكَ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ، وَمُحْتَمَلٌ، لِأنَّهُ جازِمٌ بِعَدَمِ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، ومُرادُهُ هَذا رَبِّي في زَعْمِكُمُ الباطِلِ، أوْ أنَّهُ حَذَفَ أداةَ اسْتِفْهامِ الإنْكارِ، والقُرْآنُ يُبَيِّنُ بُطْلانَ الأوَّلِ، وصِحَّةَ الثّانِي.

أمّا بُطْلانُ الأوَّلِ: فاللَّهُ تَعالى نَفى كَوْنَ الشِّرْكِ الماضِي عَنْ إبْراهِيمَ في قَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، في عِدَّةِ آياتٍ، ونَفْيُ الكَوْنِ الماضِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الزَّمَنِ الماضِي، فَثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ شِرْكٌ يَوْمًا ما.

وَأمّا كَوْنُهُ جازِمًا مُوقِنًا بِعَدَمِ رُبُوبِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذا رَبِّي﴾، إلى آخِرِهِ، ”بِالفاءِ“ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75]؛ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ قالَ ذَلِكَ مُوقِنًا مُناظِرًا ومُحاجًّا لَهم، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَحاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ [الأنعام: 80]، وقَوْلُهُ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾ الآيَةَ [الأنعام: 83]، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى".

2) قال تعالى: {وَتَٱللَّهِ لَأَكِیدَنَّ أَصۡنَـٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّوا۟ مُدۡبِرِینَ. فَجَعَلَهُمۡ جُذَ ٰذًا إِلَّا كَبِیرࣰا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَیۡهِ یَرۡجِعُونَ. قَالُوا۟ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِـَٔالِهَتِنَاۤ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ. قَالُوا۟ سَمِعۡنَا فَتࣰى یَذۡكُرُهُمۡ یُقَالُ لَهُۥۤ إِبۡرَ ٰهِیمُ. قَالُوا۟ فَأۡتُوا۟ بِهِۦ عَلَىٰۤ أَعۡیُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡهَدُونَ. قَالُوۤا۟ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَـٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا یَـٰۤإِبۡرَ ٰهِیمُ. قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِیرُهُمۡ هَـٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُوا۟ یَنطِقُونَ} [الأنبياء: 57-63].

* قال الماوردي (450 هـ) في تفسيره: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ الآيَةِ. فِيهِ وجْهانِ:

أحَدُهُما: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فاسْألُوهم، فَجَعَلَ إضافَةَ الفِعْلِ إلَيْهِمْ مَشْرُوطًا بِنُطْقِهِمْ تَنْبِيهًا لَهم عَلى فَسادِ اعْتِقادِهِمْ.

الثّانِي: أنَّ هَذا القَوْلَ مِن إبْراهِيمَ سُؤالُ إلْزامٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الخَبَرِ ولَيْسَ بِخَبَرٍ، ومَعْناهُ: أنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أنَّ هَذِهِ آلِهَةٌ لَزِمَهُ سُؤالُها، فَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فَيُجِيبُهُ إنْ كانَ إلَهًا ناطِقًا".

* وقال ابن الجوزي (597 هـ) في تفسيره: "واخْتَلَفَ العُلَماءُ في وجْهِ هَذا القَوْلِ مِن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى قَوْلَيْنِ:

أحَدُهُما: أنَّهُ وإنْ كانَ في صُورَةِ الكَذِبِ، إلّا أنَّ المُرادَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ مَن لا قُدْرَةَ لَهُ، لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ إلَهًا، ومِثْلُهُ قَوْلُ المَلَكَيْنِ لِداوُدَ ﴿إنَّ هَذا أخِي﴾، ولَمْ يَكُنْ أخاهُ، ﴿لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [ص: 23]، ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، فَجَرى هَذا مَجْرى التَّنْبِيهِ لِداوُدَ عَلى ما فَعَلَ، وأنَّهُ هو المُرادُ بِالفِعْلِ والمَثَلِ المَضْرُوبِ، ومِثْلُ هَذا لا تُسَمِّيهِ العَرَبُ كَذِبًا.

والثّانِي: أنَّهُ مِنَ مَعارِيضِ الكَلامِ، فَرُوِيَ عَنِ الكِسائِيِّ أنَّهُ كانَ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلْ فَعَلَهُ﴾، ويَقُولُ: مَعْناهُ: فَعَلَهُ مَن فَعَلَهُ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ: ﴿كَبِيرُهم هَذا﴾ . قالَ الفَرّاءُ: وقَرَأ بَعْضُهم: (بَلْ فَعَلَّهُ) بِتَشْدِيدِ اللّامِ، يُرِيدُ: فَلَعَلَّهُ كَبِيرُهم هَذا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذا مِنَ المَعارِيضِ، ومَعْناهُ: إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصّافّات:89]؛ أيْ: سَأسْقَمُ، ومِثْلُهُ: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ﴾ [الزَّمْر: 30]؛ أيْ: سَتَمُوتُ، وقَوْلُهُ: ﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ﴾ [الكَهْف: 74]، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يَنْسَ، ولَكِنَّهُ مِن مَعارِيضِ الكَلامِ، والمَعْنى: لا تُؤاخِذْنِي بِنِسْيانِي، ومِن هَذا قِصَّةُ الخَصْمَيْنِ ﴿إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ [ص: 21]، ومِثْلُهُ ﴿وَإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى﴾ [سَبَأ: 24]، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ التَّعْرِيضَ في كَلامِها كَثِيرًا، فَتَبْلُغُ إرادَتَها بِوَجْهٍ هو ألْطَفُ مِنَ الكَشْفِ، وأحْسَنُ مِنَ التَّصْرِيحِ... قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: كَلامُ إبْراهِيمَ كانَ صِدْقًا عِنْدَ البَحْثِ، ومَعْنى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «كَذَبَ إبْراهِيمُ ثَلاثَ كِذْباتٍ»: قالَ قَوْلًا يُشْبِهُ الكَذِبَ في الظّاهِرِ، ولَيْسَ بِكَذِبٍ. قالَ المُصَنَّفُ: وقَدْ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى هَذا الوَجْهِ، وأنَّهُ مِنَ المَعارِيضِ، والمَعارِيضُ لا تُذَمُّ خُصُوصًا إذا احْتِيجَ إلَيْها. رَوى عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ في المَعارِيضِ لَمَندُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ». وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما يَسُرُّنِي أنَّ لِي بِما أعْلَمُ مِن مَعارِيضِ القَوْلِ مِثْلَ أهْلِي ومالِي. وقالَ النَّخَعِيُّ: لَهم كَلامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذا خَشَوْا مِن شَيْءٍ يَدْرَؤُونَ بِهِ عَنْ أنْفُسِهِمْ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: الكَلامُ أوْسَعُ مِن أنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ".

وقفة مع حديث نبوي: عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ؛ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ، أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ! فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ! فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ! فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ! فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا». [متفق عليه، واللفظُ لمسلم].

* قال القاضي عياض: "وقد وصف ﷺ أن اثنتين من كذبات إبراهيم – عليه السلام – كانتا في ذات الله سبحانه، والكذب إنما يترك لله، فإذا كان إنما يُفْعل لله انقلب حكمُه في بعض المواضع على حسب ما ورد في الشريعة، فالقصد بهذا التقييد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفي مذمة الكذب عنه لجلال قدره في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد تأول بعض الناس كلماته هؤلاء حتى يخرج عن كونها كذباً، ولا معنى لأن يتحاشا العلماء مما لم يتحاش منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن قد يقال: إن المراد بتسميتها كذباً على ظاهرها عندكم في مقتضى إطلاقكم عند استعمالكم اللفظ على حقيقته، ألا تراه يحكي عن إبراهيم – عليه السلام – أنه قال لسارة: "أخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام"، ومن سمى المسلمة أختًا له قاصدًا أخوة الإسلام فليس بكاذب، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أطلق عليه لفظة الكذب لما قلناه من أن الأخت في الحقيقة المشاركة في النسب وأما المشاركة في الدين فأخت على المجاز، فأراد بها كذبة على مقتضى حقيقة اللفظ في اللغة، وعلى أن قوله: «إنها أختي»، قد يكون في ذات الله، إذ أراد بها كف الظلم وصيانة الحريم، لكن لما كان له فيها منفعة ميزها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأولتين اللتين لا منفعة له فيهما، وهذا اللفظ يظهر ما في تأويل هذا الحديث.

قال القاضي: الصحيح على القولين من تجويز الصغائر على الأنبياء، ومنها أن الكذب وإن قل فيما طريقه البلاغ لا يجوز عليهم وأن ينصب النبوة، فحاشا معصوم من قليله وكثيره، سهوه وعمده؛ وعمدة النبوة البلاغ والخبر عن الله وشرعه وتجويز كلام منه على خلاف مخبره قادح في صدقه مناقض لمعجزته، ونحن نعلم قطعاً من مذاهب الصحابة وسيرة السنف الصالح، مبادرتهم إلى تصديق أقواله، والثقة بجميع أخباره في أي باب كانت وعلى أي وجه جاءت، ولم يُحفَظْ عنهم تردد ولا توقف ولا سؤال ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع منه على سهو أو ضجر أو غيره؟ ولا حُفِظ عنه أنه استدرك شيئًا قاله، أو اعترف بوهم فيما أخبر به.

ولو كان شيء من ذلك لنقل كما نقل رجوعه عن أشياء من أفعاله وآرائه وما ليس طريقه الخبر؛ كرجوعه عن رأيه في ترك تلقيح النخل، وكقوله: «والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذى حلفت عليه وكفرت عن يميني»، وكقوله: «إنكم تختصمون إليّ» الحديث إلى قوله: «قضيت له من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار»، وكقوله «إني لَأنْسى، أو أنسى لِأسُنّ» ولم يأت عنه استدراك لشيء مما قاله أو يتبع لسهو فيه، أو غلط صدر عنه فيه.

وقوله: «ثنتان في ذات الله، وواحدةً في شأن سارة» إشارة أن تلك في ذات الله وتبليغ رسالاته ومجادلة الكفرة عداه، فخصهما هنا لذلك. وقصة سارة فقد كانت في ذات الله أيضاً لِكافِّه مسلمة أذى مشرك وعصيان الله تعالى ومواقعة محارمه، وقد جاء ذلك مبيناً في غير مسلم فقال: ما فيها كذبة إلا بما حل فيها عن الإسلام، أي يماكر ويجادل ويدافع.

وقد قيل: في قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} تأويلات، منها: أنه ورَّى بقوله ذلك سأسقم، فإن ابن آدم عرضة للأسقام، واعتذر بقوله عن الخروج معهم إلى غيرهم بهذا القول المحتمل الظاهر. وقيل: سقيم بما قدر على من الموت. وقيل: سقيم القلب بما أشاهد من كفركم وعنادكم. وقيل: بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم، فلما رآه اعترض بعاديه، وهو معنى قوله عند هذا: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}. وقيل: بل عرض بسقم حجته عليهم، وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها، وأنه إما نظره في ذلك وقبل استقامة حجته عليه في حال سقم ومرض حال، مع أنه لم يشك ولا ضعف إيمانه، ولكن ضعف في استدلاله وسقم نظره، كما يقال: حجة سقيمة، ونظر معلول، حتى ألهمه الله صحة حجته عليهم بالكوكب والقمر والشمس مما نصه.

وكذلك قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فإنه علق خبره بشرط نطقه، كأنه قال: إن كان ينطق وهو فعله على طريق التنكيت لقومه، وهذا كله ليس بكذب وخارج عن حد الكذب في حق المخبر، داخل في باب المعاريض التي جعلها الشرع مندوحة عن الكذب عند الضرائر، ولكن سماها النبي ﷺ كذبات؛ لأنه أتى بها لمن خاطبه على ظاهرها ومعتقده خلاف ذلك، فلما كان في حقي المخبر والخبر ظاهرها بخلاف باطنها جاءت في صورة الكذب، وإن لم يكن كذباً في الباطن. وهذه على صورة المعاريض. ولما جاءت بهذه الصورة سماها النبي محمد وإبراهيم – عليهما السلام – كذبات، أشفق إبراهيم ﷺ من المؤاخذة بها يوم القيامة في الحديث المعروف في الشفاعة.

قال أهل العلم: وهذا أصل في جواز المعاريض، قالوا: والمعاريض شيء يتخلص به الرجل من المكروه إلى الجائز، ومن الحرام إلى الحلال، ومن دفع ما يضره. وإنما يكره له االتّحَيُّل في حق فيبطله، أو باطل فيموه به". [إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، القاضي عِيَاض، تحقيق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء/مصر، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م، ج7 ص344-347].

وورد في حديث آخر أن النَّبِيُّ ﷺ قالَ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِى خَيْرًا". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ في شَيءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. [رواه مسلم].

قال القاضي عياض: "وقول ابن شهاب في الحديث: «لم أسمع أحدًا يرخص في شَيءٍ مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وكذب الرجل امرأته وكذب المرأة زوجها»، قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذا.

واختلف في الصورة الجائزة فيه، وما هو هذا الكذب المباح في هذه الأبواب؟ فحمله قوم على الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن ففي ذلك لما فيه من الصلاحِ، وأن الكذب المذموم إِنما هو ما فيه مضرة المسلمين، واحتجوا بقول: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله: «فإنها أختي»، وقول مُنادي يوسف: {أَيَّتُهَا العِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، وقالوا: لا خلاف أن من رأى رجلاً يريد أن يقتل مسلمًا، أو يقدر على أن ينجيه منه بالكذب، أنه واجب عليه مثل أن يقول: ليس هو هاهنا، أو ليس هو فلان، ونحو هذا. فإذا كان واجبًا هنا فهو جائز فيما فيه الصلاح.

وقال آخرون – وهو مذهب الطبري –: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف مخبره عن شيء، وما جاء ففي هذا من الإباحة فإنما هو مما لا يجوز في غيره للضرورة هنا، إنما هو على التورية وطريق المعاريض لا تصريح الكذب، مثل أن يعد زوجته بأن يغفر لها ويحسن إليها، ونيته في ذلك إنّ قدر الله أو إلى مدة ذلك وثناؤه وإثابتها في غير هذا بكلمات مشتركة وألفاًظ متحملة، يفهم منها ما يطيب قلبها، وكذلك في الإصلاح بين الناس ونقل ما ينقل لها ولا عن هؤلاء من كلام جميل، وقول حسن، وعذر محتمل، وكذلك في الحرب، كما كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، مثل أن يقول: هل لكم في قتال بنى فلان غزو بلد كذا، أو تأهبوا لغزو بلد كذا، وقد وجب غزو بنى فلان، أو أنا أغزو بلد كذا ونيته وقتاً آخر، وكذلك أن يقول لمبارزة الخيل: سرجك، ويريد فيما مضى، ويقول للجيش من عدوه: مات إمامكم الأعظم ليدخل الذعر قلوبهم ويريد النوم، وشبه هذا، أو يقول: غدًا يقدم علينا مدد، وهو قد أعدَّ قومًا من عسكره ليأتوا في صورة المدد.

فهذا من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة، فمثل هذا كله من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب. وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف منها أنها معاريض، ووجوه أخر معروفة.

وأما قوله:  «والمرأة تحدِّث زوجها»: فيحتمل أن هذا فيما يحدث كل واحد منهما الآخر من ودِّه له واغتباطه له، وإن كان أكثر مما يعتقده لما في ذلك من الصلاح ودوام الألفة بينهما، والله أعلم. [إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، القاضي عِيَاض، تحقيق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء - مصر، الطبعة الأولى: 1419 هـ - 1998 م، ج8 ص77-78].

* وقال صفي الرحمن المباركفوري: "قوله: (لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا ثلاث كذبات) إطلاق الكذب على الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث ليس باعتبار معناه اللغوي الصريح المتعارف عليه في العرف، لأنه الإخبار بخلاف الأمر الواقع مع قصد أن يعتقد السامع أنه مطابق للأمر الواقع. وإنما أطلق عليه الكذب باعتبار أنه أوهم السامع معنى لا يطابق الأمر الواقع. وقصد في نفسه معنى يطابق له، فهو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وهذا في قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وفي قضية سارة، وأما في قضية كسر الأصنام فإنه وإن قال قولًا لا يطابق الأمر الواقع صريحا – لا عند القائل ولا عند السامع – ولكنه لم يقصد إيهام السامع أنه مطابق للأمر الواقع، بل أراد إلزام السامع وإقامة الحجة عليه، وهذا أيضًا لا يسمى بالكذب عُرفًا. فإطلاق الكذب على هذه الأمور الثلاثة إنما هو باعتبار إيهام السامع أو إلزامه، وليس بمعنى الكذب المعروف هذا، وقد زَلَّ بعضُ الثقات من أهل العلم في هذا الحديث فاجترأ على تكذيبه، وذلك لاستبعاده وتعاظمه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام. ولو أنه دقق قليلًا لعرف أن اثنين من هذه الثلاثة مذكوران في القرآن، ولا سبيل لإثباتهما حقًّا وصدقًا، فأين المفر؟ (ثنتين في ذات الله) خصهما بذلك لأن قضية سارة وإن كانت أيضًا في ذات الله لكنها تضمنت حظًّا لنفسه ونفعًا له، بخلاف الثنتين الأخريين، فإنهما في ذات الله محضًا {إِنِّي سَقِيمٌ} أي مريض، قال ذلك اعتذارًا عن الحضور معهم، ولو كان له سقم يمنعه عن الحضور معهم لمنعه عن كسر الأصنام أيضًا، فعرفنا أنه تأول في ذلك، وأراد أنه سيسقم أو أنه يصير سقيم الحجة إذا حضر معهم، فأخفى هذا المعنى في نفسه، وأوهم معنى لم يكن يطابق الواقع {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، أي: الصنم الأكبر، وهذا لم يكن يطابق الواقع، ولا كان لإيهام السامع، ولكن كان لإقامة الحجة عليه". [منة المنعم في شرح صحيح مسلم، صفي الرحمن المباركفوري، ج4 ص63-64].

3) قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].

* قال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره (المحرر الوجيز): "واخْتَلَفَ الناسُ لِمَ صَدَرَتْ هَذِهِ المَقالَةُ عن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ؟- فَقالَ الجُمْهُورُ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَكُنْ شاكًّا في إحْياءِ اللهِ المَوْتى قَطُّ، وإنَّما طَلَبَ المُعايَنَةَ، وتَرْجَمَ الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ فَقالَ: وقالَ آخَرُونَ: سَألَ ذَلِكَ رَبَّهُ لِأنَّهُ شَكَّ في قُدْرَةِ اللهِ عَلى إحْياءِ المَوْتى، وأدْخَلَ تَحْتَ التَرْجَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «ما في القُرْآنِ آيَةٌ أرْجى عِنْدِي مِنها»، وذَكَرَ عن عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ أنَّهُ قالَ: «دَخَلَ قَلْبَ إبْراهِيمَ بَعْضُ ما يَدْخُلُ قُلُوبَ الناسِ فَقالَ: {رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى}، وذَكَرَ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «نَحْنُ أحَقُّ بِالشَكِّ مِن إبْراهِيمَ...الحَدِيث »، ثُمَّ رَجَّحَ الطَبَرِيُّ هَذا القَوْلَ الَّذِي يَجْرِي مَعَ ظاهِرِ الحَدِيثِ، وقالَ: «إنَّ إبْراهِيمَ لَمّا رَأى الجِيفَةَ تَأْكُلُ مِنها الحِيتانُ ودَوابُّ البَرِّ، ألْقى الشَيْطانُ في نَفْسِهِ فَقالَ: مَتى يَجْمَعُ اللهُ هَذِهِ مِن بُطُونِ هَؤُلاءِ».

وأمّا مَن قالَ بِأنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَكُنْ شاكًّا فاخْتَلَفُوا في سَبَبِ سُؤالِهِ - فَقالَ قَتادَةُ: إنَّ إبْراهِيمَ رَأى دابَّةً قَدْ تَوَزَّعَتْها السِباعُ فَعَجِبَ وسَألَ هَذا السُؤالَ، وقالَ الضَحّاكُ: نَحْوَهُ، قالَ: وقَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى إحْياءِ المَوْتى، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَأى الدابَّةَ تَتَقَسَّمُها السِباعُ والحِيتانُ لِأنَّها كانَتْ عَلى حاشِيَةِ البَحْرِ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: بَلْ سَبَبُها أنَّهُ لَمّا فارَقَ النُمْرُوذَ وقالَ لَهُ: أنا أُحْيِي وأُمِيتُ فَكَّرَ في تِلْكَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ فَسَألَ هَذا السُؤالَ. وقالَ السُدِّيُّ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَلْ سَبَبُ هَذا السُؤالِ أنَّهُ لَمّا بُشِّرَ بِأنَّ اللهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا أرادَ أنْ يُدِلَّ بِهَذا السُؤالِ لِيُجَرِّبَ صِحَّةَ الخُلَّةِ، فَإنَّ الخَلِيلَ يُدِلُّ بِما لا يُدِلُّ بِهِ غَيْرُهُ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» يُرِيدُ بِالخُلَّةِ.

قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وما تَرْجَمَ بِهِ الطَبَرِيُّ عِنْدِي مَرْدُودٌ، وما أدْخَلَ تَحْتَ التَرْجَمَةِ مُتَأوَّلٌ، فَأمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: «هِيَ أرْجى آيَةٍ» فَمِن حَيْثُ فِيها الإدْلالُ عَلى اللهِ تَعالى، وسُؤالُ الإحْياءِ في الدُنْيا ولَيْسَتْ مَظِنَّةَ ذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ يَقُولَ: هي أرْجى آيَةٍ لِقَوْلِهِ: «أوَلَمْ تُؤْمِن» أيْ: أنَّ الإيمانَ كافٍ لا يَحْتاجُ بَعْدَهُ إلى تَنْقِيحٍ وبَحْثٍ، وأمّا قَوْلُ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ: «دَخَلَ قَلْبَ إبْراهِيمَ بَعْضُ ما يَدْخُلُ قُلُوبَ الناسِ» فَمَعْناهُ مِن حُبِّ المُعايَنَةِ، وذَلِكَ أنَّ النُفُوسَ مُسْتَشْرِفَةٌ إلى رُؤْيَةِ ما أُخْبِرَتْ بِهِ، ولِهَذا قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: «لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ»، وأمّا قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: «نَحْنُ أحَقُّ بِالشَكِّ مِن إبْراهِيمَ» فَمَعْناهُ أنَّهُ لَوْ كانَ شَكٌّ لَكُنّا نَحْنُ أحَقَّ بِهِ، ونَحْنُ لا نَشُكُّ، فَإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ أحْرى لا يَشُكُّ، فالحَدِيثُ مَبْنِيٌّ عَلى نَفْيِ الشَكِّ عن إبْراهِيمَ. والَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: «ذَلِكَ مَحْضُ الإيمانِ» إنَّما هو في الخَواطِرِ الجارِيَةِ الَّتِي لا تَثْبُتُ، وأمّا الشَكُّ فَهو تَوَقُّفٌ بَيْنَ أمْرَيْنِ لا مَزِيَّةَ لِأحَدِهِما عَلى الآخَرِ، وذَلِكَ هو المَنفِيُّ عَنِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَلامُ.

وإحْياءُ المَوْتى إنَّما يَثْبُتُ بِالسَمْعِ، وقَدْ كانَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ أعْلَمَ بِهِ، يَدُلُّكَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ} فالشَكُّ يَبْعُدُ عَلى مَن ثَبَتَتْ قَدَمُهُ في الإيمانِ فَقَطْ، فَكَيْفَ بِمَرْتَبَةِ النُبُوءَةِ والخُلَّةِ، والأنْبِياءُ مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبائِرِ ومِنَ الصَغائِرِ الَّتِي فِيها رَذِيلَةٌ إجْماعًا.

وإذا تَأمَّلْتَ سُؤالَهُ عَلَيْهِ السَلامُ وسائِرَ ألْفاظِ الآيَةِ لَمْ تُعْطَ شَكًّا، وذَلِكَ أنَّ الِاسْتِفْهامَ بِـ (كَيْفَ) إنَّما هو عن حالِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ مُتَقَرِّرِ الوُجُودِ عِنْدَ السائِلِ والمَسْؤُولِ - نَحْوَ قَوْلِكَ: كَيْفَ عَلِمَ زَيْدٌ؟ وكَيْفَ نَسَجَ الثَوْبَ؟ ونَحْوِ هَذا - ومَتى قُلْتَ: كَيْفَ ثَوْبُكَ؟ وكَيْفَ زَيْدٌ؟ فَإنَّما السُؤالُ عن حالٍ مِن أحْوالِهِ، وقَدْ تَكُونُ (كَيْفَ) خَبَرًا عن شَيْءٍ شَأْنُهُ أنْ يُسْتَفْهَمَ عنهُ بِكَيْفَ نَحْوِ قَوْلِكَ: كَيْفَ شِئْتَ فَكُنْ، ونَحْوِ قَوْلِ البُخارِيِّ: كَيْفَ كانَ بَدْءُ الوَحْيِ.

و(كَيْفَ) في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هي اسْتِفْهامٌ عن هَيْئَةِ الإحْياءِ، والإحْياءُ مُتَقَرِّرٌ ولَكِنْ لَمّا وجَدْنا بَعْضَ المُنْكِرِينَ لِوُجُودِ شَيْءٍ قَدْ يُعَبِّرُ عن إنْكارِهِ بِالِاسْتِفْهامِ عن حالَةٍ لِذَلِكَ الشَيْءِ يَعْلَمُ أنَّها لا تَصْلُحُ، فَلَزِمَ مِن ذَلِكَ أنَّ الشَيْءَ في نَفْسِهِ لا يَصِحُّ، مِثالُ ذَلِكَ: أنْ يَقُولَ مُدَّعٍ: أنا أرْفَعُ هَذا الجَبَلَ. فَيَقُولَ لَهُ المُكَذِّبُ: أرِنِي كَيْفَ تَرْفَعُهُ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَجازٍ في العِبارَةِ، ومَعْناها تَسْلِيمٌ جَدَلِيٌّ، كَأنَّهُ يَقُولُ: افْرِضْ أنَّكَ تَرْفَعُهُ، أرِنِي كَيْفَ؟ فَلَمّا كانَ في عِبارَةِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَلامُ هَذا الِاشْتِراكُ المَجازِيُّ خَلَصَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ، وحَمَلَهُ عَلى أنْ يُبَيِّنَ الحَقِيقَةَ فَقالَ لَهُ: ﴿أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى﴾ فَكَمُلَ الأمْرُ، وتَخَلَّصَ مِن كُلِّ شَكٍّ، ثُمَّ عَلَّلَ عَلَيْهِ السَلامُ سُؤالَهُ بِالطُمَأْنِينَةِ.

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ تُؤْمِن﴾ مَعْناهُ: إيمانًا مُطْلَقًا، دَخَلَ فِيهِ فَصْلُ إحْياءِ المَوْتى، والواوُ واوُ حالٍ دَخَلَتْ عَلَيْها ألِفُ التَقْرِيرِ". انتهى كلام ابنُ عطية.

* وقال شمس الدين القرطبي (671 هـ) في تفسيره – بعد أن نقل قول ابن عطية –: "قُلْتُ: هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ بَالِغٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا الشَّكِّ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ فَقَالَ: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} وَقَالَ اللَّعِينُ: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمْ سَلْطَنَةٌ فَكَيْفَ يُشَكِّكُهُمْ، وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُشَاهِدَ كَيْفِيَّةَ جَمْعِ أَجْزَاءِ الْمَوْتَى بَعْدَ تَفْرِيقِهَا وَإِيصَالِ الْأَعْصَابِ وَالْجُلُودِ بَعْدَ تَمْزِيقِهَا، فَأَرَادَ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ، فَقَوْلُهُ: {أَرِنِي كَيْفَ} طَلَبَ مُشَاهَدَةَ الْكَيْفِيَّةِ".

* وقال الإمامُ الشوكاني (1250 هـ) في تفسيره «فتح القدير»: "وقَوْلُهُ: أوَلَمْ تُؤْمِن عُطِفَ عَلى مُقَدَّرٍ أيْ: ألَمْ تَعْلَمْ ولَمْ تُؤْمِن بِأنِّي قادِرٌ عَلى الإحْياءِ حَتّى تَسْألَنِي إراءَتَهُ؟ قالَ بَلى عَلِمْتُ وآمَنتُ بِأنَّكَ قادِرٌ عَلى ذَلِكَ، ولَكِنْ سَألْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِاجْتِماعِ دَلِيلِ العِيانِ إلى دَلائِلِ الإيمانِ.

وقَدْ ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَكُنْ شاكًّا في إحْياءِ المَوْتى قَطُّ، وإنَّما طَلَبَ المُعايَنَةَ لِما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ البَشَرِيَّةُ مِن رُؤْيَةِ ما أُخْبِرَتْ عَنْهُ، ولِهَذا قالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ».

وحَكى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ طائِفَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّهُ سَألَ ذَلِكَ لِأنَّهُ شَكَّ في قُدْرَةِ اللَّهِ.

واسْتَدَلُّوا بِما صَحَّ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن قَوْلِهِ: «نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ» وبِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «ما في القُرْآنِ عِنْدِي آيَةٌ أرْجى مِنها».

وأخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، ورَجَّحَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ حِكايَتِهِ لَهُ.

قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو عِنْدِي مَرْدُودٌ، يَعْنِي قَوْلَ هَذِهِ الطّائِفَةِ، ثُمَّ قالَ: وأمّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ» فَمَعْناهُ: أنَّهُ لَوْ كانَ شاكًّا لَكُنّا نَحْنُ أحَقَّ بِهِ، ونَحْنُ لا نَشُكُّ، فَإبْراهِيمُ أحْرى أنْ لا يَشُكَّ.

فالحَدِيثُ مَبْنِيٌّ عَلى نَفْيِ الشَّكِّ عَنْ إبْراهِيمَ.

وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: هي أرْجى آيَةٍ، فَمِن حَيْثُ إنَّ فِيها الإدْلالَ عَلى اللَّهِ وسُؤالَ الإحْياءِ في الدُّنْيا، ولَيْسَتْ مَظِنَّةَ ذَلِكَ".

* وقال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره: "﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ﴾ الآية، قال الجمهور: لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة، لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع والحيات فسأل ذلك السؤال، ويدل على ذلك قوله: كيف، فإنها سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه ﴿وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى﴾ أي بالمعاينة".

* وقال أبو حيان (745 هـ) في تفسيره «البحر المحيط»: "وعُلِمَ أنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ الَّتِي فِيها رَذِيلَةٌ إجْماعًا، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، والَّذِي اخْتَرْناهُ أنَّهم مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ عَلى الإطْلاقِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ هُنا في حَقِّ مَن سَألَ الرُّؤْيَةَ هُنا بِكَلامٍ ضَرَبْنا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا، ونَقُولُ: ألْفاظُ الآيَةِ لا تَدُلُّ عَلى عُرُوضِ شَيْءٍ يَشِينُ المُعْتَقِدَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ سُؤالُ أنْ يُرِيَهُ عِيانًا كَيْفِيَّةَ إحْياءِ المَوْتى؛ لِأنَّهُ لَمّا عَلِمَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وتَيَقَّنَهُ، واسْتَدَلَّ بِهِ عَلى نُمْرُوذَ في قَوْلِهِ: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ) طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى رُؤْيَةَ ذَلِكَ، لِما في مُعايَنَةِ ذَلِكَ مِن رُؤْيَةِ اجْتِماعِ الأجْزاءِ المُتَلاشِيَةِ، والأعْضاءِ المُتَبَدِّدَةِ، والصُّوَرِ المُضْمَحِلَّةِ، واسْتِعْظامِ باهِرِ قُدْرَتِهِ تَعالى. والسُّؤالُ عَنِ الكَيْفِيَّةِ يَقْتَضِي تَيَقُّنَ ما سَألَ عَنْهُ: وهو الإحْياءُ وتَقَرُّرُهُ، والإيمانُ بِهِ، وأنَّهُ مِمّا انْطَوى الضَّمِيرُ عَلى اعْتِقادِهِ، وأمّا ما ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أهْلِ المَعانِي: أنَّ إبْراهِيمَ سَألَ مِن رَبِّهِ كَيْفَ يُحْيِي القُلُوبَ، فَتَأْوِيلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ".

* وقال ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "ذَكَرُوا لِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَسْبَابًا، مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِنُمْرُوذَ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أَحَبَّ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ فِي ذَلِكَ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَأَنْ يَرَى ذَلِكَ مُشَاهِدَةً فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾".

وقفة مع حديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ». [رواه مسلم].

قال الشيخُ صفي الرحمن المباركفوري ( 1361 هـ - 1421 هـ): "قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) هذا نفي للشيء بتعليق إثباته على إثبات منفي آخر، والمعنى أننا لا نشك في إحياء الموتى فإبراهيم عليه السلام أولى أن لا يشك، فكان سؤاله ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى من غير شك منه في القدرة. (ويرحم الله لوطًا) وعند المصنف في الحديث الآتي وفي صحيح البخاري في الأنبياء (يغفر الله للوط)، وإنما استغفر له لأنه لما جاءه قومه يقصدون ضيوفه، وهو لا يدري أنهم ملائكة تمنى أن يأوي إلى ركن شديد، أي إلى عشيرة وأقارب يمنعونه ويدفعون القوم عنه وعن أضيافه، وقد كان يكفي له أن يأوي إلى الله، وهو الركن الشديد، وقد كان يأوي إلى الله قبل ذلك، وهو المراد في هذا الحديث دون الآية أي إنا كان يداوم الإتيان إلى الله، وهو الركن الشديد، ولذلك لم يعاتب على تمنيه لوجود العشيرة، وسمى العشيرة ركنًا لأن الركن يستند إليه، ويمتنع به، فشبههم بالركن من الجبل لشدتهم ومنعتهم (ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) أي لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولَمَا قدَّمتُ طلب البراءة، ففيه وصف ليوسف عليه السلام بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج" . [منة المنعم في شرح صحيح مسلم، الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م، ج4 ص63].

4) قال تعالى: {وَٱلَّذِیۤ أَطۡمَعُ أَن یَغۡفِرَ لِی خَطِیۤـَٔتِی یَوۡمَ ٱلدِّینَ} [الشعراء: 82].

* قال الثعلبي (427 هـ) في تفسيره: "وهذا الكلام من إبراهيم - عليه السلام - احتجاجٌ على قومه وإخبارٌ أنّه لا يصلح للإلهية إلّا من فعل هذه الأفعال".

* وقال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره «المحرر الوجيز»: "وأوقَفَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ نَفْسَهُ عَلى الطَمَعِ في المَغْفِرَةِ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى شِدَّةِ خَوْفِهِ مَعَ مَنزِلَتِهِ وخُلَّتِهِ. وقَوْلُهُ: {خَطِيئَتِي} ذَهَبَ فِيهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّهُ أرادَ كِذْباتِهِ الثَلاثَ: قَوْلُهُ: (هِيَ أُخْتِ) في شَأْنِ سارَّةَ، وقَوْلُهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89]، وقَوْلُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ [الأنبياء: 63].

وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ بِالخَطِيئَةِ اسْمَ الجِنْسِ، قَدَّرَها في كُلِّ أمْرِهِ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا أظْهَرُ عِنْدِي؛ لِأنَّ تِلْكَ الثَلاثَ قَدْ خَرَّجَها كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ عَلى المَعارِيضِ، وهي وإنْ كانَتْ كِذْباتٌ بِحُكْمِ قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ إلّا ثَلاثَ كِذْباتٍ»، وبِحُكْمِ ما في حَدِيثِ الشَفاعَةِ مِن قَوْلِهِ في شَأْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ: «نَفْسِي نَفْسِي»، وذَكَرَ كِذْباتِهِ فَهي في مَصالِحٍ وعَوْنِ شَرْعٍ وحَقٍّ".

* وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ أسْنَدَ إلى نَفْسِهِ الخَطِيئَةَ مَعَ أنَّ الأنْبِياءَ مُنَزَّهُونَ عَنِ الخَطايا قَطْعًا؟ وفي جَوابِهِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ:

أحَدُها: أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى كَذِبِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ [الأنبياء: 63] وقَوْلِهِ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89] وقَوْلِهِ لِسارَّةَ: (إنَّها أُخْتِ) وهو ضَعِيفٌ لِأنَّ نِسْبَةَ الكَذِبِ إلَيْهِ غَيْرُ جائِزَةٍ.

وثانِيها: أنَّهُ ذَكَرَهُ عَلى سَبِيلِ التَّواضُعِ وهَضْمِ النَّفْسِ وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّهُ إنْ كانَ صادِقًا في هَذا التَّواضُعِ فَقَدْ لَزِمَ الإشْكالُ، وإنْ كانَ كاذِبًا فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ حاصِلُ الجَوابِ إلى إلْحاقِ المَعْصِيَةِ بِهِ لِأجْلِ تَنْزِيهِهِ عَنِ المَعْصِيَةِ.

وثالِثُها: وهو الجَوابُ الصَّحِيحُ أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى تَرْكِ الأوْلى، وقَدْ يُسَمّى ذَلِكَ خَطَأً فَإنَّ مَن مَلَكَ جَوْهَرَةً وأمْكَنَهُ أنْ يَبِيعَها بِألْفِ ألْفِ دِينارٍ فَإنْ باعَها بِدِينارٍ، قِيلَ إنَّهُ أخْطَأ، وتَرْكُ الأوْلى عَلى الأنْبِياءِ جائِزٌ.

السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ عَلَّقَ مَغْفِرَةَ الخَطِيئَةِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وإنَّما تُغْفَرُ في الدُّنْيا؟ جَوابُهُ: لِأنَّ أثَرَها يَظْهَرُ يَوْمَ الدِّينِ وهو الآنَ خَفِيٌّ لا يُعْلَمُ".

* وقال البيضاوي (685 هـ) في تفسيره «أنوار التنزيل»: "﴿وحَمْلُ الخَطِيئَةَ عَلى كَلِماتِهِ الثَّلاثِ: إنِّي سَقِيمٌ، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا، وقَوْلُهُ «هِيَ أُخْتِي»، ضَعِيفٌ لِأنَّها مَعارِيضُ ولَيْسَتْ خَطايا".

رابعاً: ما ورد في شأن يوسف عليه السلام:

قال تعالى: {وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَاۤ أَن رَّءَا بُرۡهَـٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَ ٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلۡفَحۡشَاۤءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِینَ} [يوسف: 24].

* قال ابن عطية (546 هـ) في تفسيره «المحرر الوجيز»: "وقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ الآيَةُ. لا شَكَّ أنَّ هَمَّ زُلَيْخا كانَ في أنْ يُواقِعَها يُوسُفُ، واخْتُلِفَ في هَمِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ؛ فَقالَ الطَبَرِيُّ: قالَتْ فِرْقَةٌ: كانَ مِثْلَ هَمِّها، واخْتَلَفُوا كَيْفَ يَقَعُ مِن مِثْلِ يُوسُفَ وهو نَبِيُّ؟ فَقِيلَ: ذَلِكَ لِيُرِيَهُ اللهُ تَعالى مَوْقِعَ العَفْوَ والكِفايَةَ، وقِيلَ: الحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مِثالًا لِلْمُذْنِبِينَ لِيَرَوْا أنَّ تَوْبَتَهم تَرْجِعُ بِهِمْ إلى عَفْوِ اللهِ كَما رَجَعَتْ بِمَن هو خَيْرٌ مِنهم ولَمْ يُوبِقْهُ القُرْبُ مِنَ الذَنْبِ، وذَلِكَ كُلُّهُ عَلى أنَّ هَمَّ يُوسُفَ بَلَغَ – فِيما رَوَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ – إلى أنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ زُلَيْخا وأخَذَ في حَلِّ ثِيابِهِ وتِكَّتِهِ ونَحْوِ هَذا، وهي قَدِ اسْتَلْقَتْ لَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ مِنَ السَلَفِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ في هَمِّهِ: إنَّما كانَ بِخَطِراتِ القَلْبِ الَّتِي لا يَقْدِرُ البَشَرُ عَلى التَحَفُّظِ مِنها، ونَزَعَ عِنْدَ ذَلِكَ ولَمْ يَتَجاوَزْهُ، فَلا يَبْعُدُ هَذا عَلى مِثْلِهِ عَلَيْهِ السَلامُ، وفي الحَدِيثِ: «إنَّ مَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ ولَمْ يَعْمَلْها فَلَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ» وفي حَدِيثٍ آخَرَ "حَسَنَةٌ"، فَقَدْ يَدْخُلُ يُوسُفُ في هَذا الصِنْفِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: كانَ هَمُّ يُوسُفَ بِضَرْبِها ونَحْوِ ذَلِكَ.

قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ البَتَّةَ، والَّذِي أقُولُ: في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ كَوْنَ يُوسُفَ نَبِيًّا في وقْتِ هَذِهِ النازِلَةِ لَمْ يَصِحْ ولا تَظاهَرَتْ بِهِ رِوايَةٌ، وإذا كانَ ذَلِكَ فَهو مُؤْمِنٌ قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا وعِلْمًا ويَجُوزُ عَلَيْهِ الهَمُّ الَّذِي هو إرادَةُ الشَيْءِ دُونَ مُواقَعَتِهِ، وأنْ يَسْتَصْحِبَ الخاطِرَ الرَدِيءَ عَلى ما في ذَلِكَ مِنَ الخَطِيئَةِ، وإنْ فَرَضْناهُ نَبِيًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ عِنْدِي إلّا الهَمُّ الَّذِي هو الخاطِرُ، ولا يَصِحُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا ذُكِرَ مِن حَلِّ تِكَّةٍ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ العِصْمَةَ مَعَ النُبُوَّةِ، وما رُوِيَ مِن أنَّهُ قِيلَ لَهُ: "تَكُونُ في دِيوانِ الأنْبِياءِ وتَفْعَلُ فِعْلَ السُفَهاءِ؟!" فَإنَّما مَعْناهُ العِدَةُ بِالنُبُوَّةِ فِيما بَعْدُ، ولِلْهَمِّ بِالشَيْءِ مَرْتَبَتانِ: فالأُولى تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ النُبُوَّةِ، والثانِيَةُ الكُبْرى لا تَقَعُ إلّا مِن غَيْرِ نَبِيٍّ؛ لِأنَّ اسْتِصْحابَ خاطِرِ المَعْصِيَةِ والتَلَذُّذُ بِهِ مَعْصِيَةٌ في نَفْسِها تُكْتَبُ، وقَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «إنَّ اللهَ تَجاوَزَ لِأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسُهم ما لَمْ تَنْطِقْ بِهِ أو تَعْمَلْ» مَعْناهُ: مِنَ الخَواطِرِ، وأمّا اسْتِصْحابُ الخاطِرِ فَمُحالٌ أنْ يَكُونَ مُباحًا، فَإنْ وقَعَ فَهو خَطِيئَةٌ مِنَ الخَطايا، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَمُواقَعَةِ المَعْصِيَةِ الَّتِي فِيها الخاطِرُ، ومِمّا يُؤَيِّدُ أنَّ اسْتِصْحابَ الخاطِرِ مَعْصِيَةٌ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلى قَتْلِ صاحِبِهِ» وقَوْلُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿إنَّ بَعْضَ الظَنِّ إثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، وهَذا مُنْتَزَعٌ مِن غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الشَرْعِ، والإجْماعُ مُنْعَقِدٌ أنَّ الهَمَّ بِالمَعْصِيَةِ واسْتِصْحابَ التَلَذُّذِ بِها غَيْرُ جائِزٍ ولا داخِلٍ في التَجاوُزِ".

وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (ت 606هـ) في تفسيره «مفاتيح الغيب»: "وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ، وَالْهَمِّ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ نَقُولُ وَعَنْهُ نَذُبُّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَثِيرَةٌ، وَلَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا نُعِيدُهَا إِلَّا أَنَّا نَزِيدُ هاهنا وُجُوهًا:

فَالْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الزِّنَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الْكَبَائِرِ وَالْخِيَانَةَ فِي مَعْرِضِ الْأَمَانَةِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ بِالْإِسَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ وَالْعَارِ الشَّدِيدِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ إِذَا تَرَبَّى فِي حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون الغرض مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى زَمَانِ شَبَابِهِ وَكَمَالِ قُوَّتِهِ فَإِقْدَامُ هَذَا الصَّبِيِّ عَلَى إِيصَالِ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمُنْعِمِ الْمُعَظَّمِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَعْمَالِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَوْ نُسِبَتْ إِلَى أَفْسَقِ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ لَاسْتُنْكِفَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِسْنَادُهَا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الواقعة: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} [يوسف: 24] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نسبوها إليه أعظم أنواع/ وَأَفْحَشُ أَقْسَامِ الْفَحْشَاءِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَشْهَدَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِكَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ السُّوءِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْبَالِغَ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ عَنْ إِنْسَانٍ إِقْدَامَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ وَالْأَثْنِيَةِ عَقِيبَ أَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، فَإِنَّ مِثَالَهُ مَا إِذَا حَكَى السُّلْطَانُ عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ وَأَفْحَشَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَذْكُرُهُ بِالْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ عَقِيبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَنْكَرُ جِدًّا فَكَذَا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَتَى صَدَرَتْ مِنْهُمْ زَلَّةٌ، أَوْ هَفْوَةٌ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَتْبَعُوهَا بِإِظْهَارِ النَّدَامَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَوْ كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْمُنْكَرَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَوْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ لَحَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ إِتْيَانَهُ بِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ذَنْبٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ وَالشُّهُودُ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ شَهِدَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ، وَإِبْلِيسُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِ تَوَقَّفٌ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ عَنِ الذَّنْبِ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يُوسُفَ: 33] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَلِأَنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: {وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يُوسُفَ: 32] وَأَيْضًا قَالَتْ: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يُوسُفَ: 51] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يُوسُفَ: 28-29] وَأَمَّا الشُّهُودُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ} [يُوسُفَ: 26] وَأَمَّا شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فَقَدْ شَهِدَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَالْفَحْشاءَ} أَيْ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سلاماً} [الْفُرْقَانِ: 63] وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: {الْمُخْلَصِينَ} وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: تَارَةً بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَأُخْرَى بِاسْمِ/ الْمَفْعُولِ، فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَعَ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ، وَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِحَضْرَتِهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَقَرَّ بِطَهَارَتِهِ، فَلِأَنَّهُ قَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82-83] فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءَ الْمُخْلَصِينَ وَيُوسُفُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَكَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْ إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ مَا أَغْوَاهُ وَمَا أَضَلَّهُ عَنْ طَرِيقَةِ الْهُدَى".

* وقال شمس الدين القرطبي (671 هـ) في تفسيره: "قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَقَالَ قَوْمٌ جَرَى مِنْ يُوسُفَ هَمٌّ، وَكَانَ ذَلِكَ الْهَمُّ حَرَكَةَ طَبْعٍ مِنْ غَيْرِ تَصْمِيمٍ لِلْعَقْدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ الْعَبْدُ، وَقَدْ يَخْطِرُ بِقَلْبِ الْمَرْءِ وَهُوَ صَائِمٌ شُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَتَنَاوُلُ الطَّعَامِ اللَّذِيذِ، فَإِذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يُصَمِّمْ عَزْمُهُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا هَجَسَ فِي النَّفْسِ، وَالْبُرْهَانُ صَرَفَهُ عَنْ هَذَا الْهَمِّ حَتَّى لَمْ يَصِرْ عَزْمًا مُصَمَّمًا. قُلْتُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي أَقُولُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ كَوْنَ يُوسُفَ نَبِيًّا فِي وَقْتِ هَذِهِ النَّازِلَةِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَا تَظَاهَرَتْ بِهِ رِوَايَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْهَمُّ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ الشَّيْءِ دُونَ مُوَاقَعَتِهِ وَأَنْ يَسْتَصْحِبَ الْخَاطِرَ الرَّدِيءَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَإِنْ فَرَضْنَاهُ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عِنْدِي إِلَّا الْهَمُّ الَّذِي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مَعَ النُّبُوَّةِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «تَكُونُ فِي دِيوَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَفْعَلُ فِعْلَ السُّفَهَاءِ». فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْعِدَةُ بِالنُّبُوَّةِ فِيمَا بَعْدُ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ هذا التفصيل صحيح، لكن قول تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} [يوسف: 15] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ نَبِيًّا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ بِهِ مَا يَخْطِرُ فِي النَّفْسِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الصَّدْرِ، وَهُوَ الَّذِي رَفَعَ اللَّهُ فِيهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ الْخَلْقِ، إِذْ لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى دَفْعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53] – إِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ – أَيْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَالِاعْتِرَافِ، لِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ لِمَا زُكِّيَ بِهِ قَبْلُ وَبُرِّئَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ يُوسُفَ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ فَقَالَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْمًا} [يوسف: 22] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ، وَوَصْفُهُ صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ حَقٌّ، فَقَدْ عَمِلَ يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَخِيَانَةِ السَّيِّدِ وَالْجَارِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي أَهْلِهِ، فَمَا تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَجَابَ إِلَى الْمُرَاوَدَةِ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا وَفَرَّ مِنْهَا، حِكْمَةً خُصَّ بِهَا، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّاي». وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ حَسَنَةً». فَإِنْ كَانَ مَا يَهُمُّ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ السَّيِّئَةِ يُكْتَبُ لَهُ بِتَرْكِهَا حَسَنَةً فَلَا ذَنْبَ، وَفِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ – وَأَيُّ إِمَامٍ – يُعْرَفُ بِابْنِ عَطَاءٍ! تَكَلَّمَ يَوْمًا عَلَى يُوسُفَ وَأَخْبَارِهِ حَتَّى ذَكَرَ تَبْرِئَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ مَكْرُوهٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِ مَجْلِسِهِ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِالْخَلِيقَةِ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ فَقَالَ: يَا شَيْخُ! يَا سَيِّدَنَا! فَإِذًا يُوسُفُ هَمَّ وَمَا تَمَّ؟ قَالَ: نَعَمْ! لِأَنَّ الْعِنَايَةَ مِنْ ثَمَّ. فَانْظُرْ إِلَى حَلَاوَةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، وَانْظُرْ إِلَى فِطْنَةِ العامي في سؤاله، وَجَوَابِ الْعَالِمِ فِي اخْتِصَارِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً». [يوسف: 22] إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ إِبَّانَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ؛ لِتَكُونَ لَهُ سَبَبًا لِلْعِصْمَةِ".

* وقال البيضاوي (685 هـ) في تفسيره «أنوار التنزيل وأسرار التأويل»: "﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها﴾ وقَصَدَتْ مُخالَطَتَهُ وقَصَدَ مُخالَطَتَها، والهَمُّ بِالشَّيْءِ قَصْدُهُ والعَزْمُ عَلَيْهِ ومِنهُ الهُمامُ وهو الَّذِي إذا هَمَّ بِالشَّيْءِ أمْضاهُ، والمُرادُ بِهَمِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مَيْلُ الطَّبْعِ ومُنازَعَةُ الشَّهْوَةِ لا القَصْدُ الِاخْتِيارِيُّ، وذَلِكَ مِمّا لا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ بَلِ الحَقِيقُ بِالمَدْحِ والأجْرِ الجَزِيلِ مِنَ اللَّهِ مَن يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الفِعْلِ عِنْدَ قِيامِ هَذا الهَمِّ، أوْ مُشارَفَةِ الهَمِّ كَقَوْلِكَ قَتَلْتُهُ لَوْ لَمْ أخَفِ اللَّهَ. ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ في قُبْحِ الزِّنا وسُوءِ مَغَبَّتِهِ لَخالَطَها لِشَبَقِ الغُلْمَةِ وكَثْرَةِ المُبالَغَةِ".

* وقال النسفي (710 هـ) في تفسيره «مدارك التنزيل»: "﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ هَمَّ عَزْمٍ ﴿وَهَمَّ بِها﴾ هَمَّ الطِباعِ مَعَ الِامْتِناعِ، قالَهُ الحَسَنُ، وقالَ الشَيْخُ أبُو مَنصُورٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَمَّ بِها هَمَّ خَطْرَةٍ ولا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيما يَخْطُرُ بِالقَلْبِ ولا مُؤاخَذَةَ عَلَيْهِ ولَوْ كانَ هَمُّهُ كَهَمِّها لَما مَدَحَهُ اللهُ تَعالى بِأنَّهُ مِن عِبادِهِ المُخْلَصِينَ".

* وقال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ أكثرَ الناسُ الكلام في هذه الآية حتى ألفوا فيها التآليف، فمنهم مُفْرِط ومفرّط، وذلك أن منهم من جعل همّ المرأة وهمّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته، وذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها، وحلت التكة وغير ذلك، مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله، ولنزاهة الأنبياء عن مثله، ومنهم من جعل أنها همت به لتضربه على امتناعه وهمّ بها ليقتلها أو يضربها ليدفعها وهو بعيد، يرده قوله: لولا أن رأى برهان ربه، ومنهم من جعل همها به من حيث مرادها وهمه بها ليدفعها، وهذا أيضاً بعيد، لاختلاف سياق الكلام، والصواب إن شاء الله: إنها همت به من حيث مرادها وهمّ بها كذلك، لكنه لم يعزم على ذلك، ولم يبلغ إلى ما ذكر من حل التكة وغيرها؛ بل كان همه خطرة خطرت على قلبه لم يطعها ولم يتابعها، ولكنه بادر بالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه لما رأى برهان ربه، ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء؛ لأن الهمّ بالذنب ليس بذنب ولا نقص عليه في ذلك، فإنه من همَّ بذنب ثم تركه كتبت له حسنة".

* وقال ابن علان الشافعي (ت 1057 هـ): "تنبيه: لم يقع من يوسف عليه السلام همٌّ بمعصية على ما قاله ابن أبي حاتم ومن وافقه ومعنى الآية عندهم: {وهمّ بها لو أن رأى برهان ربه}، أي: لولا رؤية البرهان لهَمّ لكنه لم يهمّ لأنه رآه. وعلى المشهور في الآية فالهمّ الواقع منه بمعنى حديث النفس المعفوّ عنه. واعلم أن ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس وهو ما يلقى فيها. ثم جريانه فيها وهو الخاطر. ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا. ثم الهمّ وهو قصد ترجيح الفعل. ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به. فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله وإنما هو شيء طرقه قهراً عليه، وما بعده من الخاطر وحديث النفس وإن قدر على دفعهما مرفوعان بالحديث الصحيح: أي: وهو قوله: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به» أي: في المعاصي القولية «أو تعمل به» أي: في المعاصي الفعلية، لأن حديثها إذا ارتفع فما قبله أولى، وهذه المراتب لا أجر فيها في الحسنات أيضاً لعدم القصد. وأما الهمّ فقد بين الحديث الصحيح أنه بالحسنة يكتب حسنة وبالسيئة لا يكتب سيئة، ثم ينظر فإن تركه كتب حسنة؛ وإن فعله كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أن يكتب عليه الفعل وحده وهو معنى قوله واحدة، وإن الهمّ مرفوع، ومنه يعلم أن قوله في حديث النفس «ما لم تتكلم أو تعمل به» ليس له مفهوم حتى يقال إنها إذا تكلمت أو علمت يكتب حديث النفس، لأنه إذا كان الهم لا يكتب كما استفيد من قوله واحدة فحديث النفس أولى بذلك، كذا قال السبكي في الحلبيات". [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، ابن علان الشافعي، اعتنى بها: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 1425 هـ - 2004 م، ج1 ص81].

* وقال الأستاذ الدكتور وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ: "وقد قسّم السُّبْكي وغيره من العلماء الذي يقع في النفس من قصد المعصية خمسَ مراتبَ:

الأولى ـ الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس، وهذا لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له فيه ولا صنع.

الثانية ـ الخاطر: وهو ما يجري في النفس، وكان الإنسان قادراً على دفعه، كصرف الهاجس أول وروده. وهذا لا مؤاخذة فيه أيضاً.

الثالثة ـ حديث النفس: وهو ما يقع في النفس من التردد، هل يفعل أو لا؟ وهذا لا إثم فيه أيضاً، بنص الحديث السابق، وإذا ارتفع حديث النفس، ارتفع ما قبله بالأوْلى.

وهذه المراتب الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر، لعدم القصد.

الرابعة ـ الهمّ: وهو ترجيح قصد الفعل، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة، والهمّ بالسيئة لا يكتب سيئة (أ)، وينظر: فإن تركها لله تعالى كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أنه يكتب عليه إثم الفعل وحده، وأن الهمَّ مرفوع.

الخامسة ـ العزم: وهو قوة القصد والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به». [الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ، أ. د. وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ، أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة، دار الفكر – سوريَّة – دمشق، الطبعة: الرَّابعة المنقَّحة المعدَّلة بالنِّسبة لما سبقها، ج1 ص167]".

(أ) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عَشْرَ حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».

* وقال الإمامُ الشوكاني (1250 هـ) في تفسيره «فتح القدير»: "قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها﴾ يُقالُ هَمَّ بِالأمْرِ: إذا قَصَدَهُ وعَزَمَ عَلَيْهِ.

والمَعْنى: أنَّهُ هَمَّ بِمُخالَطَتِها كَما هَمَّتْ بِمُخالَطَتِهِ ومالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إلى الآخَرِ بِمُقْتَضى الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ والجِبِلَّةِ الخِلْقِيَّةِ، ولَمْ يَكُنْ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ القَصْدُ إلى ذَلِكَ اخْتِيارًا كَما يُفِيدُهُ ما تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِعاذَتِهِ بِاللَّهِ، وإنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الظُّلْمِ.

ولَمّا كانَ الأنْبِياءُ مَعْصُومِينَ عَنِ الهَمِّ بِالمَعْصِيَةِ والقَصْدِ إلَيْها شَطَحَ أهْلُ العِلْمِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ بِما فِيهِ نَوْعُ تَكَلُّفٍ، فَمِن ذَلِكَ ما قالَهُ أبُو حاتِمٍ قالَ: كُنْتُ أقْرَأُ عَلى أبِي عُبَيْدَةَ غَرِيبَ القُرْآنِ، فَلَمّا أتَيْتُ عَلى ﴿ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها﴾ قالَ: هَذا عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ: كَأنَّهُ قالَ: ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ولَوْلا أنْ رَأى بِرِهانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِها.

وقالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى ثَعْلَبٌ: أيْ هَمَّتْ زُلَيْخا بِالمَعْصِيَةِ وكانَتْ مُصِرَّةً، وهَمَّ يُوسُفُ ولَمْ يُوقِعْ ما هَمَّ بِهِ، فَبَيْنَ الهَمَّيْنِ فَرْقٌ، ومِن هَذا قَوْلُ الشّاعِرِ:

هَمَمْتُ بِهِمْ مِن ثَنِيَّةِ لُؤْلُؤٍ ∗∗ شَفَيْتُ غَلِيلاتِ الهَوى مِن فُؤادِيا

فَهَذا إنَّما هو حَدِيثُ نَفْسٍ مِن غَيْرِ عَزْمٍ، وقِيلَ هَمَّ بِها: أيْ هَمَّ بِضَرْبِها، وقِيلَ هَمَّ بِها بِمَعْنى تَمَنّى أنْ يَتَزَوَّجَها، وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ إلى ما قَدَّمْنا مِن حَمْلِ اللَّفْظِ عَلى مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ، ويَدُلُّ عَلى هَذا ما سَيَأْتِي مِن قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ﴾ [يوسف: 52]، وقَوْلِهِ ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأمّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53] ومُجَرَّدُ الهَمِّ لا يُنافِي العِصْمَةَ، فَإنَّها قَدْ وقَعَتِ العِصْمَةُ عَنِ الوُقُوعِ في المَعْصِيَةِ، وذَلِكَ المَطْلُوبُ، وجَوابُ لَوْ في ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ مَحْذُوفٌ: أيٌّ لَوْلا أنْ رَأى بِرِهانَ رَبِّهِ لَفَعَلَ ما هَمَّ بِهِ".

* وقال السعدي (1376 هـ) في تفسيره: "هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته، وصبره عليها أعظم أجرا، لأنه صَبْرُ اختيارٍ مع وجود الدواعي الكثيرة، لوقوع الفعل، فقدّم محبة الله عليها، وأما محنته بإخوته، فصبره صبر اضطرار، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها، طائعا أو كارها، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أن ﴿رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر.

﴿وَ﴾ زادت المصيبة، بأن ﴿غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ وصار المحل خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ أي: افعل الأمر المكروه وأقبِلْ إليَّ، ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عزب، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم.

فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه – وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله – ما أوجب له البعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة، و ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾ أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي".

* وقال العلاّمةُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾.

ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَدْ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ هَمَّ بِأنْ يَفْعَلَ مَعَ تِلْكَ المَرْأةِ مِثْلَ ما هَمَّتْ هي بِهِ مِنهُ، ولَكِنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ بَيَّنَ بَراءَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ الوُقُوعِ فِيما لا يَنْبَغِي حَيْثُ بَيَّنَ شَهادَةَ كُلِّ مَن لَهُ تَعَلُّقٌ بِالمَسْألَةِ بِبَراءَتِهِ، وشَهادَةَ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ واعْتِرافَ إبْلِيسَ بِهِ.

أمّا الَّذِينَ لَهم تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الواقِعَةِ فَهم: يُوسُفُ، والمَرْأةُ، وزَوْجُها، والنِّسْوَةُ، والشُّهُودُ.

أمّا جَزْمُ يُوسُفَ بِأنَّهُ بَرِيءٌ مِن تِلْكَ المَعْصِيَةِ فَذَكَرَهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ [يوسف: 26]، وقَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾.

وَأمّا اعْتِرافُ المَرْأةِ بِذَلِكَ فَفي قَوْلِها لِلنِّسْوَةِ: ﴿وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ﴾ [يوسف: 32]، وقَوْلِها: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ [يوسف: 51].

وَأمّا اعْتِرافُ زَوْجِ المَرْأةِ فَفي قَوْلِهِ: ﴿قالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ﴾ [يوسف: 28، 29].

وَأمّا اعْتِرافُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ فَفي قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو مِنَ الكاذِبِينَ﴾ الآيَةَ [يوسف: 26].

وَأمّا شَهادَةُ اللَّهِ جَلَّ وعَلا بِبَراءَتِهِ فَفي قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24].

... فَإنْ قِيلَ: قَدْ بَيَّنْتُمْ دَلالَةَ القُرْآنِ عَلى بَراءَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِمّا لا يَنْبَغِي في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ، ولَكِنْ ماذا تَقُولُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهَمَّ بِها﴾ [يوسف: 24]؟

فالجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:

الأوَّل: إنَّ المُرادَ بِهَمِّ يُوسُفَ بِها خاطِرٌ قَلْبِيٌّ صَرَفَ عَنْهُ وازِعَ التَّقْوى، وقالَ بَعْضُهم: هو المَيْلُ الطَّبِيعِيُّ والشَّهْوَةُ الغَرِيزِيَّةُ المَزْمُومَةُ بِالتَّقْوى، وهَذا لا مَعْصِيَةَ فِيهِ؛ لِأنَّهُ أمْرٌ جِبِلِّيٌّ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ...

وَأمّا تَأْوِيلُهم هَمَّ يُوسُفَ بِأنَّهُ قارَبَ الهَمَّ ولَمْ يَهِمَّ بِالفِعْلِ، كَقَوْلِ العَرَبِ: قَتَلْتُهُ لَوْ لَمْ أخَفِ اللَّهَ، أيْ قارَبْتُ أنْ أقْتُلَهُ، كَما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.

وَتَأْوِيلُ الهَمِّ بِأنَّهُ هَمَّ بِضَرْبِها، أوْ هَمَّ بِدَفْعِها عَنْ نَفْسِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ظاهِرٍ، بَلْ بَعِيدٌ مِنَ الظّاهِرِ ولا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

والجَوابُ الثّانِي وهو اخْتِيارُ أبِي حَيّانَ: أنَّ يُوسُفَ لَمْ يَقَعْ مِنهُ هَمٌّ أصْلًا، بَلْ هو مَنفِيٌّ عَنْهُ لِوُجُودِ البُرْهانِ.

قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذا الوَجْهُ الَّذِي اخْتارَهُ أبُو حَيّانَ وغَيْرُهُ هو أجْرى الأقْوالِ عَلى قَواعِدِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ؛ لِأنَّ الغالِبَ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ: أنَّ الجَوابَ المَحْذُوفَ يُذْكَرُ قَبْلَهُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84]، أيْ: إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، فالأوَّلُ: دَلِيلُ الجَوابِ المَحْذُوفِ لا نَفْسُ الجَوابِ؛ لِأنَّ جَوابَ الشُّرُوطِ وجَوابَ لَوْلا لا يَتَقَدَّمُ، ولَكِنْ يَكُونُ المَذْكُورُ قَبْلَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ كالآيَةِ المَذْكُورَةِ، وكَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [النمل: 64]، أيْ: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَهاتُوا بُرْهانَكم.

وَعَلى هَذا القَوْلِ: فَمَعْنى الآيَةِ، وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، أيْ لَوْلا أنْ رَآهُ هَمَّ بِها، فَما قَبْلَ لَوْلا هو دَلِيلُ الجَوابِ المَحْذُوفِ، كَما هو الغالِبُ في القُرْآنِ واللُّغَةِ.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها﴾ [القصص: 10]، فَما قَبْلَ لَوْلا دَلِيلُ الجَوابِ، أيْ: لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لَكادَتْ تُبْدِي بِهِ.

واعْلَمْ أنَّ جَماعَةً مِن عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ أجازُوا تَقْدِيمَ جَوابِ ﴿لَوْلا﴾ [يوسف: 24]، وتَقْدِيمَ الجَوابِ في سائِرِ الشُّرُوطِ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ جَوابُ لَوْلا في قَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: 24]، هو ما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وَهَمَّ بِها﴾ [يوسف: 24] .

وَإلى جَوازِ التَّقْدِيمِ المَذْكُورِ ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ، ومِن أعْلامِ البَصْرِيِّينَ: أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ، وأبُو زَيْدٍ الأنْصارِيُّ.

وَقالَ الشَّيْخُ أبُو حَيّانَ في ”البَحْرِ المُحِيطِ“ ما نَصُّهُ: والَّذِي أخْتارُهُ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَقَعْ مِنهُ هَمٌّ بِها البَتَّةَ، بَلْ هو مَنفِيٌّ لِوُجُودِ رُؤْيَةِ البُرْهانِ، كَما تَقُولُ: لَقَدْ قارَفْتَ لَوْلا أنْ عَصَمَكَ اللَّهُ، ولا نَقُولُ: إنَّ جَوابَ لَوْلا مُتَقَدِّمٌ عَلَيْها، وإنْ كانَ لا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلى امْتِناعِ ذَلِكَ، بَلْ صَرِيحُ أدَواتِ الشُّرُوطِ العامِلَةِ مُخْتَلَفٌ في جَوازِ تَقْدِيمِ أجْوِبَتِها عَلَيْها، وقَدْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ الكُوفِيُّونَ، ومِن أعْلامِ البَصْرِيِّينَ: أبُو زَيْدٍ الأنْصارِيُّ، وأبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ.

فَإذا عَلِمْتَ مِمّا بَيَّنّا دَلالَةَ القُرْآنِ العَظِيمِ عَلى بَراءَتِهِ مِمّا لا يَنْبَغِي، فَسَنَذْكُرُ لَكَ أقْوالَ العُلَماءِ الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ وقَعَ مِنهُ بَعْضُ ما لا يَنْبَغِي، وأقْوالَهم في المُرادِ بِالبُرْهانِ فَنَقُولُ: قالَ صاحِبُ ”الدُّرِّ المَنثُورِ في التَّفْسِيرِ بِالمَأْثُورِ“: وَأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وأبُو نُعَيْمٍ في ”الحِلْيَةِ“، وَأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وَأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الأقْوالُ الَّتِي رَأيْتَ نِسْبَتُها إلى هَؤُلاءِ العُلَماءِ مُنْقَسِمَةٌ إلى قِسْمَيْنِ:

قِسْمٌ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ عَمَّنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وهَذا لا إشْكالَ في سُقُوطِهِ.

وَقِسْمٌ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ مَن ذُكِرَ، ومَن ثَبَتَ عَنْهُ مِنهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، فالظّاهِرُ الغالِبُ عَلى الظَّنِّ المُزاحِمُ لِلْيَقِينِ: أنَّهُ إنَّما تَلَقّاهُ عَنِ الإسْرائِيلِيّاتِ؛ لِأنَّهُ لا مَجالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، ولَمْ يُرْفَعْ مِنهُ قَلِيلٌ ولا كَثِيرٌ إلَيْهِ ﷺ.

وَبِهَذا تَعْلَمُ أنَّهُ لا يَنْبَغِي التَّجَرُّؤُ عَلى القَوْلِ في نَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ بِأنَّهُ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ كافِرَةٍ أجْنَبِيَّةٍ، يُرِيدُ أنْ يَزْنِيَ بِها، اعْتِمادًا عَلى مِثْلِ هَذِهِ الرِّواياتِ، مَعَ أنَّ في الرِّواياتِ المَذْكُورَةِ ما تَلُوحُ عَلَيْهِ لَوائِحُ الكَذِبِ، كَقِصَّةِ الكَفِّ الَّتِي خَرَجَتْ لَهُ أرْبَعَ مَرّاتٍ، وفي ثَلاثٍ مِنهُنَّ لا يُبالِي بِها؛ لِأنَّ ذَلِكَ عَلى فَرْضِ صِحَّتِهِ فِيهِ أكْبَرُ زاجِرٍ لِعَوامِّ الفُسّاقِ، فَما ظَنُّكَ بِخِيارِ الأنْبِياءِ؟ مَعَ أنّا قَدَّمْنا دَلالَةَ القُرْآنِ عَلى بَراءَتِهِ مِن جِهاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وأوْضَحْنا أنَّ الحَقِيقَةَ لا تَتَعَدّى أحَدَ أمْرَيْنِ:

إمّا أنْ يَكُونَ لَمْ يَقَعْ مِنهُ هَمٌّ بِها أصْلًا، بِناءً عَلى تَعْلِيقِ هَمِّهِ عَلى عَدَمِ رُؤْيَةِ البُرْهانِ، وقَدْ رَأى البُرْهانَ، وإمّا أنْ يَكُونَ هَمُّهُ المَيْلَ الطَّبِيعِيَّ المَزْمُومَ بِالتَّقْوى، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.

واخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِالسُّوءِ والفَحْشاءِ، اللَّذَيْنِ ذَكَرَ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ صَرَفَهُما عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ.

فَرَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في قَوْلِهِ: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ﴾ [يوسف: 24]، قالَ: الزِّنى، والثَّناءُ القَبِيحُ. اهـ.

وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: السُّوءُ: مُقَدِّماتُ الفاحِشَةِ، كالقُبْلَةِ، والفاحِشَةُ: الزِّنى.

وَقِيلَ: السُّوءُ: جِنايَةُ اليَدِ، والفاحِشَةُ: الزِّنى. وأظْهَرُ الأقْوالِ في تَقْدِيرِ مُتَعَلَّقِ الكافِ في قَوْلِهِ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ، أيْ: فَعَلْنا لَهُ ذَلِكَ مِن إراءَةِ البُرْهانِ، كَذَلِكَ الفِعْلُ لِنَصْرِفَ واللّامُ لامُ كَيْ". اهـ. كلام الشنقيطي.

* وقال الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في «التفسير المنير»: "{وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} كثُرَ كلامُ الناس وتعليقاتُهم حول معنى هذه الآية، والأمر فيها سهل يسير، لا يصح تفسير كلمة {وَهَمَّ بِها} وحدها دون بقية الجملة، وإذا فُسِّرَت الجملةُ مع بعضها، تبين أنه لم يهمّ بها قط‍؛ لأن رؤية برهان ربه قد منعه من ذلك، بدليل أن {لَوْلا} حرف امتناع لوجود وجوابها محذوف دائما، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ولخالطها؛ لأن قوله: {وَهَمَّ بِها} يدل عليه، كقولك: (هممت بقتله لولا أني خفت الله) معناه: (لولا أني خفت الله لقتلته) ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.

ثم إن المراد بالهم: خطرات حديث النفس، والميل إلى المخالفة بحكم الطبيعة البشرية، وهذا لا مؤاخذة فيه شرعا، فلا يقال: كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ ودليل رفع المؤاخذة على الهم الذي هو مرتبة دون العزم والحزم ما أورده البغوي من حديث عبد الرزاق والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إذا همّ عبدي بحسنة، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن همّ بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها».

والبرهان الذي رآه: هو برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، أو هو حجة الله تعالى في تحريم الزنى، والعلم بما على الزاني من العقاب.

وقيل: هو تطهير نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة، وقيل: هو النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وجائز أن يراد كل هذه المعاني؛ لأنها متقاربة غير متعارضة، تحقق هدفا واحدا وهو طاعة الله عز وجل.

والخلاصة: لم يرتكب يوسف عليه السّلام المعصية قط‍، ولولا حفظ‍ الله ورعايته وعصمته لهَمّ بها. وللعلماء في الآية تفسيران: الأول- إنه لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، فهو الذي منعه من الهمّ، والثاني- إنه همّ بمقتضى الطبيعة البشرية، ثم تنبه للمانع من وقوع المعصية، ورأى برهان الله وتذكره، مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74/ 17].

وبه تبين وجود الفارق بين الهَمَّيْن: همِّها به وهمِّه، فهي قد همت بالانتقام منه والتنكيل به، شفاء لغيظها، أو همت بمخالطته، فكان همها المعصية، وهو همّ عزم وتصميم. وهو قد همّ بالدفاع عن نفسه، والتخلص منها، حين رأى بوادر الإقدام عليه، ولكنه رأى برهان ربه وعصمته التي جعلته يهُمُّ بالفرار من هذا المأزق، فكان همُّه النجاةَ منها وهو مجرد حديث نفس وخاطر، وما هَمَّ بالسوء بها لمّا رأى برهان ربه؛ لعصمة الأنبياء، قال تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} لذا أتبعه بقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إنه من عبادنا المخلصين} لذا أتبعه بقوله: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} أي فبادر إلى الباب هربا، وبادرت هي إلى الباب صدا له عن الهرب. وأراد الله صرف السوء عنه فقال: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} أي مثل ذلك التثبيت على العفة أمام دواعي الفتنة والإغراء ثبتناه، وكما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره. والسوء: المنكر والمعصية وخيانة السيد، والفحشاء: الزنى والفجور.

{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي إن يوسف من عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته وصفاهم من الشوائب، فلا يستطيع الشيطان إغواءهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ} [ص: 47/ 38]" . [التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، أ. د. وهبة الزحيلي، دار الفكر: دمشق – سورية، دار الفكر المعاصر: بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م، ج12 ص242-244].

فصل هام: الإسرائيليات في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّه}

قال الدكتور محمد بن محمد أبو شُهبة (ت 1403هـ) في كتابه «الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير»: "ومن الإسرائيليات المكذوبة التي لا توافق عقلا ولا نقلا: ما ذكر ابن جرير في تفسيره، وصاحب: «الدر المنثور» وغيرهما من المفسرين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّه} فقد ذكروا في هم يوسف عليه الصلاة والسلام ما ينافي عصمة الأنبياء وما يخجل القلم من تسطيره، لولا أنّ المقامَ مقامُ بيانٍ وتحذيرٍ من الكذب على الله وعلى رسله، وهو من أوجب الواجبات على أهل العلم.

فقد رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ما بلغ؟ قال: حل الهميان – يعني السراويل – وجلس منها مجلس الخائن، فصيح به: يا يوسف: لا تكن كالطير له ريش، فإن زنى قعد ليس له ريش، ورووا مثل هذا عن على رضي الله عنه وعن مجاهد وعن سعيد بن جبير.

ورَوَوْا أيضا في البرهان الذي رآه، ولولاه لوقع في الفاحشة بأنه نودي: أنت مكتوب في الأنبياء، وتعمل عمل السفهاء وقيل: رأى صورة أبيه يعقوب في الحائط، وقيل: في سقف الحجرة وأنه رآه على إبهامه، وأنه لم يتعظ بالنداء، حتى رأى أباه على هذه الحال، بل أسرف واضعو هذه الإسرائيليات الباطلة، فزعموا أنه لما لم يرعوِ من رؤية صورة أبيه عاضا على أصابعه، ضربه أبوه يعقوب، فخرجت شهوته من أنامله، ولأجل أن يؤيد هؤلاء الذين افتروا على الله ونبيه يوسف هذا الافتراء، يزعمون أيضا أن كل أبناء يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا ما عدا يوسف، فإنه نقص بتلك الشهوة التي خرجت من أنامله ولدا، فلم يولد له غير أحد عشر ولدا، بل زعموا أيضا في تفسير البرهان، فما روي عن ابن عباس أنه رأى ثلاث آيات من كتاب الله: قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ} وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه} ، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وقيل: رأي: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}!!، ومن البديهي أن هذه الآيات بهذا اللفظ العربي لم تنزل على أحد قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان الذين افتروا هذا لا يعدمون جوابا، بأن يقولوا: رأى ما يدل على معاني هذا الآيات بلغتهم التي يعرفونها، بل قيل في البرهان: إنه أري تمثال الملك، وهو العزيز، وقيل خياله١، وكل ذلك مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل وأكاذيبهم التي افتجروها على الله وعلى رسله، وحمله إلى بعض الصحابة والتابعين: كعب الأحبار ووهب بن منبه، وأمثالهما.

وليس أدل على هذا: مما رُوِي عن وهب بن منبه قال: «لما خلا يوسف، وامرأة العزيز، خرجت كف بلا جسد بينهما، مكتوب عليها بالعبرانية: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَت}، ثم انصرفت الكف، وقاما مقامهما، ثم رجعت الكف بينهما، مكتوب عليها بالعبرانية: {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، ثم انصرفت الكف، وقاما مقامهما، فعادت الكف الثالثة مكتوب عليها: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} وانصرفت الكف، وقاما مقامهما فعادت الكف الرابعة مكتوب عليها بالعبرانية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، فولَّى يوسف عليه السلام هاربا». وقد كان وهب أو من نقل عنه وهب ذكيًّا بارعًا حينما زعم أن ذلك كان مكتوبا بالعبرانية، وبذلك أجاب عما استشكلته، ولكن مع هذا لن يَجُوزَ هذا الكذب إلا على الأغرار والسذج من أهل العلم، ولا أدري أي معنى يبقى للعصمة بعد أن جلس بين فخذيها، وخلع سرواله؟! وما امتناعه عن الزنا عن مروياتهم المفتراة إلا وهو مقهور مغلوب؟!

ولو أنّ عِرْبيدا رأى صورة أبيه بعد مماته تحذره من معصية لكف عنها، وانزجر، فأي فضل ليوسف إذًا، وهو نبي من سلالة أنبياء؟!!

ثم ما هذا الاضطراب الفاحش في الروايات؟! أليس الاضطراب الذي لا يمكن التوفيق بينه كهذا من العلل التي رد المحدثون بسببها الكثير من المرويات؟! لأنه أمارة من أمارات الكذب والاختلاق، والباطل لجلج، وأما الحق فهو أبلج.

ثم كيف يتفق ما حِيكَ حول نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام وقول الحق تبارك عقب ذكر الهم: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين}، فهل يستحق هذا الثناء من حل التكة، وخلع السروال، وجلس بين رجليها؟! ولا أدرى أنصدق الله تبارك وتعالى، أم نصدق كذبة بني إسرائيل ومخرفيهم؟!!

بل كيف يتفق ما روى هو وما حكاه الله عز وجل عن زليخا بطلة المراودة، حيث قالت: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين} وهو اعتراف صريح للبطلة التي أعيتها الحيل عن طريق التزين حينا، والتودد إليه بمعسول القول حينا آخر، والإرهاب والتخويف حينا ثالثا، فلم تفلح: {لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِين}، وانظر ماذا كان جواب السيد العفيف، الكريم ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وقصدُه عليه السلام بقوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُن}: تبرؤٌ من الحول والطول، وأن الحول والقوة إنما هما من الله، وسؤال منه لربه، واستعانة به على أن يصرف عنه كيدهن، وهكذا: شأن الأنبياء.

بل قد شهد الشيطانُ نفسُه ليوسفَ عليه السلام في ضمن قوله كما حكاه الله سبحانه عنه بقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} ويوسف بشهادة الحق السالفة من المخلصين.

وكذلك شهد ليوسف شاهد من أهلها، فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم}، وقد أسفر التحقيق عن براءة يوسف وإدانة زليخا: امرأة العزيز.

فكيف تتفق كل هذه الشهادات الناصعة الصادقة، وتلك الروايات المزورة؟!! وقد ذكر الكثير من هذه الروايات ابن جرير الطبري، والثعلبي، والبغوي، وابن كثير، والسيوطي، وقد مر بها ابن كثير بعد أن نقلها حاكيا من غير أن ينبه إلى زيفها، وهو الناقد البصير!!

ومن العجيب حقا: أن الإمام ابن جرير – على جلالة قدره – يحاول أن يُضَعِّفَ في تفسيره مذهبَ الخلف الذين ينفون هذا الزور والبهتان، ويفسرون الآيات على حسب ما تقتضيه اللغة، وقواعد الشرع، وما جاء في القرآن والسنة الصحيحة الثابتة، ويعتبر هذا المرويات التي سُقْتُ لك زروًا منها آنفا، هي: قول جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين يؤخذ عنهم!!! وكذلك تابعه على مقالته تلك الثعلبي والبغوي في تفسيريهما!!

وهذا المرويات الغثة المكذوبة التي يأباها النظم الكريم، ويجزم العقل والنقل باستحالتها على الأنبياء عليهم السلام هي التي اعتبرها الطبري ومن تبعه أقوال السلف!!

بل يسير في خط اعتبار هذا المرويات، فيورد على نفسه سؤالا فيقول: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا وهو لله نبي؟! ثم أجاب بما لا طائل تحته، ولا يليق بمقام الأنبياء قاله الواحدي في تفسيره: «البسيط».

وأعجب من ذلك: ما ذهب إليه الواحدي في: «البسيط» قال: قال المفسرون الموثوق بعلمهم، المرجوع إلى روايتهم، الآخذون للتأويل، عمن شاهدوا التنزيل: هَمَّ يوسف عليه السلام بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة منه.

وهي غفلة شديدة من هؤلاء الأئمة لا نرضاها، ولولا أني أنزه لساني وقلمي عن الهجر من القول، وأنهم خلطوا في مؤلفاتهم عملا صالحا وآخر سيئا لقسوت عليهم، وحُقَّ لي هذا، لكني أسأل الله لي ولهم العفو والمغفرة.

وهذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسرون: إما إسرائيليات وخرافات وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء، الذي أرادوا بها النيل من الأنبياء والمرسلين، ثم حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا وتلقاها عنهم بعض الصحابة والتابعين بحسن نية، أو اعتمادا على ظهور كذبها وزيفها.

وإما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة، دسها عليهم أعداء الأديان، كي تروج تحت هذا الستار، وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد، وتعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة الصحيحة، وهذا ما أميل إليه!.

الفرية على المعصوم صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْب}: ولكي يؤيدوا باطلهم الذي ذكرناه آنفا، رووا عن الصحابة والتابعين ما لا يليق بمقام الأنبياء، واختلقوا على النبي صلى الله عليه وسلم زورًا، وقولوه ما لم يقله، قال صاحب «الدر»: وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما جمع الملك النسوة قال لهن: أنتن راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين}، قال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}، فغمزه جبريل عليه السلام فقال: ولا حين هممت بها؟ فقال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}.

قال: وأخرج ابن جرير عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدي مثله، وأخرج الحاكم في تاريخه، وابن مردويه والديلمي عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال: لما قال يوسف ذلك قال جبريل عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء}، قال: وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله، وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم: عن حكيم بن جابر في قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال جبريل: ولا حين حللت السراويل؟ إلى غير ذلك من المرويات المكذوبة، والإسرائيليات الباطلة، التي خرّجها بعض المفسرين الذين كان منهجهم ذكر المرويات وجمع أكبر قدر منها، سواء منها ما صح وما لم يصح، والإخباريون الذين لا تحقيق عندهم للمرويات، وليس أدل على ذلك من أنها لم يخرجها أحد من أهل الكتاب الصحيحة، ولا أصحاب الكتب المعتمدة الذين يرجع إليهم في مثل هذا.

القرآن يرد هذه الأكاذيب: وقد فات هؤلاء الدساسين الكذابين أن قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْب} ... الآيتين ليس من مقالة سيدنا يوسف عليه السلام، وإنما هو من مقالة امرأة العزيز، وهو ما يتفق وسياق الآية، ذلك: أن العزيز لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن قال له: ارجع إلى ربك، فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن فأحضر النسوة، وسألهن، وشهدن ببراءة يوسف، فلم تجد امرأة العزيز بُدًّا من الاعتراف، فقالت: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْب} .... الآيتين ليس من مقالة سيدنا يوسف عليه السلام وإنما هو من مقالة امرأة العزيز، وهو ما يتفق وسياق الآية، ذلك أن العزيز لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن قال له: ارجع إلى ربك، فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن فأحضر النسوة، وسألهن، وشهدن ببراءة يوسف، فلم تجد امرأة العزيز بدا من الاعتراف، فقالت: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَق} إلى قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فكل ذلك من قولها: ولم يكن يوسف حاضرا ثَمَّ؛ بل كان في السجن، فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك في مجلس التحقيق الذي عقده العزيز؟.

وقد انتصر لهذا الرأي الذي يوائم السياق والسباق: الإمام ابن تيمية، وألف في ذلك تصنيفا على حدة.

قال الإمام الحافظ المفسر ابن كثير في تفسيره: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْب}: تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع، فلهذا اعترفت؛ ليعلم أني بريئة، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي؛ فإن النفس تتحدث، وتتمنى، ولهذا راودته لأن {النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي: إلا من عصمه الله تعالى: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة.

وبعد أن ذكر بعض ما ذكره ابن جرير الذي ذكرناه آنفا عن ابن عباس، وتلاميذه، وغيره قال: والقول الأول أقوى، وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك". [الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد أبو شُهبة، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م، ص220-227].

خامساً: ما ورد في شأن موسى عليه السلام:

قال تعالى: {وَدَخَلَ ٱلۡمَدِینَةَ عَلَىٰ حِینِ غَفۡلَةࣲ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِیهَا رَجُلَیۡنِ یَقۡتَتِلَانِ هَـٰذَا مِن شِیعَتِهِۦ وَهَـٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَـٰثَهُ ٱلَّذِی مِن شِیعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِی مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَیۡهِۖ قَالَ هَـٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوࣱّ مُّضِلࣱّ مُّبِینࣲ. قَالَ رَبِّ إِنِّی ظَلَمۡتُ نَفۡسِی فَٱغۡفِرۡ لِی فَغَفَرَ لَهُۥ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ} [القصص: 15-16].

قال الإمامُ شمس الدين القرطبي (671 هـ) في تفسيره: "{قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} أَيْ: مِنْ إِغْوَائِهِ قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ قَتْلُ الْكَافِرِ يَوْمَئِذٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ حَالَ كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}، خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.

{قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} نَدِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْوَكْزِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ذَهَابُ النَّفْسِ، فَحَمَلَهُ نَدَمُهُ عَلَى الْخُضُوعِ لِرَبِّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ قَتَادَةُ: عَرَفَ وَاللَّهِ الْمَخْرَجَ فَاسْتَغْفَرَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ ﷺ يُعَدِّدُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ، حَتَّى إِنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ يَقُولُ: إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا. وَإِنَّمَا عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَنْبًا وَقَالَ: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ حَتَّى يُؤْمَرَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُشْفِقُونَ مِمَّا لَا يُشْفِقُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ. قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يَقْتُلْهُ عَنْ عَمْدٍ مُرِيدًا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا وَكَزَهُ وَكْزَةً يُرِيدُ بِهَا دَفْعَ ظُلْمِهِ. قَالَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ مَعَ ذَلِكَ خَطَأً؛ فَإِنَّ الْوَكْزَةَ وَاللَّكْزَةَ فِي الْغَالِبِ لَا تَقْتُلُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ! سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بن عمر يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الفتنة تجئ من ها هنا – وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ المَشْرِقِ – مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ»، وَأَنْتُمْ بَعْضُكُمْ يَضْرِبُ رِقَابَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}".

وقال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ﴾ يعني مصر وقيل: قرية حولها، والأول أشهر ﴿عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ﴾ قيل: في القائلة وقيل بين العشاءين، وقيل يوم عيد، وقيل كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفياً متخوفاً ﴿هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ﴾ الذي من شيعته من بني إسرائيل، والذي من عدوّه من القبط ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ﴾ أي ضربه، والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل: بجمع الكف ﴿فَقَضَىٰ عَلَيْهِ﴾ أي قتله، ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم وقال: هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان؛ ثم اعترف واستغفر فغفر الله له، فإن قيل: كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافراً؟ فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله، ولذلك يقول يوم القيامة: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها".

 سادساً: ما ورد في شأن داود عليه السلام:

قال تعالى: {وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُوا۟ ٱلۡمِحۡرَابَ. إِذۡ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَٱحۡكُم بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَاۤ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلصِّرَ ٰطِ. إِنَّ هَـٰذَاۤ أَخِی لَهُۥ تِسۡعࣱ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةࣰ وَلِیَ نَعۡجَةࣱ وَ ٰحِدَةࣱ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِیهَا وَعَزَّنِی فِی ٱلۡخِطَابِ. قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡخُلَطَاۤءِ لَیَبۡغِی بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِیلࣱ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعࣰا وَأَنَابَ. فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَ ٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ} [ص: 21-25].

* قال الدكتور محمد بن محمد أبو شُهبة (ت 1403هـ): "ومِن الإسرائيليات التي تُخِلُّ بمقام الأنبياء، وتنافي عصمتهم، ما ذكره بعض المفسرين في قصة سيدنا داود عليه السلام عند تفسير قوله تعالى: {وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُوا۟ ٱلۡمِحۡرَابَ. إِذۡ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَٱحۡكُم بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَاۤ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلصِّرَ ٰ⁠طِ. إِنَّ هَـٰذَاۤ أَخِی لَهُۥ تِسۡعࣱ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةࣰ وَلِیَ نَعۡجَةࣱ وَ ٰ⁠حِدَةࣱ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِیهَا وَعَزَّنِی فِی ٱلۡخِطَابِ. قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡخُلَطَاۤءِ لَیَبۡغِی بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِیلࣱ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعࣰا وَأَنَابَ. فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَ ٰ⁠لِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ} [ص 21-25].

فقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي، والسيوطي في (الدر المنثور) من الأخبار ما تقشعر منه الأبدان، ولا يوافق عقلاً ولا نقلاً، عن ابن عباس، ومجاهد، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار، والسدي، وغيرهم ما محصلها: أن داود عليه السلام حدث نفسه: إنِ ابْتُلِي أنْ يعتصم، فقيل له: إنك ستُبتلى وستعلم اليومَ الذي تبتلى فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الذي تبتلى فيه فأخذ الزبور، ودخل المحراب، وأغلق بابه، وأقعَدَ خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحد اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور، إذ جاء طائر مُذهّب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله نفضت شعرها، فغطت جسدها به، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: أن اجعله في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت، فقُتِل.

وفي بعض هذه الروايات الباطلة أنه فعل ذلك ثلاث مرات، حتى قُتِل في الثالثة، فلما انقضت عدتها، خطبها داود عليه السلام، فتسوّر عليه الملكان، وكان ما كان، مما حكاه الله تعالى: «رُفِع ذلك إلى النبي».

ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة عن بعض الصحابة والتابعين، ومسلمة أهل الكتاب بل جاء بعضها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال صاحب: (الدر): وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند ضعيف، عن أنس رض الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن داود عليه السلام حين نظر إلى المرأة، قَطّعَ على بنى إسرائيل وأوصى صاحب الجيش، فقال: إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت»، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم معه الجيش، فقتل، وتزوج المرأة، ونزل الملكان على داود عليه السلام فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، فأكلت الأرض جبينه، وهو يقول في سجوده: «رب ذل داود ذلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، رب إن لم ترحم ضعف داود، وتغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثا في المخلوق من بعده، فجاء جبريل عليه السلام من بعد أربعين ليلة، فقال: يا داود إن الله قد غفر لك، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا رب دمي الذي عند داود قال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، فإن شئت لأفعلن، فقال، نعم، فعرج جبريل، وسجد داود عليه السلام، فمكث ما شاء الله، ثم نزل، فقال: قد سألت الله يا داود عن الذي أرسلني فيه، فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت، وما اشتهيت عوضًا»، وقد رواها البغوي أيضا عن طريق الثعلبي والرواية منكرة مختلقة على الرسول. وفي سند هذه الرواية المختلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن لهيعة، وهو مضعف في الحديث، وفي سندها أيضا: يزيد بن أبان الرقاشي، كان ضعيفا في الحديث.

وقال فيه النسائي، والحاكم أبو أحمد: إنه متروك، وقال فيه ابن حبان: كان من خيار عباد الله، من البكائين بالليل، غفل عن حفظ الحديث شغلا بالعبادة، حتى كان يقلب كلام الحسن يجعله عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل الرواية عنه إلا على جهة التعجب.

وقال العلامة ابن كثير في تفسيره: «وقد ذكر المفسرون ههنا قصة، أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة».

ومن ثم يتبين لنا: كذب رَفْعِ هذه الرواية المنكرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكاد نصدق ورود هذا عن المعصوم، وإنما هي اختلاقات، وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب. وهل يشك مؤمن عاقل يُقِرّ بعصمة الأنبياء في استحالة صدور هذا عن داود عليه السلام؛ ثم يكون على لسان من؟ على لسان من كان حريصا على تنزيه إخوانه الأنبياء عما لا يليق بعصمتهم، وهو: نبينا محمد ﷺ.

ومثل هذا التدبير السيء، والاسترسال فيه على ما رَوَوْا، لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامتهم، لاعتبر هذا أمرا مستهجنا مستقبحا، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه، وطهرت سريرته، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أرسل إليهم؟!!

ولو أن القصة كانت صحيحة لذهبتْ بعصمة داود، ولنفّرت منه الناس، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان، فلا يحصل المقصد الذي من أجله أرسل الرسل، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله تعالى في شأنه: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}، قال ابن كثير في تفسيرها: «وإن له يوم القيامة لقربةً يُقرِّبه الله عز وجل بها وحسن مرجع، وهو: الدرجات العالية في الجنة لنبوته وعدله التام في ملكه، كما جاء في الصحيح: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في حكمهم وما ولوا»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحبَّ الناس إليّ يوم القيامة وأقربَهم مني مجلسًا إمامٌ عادل، وإن أبغضَ الناس إليَّ يوم القيامة، وأشدَّهم عذابا، إمامٌ جائر». [رواه أحمد، والترمذي].

ولكي يستقيم هذا الباطل قالوا: إن المراد بالنعجة هي: المرأة، وأن القصة خرجت مخرج الرمز والإشارة، ورووا أن الملكين لما سمعا حكم داود، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء من فعل ذلك؟ قال: يُقْطع هذا، وأشار إلى عنقه، وفي رواية: «يضرب من ههنا، وههنا وههنا» وأشار إلى جبهته، وأنفه، وما تحته، فضحكا، وقالا، «أنت أحق بذلك منه، ثم صعدا»!

وذكر البغوي في تفسيره وغيره، عن وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلا، ولا نهارا، وكان أصاب الخطيئة، وهو ابن سبع وسبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي، والجبال، والسواحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الشجر، والرمال، والطير، والوحش، حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكي معه الجبال، والحجارة، والدواب والطير، حتى تسيل من بكائهم الأودية، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكى معه الحيتان، ودواب البحر وطير الماء والسباع ...

والحق: أن الآيات ليس فيها شيء مما ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وهي التي عليها المعول، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.

وما أحسن ما قال الإمام القاضي عياض: "لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب، الذين بدلوا، وغيروا ونقله بعض المفسرين، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه في قصة داود: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} وليس في قصة داود، وأوريا خبر ثابت.

والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي، قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يُظَنُّ بِنَبِيٍّ محبّة قتلِ مسلم، وقد روي عن سيدنا علي أنه قال: من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وذلك حد الفرية على الأنبياء، وهو كلام مقبول من حيث المعنى، إلا أنه لم يصح عن الإمام ذلك كما قال العراقي. 

التفسير الصحيح للآيات: وإذا كان ما رُوي من الإسرائيليات الباطلة التي لا يجوز أن تفسر بها الآيات، فما التفسير الصحيح لها إذًا؟

والجواب: أن داود عليه السلام كان قد وزع مهام أعماله، ومسئولياته نحو نفسه، ونحو الرعية على الأيام، وخص كل يوم بعمل، فجعل يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء وفصل الخصومات، ويومًا للاشتغال بشئون نفسه وأهله، ويومًا لوعظ بني إسرائيل ففي يوم العبادة: بينما كان مشتغلا بعبادة ربه في محرابه، إذ دخل عليه خصمان تسورا عليه من السور، ولم يدخلا من المدخل المعتاد، فارتاع منهما، وفزع فزعًا لا يليق بمثله من المؤمنين، فضلًا عن الأنبياء المتوكلين على الله غاية التوكل، الواثقين بحفظه، ورعايته ومثل الأنبياء في علوم شأنهم، وقوة ثقتهم بالله والتوكل عليه ألا تعلق نفوسهم بمثل هذه الظنون بالأبرياء، ومثل هذا الظن وإن لم يكن ذنبا في العادة، إلا أنه بالنسبة وظن بهما سوءا، وأنهما جاءا ليقتلاه، أو يبغيا به شرًّا، ولكن تبين له أن الأمر على خلاف ما ظن، وأنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه، فلما قضى بينهما، وتبين له أنهما بريئان مما ظنه بهما، استغفر ربه، وخر ساجدا لله تعالى؛ تحقيقًا لصدق توبته والإخلاص له، وأناب إلى الله غاية الإنابة.

للأنبياء يعتبر خلاف الأولى، والأليق بهم، وقديما قيل: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، فالرجلان خصمان حقيقةً، وليسا ملكين كما زعموا، والنعاج على حقيقتها، وليس ثمة رموز ولا إشارات، وهذا التأويل هو الذي يوافق نظم القرآن ويتفق وعصمة الأنبياء، فالواجب الأخذ به، ونبذ الخرافات، والأباطيل، التي هي من صنع بني اسرائيل، وتلقفها القصاص وأمثالهم ممن لا علم عندهم، ولا تمييز بين الغث والسمين. وقيل: إن الذي صنعه داود: أنه خطب على خطبة أوريا، فآثره أهلها عليه، وقد كانت الخطبة على الخطبة حرام في شريعتهم، كما هي حرام في شريعتنا.

وقيل: إنه طلب من زوجها أوريا أن ينزل له عنها وقد كان هذا في شريعتهم، ومستساغا عندهم، وقيل: إنه أُوخِذ؛ لأنه حكم بمجرد سماعه لكلام أحد الخصمين، وكان عليه أن يسمع كلام الخصم الآخر، وقد قيل: إذا جاءك أحد الخصمين، وقد فقئت عينه، فلا تحكم له؛ لجواز أن يكون خصمه قد فقئت عيناه. وهذه الأقوال الثلاثة ونحوها لستُ منها على ثَلَجٍ، ولا اطمئنان، فإنها وإن كانت لا تُخِلُّ بالعصمة لكنها تخدشها، ثم هي لا تليق بالصفوة المختارة من الخلق، وهم الأنبياء، فالوجه الجدير بالقبول في تفسير الآيات هو الأول فعض عليه، واشدد به يديك". [الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد أبو شُهبة، دار الجيل - بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م (مبحث: الإسرائيليات في قصة داود عليه السلام)، ص264-270].

* وقال الشيخُ العلاّمةُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان»: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَظَنَّ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ ﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ﴾ . قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى مثل هَذِهِ الآيَةَ مِنَ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنها صُدُورُ بَعْضِ الشَّيْءِ، مِنَ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، وبَيَّنّا كَلامَ أهْلِ الأُصُولِ في ذَلِكَ في سُورَةِ طه، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ [طه: 121].

واعْلَمْ أنَّ ما يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، مِمّا لا يَلِيقُ بِمَنصِبِ داوُدَ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ، كُلُّهُ راجِعٌ إلى الإسْرائِيلِيّاتِ، فَلا ثِقَةَ بِهِ، ولا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وما جاءَ مِنهُ مَرْفُوعًا إلى النّبِيِّ لا يَصِحُّ  مِنْهُ شيْءٌ".

* وقال أبو حيان (745 هـ) في تفسيره «البحر المحيط»: "﴿وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ﴾ لَمّا أثْنى تَعالى عَلى داوُدَ – عَلَيْهِ السَّلامُ – بِما أثْنى، ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَذِهِ، لِيَعْلَمَ أنَّ مِثْلَ قِصَّتِهِ لا يَقْدَحُ في الثَّناءِ عَلَيْهِ والتَّعْظِيمِ لِقَدْرِهِ، وإنْ تَضَمَّنَتِ اسْتِغْفارَهُ رَبَّهُ، ولَيْسَ في الِاسْتِغْفارِ ما يُشْعِرُ بِارْتِكابِ أمْرٍ يُسْتَغْفَرُ مِنهُ، وما زالَ الِاسْتِغْفارُ شِعارَ الأنْبِياءِ المَشْهُودِ لَهم بِالعِصْمَةِ. ومَجِيءُ مِثْلِ هَذا الِاسْتِفْهامِ إنَّما يَكُونُ لِغَرابَةِ ما يَجِيءُ مَعَهُ مِنَ القَصَصِ، كَقَوْلِهِ ﴿وهَلْ أتاكَ حَدِيثُ مُوسى﴾ [طه: 9] فَيَتَهَيَّأُ المُخاطَبُ بِهَذا الِاسْتِفْهامِ لِما يَأْتِي بَعْدَهُ ويُصْغِي لِذَلِكَ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ القِصَّةِ أشْياءَ لا تُناسِبُ مَناصِبَ الأنْبِياءِ، ضَرَبْنا عَنْ ذِكْرِها صَفْحًا، وتَكَلَّمْنا عَلى ألْفاظِ الآيَةِ".

سابعاً: ما ورد في شأن سليمان عليه السلام:

1) قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَیۡمَـٰنَ وَأَلۡقَیۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِیِّهِۦ جَسَدࣰا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34].

* قال العلاّمةُ الطاهر بن عاشور ابن عاشور (1393 هـ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: "وقَدْ أشارَتِ الآيَةُ إلى حَدَثٍ عَظِيمٍ حَلَّ بِسُلَيْمانَ، واخْتَلَفَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ في تَعْيِينِ هَذِهِ الفِتْنَةِ فَذَكَرُوا قَصَصًا هي بِالخُرافاتِ أشْبَهُ، ومَقامُ سُلَيْمانَ عَنْ أمْثالِها أنْزَهُ...

ومِن أغْرَبِها قَوْلُهم: إنَّهُ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَخافَ عَلَيْهِ النّاسَ أنْ يَقْتُلُوهُ فاسْتَوْدَعَهُ الرِّيحَ لِتَحْضُنَهُ وتُرْضِعَهُ دَرَّ ماءِ المُزْنِ فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ أصابَهُ المَوْتُ وألْقَتْهُ الرِّيحُ عَلى كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ".

وقفة: من الغريب أن الإمامَ فخر الدين الرازي (606 هـ) زعم في تفسيره «مفاتيح الغيب» أن من الوُجُوه الَّتِي ذَكَرَها أهْلُ التَّحْقِيقِ في هَذِهِ الفِتْنَةِ التي ابتُلِيَ بها النّبِيُّ سليمان عليه السلام أنَّهُ: "وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَقالَتِ الشَّياطِينُ إنْ عاشَ صارَ مُسَلَّطًا عَلَيْنا مِثْلَ أبِيهِ فَسَبِيلُنا أنْ نَقْتُلَهُ فَعَلِمَ سُلَيْمانُ ذَلِكَ فَكانَ يُرَبِّيهِ في السَّحابِ فَبَيْنَما هو مُشْتَغِلٌ بِمُهِمّاتِهِ إذْ أُلْقِيَ ذَلِكَ الوَلَدُ مَيِّتًا عَلى كُرْسِيِّهِ فَتَنَبَّهَ عَلى خَطِيئَتِهِ في أنَّهُ لَمْ يَتَوَكَّلْ فِيهِ عَلى اللَّهِ فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وأنابَ".

ولا ندري مَنْ هم هؤلاء المحققون الذين ذكروا هذه القصة الغريبة، وهل عندهم نصٌّ من الكتاب أو السُّنَّةِ الصحيحة، أم أنهم أخذوها من الإسرائيليات!

* وقال الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان»: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى هَذِهِ الآيَةِ، وعَلى ما يَذْكُرُهُ المُفَسِّرُونَ فِيها، مِنَ الرِّواياتِ الَّتِي لا يَخْفى سُقُوطُها، وأنَّها لا تَلِيقُ بِمَنصِبِ النُّبُوَّةِ، في سُورَةِ الكَهْفِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 23 – 24]. وما رُوِيَ عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ مِن جُمْلَةِ تِلْكَ الرِّواياتِ، أنَّ الشَّيْطانَ أخَذَ خاتَمَ سُلَيْمانَ، وجَلَسَ عَلى كُرْسِيِّهِ وطَرَدَ سُلَيْمانَ إلى آخِرِهِ يُوَضِّحُ بُطْلانَهُ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: 42] واعْتِرافُ الشَّيْطانِ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 40]".

قال الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) عند تفسيره للآية 23 من سورة الكهف: "نَهى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا في المُسْتَقْبَلِ إلّا مُعَلِّقًا ذَلِكَ عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ الَّذِي لا يَقَعُ شَيْءٌ في العالَمِ كائِنًا ما كانَ إلّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وعَلا، فَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ [الكهف: 23]، أيْ: لا تَقُولَنَّ لِأجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلى فِعْلِهِ في المُسْتَقْبَلِ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ الشَّيْءَ غَدًا.

والمُرادُ بِالغَدِ: ما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ لا خُصُوصُ الغَدِ. ومِن أسالِيبِ العَرَبِيَّةِ إطْلاقُ الغَدِ عَلى المُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمانِ؛ ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَأعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما في غَدٍ عَمُ

يَعْنِي أنَّهُ لا يَعْلَمُ ما يَكُونُ في المُسْتَقْبَلِ، إذْ لا وجْهَ لِتَخْصِيصِ الغَدِ المُعَيَّنِ بِذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 24]، إلّا قائِلًا في ذَلِكَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ، أيْ: مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أوْ لا تَقُولَنَّهُ إلّا بِإنْ شاءَ اللَّهُ، أيْ: إلّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وهو في مَوْضِعِ الحالِ، يَعْنِي إلّا مُتَلَبِّسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قائِلًا إنْ شاءَ اللَّهُ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ.

وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: «أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّدًا ﷺ عَنِ الرُّوحِ، وعَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ في الأرْضِ – يَعْنُونَ ذا القَرْنَيْنِ –، وعَنْ فِتْيَةٍ لَهم قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ في الزَّمانِ الماضِي، يَعْنُونَ أصْحابَ الكَهْفِ، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”سَأُخْبِرُكم غَدًا عَمّا سَألْتُمْ عَنْهُ“، ولَمْ يَقُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ عَنْهُ الوَحْيُ مُدَّةً، قِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَأحْزَنَهُ تَأخُّرُ الوَحْيِ عَنْهُ، ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْهِ الجَوابَ عَنِ الأسْئِلَةِ الثَّلاثَةِ، قالَ في الرُّوحِ: ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ الآيَةَ [الإسراء: 85]، وقالَ في الفِتْيَةِ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأهم بِالحَقِّ﴾ الآياتِ [الكهف: 13] إلى آخِرِ قِصَّتِهِمْ، وقالَ في الرَّجُلِ الطَّوّافِ: ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأتْلُو عَلَيْكم مِنهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 83] الآياتِ» إلى آخِرِ قِصَّتِهِ.

فَإذا عَرَفْتَ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ وسَبَبَ نُزُولِها، وأنَّ اللَّهَ عاتَبَ نَبِيَّهُ فِيها عَلى عَدَمِ قَوْلِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ، لَمّا قالَ لَهم ”سَأُخْبِرُكم غَدًا“، فاعْلَمْ أنَّهُ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرى بِضَمِيمَةِ بَيانِ السُّنَّةِ لَها عَلى أنَّ اللَّهَ عاتَبَ نَبِيَّهُ سُلَيْمانَ عَلى عَدَمِ قَوْلِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ، كَما عاتَبَ نَبِيَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى ذَلِكَ، بَلْ فِتْنَةُ سُلَيْمانَ بِذَلِكَ كانَتْ أشَدَّ؛ فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «قالَ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ عَلَيْهِما وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلى سَبْعِينَ امْرَأةً – وفي رِوايَةٍ تِسْعِينَ امْرَأةً، وفي رِوايَةٍ مِائَةِ امْرَأةٍ – تَلِدُ كُلُّ امْرَأةٍ مِنهُنَّ غُلامًا يُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ”، فَقِيلَ لَهُ – وفي رِوايَةٍ قالَ لَهُ المَلِكُ: “قُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ ”فَلَمْ يَقُلْ، فَطافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنهُنَّ إلّا امْرَأةٌ واحِدَةٌ نِصْفَ إنْسانٍ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قالَ إنْ شاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وكانَ دَرْكًا لِحاجَتِهِ»، وفي رِوايَةٍ: ”وَلَقاتَلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسانًا أجْمَعُونَ“ ا هـ.

فَإذا عَلِمْتَ هَذا فاعْلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ الصَّحِيحَ بَيَّنَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ الآيَةَ [ص: 34]، وأنَّ فِتْنَةَ سُلَيْمانَ كانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِهِ قَوْلَهُ ”إنْ شاءَ اللَّهُ“، وأنَّهُ لَمْ يَلِدْ مِن تِلْكَ النِّساءِ إلّا واحِدَةً نِصْفَ إنْسانٍ، وأنَّ ذَلِكَ الجَسَدَ الَّذِي هو نِصْفُ إنْسانٍ هو الَّذِي أُلْقِيَ عَلى كُرْسِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَألْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ الآيَةَ، فَما يَذْكُرُهُ المُفَسِّرُونَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ﴾ الآيَةَ، مِن قِصَّةِ الشَّيْطانِ الَّذِي أخَذَ الخاتَمَ وجَلَسَ عَلى كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ، وطَرَدَ سُلَيْمانَ عَنْ مُلْكِهِ؛ حَتّى وجَدَ الخاتَمَ في بَطْنِ السَّمَكَةِ الَّتِي أعْطاها لَهُ مَن كانَ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بِأجْرٍ مَطْرُودًا عَنْ مُلْكِهِ، إلى آخِرِ القِصَّةِ، لا يَخْفى أنَّهُ باطِلٌ لا أصْلَ لَهُ، وأنَّهُ لا يَلِيقُ بِمَقامِ النُّبُوَّةِ. فَهي مِنَ الإسْرائِيلِيّاتِ الَّتِي لا يَخْفى أنَّها باطِلَةٌ.

والظّاهِرُ في مَعْنى الآيَةِ هو ما ذَكَرْنا، وقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَيْهِ في الجُلَّةِ، واخْتارَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى".

* ولقد فصّل الدكتور محمد بن محمد أبو شُهبة (ت 1403هـ)  القول في الإسرائيليات في قصة سليمان عليه السلام، وقال: "ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاَبَ}.

وقد ذكر الكثير منها في تفاسيرهم، ابن جرير، وابن أبي حاتم، والثعلبي، والبغوي، وغيرهم، وذكر كل ما روى من ذلك من غير تمييز بين الصحيح والضعيف، والغث والسمين. السيوطي، في (الدر المنثور) وليته إذ فعل نقد كل رواية، وبين منزلتها من القبول والرد، وما هو من الإسرائيليات، وما ليس منها، قال السيوطي في (الدر): أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، بسند قوي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: أراد سليمان عليه السلام أن يدخل الخلاء، فأعطى الجرادة خاتمه، وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته، فلما لبسه، دانت له الجن، والإنس، والشياطين، فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء، قال لها: هاتي خاتمي، فقالت: قد أعطيته سليمان، قال: أنا سليمان، قالت: كذبت، لست سليمان، فجعل لا يأتي أحدا يقول له: أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة،...

وقد روى السيوطي في (الدر) روايات أخرى، عن ابن عباس وقتادة، في أن هذا الشيطان كان يسمى صخرا، وروي عن مجاهد: أن اسمه آصف، وأن سليمان سأله: كيف تفتنون الناس؟! فقال الشيطان: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان، وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه، حتى كان ما كان من أمر السمكة، والعثور على الخاتم، ورجوع ملك سليمان إليه!

غير أن في رواية قتادة، ومجاهد: أن الشيطان لم يسلط على نساء سليمان، ومنعهن الله منه، فلم يقربهن، ولم يقربنه!

ونحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل، وأباطيلهم، وأن ابنَ عباس وغيرَه تلقّوْها عن مسلمة أهل الكتاب...

وأحب أن أؤكد هنا ما ذكرته قبل: من أن قوة السند لا تنافي كونها مما أخذه ابن عباس وغيره عن كعب الأحبار وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب، فثبوتها في نفسها لا ينافي كونها من إسرائيليات بني إسرائيل، وخرافاتهم، وافتراءاتهم على الأنبياء.

سَلَفِي من العلماء في رد هذا الغثاء: وقد سبق إلى التنبيه إلى ذلك: الإمام القاضي عياض في (الشفا): «ولا يصح ما نقله الإخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه؛ لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثله»، وكذلك الإمام الحافظ الناقد: ابن كثير في تفسيره، قال بعد أن ذكر الكثير منها: وهذه كلها من الإسرائيليات،...

ومن العجيب: أن الإمام السيوطي نبه في كتابه: (تخريج أحاديث الشفاء): أنها إسرائيليات، تلقاها ابن عباس عن أهل الكتاب، وليته نبه إلى ذلك في التفسير... والحق أن نسج القصة مهلهل، عليه أثر الصنعة والاختلاق، ويصادم العقل السليم، والنقل الصحيح في هذا.

وإذا جاز للشيطان أن يتمثل برسول الله سليمان عليه السلام، فأي ثقة بالشرائع تبقى بعد هذا؟! وكيف يسلط الله الشيطان على نساء نبيه سليمان، وهو أكرم على الله من ذلك؟!

وأي ملك أو نبوة يتوقف أمرهما على خاتم يدومان بدوامه، ويزولان بزواله؟! وما عهدنا في التاريخ البشري شيئا من ذلك...

وقد تجرأ بعض الرواة، أو غلط، فرفع بعض هذه الإسرائيليات إلى رسول الله ﷺ قال السيوطي في (الدر المنثور): وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «وُلِد لسليمان ولدٌ، فقال الشيطان تواريه من الموت، قالوا: نذهب به إلى المشرق، فقال: يصل إليه الموت، قالوا: فإلى المغرب قال: يصل إليه الموت، قالوا: إلى البحار، قال: يصل إليه الموت، قالوا: نضعه بين السماء والأرض، قال: نعم، ونزل عليه ملك الموت، فقال: إني أمرت بقبض نسمة طلبتها في البحار، وطلبتها في تخوم الأرض فلم أصبها، فبينا أنا قاعد أصبتها، فقبضتها وجاء جسده، حتى وقع على كرسي سليمان، فهو قول الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}». وهذا الحديث موضوع على رسول الله ﷺ،...

والصحيح المتعين في تفسير الفتنة هو ما جاء في الصحيحين، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل واحدة منهن شيئا، إلا واحدة جاءت بولد ساقط إحدى شقيه، فقال النبي ﷺ: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله أجمعين».

فهذا هو المتعين في تفسير الآية، وخير ما يفسر به كلام الله هو ما صح عن رسول الله، وقد بينت بعض الروايات: أن الترك كان نسيانا، والمراد بصاحبه: الملك كما جاء في بعضها". [الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد بن محمد أبو شُهبة، دار الجيل-بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م، ص270-275/ بتصرف يسير].

إضافة وتعقيب: ذكر الإمام فخر الدين الرازي (606 هـ) عند تفسيره لقوله تعالى {وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَیۡمَـٰنَ وَأَلۡقَیۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِیِّهِۦ جَسَدࣰا ثُمَّ أَنَابَ}، وجهين آخريْن ذَكَرَها أهْلُ التَّحْقِيقِ في هَذِهِ الفِتْنَةِ، وهما:

– قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ﴾ بِسَبَبِ مَرَضٍ شَدِيدٍ ألْقاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ﴿وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ﴾ مِنهُ ﴿جَسَدًا﴾ وذَلِكَ لِشِدَّةِ المَرَضِ. والعَرَبُ تَقُولُ في الضَّعِيفِ إنَّهُ لَحْمٌ عَلى وضَمٍ وجِسْمٌ بِلا رُوحٍ ﴿ثُمَّ أنابَ﴾ أيْ رَجَعَ إلى حالِ الصِّحَّةِ، فاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الوُجُوهِ ولا حاجَةَ البَتَّةَ إلى حَمْلِهِ عَلى تِلْكَ الوُجُوهِ الرَّكِيكَةِ.

– أقُولُ لا يَبْعُدُ أيْضًا أنْ يُقالَ إنَّهُ ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعالى بِتَسْلِيطِ خَوْفٍ أوْ تَوَقُّعِ بَلاءٍ مِن بَعْضِ الجِهاتِ عَلَيْهِ، وصارَ بِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ الخَوْفِ كالجَسَدِ الضَّعِيفِ المُلْقى عَلى ذَلِكَ الكُرْسِيِّ، ثُمَّ إنَّهُ أزالَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الخَوْفَ، وأعادَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ القُوَّةِ وطِيبِ القَلْبِ.

تعقيب: أمّا الوجهُ الأوّلُ فلَمْ يذكرْ لنا الإمامُ الرازي أيَّ دليلٍ عليه من الكتاب أو السنة الصحيحة، وأمّا الوجه الثاني فإنَّه لا دليلَ عليه أيضاً، وينافي مقام النُّبُوَّةِ!

2) قال تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِی وَهَبۡ لِی مُلۡكࣰا لَّا یَنۢبَغِی لِأَحَدࣲ مِّنۢ بَعۡدِیۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} [ص: 35].

قال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره «مفاتيح الغيب»: "أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ فاعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا الكَلامَ المُتَقَدِّمَ عَلى صُدُورِ الزَّلَّةِ مِنهُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّهُ لَوْلا تَقَدُّمِ الذَّنْبِ لَما طَلَبَ المَغْفِرَةَ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ الإنْسانَ لا يَنْفِكُ البَتَّةَ عَنْ تَرْكِ الأفْضَلِ والأوْلى، وحِينَئِذٍ يَحْتاجُ إلى طَلَبِ المَغْفِرَةِ لِأنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، ولِأنَّهم أبَدًا في مَقامِ هَضْمِ النَّفْسِ، وإظْهارِ الذِّلَّةِ والخُضُوعِ، كَما قالَ ﷺ: «إنِّي لِأسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»  ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الكَلِمَةِ هَذا المَعْنى واللَّهُ أعْلَمُ".

ثامناً: ما ورد في شأن يونس عليه السلام:

قال تعالى: {وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ. فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَ ٰلِكَ نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [الأنبياء: 87-88].

* قال القاضي عياض (ت 544 هـ): "وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ يُونُسَ عليه السلام أنه وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذابَ عَنْ رَبِّهِ، فَلَمَّا تَابُوا كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا فَذَهَبَ مُغَاضِبًا.

فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ، وَإِنَّمَا فِيهِ أنه دعا عليهم بالهلاك.. والدعاء ليس بخير يُطْلَبُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، لَكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إن العذاب مصبّحكم وقت كذا وكذا..

فَكَانَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ.. ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَتَدَارَكَهُمْ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ} الْآيَةَ..

وَرُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ رَأَوْا دَلَائِلَ الْعَذَابِ وَمَخَايِلَهُ .. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية – 1407 هـ، ج2 ص304-305].

وقال في مكان آخر: "وَأَمَّا قِصَّةُ يُونُسَ: فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ نَصٌّ عَلَى ذَنْبٍ وَإِنَّمَا فِيهَا {أَبَقَ} {وذهب مغاضبا}، وقد تكلمنا عليه..

وقيل: إنما نقم الله خُرُوجَهُ عَنْ قَوْمِهِ فَارًّا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ.

وَقِيلَ: بَلْ لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ، ثُمَّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلْقَاهُمْ بِوَجْهِ كَذَّابٍ أَبَدًا.

وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ كَذَبَ فَخَافَ ذَلِكَ.

وَقِيلَ: ضَعُفَ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْهُمْ .. وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ، إِلَّا عَلَى قَوْلٍ مَرْغُوبٍ عَنْهُ". [المصدر السابق، ج2 ص369-370].

* وقال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ القائِلُونَ بِجَوازِ الذَّنْبِ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وُجُوهٍ:

أحَدُها: أنَّ أكْثَرَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّهُ ذَهَبَ يُونُسُ مُغاضِبًا لِرَبِّهِ، ويُقالُ: هَذا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ووَهْبٍ، واخْتِيارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ ومُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ؛ فَإذا كانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أنَّ مُغاضَبَتَهُ لِلَّهِ تَعالى مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ هَذِهِ المُغاضَبَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَ اللَّهِ تَعالى بَلْ كانَتْ مَعَ ذَلِكَ المَلِكِ أوْ مَعَ القَوْمِ، فَهو أيْضًا كانَ مَحْظُورًا؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ [القلم: 48] وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ مِن يُونُسَ كانَ مَحْظُورًا.

وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ شاكًّا في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى.

وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ والظُّلْمُ مِن أسْماءِ الذَّمِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ [هود: 18].

ورابِعُها: أنَّهُ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ الذَّنْبُ، فَلِمَ عاقَبَهُ اللَّهُ بِأنْ ألْقاهُ في بَطْنِ الحُوتِ؟.

وخامِسُها: قَوْلُهُ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى: ﴿فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُلِيمٌ﴾ [الصافات: 142]، والمُلِيمُ هو ذُو المَلامَةِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَهو مُذْنِبٌ.

وسادِسُها: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ فَإنْ لَمْ يَكُنْ صاحِبُ الحُوتِ مُذْنِبًا لَمْ يَجُزِ النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِ، وإنْ كانَ مُذْنِبًا فَقَدْ حَصَلَ الغَرَضُ.

وسابِعُها: أنَّهُ قالَ: ﴿ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ وقالَ: ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]؛ فَلَزِمَ أنْ لا يَكُونَ يُونُسُ مِن أُولِي العَزْمِ، وكانَ مُوسى مِن أُولِي العَزْمِ، ثُمَّ قالَ: في حَقِّهِ: «لَوْ كانَ ابْنُ عِمْرانَ حَيًّا ما وسِعَهُ إلّا اتِّباعِي»، وقالَ في يُونُسَ: «لا تُفَضِّلُونِي عَلى يُونُسَ بْنِ مَتّى»، وهَذا خارِجٌ عَنْ تَفْسِيرِ الآيَةِ.

والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ مَن غاضَبَهُ، لَكِنّا نَقْطَعُ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ عَلى نَبِيِّ اللَّهِ أنْ يُغاضِبَ رَبَّهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَن يَجْهَلُ كَوْنَ اللَّهِ مالِكًا لِلْأمْرِ والنَّهْيِ، والجاهِلُ بِاللَّهِ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وأمّا ما رُوِيَ أنَّهُ خَرَجَ مُغاضِبًا لِأمْرٍ يَرْجِعُ إلى الِاسْتِعْدادِ، وتَناوُلِ النَّفْلِ، فَمِمّا يَرْتَفِعُ حالُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَنْهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إذا أمَرَهم بِشَيْءٍ فَلا يَجُوزُ أنْ يُخالِفُوهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36] وقَوْلهُ: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65] إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ﴾ [النساء: 65]. فَإذا كانَ في الِاسْتِعْدادِ مُخالَفَةٌ لَمْ يَجُزْ أنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنهم، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ لا يَجُوزُ صَرْفُ هَذِهِ المُغاضَبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ خَرَجَ مُغاضِبًا لِغَيْرِ اللَّهِ، والغالِبُ أنَّهُ إنَّما يُغاضِبُ مَن يَعْصِيهِ فِيما يَأْمُرُهُ بِهِ فَيَحْتَمِلُ قَوْمَهُ أوِ المَلِكَ أوْ هُما جَمِيعًا، ومَعْنى مُغاضَبَتِهِ لِقَوْمِهِ أنَّهُ أغْضَبَهم بِمُفارَقَتِهِ لِخَوْفِهِمْ حُلُولَ العَذابِ عَلَيْهِمْ عِنْدَها، وقَرَأ أبُو شَرَفٍ ”مُغْضَبًا“.

أمّا قَوْلُهُ: مُغاضَبَةُ القَوْمِ أيْضًا كانَتْ مَحْظُورَةً؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ قُلْنا: لا نُسَلِّمُ أنَّها كانَتْ مَحْظُورَةً، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ بِتَبْلِيغِ تِلْكَ الرِّسالَةِ إلَيْهِمْ، وما أمَرَهُ بِأنْ يَبْقى مَعَهم أبَدًا فَظاهِرُ الأمْرِ لا يَقْتَضِي التَّكْرارَ، فَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُ مِن بَيْنِهِمْ مَعْصِيَةً، وأمّا الغَضَبُ فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ مَنهِيًّا عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَظَنَّ أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ، مِن حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ إلّا غَضَبًا لِلَّهِ تَعالى، وأنَفَةً لِدِينِهِ، وبُغْضًا لِلْكُفْرِ وأهْلِهِ، بَلْ كانَ الأوْلى لَهُ أنْ يُصابِرَ ويَنْتَظِرَ الإذْنَ مِنَ اللَّهِ تَعالى في المُهاجَرَةِ عَنْهم، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ كَأنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ أفْضَلَ المَنازِلِ وأعْلاها.

والجَوابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الثّانِيَةِ: وهي التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أنْ نَقُولَ مَن ظَنَّ عَجْزَ اللَّهِ تَعالى فَهو كافِرٌ، ولا خِلافَ أنَّهُ لا يَجُوزُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلى آحادِ المُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ إلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَإذَنْ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وفِيهِ وُجُوهٌ:

أحَدُها: ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ﴾ [العنكبوت: 62] أيْ يُضَيِّقُ: ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطَّلاقِ: 7 ] أيْ ضُيِّقَ: ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: 16] أيْ ضَيَّقَ ومَعْناهُ أنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ.

واعْلَمْ أنَّ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ تَصِيرُ الآيَةُ حُجَّةً لَنا، وذَلِكَ لِأنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ ظَنَّ أنَّهُ مُخَيَّرٌ إنْ شاءَ أقامَ وإنْ شاءَ خَرَجَ، وأنَّهُ تَعالى لا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ في اخْتِيارِهِ، وكانَ في المَعْلُومِ أنَّ الصَّلاحَ في تَأخُّرِ خُرُوجِهِ، وهَذا مِنَ اللَّهِ تَعالى بَيانٌ لِما يَجْرِي مَجْرى العُذْرِ لَهُ مِن حَيْثُ خَرَجَ، لا عَلى تَعَمُّدِ المَعْصِيَةِ، لَكِنْ لِظَنِّهِ أنَّ الأمْرَ في خُرُوجِهِ مُوَسَّعٌ يَجُوزُ أنْ يُقَدِّمَ ويُؤَخِّرَ، وكانَ الصَّلاحُ خِلافَ ذَلِكَ.

وثانِيها: أنْ يَكُونَ هَذا مِن بابِ التَّمْثِيلِ، بِمَعْنى فَكانَتْ حالَتُهُ مُمَثَّلَةً بِحالَةِ مَن ظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ في خُرُوجِهِ مِن قَوْمِهِ مِن غَيْرِ انْتِظارٍ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى.

وثالِثُها: أنْ تُفَسَّرَ القُدْرَةُ بِالقَضاءِ، فالمَعْنى فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشِدَّةٍ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ والكَلْبِيِّ، ورِوايَةُ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - واخْتِيارُ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ، قالَ الزَّجّاجُ: ”نَقْدِرَ“ بِمَعْنى نُقَدِّرُ. يُقالُ: قَدَرَ اللَّهُ الشَّيْءَ قَدْرًا وقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، فالقَدْرُ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ، وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ والزُّهْرِيُّ: ”فَظَنَّ أنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ“ بِضَمِّ النُّونِ والتَّشْدِيدِ؛ مِنَ التَّقْدِيرِ، وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِالتَّشْدِيدِ عَلى المَجْهُولِ وقَرَأ يَعْقُوبُ: ”يُقْدَرُ عَلَيْهِ“ بِالتَّخْفِيفِ عَلى المَجْهُولِ.

ورُوِيَ أنَّهُ دَخَلَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - عَلى مُعاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقالَ مُعاوِيَةُ: لَقَدْ ضَرَبَتْنِي أمْواجُ القُرْآنِ البارِحَةَ فَغَرِقْتُ فِيها، فَلَمْ أجِدْ لِنَفْسِي خَلاصًا إلّا بِكَ فَقالَ: وما هي؟ قالَ: يَظُنُّ نَبِيُّ اللَّهِ أنْ لَنْ يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - هَذا مِنَ القَدْرِ لا مِنَ القُدْرَةِ.

ورابِعُها: أنْ لَنْ نَقْدِرَ: أيْ فَظَنَّ أنْ لَنْ نَفْعَلَ؛ لِأنَّ بَيْنَ القُدْرَةِ والفِعْلِ مُناسِبَةً فَلا يَبْعُدُ جَعْلُ أحَدِهِما مَجازًا عَنِ الآخَرِ.

وخامِسُها: أنَّهُ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَّوْبِيخِ، مَعْناهُ: أفَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ.

وسادِسُها: أنَّ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: هَذِهِ الواقِعَةُ كانَتْ قَبْلَ رِسالَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ هَذا الظَّنُّ حاصِلًا قَبْلَ الرِّسالَةِ، ولا يَبْعُدُ في حَقِّ غَيْرِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ أنْ يَسْبِقَ ذَلِكَ إلى وهْمِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطانِ، ثُمَّ إنَّهُ يَرُدُّهُ بِالحُجَّةِ والبُرْهانِ.

والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ: وهو التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ فَهو أنْ نَقُولَ: إنّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلى ما قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلا كَلامَ، ولَوْ حَمَلْناهُ عَلى ما بَعْدَها فَهي واجِبَةُ التَّأْوِيلِ؛ لِأنّا لَوْ أجْرَيْناها عَلى ظاهِرِها، لَوَجَبَ القَوْلُ بِكَوْنِ النَّبِيِّ مُسْتَحِقًّا لِلَّعْنِ، وهَذا لا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وإذا وجَبَ التَّأْوِيلُ فَنَقُولُ: لا شَكَّ أنَّهُ كانَ تارِكًا لِلْأفْضَلِ مَعَ القُدْرَةِ عَلى تَحْصِيلِ الأفْضَلِ، فَكانَ ذَلِكَ ظُلْمًا.

والجَوابُ عَنِ الرّابِعِ: أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ كانَ عُقُوبَةً إذِ الأنْبِياءُ لا يَجُوزُ أنْ يُعاقَبُوا، بَلِ المُرادُ بِهِ المِحْنَةُ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ يَذْكُرُونَ في كُلِّ مَضَرَّةٍ تُفْعَلُ لِأجْلِ ذَنْبٍ أنَّها عُقُوبَةٌ.

والجَوابُ عَنِ الخامِسِ: أنَّ المَلامَةَ كانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِ الأفْضَلِ".

* وقال الإمامُ النسفي (710 هـ) في تفسيره «مدارك التنزيل وحقائق التأويل»: "﴿وَذا النُونِ﴾ أيِ اذْكُرْ صاحِبَ الحُوتِ والنُونُ الحُوتُ فَأُضِيفَ إلَيْهِ ﴿إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا﴾ حالٌ أيْ: مُراغِمًا لِقَوْمِهِ ومَعْنى مُغاضَبَتِهِ لِقَوْمِهِ أنَّهُ أغْضَبَهم بِمُفارَقَتِهِ لِخَوْفِهِمْ حُلُولَ العِقابِ عَلَيْهِمْ عِنْدَها رُوِيَ: أنَّهُ بَرِمَ بِقَوْمِهِ لِطُولِ ما ذَكَّرَهم فَلَمْ يَتَّعِظُوا وأقامُوا عَلى كُفْرِهِمْ فَراغَمَهم وظَنَّ أنَّ ذَلِكَ يَسُوغُ حَيْثُ لَمْ يَفْعَلْهُ إلّا غَضَبًا لِلَّهِ وبُغْضًا لِلْكُفْرِ وأهْلِهِ وكانَ عَلَيْهِ أنْ يُصابِرَ ويَنْتَظِرَ الإذْنَ مِنَ اللهِ تَعالى في المُهاجَرَةِ عَنْهم فابْتُلِيَ بِبَطْنِ الحُوتِ".

* وقال الشوكاني (1250 هـ) في تفسيره «فتح القدير»: "﴿إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا﴾ أيِ اذْكُرْ ذا النُّونِ وقْتَ ذَهابِهِ مُغاضِبًا: أيْ مُراغِمًا. قالَ الحَسَنُ والشَّعْبِيُّ وسَعْدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذَهَبَ مُغاضِبًا لِرَبِّهِ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والقُتَيْبِيُّ والمَهْدَوِيُّ. وحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قالَ النَّحّاسُ: ورُبَّما أنْكَرَ هَذا مِن لا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وهو قَوْلٌ صَحِيحٌ. والمَعْنى: مُغاضِبًا مِن أجْلِ رَبِّهِ، كَما تَقُولُ غَضِبْتُ لَكَ: أيْ مِن أجْلِكَ. وقالَ الضَّحّاكُ: ذَهَبَ مُغاضِبًا لِقَوْمِهِ. وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمُ الأخْفَشُ: إنَّما خَرَجَ مُغاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كانَ في وقْتِهِ واسْمُهُ حِزْقِيا، وقِيلَ: لَمْ يُغاضِبْ رَبَّهُ ولا قَوْمَهُ ولا المَلِكَ، ولَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن غَضِبَ إذا أنِفَ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا وعَدَ قَوْمَهُ بِالعَذابِ وخَرَجَ عَنْهم تابُوا وكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ العَذابَ فَلَمّا رَجَعَ وعَلِمَ أنَّهم لَمْ يُهْلَكُوا أنِفَ مِن ذَلِكَ فَخَرَجَ عَنْهم".

تاسعاً: ما ورد في شأن أحد الأنبياء:

عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ». [متفق عليه].

قال أبو العباس أحمد القرطبي (ت 656 هـ) في «باب كراهية قتل النمل إلا أن يكثر ضررها»: "وظاهر هذا الحديث: أن هذا النبيَّ إنَّما عاتبه الله تعالى حيث انتقم لنفسه بإهلاك جَمْع آذاه واحدٌ منه، وكان الأَوْلى به الصبر، والصفح، لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذٍ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التَّشفي الطبيعي لم يعاتب، والله تعالى أعلم، لكن: لما انضاف إليه التَّشفي الذي دلَّ عليه سياق الحديث عُوتب عليه. والذي يؤيد ما ذكرنا: التمسك بأصل عصمة الأنبياء، وأنَّهم أعلمُ النَّاس بالله وبأحكامه، وأشدُّهم له خشية". [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، أبو العباس أحمد القرطبي، حققه وعلق عليه وقدم له: محيي الدين ديب ميستو وآخرون، دار ابن كثير/ دمشق - بيروت، دار الكلم الطيب/ دمشق - بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م، ج5 ص542-543].

ملحق: استشهد بعضُ أعداء السُّنَّةِ على عدم عصمة الأنبياء ببعض الآيات، وهي – عند أدنى نظر – لا تصلح للاستشهاد، نذكر منها:

* قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَاۤءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ یُجَـٰدِلُنَا فِی قَوۡمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لَحَلِیمٌ أَوَّ ٰ⁠هࣱ مُّنِیبࣱ. یَـٰۤإِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَـٰذَاۤ إِنَّهُۥ قَدۡ جَاۤءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِیهِمۡ عَذَابٌ غَیۡرُ مَرۡدُودࣲ﴾ [هود 74-76].

قالوا: "إنّ إبراهيم تجرّأ على الله، وأساء الأدب معه، بجدالِه مع ملائكته"!

وهل كلُّ جدال يُعَدَّ خروجاً عن الأدب؟

قال الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره «أضواء البيان»: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجاءَتْهُ البُشْرى يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾، لَمْ يُبَيِّنْ هُنا ما جادَلَ بِهِ إبْراهِيمُ المَلائِكَةَ في قَوْمِ لُوطٍ، ولَكِنَّهُ أشارَ إلَيْهِ في ”العَنْكَبُوتِ“ بِقَوْلِهِ: ﴿قالُوا إنّا مُهْلِكُو أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إنَّ أهْلَها كانُوا ظالِمِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ فِيها لُوطًا قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ بِمَن فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ﴾ الآيَةَ [العنكبوت: 31-32].

فَحاصِلُ جِدالِهِ لَهم أنَّهُ يَقُولُ: إنْ أهْلَكْتُمُ القَرْيَةَ وفِيها أحَدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ أهْلَكْتُمْ ذَلِكَ المُؤْمِنَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، فَأجابُوهُ عَنْ هَذا بِقَوْلِهِمْ ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِمَن فِيها﴾ الآيَةَ.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَمَّا جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوۤا۟ إِنَّا مُهۡلِكُوۤا۟ أَهۡلِ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ. قَالَ إِنَّ فِیهَا لُوطࣰاۚ قَالُوا۟ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَن فِیهَاۖ لَنُنَجِّیَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾ [الذاريات: 35-36]".

* قوله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَإِذۡ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱئۡتِ ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ. قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَۚ أَلَا یَتَّقُونَ. قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ. وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَـٰرُونَ. وَلَهُمۡ عَلَیَّ ذَنۢبࣱ فَأَخَافُ أَن یَقۡتُلُونِ﴾ [الشعراء: 10-14].

وقوله تعالى عنه أيضاً: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰۤ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِی مِنۢ بَعۡدِیۤ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِیهِ یَجُرُّهُۥۤ إِلَیۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِی وَكَادُوا۟ یَقۡتُلُونَنِی فَلَا تُشۡمِتۡ بِیَ ٱلۡأَعۡدَاۤءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِی مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [الأعراف: 150].

قالوا: "إنّ موسى عليه السلام كان يسيطر عليه الخوف من الأعداء، وكان سريع الغضب، وهذا دليل على ضعف إيمانه، ومُخِلٌّ بعصمته"!

إن الغضب طبيعي في البشر، وهو محمودٌ إذا كان على دين الله، والخوف من العدو غيْر مذموم، وهو من صفات البشر، قال القاضي عياض: "فَظَوَاهِرُهُمْ (أي: الأنبياء) وَأَجْسَادُهُمْ وَبِنْيَتُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بأوصاف البشر، طارئٌ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَالْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَنُعُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص225].

* قوله تعالى: ﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا. فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا﴾ [الشمس: 7-8].

قالوا: "إن الأنبياء لهم نفس بشرية، وكلّ نفس بشرية قابلةٌ لفعل الخير، وقابلة لفعل الشّر والوقوع في الذنوب والمعاصي، وهذا دليل على عدم عصمة الأنبياء"!

ولكن بما أن اللهَ ألْهمَ كل نفس فجورها تقواها، فما الدليلُ عندهم أن الأنبياء لا بُدَّ أنّ يصدرَ منهم الذنوب والمعاصي، هذا جهل بأسلوب اللغة العربية، ويدلُّ على خلَلٍ في التفكير المنطقي عند هؤلاء القوم، قال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ أي: عرّفها طريق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو، كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: 3]".

وقال أبو السعود (982 هـ) في تفسيره: "﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ أيْ: أفْهَمَها إيّاهُما، وعَرَّفَها حالَهُما مِنَ الحُسْنِ والقُبْحِ وما يُؤَدِّي إلَيْهِ كُلٌّ مِنهُما، ومَكَّنَها مِنَ اخْتِيارِ أيِّهِما شاءَتْ".

* قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ ٱلۡمُكَذِّبِینَ. وَدُّوا۟ لَوۡ تُدۡهِنُ فَیُدۡهِنُونَ. وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافࣲ مَّهِینٍ﴾ [القلم: 8-9].

قالوا: "إن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتقرب الى الكفار في بداية البعثة، وأوقعه هذا في أن يطيعهم"!

وهنا نترك الجواب للإمامِ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره، حيث جاء فيه: "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ ما عَلَيْهِ الكُفّارُ في أمْرِ الرَّسُولِ ونِسْبَتِهِ إلى الجُنُونِ مَعَ الَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ الكَمالِ في أمْرِ الدِّينِ والخُلُقِ، أتْبَعَهُ بِما يَدْعُوهُ إلى التَّشَدُّدِ مَعَ قَوْمِهِ، وقَوّى قَلْبَهُ بِذَلِكَ مَعَ قِلَّةِ العَدَدِ وكَثْرَةِ الكُفّارِ، فَإنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِن أوائِلِ ما نَزَلَ فَقالَ: ﴿فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ﴾ يَعْنِي رُؤَساءَ أهْلِ مَكَّةَ، وذَلِكَ أنَّهم دَعَوْهُ إلى دِينِ آبائِهِ فَنَهاهُ اللَّهُ أنْ يُطِيعَهم، وهَذا مِنَ اللَّهِ إلْهابٌ وتَهْيِيجٌ لِلتَّشَدُّدِ في مُخالَفَتِهِمْ".

وقال الإمامُ أبي السعود (982 هـ) حيث قال في تفسيره: "وهَذا تَهْيِيجٌ وإلْهابٌ لِلتَّصْمِيمِ عَلى مُعاصاتِهِمْ، أيْ: دُمْ عَلى ما أنْتَ عَلَيْهِ مِن عَدَمِ طاعَتِهِمْ وتَصَلَّبْ في ذَلِكَ، أوْ نَهْيٌ عَنْ مُداهَنَتِهِمْ ومُداراتِهِمْ بِإظْهارِ خِلافِ ما في ضَمِيرِهِ ﷺ اسْتِجْلابًا لِقُلُوبِهِمْ، لا عَنْ طاعَتِهِمْ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى".

انتهى البحث بتوفيق الله ونعمته، والحمد لله ربِّ العالمين.

  • السبت AM 11:37
    2023-05-20
  • 885
Powered by: GateGold