المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414996
يتصفح الموقع حاليا : 315

البحث

البحث

عرض المادة

القوميــــــة العضويــــــة

«القومية العضوية» هي شكل القومية التي يُعبِّر الشعب من خلالها عن نفسه ككيان عضوي متماسك، يحوي داخله مركزه، فهو مرجعية ذاته، أي أنه يدور في إطار المرجعية الكامنة، والنموذج الكامن وراء هذه الفكرة هو نموذج عضوي مادي واحد. والشعب العضوي والقومية العضوية هما البديل والمقابل العلماني والحلولي الكموني الواحدي لفكرة الجماعة الدينية أو الأمة بالمفهوم الديني. ومفهوم القومية العضوية مفهوم رحمي تماماً يُلغي إرادة الإنسان الفرد وحريته. وقد ظهرت فكرة القومية العضوية في الغرب، خصوصاً في ألمانيا في القرن التاسع عشر، تحت تأثير الفكر المعادي للاستنارة. والقومية العضوية تدور في إطار الأفكار التالية:

1 ـ الشعب هو كلٌ عضوي متماسك يشبه علاقة أعضائه، الواحد بالآشخر وبمجموع الشعب، علاقة أجزاء الكائن الحي بعضه بالبعض الآخر، ومن ثم فإن الشعب الحقيقي لا يقبل التفتيت ولا يمكن فصل أحد أعضائه عنه. وإذا غيَّر أحد أعضاء الفولك مكانه وانتقل من ألمانيا إلى روسيا مثلاً فهو يظل ألمانياً.

2 ـ الانتماء القومي لهذا الشعب ليس مسألة اختيار أو دعاية وإنما رابطة كلية عضوية حتمية تكاد تكون بيولوجية في حتميتها (إن لم تكن كذلك بالفعل) تربط بين الفرد والجماعة التي يتبعها، ولذا فإن الانتماء لشعب معيَّن مسألة تُورَّث ولا تُكتسَب.

3 ـ لا تقتصر الرابطة العضوية على العلاقة بين الفرد والشعب وإنما تمتد لتربط بين الشعب ككل والأرض التي يعيش عليها وبها. فالشعب العضوي يستمد الحياة من أرضه وتربته، وهي أيضاً تستمد منه الحياة، فهو وحده القادر على تعميرها.

4 ـ تمتد العلاقة العضوية لتشمل أيضاً الأشكال الثقافية والاجتماعية التي تسـود بين أعضاء هذا الشعب العضوي والتي أبدعها أعضاؤه على مـر التاريخ. فهـذه الأشكال تُعبِّر عن عبقرية هذا الشعب وروحه (بالألمانيـة: فولكس جايست Volksgeist)، ولهذا السبب فإن الآخر الغريب لا يمكنه أن يمتلك ناصية الخطاب الحضاري لهذا الشعب مهما بذل من جهد، فثقافة الشعب العضوي مسألة موروثة تجري في الدم تقريباً ولا يمكن اكتسابها مهما بلغ الآخر من ذكاء ومهارة.

5 ـ والشعب العضوي يحوي داخله (وداخل أرضه وتراثه) عناصر قوته وانحلاله وتَطوُّره ورُقيِّـه، كما أن قوانين حركته التي ينمو على أساسها كامنة فيه أيضاً، أي أنه يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة. ويُلاحَظ اختفاء كل المسافات بين الشعب ومصادر قوته وأرضه وتراثه، فالجميع يُكوِّنون كُلاًًّ متماسكاً مستمراً عضوياً لا ثغرات فيه ولا انقطاع.

6 ـ ويمكننا أن نقول إن فكرة الشعب العضوي (والقومية العلمانية) ككل هي حلولية مرحلة وحدة الوجود المادية (من النوع الثنائي الصلب). فالمُطلَق حلَّ في المادة (الأرض والشعب والتراث أو الشعب المرتبط بأرضه وتراثه) وفقد تَجاوُزه وتنزهَّه وذاب في الشعب، بحيث أصبح الشعب هو ذاته القيمة المطلقة ومرجعية ذاته. ولعل النمط الكامن الأساسي وراء فكرة الشعب العضوي هو النمط الذي ورد في أسفار موسى الخمسة، فالعبرانيون أمة أو قبيلة اختارها الإله وحل فيها أو سكن في وسطها، وهو إله مقصور على أعضاء هذه القبيلة، ولذا كان ينتقل معهم في ترحالهم (أو كانوا يحملونه معهم في سفينة العهد) وكان يساعدهم (وحدهم دون سواهم) ضد أعدائهم ويغار عليهم، وكانوا لا يترددون في الضغط عليه كي يستجيب إلى طلباتهم. وقد تعدلت هذه الصورة قليلاً بعد ذلك في كتب الأنبياء. ولكن أسفار موسى الخمسة ظلت أكثر أسفار العهد القديم قداسة، وأصبح تاريخها المقدَّس، وما جاء فيها من صُوَر حلولية كمونية عضوية من أهم مفردات الوجدان الغربي. ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، أعيد إنتاج هذه الصورة القَبَلية العضوية الحلولية على هيئة الفكر العلماني القومي. وقد أَحَلَّ هذا الفكر، محل الإله الواحد المتجاوز (المُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ، مركز الكون، المفارق له)، كياناً عضوياً متماسكاً هو الشعب أو الأمة التي تحوي مركزها داخلها، فهي موضع الحلول والكمون وفوق الجميع. وأصبحت الأمة، ذلك الكيان العضوي المُنغلق على ذاته، مصدر السلطات وموضع التقديس، وأصبحت الهوية القومية والحفاظ عليها (بغض النظر عن أية قيم) قيمة مطلقة ومرجعية نهائية (تَوثُّن الذات كما سماها أحد المفكرين العرب). بل وأصبح تراب الوطن أو أرضه موضع التقديس، فهو الرقعة التي تتحقق عليها الذات القومية المقدَّسة. وقد تم التعبير عن هذا من خلال مفهوم الدم والتربة: الدم الذي يجري في عروق أبناء الشعب والتراب أو التربة التي يعيش عليها، وهما العنصران اللذان يجسدان فكرة الوطن. وأصبح الصالح العام لهذا الوطن، وهذه الدولة التي تمثله وتمثل الشعب، هو المُطلَق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الخير الأعظم والمُطلَق الأوحد، ولهذا فإن العمل ضد صالح الدولة وإفشاء أسرارها (المقدَّسة المُطلَقة) خيانة عظمى عقوبته عادةً الإعدام. وباختصار شديد، أصبح الوطن المقدَّس (والشعب المقدَّس) مرجعية ذاته وأصبحت مصلحته قيمة نهائية، ومن ثم أصبح من المستحيل محاكمة أي شعب من منظور منظومة قيمية خارجة عنه.

7 ـ أفرزت فكرة الشعب العضوي والقومية العضوية مجموعة شعارات ومفردات ذات طابع عضوي حلولي كموني واحدي (شبه صوفي) عنصري،مثل:«أمتنا فوق الجميع»، و«الأمة ذات الرسالة الخالدة»،«المصير القومي الواحد المحتوم»، «المجال الحيوي للشعب».

8 ـ مفهوم الشعب العضوي مفهوم استبعادي، نسق مغلق لا يسمح بأي شكل من أشكال عدم التجانس ويفصل بحدة بين أعضاء الشعب العضوي والشعوب الأخرى. كما أن أعضاء الأقليات الذين يعيشون بين أعضاء هذا الشعب يصبحون بالمثل شعباً عضوياً، ولكنهم شعب عضوي منبوذ.

9 ـ فكرة الشعب العضوي والقومية العضوية تُترجم عادةً إلى فكر عرْقي يؤكد التفاوت بين الناس والأعراق، فينسب التَميُّز للأنا الجماعية العضوية والتدني للآخر. فالأنا هي تَجسُّد المركز الكامن في العالم، والآخر مجرد مادة وحسب، والأنا هو المرجعية النهائية والمقدَّس، والآخر هو التابع المباح. ويشكل الفكر العضوي الاستبعادي الأرضية الفلسفية للرؤية العنصرية داخل أوربا والرؤية الإمبريالية خارجها. وقد حقَّق المفهوم شيوعاً كبيراً في أوربا ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر. وكانت الكتب العنصرية أكثر الكتب شيوعاً في أوربا في تلك الفترة. ومن هنا، فإن الفكر الإمبريالي، والفكر النازي والصهيوني، وكذلك فكر أعداء اليهود، فكر عضوي.

10ـ يُعبِّر الشعب العضوي عن إرادته من خلال الدولة القومية المطلقة التي تكون مرجعية ذاتها، ويُعبِّر عن هذه الإرادة في حالة النُظُم الشمولية من خلال إرادة الزعيم.

ويُميِّز بعض المؤرخين بين القومية العضوية من جهة والقومية الليبرالية (التعاقدية) من جهة أخرى. فإذا كان أعضاء القومية العضوية لا يختارون مسألة انتمائهم القومي بل يرثونه بشكل يكاد يكون بيولوجياً، فإن أعضاء القومية الليبرالية ـ حسب رأي هؤلاء المؤرخين ـ يختارون هذا الانتماء ويدخلون في تعاقد يمكن فكّه على الأقل من الناحية النظرية. ويُصنَّف الفكر القومي الألماني والسلافي بوصفه فكراً عضوياً يُبشر بقومية عضوية، وذلك على عكس النظريات القومية في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا. ونحن نرى أن التمييز قد يفسر بعض نقط الاختلاف التي لا أهمية لها، ولكنه يُخبئ نقط تشابه ذات أهمية محورية. كما نذهب إلى أن الحضارة الغربية العلمانية العلمية ككل تدور في إطار عضوي وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فالنموذج يحوي مركزه داخله، وقد تَقلُّ درجة تَماسُكه واستبعاديته وحلوليته في حالة التشكيلين الحضاريين الفرنسي والإنجليزي (والقومية الفرنسية والإنجليزية)، وقد تزيد هذه الدرجة في حالة التشكيلين الألماني والسلافي (الجامعة الألمانية والجامعة السلافية) وفي حالة الصهيونية. ولكن الإطار الذي يدور في إطاره الجميع هو المرجعية المادية الكامنة والحلولية العضوية، فتصبح الأمة مرجعية ذاتها، وتصبح هي ذاتها مصدر شرعيتها، وتصبح إرادتها مصدر وحدتها وتَماسُكها (تماماً كما أن إرادة القوة في المنظومة النيتشوية هي مصدر تَماسُك الفرد ووحدته وهويته).

الشعب العضوي المنبوذ
Pariah Volk
«الشعب العضوي المنبوذ» عبارة قمنا بصياغتها للتعبير عن نموذج تفسيري كامن في معظم الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود. ويعود هذا النموذج إلى الفكر الألماني الرومانسي الذي طرح فكرة الشعب العضوي (بالألمانية: فولك Volk)، والتي ترى أن الانتماء القومي ليس مسألة اختيار أو إيمان، وإنما هو رابطة كلية عضوية حتمية تكاد تكون بيولوجية في حتميتها بين الفرد والجماعة التي يتبعها والتربة (الأرض) التي تتواجد عليها هذه الجماعة، ومن هنا الحديث عن التربة والدم. وحسب هذا النموذج، تتسم الأشكال الثقافية والاجتماعية المختلفة التي تسود بين أعضاء هذه الجماعة بأنها هي الأخرى مترابطة ترابطاً عضوياً لا تنفصم عراه، وبأنها فريدة تُعبِّر عن عبقرية الجماعة. ويؤكد نموذج الشعب العضوي الاختلافات بين الجماعات البشرية المختلفة على حساب المساواة بين أعضاء الجنس البشري. ولهذا نجد أنه أفرز مجموعة شعارات ذات طابع عضوي عنصري شبه صوفي، مثل: روح الشعب - أمة واحدة ذات رسالة خالدة ـ المصير القومي الواحد الحتمي والأمة فوق الجميع - المجال الحيوي للشعب. وقد استُخدم هذا النموذج لتبرير التوسع ولاستبعاد الآخرين بل وإبادتهم. كما تَحكَّم في إدراك الإنسان الغربي لكل المجموعات البشرية وضمنهم اليهود، بحيث أصبح هناك شـعب عضوي ألماني وشـعب عضوي إنجليزي وشعب عضوي يهودي، كل منها مترابط ترابطاً عضوياً ويضرب بجذوره في تربته. وقد تَبنَّى الفكر الصهيوني هذا النموذج التفسيري الذي عبَّر عنه مارتن بوبر في كتاباته حيث يجعل من الشعب العضوي ركيزة أساسية لرؤية العالم.


ومن مفارقات الأمور أن إحدى خصائص الشعوب العضوية أنها تَنبُذ العناصر الغريبة عنها والتي تُوجَد بين ظهرانيها مثل اليهود. ولهذا كان النموذج الذي أسبغ على اليهود هوية عضوية فريدة، وحوَّلهم من مجرد أقلية دينية أو جماعة دينية إلى كيان مستقل، يأخذ شكل شعب عضوي له صفات ثابتة محددة يضرب بجذوره في فلسطين، هو نفسه الذي جعل منهم مادة بشرية غريبة لم تُشكِّل قط جزءاً من التاريخ الحقيقي للغرب وإنما وقفت دائماً على هامشه. بل إن وجودهم داخل الحضارة الغربية لم يكن دائماً أمراً إيجابياً، ومن ثم فلا مكان لهم في هذه الحضارة، أي أن «الشعب العضوي» تَحوَّل إلى «شعب عضوي منبوذ». وقد أدَّى هذا النموذج إلى الهجوم على خصوصية الشعب العضوي اليهودي وإظهار مدى قبحها وضرورة القضاء عليها، فظهرت الدعاوى المعادية لليهود، كما ظهرت الدعوات إلى دمجهم في المجتمعات الغربية بعد إصلاحهم وتطبيعهم، أي بعد أن يتخلصوا من خصوصيتهم وسماتهم السلبية، بأن يتخلوا عن يهوديتهم، وهذا هو فكر عصر الاستنارة والتنوير.

ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الحلقة التي تربط بين العداء لليهودية والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وتنطلق صهيونية غير اليهود من فكرة أن الفولك أو «الشعب العضوي اليهودي» لا مكان له حقاً في العالم الغربي (وهذه هي نفسها دعوى أعداء اليهود) ولكن يمكن الاستفادة منه كأداة يمكن توظيفها لصالح الغرب في مشروعاته المختلفة التي أصبح من أهمها، مع مرور الوقت، المشروع الاستيطاني في فلسطين. ويستند نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصرين أساسيين في الحضارة الغربية:

1 ـ موقف الحضارة الغربية المسيحية من اليهود. ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي يعود إلى فكرة الشعب الشاهد، أي اليهود بوصفهم أقلية دينية رفضت المسيح، وتقف في ذُلِّها وخضوعها وتَدنِّيها شاهداً على صدق العقيدة المسيحية وعلى عظمة الكنيسة. ولذا، دافعت الكنيسة الكاثوليكية عن بقاء اليهود كجماعة مستقلة وحمتهم ضد الهجمات الشعبية حتى يقوموا بدورهم في الشهادة. ثم تحوَّلت هذه الفكرة إلى العقيدة الاسترجاعية أو الألفية في الفكر البروتستانتي، وهي عقيدة تُحوِّل اليهود إلى أداة من أدوات الخلاص إذ أنه لا يمكن أن يتم الخلاص النهائي إلا بعودة اليهود.

2 ـ الأمر الآخر الذي يعود إليه نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الدور الذي لعبه اليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا والنشاطات المالية. ويمكن القول بأن الشعب العضوي المنبوذ، في كثير من الأحوال، هو الجماعة الوظيفية التي فَقَدت وظيفتها.

ويُلاحَظ أن كلا الأمرين يضع اليهود على هامش التاريخ الغربي لا في صميمه، كما يجعلهم مجرد أداة إما للخلاص النهائي أو للربح.

ويمكن القول أيضاً بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو تعبير علماني عن فكرة الشعب المختار والشعب المقدَّس (الدينية)، فالشعب المختار شعب مقدَّس، والقداسة تعني الانفصال عن كل الشعوب، فهو شعب عضوي، ولكن إحدى علامات اختياره هي أن كل الشعوب ترفضه، فهو شعب عضوي مقدَّس منبوذ.

وقد تداخل العنصران الديني والدنيوي لبعض الوقت. ومع تَزايُد علمنة الحضارة الغربية، فَقدَ النموذج كثيراً من ديباجاته الدينية ليصبح نموذجاً دنيوياً محضاً. ومن هذا المنظور، تم الهجوم على اليهود لا باعتبارهم قتلة المسيح وإنما باعتبارهم شعباً عضوياً بالمعنى العرْقي. كما أن استخدام اليهود كوسيلة أخذ يفقد ديباجاته الدينية تدريجياً، حيث أصبح اليهودي غير مُثقَل بأية قيمة وتَحوَّل إلى أداة محضة.

ويمكننا أن نَعُدَّ مارتن لوثر من أوائل المفكرين الذين تعاملوا مع اليهود من منطلق هذا المفهوم في صيغته الدينية، فقد وصف اليهود انطلاقاً من عدائه العميق لهم بأنهم « عبء ثقيل علينا وبلاء وجودنا»، وأشـار إلى أكاذيبهم وطالب بمسـاعدتهم للعـودة إلى أرضهـم في يهـودا « فالتخلص من اليهود هو الهدف الأسمى ». ومن الواضح أن لوثر لم يكن قد أدرك بعد إمكانية الاستفادة منهم وإمكانية نفعهم. ويُعَدُّ الفيلسوف إسبينوزا من أوائل المفكرين الذين بَلْوروا هذا المفهوم في صيغته العلمانية، إذ شن هجوماً شرساً على اليهود وطالب بالقضاء على خصوصيتهم بدمجهم أو عودتهم إلى فلسطين.

وشهدت الفترة نفسها ظهور فكرة الاستفادة من «الشعب العضوي المنبوذ» كأداة. فقد دافع كرومويل عن عودة اليهود إلى إنجلترا بسبب نفعهم وإمكانية استخدامهم كجواسيس. وقد بدأت تظهر فائدة اليهود في تلك الفترة كعنصر استيطاني يمكن استخدامه في المشاريع الاستيطانية في سورينام وكايين وكوراساو.

ويُعَدُّ نموذج الشعب العضوي المنبوذ حجر الزاوية في فكر الاستنارة، فقد هاجم كلٌّ من فولتير وهولباخ اليهود على أنهم شعب عضوي له صفاته السلبية الخاصة به. وعرَّف الفيلسوف هردر اليهود بأنهم غرس طفيلي في أوربا يلتصق بكل الشعوب الأوربية ويمتص نخاعها. ويُلاحَظ وجود المفهوم نفسه في كتابات فخته الذي أكّد أيضاً الفساد الأخلاقي عند اليهود وأكد أنهم يُكوِّنون دولة داخل الدولة. ولذا، عارض منحهم الحقوق المدنية والسياسية، إذ أن ذلك لن يتحقق إلا بأن تُقطَع رؤوسهم ذات ليلة وتُوضَع مكانها رؤوس أخرى لا تحوي فكرة يهودية واحدة. وقد اقترح فخته، ومن قبله فولتير، حلاًّ صهيونياً لمشكلة الشعب العضوي المنبوذ، فقال: "لا يوجد بديل إلا بغزو أرض الميعاد وإرسالهم إليها، لأنهم لو حصلوا على حقوقهم المدنية في أوربا فإنهم سيدوسون على كل المواطنين الآخرين".

وقد بدأت تظهر في هذه الفترة فكرة نفع اليهود. وقد عبَّر الكاتب الإنجليزي أديسون، محرر مجلة الإسبكتاتور ، عن هذا الجانب من المفهوم بشكل دقيق للغاية في مقال بتاريخ 27 ديسمبر 1712 قال فيه: « إن اليهود منتشرون في جميع المناطق التجارية في العالم حتى أنهم أصبحوا الأداة التي تتحدث من خلالها الأمم التي تفصل بينها مسافات شاسعة، فهم مثل الأوتاد والمسامير في بناء شامخ. ورغم أنهم بلا قيمة في حد ذاتهم، فإن أهميتهم مطلقة لأنهم يحفظون للهيكل كله تماسكه ». وما يهمه من اليهود كشعب عضوي، إذن، هو كونهم أداة مهمة وحسب. ولذلك فهو لا يَشُنُّ عليهم هجوماً ولا يُشهِّر بهم، فما يهمه هو توظيف هذه الكتلة البشرية. وستتكفل عملية التوظيف هذه بتخليص أوربا منهم بالطرق السلمية، أي أن نموذج الشعب العضوي المنبوذ تَحوُّل تدريجياً ليصبح نموذج الشعب العضوي المنبوذ النافع (وهذا هو جوهر الصهيونية). وقد طُرحت في عصر الاستنارة إشكالية مدى نفع اليهود وإمكانية إصلاحهم حتى يتسنى الاستفادة منهم.

وهكذا أصبح نموذج الشعب العضوي المنبوذ نموذجاً تفسيرياً أساسياً في الوجدان العقلي والعاطفي في الغرب بما يؤدي إليه من حلول صهيونية واضحة أو كامنة. وقد أصبح هذا النموذج، مع بداية القرن التاسع عشر، بُعداً أساسياً في الفكر السياسي الغربي تجاه اليهود والشرق. كما تمت مزاوجة المسألة اليهودية (الشعب المنبوذ) بالمسألة الشرقية (الدولة العثمانية وتقسيمها) بحيث يمكن حل المسألة الأولى، أي التخلص من اليهود، عن طريق استخدامهم كمادة بشرية في المسألة الثانية. وكان نابليون من أوائل السياسيين الذين توصلوا إلى هذه الصيغة. فهو أول سياسي يدعو اليهود، من حيث هم يهود، إلى الاستيطان في فلسطين، محاولاً الاستفادة منهم كمادة استيطانية في مشروعه الاستعماري. أما على مستوى فرنسا ذاتها، فقد كان الأمر جدُّ مختلف. فقد أصدر نابليون من التشريعات ما قضى عليهم كشعب عضوي، ووضع الخطط التي أدَّت في نهاية الأمر إلى دمجهم في الأمة الفرنسية.

ونموذج الشعب العضوي المنبوذ هو ذاته النموذج الرئيسي وراء فكر بول باستيل زعيم حركة الديسمبريين في روسيا، فقد كان يرى أن اليهود « يحافظون دوماً على روابط وثيقة بدرجة لا تُصدَّق، بسبب الدين والسيطرة الحاخامية على أوجه الحياة جميعاً »، أي أنهم شعب عضوي. والحل هو « إما تخليص اليهود من خصوصيتهم، واستيعابهم استيعاباً تاماً، أو مساعدتهم على تأسيس دولتهم الخاصة المستقلة في منطقة ما من آسيا الصغرى. ولهذا يجب تعيين نقطة تَجمُّع الشعب اليهودي بمساعدة بعض الجنود. وإذا تَجمَّع في مكان واحد جميع اليهود الروس والبولنديين، فإن عددهم سيبلغ أكثر من مليونين، وبعد أن يجتازوا أوربا التركية فإنهم يستطيعون أن يعبروا إلى تركيا الآسيوية حيث يمكنهم بعد الاستيلاء على أرض كافية لتأسيس دولة يهودية مستقلة». وبهذا، فإن باستيل ينظر إلى اليهود باعتبارهم مادة استيطانية يمكنه استخدامها كوسيلة في الصراع الناشب بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية.

وقد أصبح النموذج أيضاً بُعداً أساسياً في الفكر الاستعماري الإنجليزي، فنجد أن لورد شافتسبري يتحدث عن اليهود باعتبارهم عنصراً مستقلاً له سماته القومية المستقلة، ولكنه عنصر طفيلي فاسد. وانطلاقاً من هذا، فقد عارض مَنْحَهم الحقوق الدينية، ولكنه بذل جهوداً كبيرة في سبيل اتخاذ الخطوات اللازمة لتوطينهم في فلسطين. وقد تبنَّت وزارة المستعمرات رأيه منذ عام 1840.

ويستمر هذا الخط ليصل إلى بلفور الذي كان يؤمن إيماناً جازماً بأن اليهود كيان تختلط فيه القومية بالدين. وأنهم كيان غريب على الحضارة الغربية التي لم تسـتطع اسـتيعابهم. وكان بلفور يرى أن اليهـود، بطفيليتهم وعدم انتمائهم، يشـكلون عبئاً على الحضـارة الغربية، فاستصدر عام 1905 من القوانين ما يُوقف مد الهجرة اليهودية إلى إنجلترا. ولكن وزارته وافقت في العام نفسه على مشروع شرق أفريقيا. ثم ساهم بلفور، بعد ذلك، في استصدار الوعد الذي سُمي باسمه. والواقع أن كلا المشروعين يهدف إلى تخليص أوربا من اليهود، وذلك عن طريق الاستفادة منهم في مكان آخر.

وفي الفكر الاشتراكي الغربي، ظهر نموذج الشعب العضوي المنبوذ في فكر فورييه وتلاميذه، خصوصاً توسينيل وأدولف إلايزا الذي شبَّه اليهود بالبكتريا القذرة التي تحمل العفن إلى أي مكان تحل فيه. ويُلاحَظ أن الصورة المجازية هنا عضوية، تماماً مثل الشعب العضوي، وهي صورة مجازية استخدمها الزعيم الصهيوني نوردو والزعيم النازي هتلر. وقد تَبنَّى هؤلاء حلاًّ صهيونياً للمسألة اليهودية وطلبوا من اليهود أن يرحلوا إلى "بلادهم"!

وحينما ظهرت الصهيونية بين اليهود، كان هناك تَلازُم أيضاً بين نموذج الشعب العضوي المنبوذ وبين الاستيطان الصهيوني. وقد تَقبَّل كثير من الصهاينة هذا النموذج التفسيري وأسسوا عليها نظريتهم الصهيونية، فرددوا أن اليهود طفيليون، كريهون لا أخلاقيون، ويجب تطبيعهم عن طريق تطويعهم من أجل خدمة المشروع الاستعماري الغربي وتوطينهم في فلسطين. وفي أوائل القرن الحالي، كانت الزعامة الصهيونية في ألمانيا تؤكد تَدنِّي اليهود ووضاعتهم وعدم انتمائهم لإسباغ الشرعية والمعقولية على المشروع الصهيوني. ولهذا فقد قَبلت المقولات الأساسية لمعاداة اليهود واستوعبتها في بناء النسق الفكري الصهيوني ذاته. وقد ظهر الفكر النازي في هذه التربة، وهو فكر ينطلق من فكرة أن الشعب العضوي الألماني والشعب العضوي اليهودي المنبوذ يجب ألا يختلطا حتى يحتفظ كلٌّ بهويته العضوية. وقد بيَّن ألفريد روزنبرج، أهم مُنظِّري العقيدة النازية، إبان محاكمته في نورمبرج، أنه تَبنَّى رؤية بوبر حيث أعلن أن اليهود يجب يعودوا إلى أرض آسيا حتى يمكنهم (هناك فقط) العثور على جذور الدم اليهودي.

وقد وردت في قوانين نورمبرج الفقرة التالية عن الصهيونية ومبرراتها: "لو كان لليهود [أي الشعب العضوي المنبوذ] دولة خاصة بهـم تضمهـم جميعـاً في وطــن واحـد، لأمكن اعتبار المشكـلة اليهوديــة محلولة حتى بالنسبة إلى اليهود أنفسهم". ومن ثم، فــإن النازيين لم يكونوا ضد المشاريع الاستيطانية الصهيونية التـي تهـدف إلى التخلـص من اليهــود. ولكن، لسوء حظ ألمانيا واليهـود، لم يكن لدى ألمانيا مستعمرات في آسيا وأفريقيا (بعد إجهاض مشروعها الاستعماري على أيدي الدول الاستعمارية الأخرى). وربما، لو وُجدت مثل هذه المستعمرات الألمانية، لقام هتلر بكفاءته المعهودة بنقل فائض أوربا المنبوذ وانتفع منه ومن إمكانياته، بدلاً من إبادته وحرقه. ولكن مجال ألمانيا الحيوي في أوربا كان آهلاً بالسكان، ولذا، لم يكن بوسع هتلر سوى إبادة اليهود بدلاً من نقلهم (حسب منطق أوربا العملي المادي).

وقد لاحَظ كثير من المثقفين الألمان اللوثريين أعداء النازية ذلك التَطابُق بين الفكرة الغربية الخاصة بالشعب العضوي ونموذج الشعب العضوي كما عبَّر عنها الصهاينة، وقال ريتشارد كودينهوف كاليرجي، وهو من أكبر مناهضي العنصرية، إن القوميتين اليهودية والنازية حركتان حولتا الدنيا والمادة إلى مقولات ميتافيزيقية، أي إلى دين، وكلتاهما تُضفي صفة نسبية على كل القيم باستثناء القيم العرْقية وعلاقات الدم والتربة، بحيث تختفي جميع المعايير إلا معيارالعرْق. ثم أشار كاليرجي إلى أن كلتا الحركتين قبلتا القول بأن ألمانيا لا يمكنها استيعاب اليهود.

وقد اختفى نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى حدٍّ كبير من كتابات الصهاينة والمفكرين الغربيين بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه لا يزال النموذج الفعال الكامن في كل الكتابات والمشاريع الصهيونية. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة الشعب المقدَّس بين أعضاء جماعة جوش إيمونيم. وعندهم، كذلك، أن هذا الشعب يعيش وحده ولا يُحسَب بين الأمم، فهو شعب مقدَّس عضوي منبوذ. وتَنبُع أهمية فكرة الشعب العضوي المنبوذ من أنها تُبيِّن العلاقة العضوية الكامنة بين الصهاينة وأعداء اليهود.

  • السبت AM 09:54
    2015-12-12
  • 3198
Powered by: GateGold