المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413245
يتصفح الموقع حاليا : 261

البحث

البحث

عرض المادة

الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى الله ورسوله نوعان

فصل الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدور عَلَيْهِ، مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ، كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالٍ. فَاصِلٍ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، أعداء الله ورسوله، فكل من بلغته دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ (حَتَّى لَا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله) . ولأن الله لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه: لم يأذن له فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ، حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39 - 41] (سورة الحج: الآيات 39- 41) . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] (سورة البقرة: الآية 216) . وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ، فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ، وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ ومرض القلوب،وقال تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] (سورة التوبة: الآية 15) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] (سورة الحجرات: الآية 15) . وقال تَعَالَى {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ - فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 20 - 22] (سورة محمد: من الآية 20 والآيتان 21، 22) . فهذا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ فِي " سُورَةِ الصَّفِّ " الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] (سورة الصف: الآيات 10-13) . وقوله تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22] (سورة التوبة: الآيات 19-22) . وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] (سورة المائدة: من الآية 54) .
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] (سورة التوبة: من الآيتين 120، 121) . فذكر ما يتولد من أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ. وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَكَانَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع، وصوم التَّطَوُّعِ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» . وَقَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وقال: «من اغبرت قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي السُّنَنِ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا، وَيُصَامُ نَهَارُهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ؛ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تَفْتُرَ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ ". وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سِيَاحَةً، وَسِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا مثل ما ورد فيه. وهو ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامٌّ لِفَاعِلِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جميع أنواع العبارات الباطنة والطاهرة، فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ، وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ؛ عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَلٌ آخَرُ. والقائم به من الشخص والأمن أن إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ دَائِمًا؛ إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَإِمَّا الشهادة والجنة. فإن الْخَلْقَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَحْيَا وَمَمَاتٍ، فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ فِي غَايَةِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِهِ ذَهَابُ السَّعَادَتَيْنِ أو نقصهما؛ وإن من الناس من يركب فِي الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهَا، فَالْجِهَادُ أَنْفَعُ فِيهِمَا مِنْ كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نَفْسِهِ حَتَّى يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ، فَمَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ مَيْتَةٍ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَيْتَاتِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ هُوَ الْجِهَادُ، وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرَّاهِبِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْأَعْمَى، وَالزَّمِنِ، وَنَحْوِهِمْ فَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْجَمِيعِ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ؛ إلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ؛ لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ هُوَ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا، إذَا أَرَدْنَا إظْهَارَ دِينِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (سورة البقرة: الآية 190) . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا النَّاسُ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» وَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» . وفيها أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طفلاً صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً» . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ مَا يُحتاج إلَيْهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] (سورة البقرة: من الآية 217) . أَيْ أَنَّ الْقَتْلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ وَفَسَادٌ فَفِي فِتْنَةِ الْكُفَّارِ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ دِينِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ مَضَرَّةُ كُفْرِهِ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الفقهاء: إن الداعية إلى البدع الخالفة لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يُعَاقَبُ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا؛ وَلَكِنْ إذَا ظهرت فلم شكر ضرت العامة» . ولهذا أوجبت الشريعة قتال الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ؛ بَلْ إذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ، مِثْلِ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ إلَيْنَا، أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ مِنْ قَتْلِهِ، أَوْ اسْتِعْبَادِهِ، أَوْ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مُفَادَاتِهِ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَى الْمَنَّ عَلَيْهِ وَمُفَادَاتَهُ مَنْسُوخًا. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ فَيُقَاتَلُونَ، حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. إلَّا أَنَّ عَامَّتَهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا من العرب، وأيما طائفة انْتَسَبَتْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَامْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَانَ قَدْ تَوَقَّفَ فِي قِتَالِهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بكر -رضي الله عَنْهُمَا- كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعهم قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إلى صلاتهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ قِرَاءَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن الْعَمَلِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «يقتلون أهل الإسلام، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحَرُورِيَّةَ. بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِهِ، وأن أصحاب علي أولى الطائفتين بِالْحَقِّ، وَلَمْ يُحَرِّضْ إلَّا عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ، وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ. فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَنَّهُ يُقَاتَلُ مَنْ خَرَجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ، لَوْ تَرَكَتْ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ، كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، هَلْ يجوز قتالها؛ على قولين. فأما الواجبات والحرمات الظَّاهِرَةُ وَالْمُسْتَفِيضَةُ، فَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَيُؤَدُّوا الزَّكَاةَ، وَيَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ، وَيَلْتَزِمُوا تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ: مِنْ نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ، وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إليهم بما يقاتلون عليه. فأما إذا بدأوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَكَّدُ قِتَالُهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ قُطَّاعِ الطُّرُقِ. وَأَبْلَغُ الْجِهَادِ الْوَاجِبُ لِلْكُفَّارِ، وَالْمُمْتَنِعِينَ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ، كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ: يَجِبُ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا. فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءً، فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ وَكَانَ الْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الآية (سورة النساء: الْآيَةَ 95) . فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ، وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ، لِإِعَانَتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] (سورة الأنفال: من الآية 72) . وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصر المسلم، وسواء كان الرَّجُلُ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ لِلْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الخندق لم يأذن الله في ترى لأحد، كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ، الَّذِي قَسَّمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ. بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] (سورة الأحزاب من الآية 13) . فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفُسِ، وَهُوَ قِتَالُ اضْطِرَارٍ، وَذَلِكَ قِتَالُ اخْتِيَارٍ، لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ، وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، كَغُزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا.
فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ، هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ وَغَيْرُهَا، مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بالعدد فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ كَانَ لَا يصلي من جميع الناس: من رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ يُوجِبُونَ قَتْلَهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ، فَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا؛ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ في مذهب أحمد وغيره. والمنقول عن أَكْثَرِ السَّلَفِ يَقْتَضِي كُفْرَهُ، وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ. فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ الْوُجُوبَ فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ: بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَأْمُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا، وَيَضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَكَذَلِكَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ تَعَاهُدُ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ. وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «صَلُّوا كما رأيتموني أن أُصَلِّي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. «وَصَلَّى مَرَّةً بِأَصْحَابِهِ عَلَى طَرَفِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: (إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . وَعَلَى إمَامِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ. فَلَا يَفُوتُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ كَمَالِ دِينِهِمْ: بَلْ على كل إمام للصلاة أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً كَامِلَةً وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْأَجْزَاءِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى إمَامِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَأَمِيرِهِمْ فِي الْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَلِيَّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يِتصرف لِمُوَكِّلِهِ وَلِمُوَلِّيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ لَهُ فِي مَالِهِ؟ وَهُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ يَفُوتُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ. فَأَمْرُ الدِّينِ أَهَمُّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى. وَمَتَى اهْتَمَّتْ الْوُلَاةُ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ: صَلُحَ لِلطَّائِفَتَيْنِ دِينُهُمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الأمور عليهم. وملاك ذلك كله صلاح النِّيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ جِمَاعُ صَلَاحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] (سورة الفاتحة: الآية 5) فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمَا يَجْمَعَانِ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ: " يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فَجُعِلَتْ الرُّءُوسُ تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا» . وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] (سورة هود: من الآية 123) وقَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] (سورة هود: من الآية 88) . «وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ -يَقُولُ: " اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ» . وَأَعْظُمُ عَوْنٍ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ خَاصَّةً، وَلِغَيْرِهِ عَامَّةً، ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَصْلُ ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ، بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ. الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَغَيْرِهِ من النوائب. ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيراً، كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] (سورة البقرة: من الآية 45) . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 - 115] (سورة هود: الأيتان 114، 115) . وقَوْله تَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] (سورة طه: من الآية 130) .
وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ ق ": {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] (الآية 39) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 - 98] (سورة الحجر: الآيتان 97، 98) . وأما قرنه بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ فَكَثِيرٌ جِدًّا. فَبِالْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّبْرِ يَصْلُحُ حَالُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ. إذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هذه الأسماء الجامعة: يدخل في الصلاة ذكر الله تعالى، ودعاؤه، وَتِلَاوَةُ كِتَابِهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ إحْسَانٍ، وَلَوْ بِبَسْطِ الْوَجْهِ، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، فَيَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» . وَفِي السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إلَيْهِ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إناء المستقي» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَثْقَلَ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» . «وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: " يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
وَفِي الصَّبْرِ احْتِمَالُ الْأَذَى، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَتَرْكُ الْأَشِرِ وَالْبَطَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11] (سورة هود: الآيات 9- 11) . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (سورة الأعراف: الآية 199) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (سورة آل عمران: الآيتان 133، 134) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36] (سورة فصلت: الآيات 34-36) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (سورة الشورى: الآية 40) . قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ. فَلَيْسَ حَسَنُ النِّيَّةِ بِالرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ، أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوُونَهُ وَيَتْرُكَ مَا يَكْرَهُونَهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] [سورة المؤمنون: من الآية 71) . وَقَالَ تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] (سورة الحجرات: من الآية 7) . وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ فِعْلُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رضي الله عنه- يقول: والله إني لأريد أَنْ أُخْرِجَ لَهُمْ الْمُرَّةَ مِنْ الْحَقِّ، فَأَخَافُ أَنْ يَنْفِرُوا عَنْهَا، فَأَصْبِرُ حَتَّى تَجِيءَ الْحُلْوَةُ مِنْ الدُّنْيَا، فَأُخْرِجُهَا مَعَهَا، فَإِذَا نَفَرُوا لِهَذِهِ، سَكَنُوا لِهَذِهِ. وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقَوْلِ. «وَسَأَلَهُ مَرَّةً بَعْضُ أَقَارِبِهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَيَرْزُقَهُ مِنْهَا، فَقَالَ: " إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . فَمَنَعَهُمْ إيَّاهَا وَعَوَّضَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ. وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَلَمْ يَقْضِ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: وَلَكِنْ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا، ثُمَّ إنَّهُ طَيَّبَ قَلْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَسَنَةٍ، «فَقَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» . «وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» . «وَقَالَ لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» . فَهَكَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِي قَسْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ دَائِمًا يَسْأَلُونَ ولي الأمر مالا يصلح بنقله من الولايات، والأموال والمنافع والأجور، وَالشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيُعَوِّضُهُمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنْ أَمْكَنَ، أَوْ يَرُدُّهُمْ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقَوْلِ، مَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِغْلَاظِ؛ فَإِنَّ رَدَّ السَّائِلِ يُؤْلِمُهُ، خُصُوصًا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] (سورة الضحى: الآية 10) . وقال الله تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (سورة الإسراء: الآية 26) إلَى قَوْلِهِ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] (سورة الإسراء: الآية 28) .
وَإِذَا حَكَمَ عَلَى شَخْصٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى، فإذا طيب نفسه بما يَصْلُحُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَانَ ذَلِكَ تَمَامَ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ، من الطب الَّذِي يُسَوِّغُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى فِرْعَوْنَ -: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (سورة طه: الآية 44) . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ-: " يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . «وَبَالَ مَرَّةً أَعْرَابِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فَقَالَ: " لَا تَزْرِمُوهُ " أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ» . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا بِمَا تَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ حُظُوظِهَا الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ الْحُظُوظُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ مع النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ حَتَّى لَوْ اُضْطُرَّ إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم جمل حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِهَذَا، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها. فَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عِنْدِي دِينَارٌ فَقَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قال: أنت أصر بِهِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ صدقت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ. أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ أَنْ تبذل الفضل خير لك، دان تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ. وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ؛ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ (سورة البقرة: من الآية 219) . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ وَالْمَسَاكِينِ؛ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ مُتَعَيَّنًا إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِهِ؛ فَإِنَّ إطْعَامَ الْجَائِعِ وَاجِبٌ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ» . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ صِدْقُهُ وَجَبَ إطْعَامُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الطَّوِيلَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ -وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ-: " حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِأَصْحَابِهِ الذيِن يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُحَدِّثُونَهُ عَنْ ذَاتِ نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فسما يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ ". فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من اللذات المباحة الجميلة فإنها تدين عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ.
وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ؛ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نَفْسِي بِالشَّيْءِ مِنْ الْبَاطِلِ، لِأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. والله سبحانه إنما خلق اللغات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم، كما خليق الْغَضَبَ لِيَدْفَعُوا بِهِ مَا يَضُرُّهُمْ، وَحَرَّمَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يَضُرُّ تَنَاوُلُهُ، وَذَمَّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا. فَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ، فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ ويكون له فيها أجرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أما يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ؟» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْتَ بِهَا درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك» . والآثار فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَتْ لَهُ نية، أتت على عامة أفعاله، وكان المباحات من صَالِحِ أَعْمَالِهِ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ، وَالْمُنَافِقُ -لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ- يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُظْهِرُهُ مِنْ العبادات رياء، فإن في الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ شُرِعَتْ دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَدْ شُرِعَ أَيْضًا كُلُّ مَا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ. فَيَنْبَغِي تَيْسِيرُ طَرِيقِ الخير والطاعة،وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَبْذُلَ لِوَلَدِهِ، وَأَهْلِهِ، أَوْ رَعِيَّتِهِ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ: مِنْ مَالٍ، أَوْ ثَنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلِهَذَا شُرِعَتْ الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْمُنَاضَلَةُ بِالسِّهَامِ، وَأَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي إعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الخيل لجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ، هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَيُخْرِجُونَ الْأَسْبَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ عَطَاءُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ: " أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرُ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ". وَكَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْمَعْصِيَةُ: يَنْبَغِي: حَسْمُ مَادَّتِهِ، وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ، وَدَفْعُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ. مِثَالُ ذَلِكَ، مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لا يخلون رجل بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» . وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ» . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخلوة بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالسَّفَرِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الشَّرِّ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ «وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، فَأَجْلَسَهُ خلف ظَهْرَهُ. وَقَالَ: " إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد النَّظَرَ» . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ تَقُولُ فِيهَا:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
فدعا به، فوجده شَابًّا حَسَنًا، فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَازْدَادَ جَمَالًا، فَنَفَاهُ إلى البصرة، لئلا تفتق به النساء. وروي عنه: أنه بلغه أن رَجُلًا يَجْلِسُ إلَيْهِ الصِّبْيَانُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ.
فَإِذَا كَانَ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ تُخَافُ فِتْنَتُهُ على الرجال، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ، مَنَعَ وَلِيُّهُ مِنْ إظْهَارِهِ لغير حاجة، أو تحسينه؛ لا سيما بترييحه فِي الْحَمَّامَاتِ، وَإِحْضَارِهِ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْأَغَانِي؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّعْزِيرُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ ظهر منه الفجور يمنع من تملك الْغِلْمَانِ الْمُرْدَانِ الصِّبَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَكَانَ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ الْقَادِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْرَحَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. «فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً. فقال: أوجبت وَجَبَتْ ". ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شراً، فقال: " وجبت وَجَبَتْ ". فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ. أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِهِ امْرَأَةٌ تُعْلِنُ (1) الْفُجُورَ. فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ» . فَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا الْحَذَرُ مِنْ الرَّجُلِ فِي شَهَادَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمُعَايَنَةِ؛ بَلْ الِاسْتِفَاضَةُ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمَا هُوَ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَقْرَانِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ (2) ". فَهَذَا لِدَفْعِ شَرِّهِ، مِثْلُ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْعَدُوِّ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-: " احترسوا من النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ ". فَهَذَا أَمْرُ عُمَرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَةُ الْمُسْلِمِ بِسُوءِ الظَّنِّ.

  • الاحد PM 03:58
    2015-11-01
  • 2620
Powered by: GateGold