المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412296
يتصفح الموقع حاليا : 275

البحث

البحث

عرض المادة

الصدقات و الفيء

فصل الْأَمْوَالُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْغَنِيمَةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْفَيْءُ.
وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ، فَهِيَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِقَسْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أعطيتك» . (فالفقراء والمساكين) يجمعهما مَعْنَى الْحَاجَةِ إلَى الْكِفَايَةِ؛ فَلَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) هُمْ الَّذِينَ يَجْبُونَهَا، وَيَحْفَظُونَهَا، وَيَكْتُبُونَهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قلوبهم) فنذكرهم -إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَالِ الْفَيْءِ. (وَفِي الرِّقَابِ) يَدْخُلُ فِيهِ إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ، وَافْتِدَاءُ الْأَسْرَى، وَعِتْقُ الرِّقَابِ. هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيهَا. (وَالْغَارِمِينَ) هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهَا. فَيُعْطُونَ وَفَاءَ دُيُونِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَرِمُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُعْطُونَ حَتَّى يَتُوبُوا. (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِغَزْوِهِمْ، فَيُعْطُونَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، أَوْ تَمَامَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَنَفَقَةٍ وَأُجْرَةٍ؛ وَالْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَابْنُ السَّبِيلِ) هُوَ الْمُجْتَازُ مِنْ بلد إلى بلد.
[الفيء]
فصل وَأَمَّا الْفَيْءُ، فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، بَعْدَ بَدْرٍ، مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 6 - 10] (سورة الحشر: الآيات 6-10) . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَ، فَدَخَلَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ كُلُّ مَنْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] (سورة الأنفال: من الآية 75) . وفي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] (سورة التوبة: من الآية 100) . وَفِي قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] (سورة الجمعة: الآية 3) .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] (سورة الحشر: من الآية 6) 0 أَيْ مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْفَيْءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ. وَسُمِّيَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ. فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمْ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا، وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، وَأَفَاءَ إلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَهَذَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمَالُ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ، أَوْ يُهْدُونَهُ إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْحِمْلِ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ؛ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَهُوَ الْعُشْرُ، وَمِنْ تُجَّارِ أهل الذمة إذا اتجروا في غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ. هَكَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَأْخُذُ. وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ، وَالْخَرَاجُ الَّذِي كَانَ مَضْرُوبًا فِي الْأَصْلِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ الْفَيْءِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، مِثْلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ معين؛ وكالغصوب، والعواري، والودائع التي تعذر مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْفَيْءَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَمُوتُ عَلَى عَهْدِهِ مَيِّتٌ، إلَّا وَلَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لِظُهُورِ الْأَنْسَابِ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ مَاتَ مَرَّةً رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ فَدُفِعَ مِيرَاثَهُ إلَى أَكْبَرِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ، أَيْ أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إلَى جَدِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، كَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَ رَجُلٌ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا عَتِيقًا لَهُ، فَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إلَى عَتِيقِهِ، وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَدُفِعَ مِيرَاثُ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يَتَوَسَّعُونَ فِي دَفْعِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ، إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا الصَّدَقَاتِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ، دِيوَانٌ جَامِعٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ في وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَقْسِمُ الْمَالَ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثُرَ الْمَالُ، وَاتَّسَعَتْ الْبِلَادُ، وَكَثُرَ النَّاسُ، فَجَعَلَ ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم؛ وديوان الجير -فِي هَذَا الزَّمَانِ- مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِهِ؛ وَذَلِكَ الدِّيوَانُ هُوَ أَهَمُّ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ لِلْأَمْصَارِ دَوَاوِينُ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ وَمَا يُقْبَضُ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يُحَاسِبُونَ الْعُمَّالَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَصَارَتْ الْأَمْوَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَبْلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَسْتَحِقُّ الإِمام قَبْضَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَنَوْعٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بالإجماع، كالجبايات الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لأجل قتيل قتل بينهم، لان كان له وارث، أو على حد ارتكبه، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ، وَكَالْمُكُوسِ الَّتِي لَا يَسُوغُ وَضْعُهَا اتِّفَاقًا. وَنَوْعٌ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ كَمَالِ مَنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ، وَلَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْ الْوُلَاةِ وَالرَّعِيَّةِ: هؤلاء يأخذون ما لا يحل، وهؤلاء يمنعون ما جب، كَمَا قَدْ يَتَظَالَمُ الْجُنْدُ وَالْفَلَّاحُونَ. وَكَمَا قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْجِهَادِ مَا يَجِبُ، ويكنز الولاة من مال الله ما لَا يَحِلُّ كَنْزُهُ. وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ مِنْهَا مَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ؛ وَقَدْ يَفْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، يَجِبُ أَدَاؤُهُ، كَرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ مضاربة، أَوْ شَرِكَةٌ، أَوْ مَالٌ لِمُوَكِّلِهِ، أَوْ مَالُ يَتِيمٍ، أَوْ مَالُ وَقْفٍ، أَوْ مَالٌ لِبَيْتٍ المال؛ أو عنده دين وهو قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أداء الحق الواجب: من عاين، أَوْ دَيْنٍ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، حَتَّى يُظْهِرَ الْمَالَ، أَوْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ. فَإِذَا عَرَّفَ الْمَالَ، وصُير فِي الْحَبْسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْ الْمَالِ، ولا حاجة إلى ضربه، وإن امتنع من الدلالة على ماله وَمِنْ الْإِيفَاءِ، ضُرِبَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ أَدَائِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، لما روى عمرو ابن الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال: «لَيّ الواجد جل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم: «مطل الفني ظلم» أخرجاه في الصحيحين، و " الليّ "، هُوَ الْمَطْلُ: وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ. وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِنْ لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيراً يجتهد فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ فَيُعَاقِبُ الْغَنِيَّ الْمُمَاطِلَ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ
-رضي الله عَنْهُمْ- وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالسِّلَاحِ، سَأَلَ بَعْضُ الْيَهُودِ -وَهُوَ سَعْيَةُ عَمُّ حُيي بْنِ أَخْطَبَ - عَنْ كَنْزِ مَالِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ. فَقَالَ: " الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ " فَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْيَةَ إلى الزبير، فمسه بِعَذَابٍ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خربة ههنا، فَذَهَبُوا فَطَافُوا، فَوَجَدُوا الْمِسْكَ فِي الْخِرْبَةِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ ذِمِّيًّا، وَالذِّمِّيُّ لَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُ إلَّا بِحَقٍّ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ دَلَالَةٍ وَاجِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، يعاقب على ترك الواجب. وما أخذه العمال وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْعَادِلِ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُمْ؛ كَالْهَدَايَا الَّتِي يَأْخُذُونَهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ -فِي كِتَابِ الْهَدَايَا -عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ؛ فَيَقُولُ: هَذَا لكم، وهذا أهدي إلي؟ فهلا جلست فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ. فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رأينا عفرتي إبطيه؛ ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلَاثًا» . وَكَذَلِكَ مُحَابَاةُ الْوُلَاةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، هو من نوع الهدية؛ وَلِهَذَا شَاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ عُمَّالِهِ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ، لَا يُتَّهَمُ بِخِيَانَةٍ، وَإِنَّمَا شَاطَرَهُمْ لَمَّا كَانُوا خُصُّوا بِهِ لِأَجْلِ الْوِلَايَةِ مِنْ مُحَابَاةٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ، يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. فَلَمَّا تَغَيَّرَ الْإِمَامُ وَالرَّعِيَّةُ، كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْوَاجِبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكَ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ. وَقَدْ يُبْتَلَى النَّاسُ مِنْ الولاة بمن يمتنع من الهدية وَنَحْوِهَا؛ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَظَالِمِ مِنْهُمْ، وَيَتْرُكَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ فَيَكُونَ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَلَى كَفِّ ظُلْمٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ مُبَاحَةٍ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَأَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ كَفُّ الظُّلْمِ عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا: مِنْ تَبْلِيغِ ذِي السُّلْطَانِ حَاجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفِهِ بِأُمُورِهِمْ، وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، وَصَرْفِهِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ؛ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ اللَّطِيفَةِ وَغَيْرِ اللَّطِيفَةِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَوُو الْأَغْرَاضِ مِنْ الْكُتَّابِ وَنَحْوِهِمْ فِي أَغْرَاضِهِمْ. فَفِي حَدِيثِ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا: ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يوم تزل الْأَقْدَامُ» . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى باباً غيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل، فتقضى له، فيهدي إليه هدية، فَيَقْبَلَهَا. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا، فَأَهْدَى لَهُ صَاحِبُهَا وَصَيْفًا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً، فَرَزَأَهُ عَلَيْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَهُوَ سُحْتٌ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا كُنَّا نَرَى السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، قَالَ: ذَاكَ كُفْرٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ يَسْتَخْرِجُ مِنْ الْعُمَّالِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَذَوُوه، فَلَا يَنْبَغِي إعَانَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ، كَلِصٍّ سَرَقَ مِنْ لِصٍّ، وَكَالطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَرِئَاسَةٍ؛ وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ؛ فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى: مِنْ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ؛ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فَقَدْ تَرَكَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ مُتَوَرِّعٌ. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَشْتَبِهُ الْجُبْنُ وَالْفَشَلُ بِالْوَرَعِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ. وَالثَّانِي: تَعَاوُنٌ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ، كَالْإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ، أَوْ أَخْذِ مَالِ مَعْصُومٍ، أَوْ ضَرْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الذي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. نَعَمْ إذَا كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَصْحَابِهَا، كَكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ؛ فَالْإِعَانَةُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدَادِ الثُّغُورِ، وَنَفَقَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ إذْ الْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ -إذَا لَمْ يُمْكِنْ معرفة أصحابها وردها عَلَيْهِمْ، وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِمْ -أَنْ يَصْرِفَهَا- مَعَ التَّوْبَةِ إنْ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ- إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وإن كان غيره قد أخذها، فَعَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ رَدِّهَا: كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَى إنْفَاقِهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا بِيَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:! {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) المفسر لِقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] (سورة آل عمران: من الآية 102) ؛ وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ المصالح وتكميلها؛ وتعطيل الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احتمال أدناهما: هُوَ الْمَشْرُوعَ. وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى أداء الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ. مِثَالُ ذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ، إذَا طَلَبَ ظَالِمٌ مِنْهُ مَالًا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالٍ أَقَلَّ مِنْهُ إلَيْهِ، أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَالِكِ مِنْ المنادين والكتاب وغيرهم، الذي يتوكل لَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، وَدَفَعَ مَا يَطْلُبُ منهم؛ لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ منهم مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِمكان وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ، وَالْإِعْطَاءِ: كَانَ مُحْسِنًا؛ لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلَ الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مُخْفِرًا لِمَنْ يُرِيدُ، وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ. وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نار، هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار.

  • الاحد AM 08:01
    2015-10-25
  • 3386
Powered by: GateGold