المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412343
يتصفح الموقع حاليا : 265

البحث

البحث

عرض المادة

آراء الخوارج في بعض مسائل الإلهيات

1- صفات الله تعالى

 
هذه المسألة لم أجد فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كتب علماء الفرق بياناً لرأي الخوارج فيها بصفة عامة.
وقد ذكر الشهرستاني عن فرقة الشيبانية قولاً لأبي خالد زياد بن عبد الرحمن الشيباني في صفة العلم لله أنه قال: ((إن الله لم يعلم حتى خلق لنفسه علما، وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها))(417).
وأما بالنسبة لفرقة الإباضية بخصوصهم –فقد تبين من أقوال علمائهم أنهم يقفون منها موقف النفي أو التأويل؛ بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبهة فيها كما تقدم.
وموضوع الصفات والبحث فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة، وبالرجوع إلى أي كتاب من كتب السلف يتضح الحق فيها بكل يسر وسهولة.
وأما بالنسبة لما ذكر عن رأي زياد بن عبد الرحمن أو الإباضية؛ فلا شك أنه لا يتفق مع المذهب الحق- مذهب السلف- ولو كان الأمر يخص زياد بن عبد الرحمن وحده لما كان له أدنى أهمية، ولكن الأمر أخطر من ذلك، فقد اعتقدت الجهمية ذلك أيضاً. وبطلان هذا القول ظاهر والتناقض فيه واضح.
فإن صفات الله عز وجل قديمة بقدمه غير مخلوقة، وما يخلق الله من الموجودات فإنما يخلقه عن علم وإرادة؛ إذ يستحيل التوجه إلى الإيجاد مع الجهل، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً؟ هذا تناقض ظاهر.
 
لم أجد- فيما اطلعت عليه – من كتب علماء الفرق بياناً لرأي الخوارج في الصفات الإلهية بصفة عامة والصفات الخبرية بصفة خاصة، اللهم إلا ما ذكره الشهرستاني عن رأي فرقة الشيبانية في صفة العلم بقوله: "وينقل عن زياد بن عبد الرحمن الشيباني ابن خالد أنه قال: إن الله تعالى لم يعلم حتى خلق لنفسه علماً، وإن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها"  (1) .
وبطلان هذا القول ظاهر ؛ فصفات الله قديمة بقدمه غير مخلوقة وما يخلق الله من الموجودات إنما يخلقه عن علم وإرادة، فيستحيل التوجيه إلى الإيجاد مع الجهل، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً؟ ! هذا تناقض ظاهر.
وأما الإباضية فقد رجعنا إلى كتبهم هم أنفسهم لنرى رأيهم في الصفات الإلهية، فتبين لنا أنهم يقفون منها موقف النفي أو التأويل بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبهة فيها، ويرون أن إثباتها يؤدي إلى التشبيه المذموم الذي حذروه – بزعمهم- بينما هو لم يخطر على بال الصحابة الذين تلقوا تعليمهم الصافي من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم طرياً قبل أن تعرف تلك التعقمات الباطلة والخوض في تلك المهامه المقفرة من علم الكلام.
وخلاصة القول ما يذهب إليه الإباضية في هذا المقام هو أنهم يرجعون صفات العلم والقدرة والإرادة.. إلخ تلك الصفات التي أثبتها الله لنفسه، والتي هي صفات كمال، من لم يتصف بها كان فيه من النقص والعيب ما لا يدرك إلا في الجمادات - أرجعوا تلك الصفات، إلى الذات فقالوا: إنه عالم بذاته وقادر بذاته.. وهكذا، كما يقول صاحب كتاب (الأديان) الإباضي: "وقال أهل الاستقامة: إن الله سبحانه عالم بذاته، وقادر بذاته لا بقدرة سواه، وحي بذاته، ومريد بذاته، ومتكلم بذاته، وسميع وبصير بذاته، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"  (2) .
وقال أحمد بن النضر وهو من الإباضية أيضاً:
وهو السميع بلا أداة تسمـــع    إلا بقدرة قادر وحدانـــي
 وهو البصير بغير عين ركبــت    في الرأس بالأجفان واللحظان
جل المهيمن عن مقال مكيـــف   أو أن ينال دراكه بمكـــان
أو أن تحيط به صفات معبـــر   أو تعتريه هماهم الوسنان (3)
 
 
                
ويقول السالمي:
أسماؤه وصفات الذات ليس بغيـــر   الذات بل عينها فافهم ولا تحــلا
ولا يحيــط بـه سبحانه بصــــر   دنيا وأخرى فدع أقوال من نصـلا
وهو على العرش والأشياء استوى وإذا   عدلت فهو استواء غير ما عقـلا
وإنمـا استـوى مـلك ومقــــدرة   له على كلها استيلاء وقد عــدلا
كمـا يقـال استـوى سلطانهم فعـلا   على البلاد فحاز السهل والجبلا  (4)
 
        
وأنهم يشاركون في تأويل الصفات الخبرية غيرهم من الفرق المأولة كالمعتزلة والأشاعرة وفيما يتعلق بالصفات الخبرية التي ذكرنا تأويلها التي أولها السالمي في أبياته السابقة.
فقد شنع الورجلاني أيضاً على الذين يثبتونها لله مدعياً أنهم رجعوا بذلك إلى التشبيه الذي وقع فيه عباد الأوثان ومن هذه الصفات التي أوردها صفات: اليد، والوجه، والجنب، والساق، والعين، واليمين، والاستواء، وهو يرى أن مخالفي الإباضية المثبتين لتلك الصفات يمتنعون - كما يقول - من مذهب المسلمين الذين صرفوا هذه المعاني إلى ما يليق بالباري سبحانه وتعالى وموجود في لغة العرب أن اليد النعمة والقدرة والوجه ذاته، واليمين القدرة والقوة، والجنب والكتف والساق والشدة".
ثم قال أيضا: "ولم يصرحوا (أي الإباضية) بالمعنى المكروه والأولون (أي المثبتون لتلك الصفات بدون تأويل) قد ردوا على الله عز وجل قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تجاهلوا فهم جاهلون"  (5) .
وقد استدل العيزابي عقلياً على ضرورة تأويل تلك الصفات بقوله في الاستواء: "الحمد لله الذي استوى على العرش أي ملك الخلق واستولى عليه وإلا لزم التحيز وصفات الخلق"  (6) .
وقال في الحجاب: "الحمد لله الذي احتجب عن خلقه لا بحجاب إذ الحجاب من صفات خلقه بل بمنه إياهم عن مشاهدته"  (7) .
وهكذا قال في النزول والمجيء وغيرها من صفات أخرى ذكرها ثم أولها تأويلاً باطلاً لا معنى له غير التعطيل.
وقد عقد الربيع بن حبيب فصلاً في مسنده "الجامع الصحيح" أورد فيه عدة أحاديث عن الصحابة، كلها تشير إلى التأويل المحض للصفات التي تقدم ذكرها، وغيرها عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما من الصحابة بما لا يمكن استقصاؤه هنا.
فقد فسر فيما يرويه عن ابن عباس وغيره قوله تعالى وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67], أي في ملكه، وفسر اليد "بالملك والقدرة" ومثلها اليمين، وأن قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي بل رزقه مبسوط على جميع خلقه.
وفسر مجيء الله بمجيء أمره لفصل القضاء.
وأول قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طـه: 5], إلى معنى ارتفاع ذكره، وثناؤه على خلقه.
وفسر الوجه بالذات، والعين بالحفظ، والنفس بالعلم، والسابق بالشدة، وهكذا يورد الربيع بن حبيب الأحاديث والآثار الكثيرة في تأويل الصفات وإنكار الرؤية  (8) .
والواقع أن موضوع الصفات الإلهية من أهم الموضوعات في مباحث الإلهيات؛ وذلك لعلاقته بتوحيد الله تعالى في ذاته وصفاته.
ولسنا بصدد عرض اختلافات المذاهب في تلك القضية بين التعطيل والتمثيل والتأويل، ولكننا نقتصر في المقام على مجرد التعقيب على رأي الإباضية مبينين ما فيه من زيف وبطلان على هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم.
ففيما يتعلق بنفيهم لصفات الكمال الإلهي من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة وغيرها، وأنه ليس هناك إلا الذات مجردة عن صفاتها القائمة بها ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أثبت لنفسه تلك الصفات، وقال تعالى في إثبات صفة العلم: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166], وقال تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ [التوبة: 6], وقد سمى الله تعالى نفسه بالأسماء الحسنى كالحي القيوم، وعالم الغيب والشهادة، والقوي المتين، والسميع البصير، إلى غير ذلك من الأسماء المشتقة التي يستحيل تسمية الله تعالى بها بدون أن تقوم بها مصادرها الاشتقاقية وهي الصفات القائمة بذاته تعالى من العلم والحياة والسمع والبصر.. إلخ، ولو لم يكن إلا الذات لكان العلم قدرة، والقدرة إرادة، ثم كيف تكون الذات الإلهية مجردة عن كمالاتها ثم يكون لها علم بالأشياء أو قوة عليها أو إرادة لها ؟!
إن من المستحيل وجود الذات بدون صفات، وهكذا يستحيل خلو الذات الإلهية من صفاتها القائمة بها. هذا ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أو السلف الصالح مثل هذا النفي لصفات الله تعالى عن ذاته، بل نعتوه سبحانه وتعالى بكل نعوت الكمال والعظمة والجلال، دون أن يجدوا فيما أثبتوه له تشبيهاً له سبحانه وتعالى بخلقه، فكما تنزهت ذاته عن مشابهة ذوات المخلوقين، فكذلك تتنزه صفاته عن مشابهة صفاتهم.
وفيما يتعلق بالصفات الخبرية التي أولها الإباضية – سواء منها صفات الذات أو صفات الفعل- فإنهم لم يفعلوا أكثر من ترديدهم لما قاله غيرهم من المؤولة.
ومذهب السلف في أمثال هذه الصفات هو ما قاله عنهم ابن تيمية من "أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ومن غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل"  (9) ، وهذا هو التوحيد في الصفات كما سماه بذلك في كتابه (الرسالة التدمرية)  (10) .
ويقول ابن القيم: "لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمي نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويغضب ويسخط ويجيء ويأتي وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علماً وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، وأن له يدين وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده، وأنه قريب وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين، وأن السموات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك"  (11) .
ثم استمر ابن القيم بعد هذا الكلام في مناقشة المتأولة لتلك الصفات، مثبتاً في مواضع كثيرة عقيدة السلف وطريقتهم في إثبات تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلال الله وعظمته دون تعطيل أو تمثيل أو تأويل، مما يطول المقام لو نقلنا كلامه فيه.
ويقول ابن تيمية: "ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل"  (12) .
فقد وصف الله نفسه بعدة صفات فقال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، وقال تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64], وقال تعالى إخباراً عن عيسى أنه قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116], وقال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22], وقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ [البقرة: 210], وقوله: رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [المائدة: 19], ، وقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]. وقوله في الكفار وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6], ، وقوله اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد: 28], ، وقوله كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ [التوبة: 46], وقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طـه: 5],، وكذا قوله: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16],
ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا))  (13) ، وبقوله: (( يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة))  (14) ، وقوله: (( يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة))  (15) ، وقوله للجارية: ((أين الله ؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة))  (16) .
وفي إثبات ما تقدم يقول ابن قدامة رحمه الله: "فهذا وأمثاله مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به ولا نرده، ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله سبحانه لا شبيه له ولا نظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11], وكل ما يتخيل في الذهن إن خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه"  (17) .
وهكذا يرد مذهب السلف في الصفات الخبرية كل ما ادعاه الإباضية وغيرهم من المأولة ؛ من أن إثبات هذه الصفات يؤدي إلى التشبيه وإثبات الجوارح، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإثبات الكتاب والسنة لتلك الصفات هو في حدود قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1-2], وهذا التنزيه لا يتنافى مع إثبات الكمالات لله تعالى، حسبك أن ترى آية التنزيه في القرآن أثبتت لله صفتي السمع والبصر مع إثبات صفات الكمال، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، فسمعه وبصره ليس كأسماعنا وأبصارنا، وهكذا كل ما وصف الله به من الصفات وأسند إليه من الأفعال. 

 

2- رؤية الله تعالى

 
لقد كثر الجدل بين علماء الفرق حول مسالة رؤية الله، وأخذ كل فريق يؤيد مذهبه بأدلة يزعم أنها تؤيد ما يذهب إليه من إثبات الرؤية أو نفيها.
أما فيما يتعلق بغرضنا هنا وهو بيان موقف الخوارج بصفة عامة والإباضية منهم بصفة خاصة من هذه المسألة، فإن الخوارج يذهبون إلى استحالتها تنزيهاً لله بزعمهم-يقول النووي: " زعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه وأن رؤيته مستحيلة عقلاً"  (1) .
ويقول ابن أبي العز: " المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية"  (2) .
وقد استدل الإباضية على نفيها من القرآن الكريم بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام: 13].
ويصف صاحب كتاب (الأديان) هذا الدليل بأنه يقر أن " الله سبحانه نفى عن نفسه الرؤية محكمة غير متشابهة ولا متصرفة في المعاني، وهو قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ (3) .
ويستدلون أيضاً بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143].
ويرد صاحب كتاب (الأديان) على من يحتج بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]، الذي يستدل به على إثبات الرؤية – يرد عليه بتأويل الآية تأويلاً بعيداً لا يخفى فيه التكليف والتعسف وهو من التأويلات المذمومة ؛ فقد فسر نَّاضِرَةٌ بأنها حسنة مشرقة مستبشرة بثواب ربها وفسرإِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أي منتظرة لما يأتيها من خيره وإحسانه.
واستشهد بعدة أبيات شعرية على أن ناظرة تأتي بمعنى منتظرة، ومنها قول الشاعر:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى  فإن غداً لناظره قريب
وبعد أن أورد تلك الشواهد قال: " فقد دل الكتاب واللغة على صحة ما ذهبنا إليه وبطلان ما ذهب إليه مخالفونا "  (4) ويعني بهم المثبتين للرؤية.
أما من السنة فقد استدلوا بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسروق الذي يرويه عن عائشة رضي الله عنها: ( يا أمتاه هل رأى محمد ربه ليلة الإسراء؟ فقالت: لقد قف شعري (أي قام فزعاً) مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب ؟! من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء) إلخ الحدث  (5) . كما رواه صاحب (وفاء الضمانة) الإباضي  (6) .. ثم قال معقباً عليه: " والحديث دليل لأصحابنا كالمعتزله على نفي الرؤية دنيا وأخرى ؛ لأن ما كان نفيه تنزيهاً يكون عاماً في الدنيا والآخرة.
وقد أورد الربيع بن حبيب الإباضي في صحيحه عدة أحاديث في نفي الرؤية منها قوله: " قال الربيع: بلغني عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه خرج ذات يوم، فإذا هو برجل يدعو ربه شاخصاً بصره إلى السماء رافعاً يده فوق رأسه فقال له ابن عباس: ادع ربك بأصبعك اليمنى واسأل بكفك اليسرى واغضض بصرك، وكف يدك ، فإنك لن تراه ولن تناله. فقال الرجل: ولا في الآخرة ؟ قال: ولا في الآخرة، فقال الرجل: فما وجه قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال ابن عباس: ألست تقرأ قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، ثم قال ابن عباس: إن أولياء الله تتنضر وجوههم يوم القيامة وهو الإشراق ثم ينظرون إلى ربهم متى يأذن لهم في دخول الجنة بعد الفراغ من الحساب". ثم أورد روايات كثيرة عن ابن عباس في نفي الرؤية لله تعالى.
والملاحظ هنا أن المؤلف أورد أولاً في هذا الحديث عن ابن عباس أنه نفى رؤية الله في الدنيا والآخرة في إجابته للسائل، ثم أورد أخيراً عن ابن عباس إثبات الرؤية لأولياء الله وذلك في قوله: (ثم ينظرون إلى ربهم متى يأذن لهم في دخول الجنة)  (7).وربما يقصد بنظرتهم إلى ربهم أي ينتظرون أمره وإذنه.
ومن الأمثلة أيضاً قوله: " قال: حدثنا أفلح بن محمد عن أبي عمر السعدي عن علي بن أبي طالب في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال: تنضر وجوههم وهو الإشراق، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال: تنظر متى يأذن لهم في دخول الجنة ".
ثم قال الربيع أيضاً: " وقال علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعائشة أم المؤمنين ومجاهد وإبراهيم النخعي ومكحول الدمشقي وعطاء بن يسار وسعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وأبو صالح صاحب التفسير وعكرمة ومحمد بن كعب وابن شهاب الزهري: " أن الله لا يراه أحد من خلقه "  (8) .
ومما يجدر ذكره هنا تعليقاً على ما أسند إلى هؤلاء الصحابة والتابعين من نفي الرؤية أن ابن تيمية نفى أن يكون قد ورد عن أحد من السلف نفي الرؤية في الآخرة بقوله: " ولم يثبت عن أحد منهم (يعني ابن عباس وعائشة وأبا ذر رضي الله عنهم) إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة "  (9) .
وما كان للصحابة أن ينفوا الرؤية بعدما أثبتها الله لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ناقش الورجلاني أيضاً بحث الرؤية بفصل طويل في كتابه (الدليل لأهل العقول) ورد على الأشعري إثباته لرؤية الله في الدار الآخرة وخطأه فيما لم يخطئ فيه  (10) .
ويقول صاحب كتاب (العقود الفضية) منهم كذلك نافياً إمكانية إمكان رؤية الله تعالى: " فالإباضية يمنعون ذلك، والمنع قول عائشة من الصحابة وقتادة والزمخشري وغيرهم من المعتزلة والشيعة، والحجة قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ، والإدراك يكون بالقليل كما يكون بالكثير، فنفي ذلك عن نفسه، وبقوله تعالى لموسى عليه السلام: قَالَ لَن تَرَانِي، وهو يقتضي التأبيد، والأحاديث الواردة أحادية، وتقبل التأويل لتنطبق مع الآيات، ولأن يلزم من يقول بالرؤية إثبات الجهة واللون لله تعالى وهو باطل"  (11) .
وكل هذه الحجج التي أوردها الحارثي في حجج باطلة مردودة على من قال بها؛ لأن استدلاله بالآيات غير صحيح وليست قاطعة في نفي الرؤية في الدار الآخرة.
وما أسنده إلى أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة في نفي الرؤية في الآخرة فهو غير صحيح أيضاً عند السلف كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية  (12) .
وأما الزمخشري والمعتزلة والشيعة، فليس بحجة في مثل هذه المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل الصحيح، والنقل الصحيح ولله الحمد إنما هو في جانب أهل الحق القائلين بإثبات رؤية ربهم يوم القيامة.
نعم إن الأبصار لا تدركه تعالى ولا تحيط به ولكنها تراه كما يليق بجلاله، وهذا مالم تنفه الآية، بل قد تفيد إثبات الرؤية ؛ إذ أن نفي الإدراك يقتضي إثبات الرؤية من غير إدراك ولا إحاطة، وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره كما قاله النووي (13) .
وهو ما عليه أكثر العلماء، يقول ابن تيمية: " وكذلك لا تدركه الأبصار إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء" (14) .
وقد جزم إسماعيل ابن علية بأن المراد بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُأي في الدنيا  (15) .
وأما استدلاله بقول الله لموسى: لَن تَرَانِي، على نفي الرؤية مطلقاً فهو غير صحيح، وقد علق الله رؤيته على ممكن وهو استقرار الجبل، والمعلق على الممكن ممكن.
وأما تفسير صاحب كتاب (الأديان) لناظرة بمعنى "منتظرة " فإنه غير صحيح في هذا المقام؛ وذلك لأن النظر " إذا وصل بإلى تعين للرؤية ولا يجوز حمله على الثواب، فإن نفي رؤية الثواب لا يكون إنعاماً، وقد أورد النظر في معرض الإنعام، واللفظ نص في رؤية البصر بعدما نفيت عنه التأويلات الفاسدة "  (16) .
وقال الهراس عن تأويل ناظرة بمعنى منتظرة، وإن إلى بمعنى النعمة، والتقدير ثواب ربها منتظرة قال عن هذا التأويل إنه" تأويل مضحك"  (17) .
ويقول العيزابي مستدلاً على نفي الرؤية: " الحمد لله الذي لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الرؤية توجب الحلول واللون والتحيز والطول والعرض والجهات والتركيب والعجز والحدوث، وغير ذلك من صفات الخلق"  (18) .
ويقول علي يحيى معمر إن المتطرفين من الإباضية " يفرون من كل ما يوهم التشبيه ولو بتأويل بعيد فراراً شديداً "  (19) ، ويذكر عن جابر بن زيد أنه اقتدى بالصحابة في نفي الرؤية مثل حديث عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية"  (20) .
والواقع أن هذا النفي هنا إنما هو في الدنيا أي أن أم المؤمنين لم تنف وقوع الرؤية في الآخرة، وإنما نفت وقوعها قبل يوم القيامة.
ولكن الإباضية وهم ينفون الرؤية عمموا دلالة الحديث ليستقيم لهم الاستدلال به على نفي الرؤية مطلقاً. 
وقد حاول علي يحيى معمر أن يوفق بين المثبتين للرؤية من السلف والنافين لها من الخوارج المعتزلة وغيرهم من أهل البدع فذهب إلى القول بأن بعض علماء أهل السنة يقولون بأن الرؤية معناها حصول كمال العلم بالله تبارك وتعالى. وعبر آخرون منهم بأن الرؤية – فيما يقول- تقع بحاسة سادسة هي كمال العلم.
ثم قال: " واختلفت تعابير الكثير منهم ولكنها تتلاقى في النهاية على نفي كامل الصورة التي يتخيلها الإنسان لصورة رائي ومرئي، وما تستلزمه من حدود وتشبيه وتتفق في النهاية على الابتعاد عما يشعر بأي تشبيه في أي مراتبه بالمحدودية في كل أشكالها "  (21).
وقال مثبتاً رأي المعتدلين منهم في الرؤية: " المعتدلون من الإباضية لا يمنعون أن يكون معنى الرؤية هو كمال العلم به تعالى، ويمنعون الرؤية بالصورة المتخيلة عند الناس"  (22) .
والواقع أن كمال العلم شيء والرؤية شيء آخر؛ لأن الرؤية انكشاف تام لا يكون إلا عن طريق الأبصار، أما كمال العلم فهو بالعقل. وتفسير الرؤية بالكمال في العلم تأويل للفظها بغير ما يستعمل به في العربية.
ثم إن الرؤية لا تستلزم التشبيه في جانب الله تعالى والاتصاف بأوصاف الحوادث التي ذكروها ؛ لأنها رؤية الله كما يليق بذاته، ويجري الأمر في مسألة الرؤية على نحو ما يجرى عليه من صفات الله تعالى وأفعاله من تنزهه فيها عن مشابهة المخلوقين، وحيث لا تتساوى ذاته بذواتهم، فلا يلزم من رؤيتهم له ما يلزم من رؤية بعضهم لبعض.
وإذا انتهينا إلى هذا الحد من الرد على المانعين لرؤية الله تعالى نقلاً وعقلاً، فإننا نقرر هنا أن السلف يذهبون إلى إثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً حقيقياً بعيداً عن تأويلات أهل البدع الذين يذهبون إلى نفي رؤية الله تعالى، التي ثبت صحتها ووجب اعتقادها على كل مسلم، بعد أن دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على صحة وقوعها يوم القيامة. 
لقد ثبت بإجماع السلف والأئمة أن الله تعالى يرى في الآخرة، يراه أهل محبته ورضوانه، وهو خير ما وعد الله به عباده المؤمنين، بل هو كمال النعيم في الدار الآخرة كما قاله ابن القيم  (23) رحمه الله، لا يشك في صحة وقوعه إلا أهل البدع والضلالات.
ويطول بنا القول لو أردنا إثبات الأدلة على الرؤية وأقوال السلف في هذا الأمر، ومن تلك الأدلة التي وردت في القرآن الكريم قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23], وقوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ[يونس: 26], فقد فسرت الزيادة بأنها النظر إلى الله تعالى كما ذهب إليه علماء السلف  (24) .
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ [15-17], يقول الدرامي: " ففي هذا دليل أن الكفار كلهم محجوبون عن النظر إلى الرحمن عز وعلا، وأن أهل الجنة غير محجوبين عنه"  (25) .
ومثله قوله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35], فسرها أنس بن مالك ( بأن الله يتجلى لهم كل جمعة)  (26) .
ومن السنة ما جاء عن جرير قال: (( كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا ))  (27) .
وكذا ما جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا )) (28) .
فلا اعتبار لكلام هؤلاء المبطلين في نفي الرؤية مع قول الله عز وجل وقول الرسول الكريم وقول السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة في العلم.
يقول الطحاوي: " والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ".
ويقول ابن أبي العز معلقاً على هذا الكلام: " المخالف في الرؤية: الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة "  (29) .
ويقول ابن تيمية: " إن كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت بإجماع السلف والأئمة، مثل ما روى اللالكائي عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى الله في جنته.
وعن عبدالله بن مسعود أنه قال في مسجد الكوفة وبدأ باليمين قبل الحديث فقال: (والله ما منكم من إنسان إلا أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال فيقول: " ما غرك بي يا ابن آدم (ثلاث مرات)؟ ماذا أجبت المرسلين (ثلاثا) ؟ كيف عملت فيما علمت؟ )  (30) .
وعن أشهب قال: وسئل مالك عن قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ: أينظر الله عز وجل ؟ قال: نعم، فقلت: إن أقواماً يقولون: ينظر ما عنده. قال: بل ينظر إليه نظراً. 
وعن الأوزاعي إنه قال: إني لأرجو أن يحجب الله جهماً وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حيث يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه.
وعن عبدالله بن المبارك قال: ما حجب الله عنه أحداً إلا عذبه ثم قرأ: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَقال: بالرؤية"  (31) .
ومن أراد التوسع في هذا فإن في كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية غنى لكل طالب، وقد جاء في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) بعدة أقوال عن علماء السلف كلها تثبت وقوع رؤية الله تعالى، ولابن القيم في كتابه (حادي الأرواح)  (32) فصل طويل أورد فيه مالا مزيد بعده من النقل والاحتجاج لإثبات الرؤية وإبطال كل ما احتج به أهل البدع من نفيها أدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال الأئمة الأربعة.
وخلاصة القول في هذه المسألة أن رؤية الله تعالى تعتبر عند السلف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة لا يماري فيها أحد منهم.

3- القول بخلق القرآن

 
هذه المسألة من المسائل التي أخذت من الوقت والجهد وشدة الجدال بين أرباب المذاهب الكلامية أكثر مما ينبغي لها، فقد سفكت بسببها دماء كثيرة وجرت من أجلها محن عظيمة وبلايا متتالية على العلماء في زمن المأمون والمعتصم، واشتد الأمر وغصت السجون بالمخالفين فيها القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
وكان أكبر من تزعم تلك الفتنة ابن أبي دؤاد الذي اشتهر بأنه من أكابر من ناضل في سبيل القول بخلق القرآن، فغلب المأمون على أمره ووقع تحت تأثيره، وجرى ما قد كتبه الله في سابق علمه.
ولست الآن بصدد التأريخ لما حدث في تلك الفتنة وإنما نقصد هنا بيان رأي الخوارج في مسألة القول بخلق القرآن، الذي لم يعد – ولله الحمد – يذكر على لسان أحد إلا في بطون الكتب وبين مدارسات العلماء.
لقد ذكر علماء الفرق أن الخوارج قد قالوا بخلق القرآن واعتقدوه حقاً لا يمارى فيه بزعمهم، ولهم شبه واهية وتأويلات بعيدة، وفي ذلك يروي الأشعري أن الخوارج كلهم يقولون بأن القرآن مخلوق بإجماع منهم على هذا الحكم فيقول: " والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن"  (1) .
ويقول ابن جميع الإباضي في مقدمة التوحيد: " وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق"  (2) .
وقد بين الورجلاني الإباضي أدلتهم على خلق القرآن، وناقش فيه المخالفين لهم بقوله: "والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً "  (3) .
ثم جاء بالأدلة وهي الآيات التي ذكر فيها نزول القرآن وهي كثيرة مثل قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء: 193]، وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان: 3]، وغيرها من الآيات.
ويقول الحارثي الإباضي في إثبات رأي الخوارج في القول بخلق القرآن أيضاً: " فعند المحققين من الإباضية أنه مخلوق إذ لا تخلو الأشياء إما أن تكون خالقاً أو مخلوقاً، وهذا القرآن الذي بأيدينا نقرؤه مخلوق لا خالق؛ لأنه منزل ومتلو وهو قول المعتزلة"  (4) .
وفيما يتعلق بموقف السلف في هذه القضية فإنهم يمتنعون عن وصف القرآن بما لم يوصف به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ألسنة الصحابة من أنه مخلوق أو غير مخلوق. وفي هذا يقول ابن تيمية مبيناً رأي السلف في هذه المسألة: " وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله"  (5) .
ويقول ابن قدامة: " ومن كلام الله تعالى القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين وحبله المتين، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود"  (6) .
وقد كفر كثير من علماء السلف من قال بخلق القرآن أورد منهم الأشعري عدداً كبيراً ثم قال: " ومن قال إن القرآن مخلوق وإن من قال بخلقه كافر، من العلماء وحملة الآثار ونقلة الأخبار لا يحصون كثرة ". ويقول أيضاً: " وقد احتججنا لصحة قولنا إن القرآن غير مخلوق من كتاب الله عز وجل، وما تضمنه من البرهان وأوضحه من البيان ولم نجد أحداً ممن تحمل عنه الآثار وتنقل عنه الأخبار ويأتم به المؤتمون من أهل العلم يقول بخلق القرآن، وإنما قال ذلك رعاع الناس وجهال من جهالهم ولا موقع لقولهم"  (7) .
ومثله ما أورده الدرامي والإمام أحمد بن حنبل من أقوال لعلماء السلف يكفرون فيها من قال بخلق القرآن  (8) ، وهي أقوال كثيرة لا حاجة بنا إلى سردها هنا لأن مضمونها كما قلنا واحد، وهو إثبات القول بعدم خلق القرآن وتكفير من قال بخلقه.
وأما احتجاج القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]، أي خلقناه قرآناً عربياً؛ فهذا احتجاج باطل إذ أن جعل التي بمعنى خلق تتعدى إلى مفعول واحد، وهنا تعدت إلى مفعولين فهي ليست بمعنى خلق  (9) .
وينفض أيضاً احتجاجهم هذا قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19].
وكذا قوله تعالى: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل: 91].
فهل يصح جعل في هاتين الآيتين وأمثالهما بمعنى خلق، هذا لا يمكن ؛ فلو كانت جعل تأتي بمعنى خلق دائماً على ما قالوه لكان المعنى واضحاً وهو أن قريشاً خلقت الملائكة، وكذا الآية الأخرى وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً تعالى الله وتقدس !!
وأما الاحتجاج على خلقه بإنزاله، فإن هذا لا دلالة لهم فيه وذلك أن الإنزال أو النزول لا يعرف من إطلاقه على الحقيقة إلا أنه هبوط من مكان عال إلى مكان أسفل منه، وقد أثبت الله تعالى أن القرآن منزل منه تعالى بمعنى أنه تكلم به  نبيه عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام الذي نزل به إلى قلب سيد المرسلين، وهذا هو الواضح والمعروف فيه.
ولهذا فقد فهمه الصحابة ولم يبحثوا فيما وراءهم لعلمهم بأنه غير مقصود، ولكن الجهلة من المبتدعة القائلين بخلقه تجاوزوا هذا الأمر الواضح وتعسفوا النصوص على ما يوافق أهواءهم المنحرفة، مع أن النزول والتنزيل والإنزال في الحقيقة كما يقول العلامة ابن القيم: "مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا المفهوم منه لغة وشرعاً "  (10) . ولا يلزم منه خلق المنزل فقد أسند النزول إلى الله عز وجل وهو قديم، كما وصفه به رسوله أنه ينزل إلى سماء الدنيا.
وقد حاول علي يحيى معمر الإباضي أن يجعل الخلاف بين القائلين بخلق القرآن وبين النافين به خلافاً لفظياً، إذا أهمل جانباً التطرف- كما يقول – ويعني به أنه لما اشتد الجدل بين الطرفين في مسألة خلق القرآن انقسموا إلى فريقين " فتطرف جانب حتى زعم أن، المصاحف والحروف قديمة، وتطرف جانب آخر حتى نفى صفة الكلام عن الله تبارك وتعالى "  (11) .
ويرى أن " يكفي أن يلتقي المسلمون على حقيقتين في هذا الموضوع، وهي أن الله تبارك وتعالى سميع بصير متكلم، وأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم "  (12) .
ولا شيء فيما يريد علي معمر أن يجمع عليه الناس في هذه القضية، لولا أنه لم يوضح رأيه في خلق القرآن، بل اكتفى بالقول بأنه كلام الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو كذلك لولا أن الإباضية يستدلون على خلق القرآن بإنزاله، فلا يكفي إذا ما رآه كافياً للتوفيق بين القائلين بخلق القرآن أو إنزاله، وبين القائلين بعدم خلقه.
هذا ولابد من الإشارة إلى أن بعض العلماء من الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، فصاحب (كتاب الأديان) وهو إباضي يرد على المعتزلة ويبطل قولهم بخلقه فيقول: " فإن عارض معارض واحتج بقول الله سبحانه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا [السجدة: 4]، فكل شيء بين السماء والأرض فهو مخلوق قلنا لهم: وقد قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ [الحجر: 85]، فالحق الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما هو كلامه وهو خارج عن الأشياء "  (13) .
ومن أئمة الإباضية القائلين بأن القرآن غير مخلوق أيضاً أبو النضر العماني فإنه كان ينكر ذلك القول إنكاراً شديداً وله قصيدة طويلة يرد بها على القائلين بخلق القرآن بلغت خمسة وسبعون بيتاً، وهي قصيدة جيدة فيها إبطال كل ما احتج به القائلون بخلقه، يقول في هذه القصيدة:
يا من يقول بفطرة القـــرآن    جهلاً ويثبت خلقه بلســان
 لا تنحل القرآن منك تكلفـــاًً    ببدائع التكليف والبهتـــان
هل في الكتاب دلالة من خلقـه   أو في الرواية فاتنا ببيــان
الله سماه كلاماً فادعـــــه   بدعائه في السر والإعــلان
ألا فهات وما أظنك واجـــداً   في خلقه يا غر من برهان (14)
 
 
ثم يشرع في الرد بالتفصيل مبيناً أن الجعل في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ليس نصاً صريحاً في الخلق، ثم استدل بدعاء إبراهيم الوارد في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا [إبراهيم: 35]، وقوله رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ [إبراهيم: 40]... إلخ.
وعلى كل حال فإن الخوارج لم يقتصروا على القول بخلق القرآن، بل كانت منه طائفتان أقدمتا على مالم يخطر على بال مسلم يؤمن بأن القرآن كله كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه كله حق من فاتحته إلى خاتمته، لم يدخله باطل في كل آياته- لم يخطر هذا القول في حسبان مسلم يؤمن بالله رباً وبمحمد نبياً، فضلاً عن اعتقاده، هاتان الطائفتان هما العجاردة والميمونية فقد أنكرتا سورة يوسف، وادعتا بأنها ليست من القرآن، وحجتهم في هذا أن القرآن جاء بالجد، وسورة يوسف اشتملت على قصص الحب والعشق.
وقد جزم كثير من العلماء بصحة ما نسب إلى الميمونية والعجاردة في هذا الاعتقاد، وإن كان الأشعري قد حكى عنهم هذا القول وهو غير جازم بصحته حيث قال: "وحكى لنا عنهم مالم نتحققه أنهم يزعمون – يعني العجاردة – أن سورة يوسف ليست من القرآن"  (15) .
وتبعه الشهرستاني فذكر هذا القول على أنه قد حكي عنهم، ولكن صاحب (كتاب الأديان) يقول عنهم: "وينكرون سورة يوسف أنها ليست من القرآن، ويقولون هي قصة من القصص خلافاً لأهل الاستقامة – يعني بهم الإباضية- يقولون: القرآن كله كلام الله"  (16) .
وكما قال الأشعري في العجاردة، قال في الميمونة، فحكى عنهم هذا القول وهو غير مثبت من صحته، ولكن البغدادي قد بين سند هذا القول إليهم بأنه من حكاية الكرابيسي وذلك في قوله: " وحكى الكرابيسي عن الميمونية من الخوارج أنهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن، ومنكر بعض القرآن كمنكر كله"  (17) .
ويزيد الشهرستاني في السند الكعبي والأشعري فيقول: " وحكى الكعبي والأشعري عن الميمونية إنكار كون سورة يوسف من القرآن "  (18) . ويجزم صاحب كتاب (الأديان والفرق) بأن ميموناً أنكر سورة يوسف أنها من القرآن، وذلك في قوله عنه: "وأنكر سورة يوسف أنها ليست من القرآن على قول عبدالكريم بن عجرد"
 

 

4- القدر

 
الخوارج في مسألة القدر ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى منهم ذهبت إلى القول بإنكار القدر، والقول بخلق الإنسان لأفعاله الاختيارية، وهم بهذا الرأي يذهبون إلى قول القدرية.
وتضم هذه الطائفة من فرق الخوارج الميمونية، والحمزية، والحارثية، والشبيبية. وقد ذهبت الميمونية إلى القول بأن الله تعالى لما خلق الخلق أودع فيهم القدرة على اختيار كل ما يريدون من أفعال وأعمال ليس لله مع مشيئتهم مشيئة، فهم الخالقون لأفعالهم خيرها وشرها دون أن يكون لله في ذلك أي أثر.
قال الأشعري عنهم: " والذي تفردوا به القول بالقدر على مذهب المعتزلة، وذلك أنهم يزعمون أن الله سبحانه فوض الأعمال إلى العباد وجعل لهم الاستطاعة إلى كل ما كلفوا، فهم يستطيعون الكفر والإيمان جميعاً، وليس لله سبحانه وتعالى في أعمال العباد مشيئة وليست أعمال العباد مخلوقة لله "  (1) .
ومثل هذا ما أورده البغدادي عنهم  (2) ، ويقول عنهم الشهر ستاني: "الميمونية أصحاب ميمون بن خالد، كان من جملة العجاردة، إلا أنه تفرد عنهم بإثبات القدر خيره وشره من العبد، وإثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل، والقول بان الله تعالى يريد الخير دون الشر وليس له مشيئة في معاصي العباد"  (3) .
وبمثل قول الميمونية في القدر قالت الحمزية، فصارت هذه الفرقة قدرية، وهم ينسبون إلى زعيمهم حمزة بن أكرك الذي كان في الأصل من العجاردة الخازمية، فلما قال في القدر بقول القدرية أكفرته الخازمية وتبرأت منه  (4) .
وقد خرجت عن فرقة الإباضية فرقة تسمى الحارثية أتباع حارث الإباضي، هذه الفرقة قد مالت إلى القدرية فقالوا بقولهم مخالفين سائر فرق الإباضية، فيذكر الأشعري عنهم أنهم " قالوا في القدر بقول المعتزلة وخالفوا فيه سائر الإباضية"  (5) ، ولكن" أكفرهم سائر الإباضية في ذلك "  (6) .
وممن قال في القدر بقول القدرية من الخوارج أيضاً الشبيبية، وهم أتباع شبيب، فقد قالت هذه الفرقة بقول المعتزلة، فبرئت منهم البيهسية وكانت تقول: " إن الله تعالى فوض إلى العباد، فليس لله في أعمال العباد مشيئة"  (7) .
الطائفة الثانية: وهم الذين ذهبوا إلى القول بالجبر كما قال جهم بن صفوان، وهم طائفة من الأزارقة زعموا أن العبد مجبر على أفعاله، وأنه لا استطاعة له أصلاً، وقد ذكرهم ابن حزم ووصفهم بأنهم يوافقون قول جهم بن صفوان في هذا الباب  (8) .
ومثل هذه الطائفة من الأزارقة فرقة الشيبانية، فإنها تقول بالجبر أيضاً كالجهم فيما يذكر الشهرستاني عنهم بقوله: "ومن مذهب شيبان أنه قل بالجبر ووافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر"  (9) .
أما الطائفة الثالثة: فهم المعتدلون الذين قالوا بقول أهل السنة في إثبات القدر خيره وشره، حلوه ومره، ومن الله تعالى، وأن الله خالق كل شيء وأن الإنسان فاعل لأفعاله الاختيارية مكتسب لها محاسب عليها.
وقد ذهب إلى هذا القول بعض فرق الخوارج كالإباضية، وكفرق أخرى مثل الشعيبية أصحاب شعيب الذي انفصل عن الميمونية فأثبت شعيب خلافاً لميمون خلق الله لأعمال العباد وعموم مشيئته، كما قال الأشعري ومثله البغدادي والشهرستاني في حكايتهم لاعتقاده بأنه يقول: " إن الله تعالى خالق أعمال الخلق، والعبد مكتسب لها قدرة وإدارة، مسئول عنها خيراً أو شراً، مجازى عليها ثواباً وعقاباً، ولا يكون شيء في الوجود إلا بمشيئة الله تعالى "  (10) .
وعلة مثل هذا الاعتقاد فرقة الخلفية، أصحاب خلف، هذه الفرقة أثبتت القدر والاستطاعة والمشيئة، وقالت في هذه الثلاثة بقول أهل السنة فأضافوا القدر خيره وشره إلى الله تعالى  (11) ، وكانت لهم معارك حامية مع الحمزية أتباع حمزة بن أكرك في بلاد كرمان حرباً وجدالاً.
ومثلها تماماً في الاعتقاد فرقة الخازمية كما نص على ذلك الأشعري والبغدادي والشهرستاني فقالوا: لا خالق إلا الله ولا يكون إلا ما شاء الله وإن الاستطاعة مع الفعل، وكفروا الميمونية لميلهم إلى القدرية في هذا الباب. 
وممن قال بإثبات القدر وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى من فرق الخوارج المجهولية، كما أثبت الأشعري والشهرستاني وغيرهما من علماء الفرق عنهم ذلك الاعتقاد 
أما رأي الإباضية في باب القدر فهم يؤمنون بأن الله خالق كل شيء خلق العبد وفعله، وهم يبتعدون عن مذهبي الجبرية والقدرية فيقولون: أفعالنا خلق من الله ونحن المكتسبون لها، والمجازون عليها ثواباً من الله أو عقاباً، يقول النفوسي في متن عقيدة التوحيد الإباضية:
فأفعالنا خلق من الله كلها            ومنا اكتساب بالتحرك بالبدن  (12)
 
 
 
ويقول السالمي:
وبالقضاء وبالرحمن قدره    وأنه خالق أفعالنا جللا
 لكنه لا بجبر كان منه لنا    وعلمه سابق في كل ما جهلا
وإنما الفعل مخلوق ومكتسب   فالخلق لله والكسب لمن فعلا  (13)
 
 
وقال العيزابي منهم: " الحمد لله الذي أفعالنا خلق منه وكسب منا لا جبر، ولو كانت إجباراً لم يكن عليها مدح ولا ذم، ولا ثواب ولا عقاب، ولا أمر ولا نهي، ولا كتاب ولا رسول، ولا نصب دليلاً"  (14) .
ويقول علي يحيى معمر في كتابه (الإباضية بين الفرق الإسلامية): " يبدوا أنه لا خلاف بين الإباضية وأهل السنة في موضوع القدر"  (15) .
ثم قال في موضع آخر مبيناً عقيدة الإباضية في القدر وأن من اعتقادهم: " أن الإيمان لا يتم حتى يؤمن المسلم بالقدر خيره وشره أنه من الله تبارك وتعالى، وأن أفعال الإنسان خلق من الله واكتساب من الإنسان، ويبتعدون عن رأي المجبرة كما يبتعدون عن رأي من يقول الإنسان يخلق أفعاله"  (16) .
وهكذا في كتابه الآخر (الإباضية في موكب التاريخ)، وزاد مستدلاً على ذلك بالآيات الآتية: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات: 96]، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3]اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] (17) .
وقد نقل عنهم علماء الفرق هذا الرأي كالأشعري والشهرستاني (فيما يحكيه عن الكعبي) والبغدادي  (18) .
والاستطاعة عند جمهورهم مع الفعل وليس قبله، وهي التي يحصل بها الفعل، قال قطب الأئمة: " وأما الاستطاعة فيه عندنا مع الفعل لا قبله"  (19) .
ويقول الحارثي في بيانه لاعتقاداتهم: " ومن ذلك أنهم يؤمنون بالقضاء والقدر أنه من الله، وأن الخير والشر من الله، وكسب من العباد، وهم يوافقون أهل السنة في هذا، والحجة قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ،اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، ولو ثبت للعباد خلق لزم ثبوت شريك، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ،هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ  (20) .
والواقع أن الرأي الأخير وهو القائم على الإيمان بالقدر الأزلي، وخلق الله لكل شيء في الكون، وفعل العبد لأفعاله الاختيارية ومسئوليته عنها، وهو مذهب السلف الصالح- والواقع أن هذا المبدأ هو الحق وهو أصح المبادئ في هذا المقام، فهو مقتضى الإيمان بالله المتفرد بالربوبية والألوهية في الكون، ومقتضى ما جاء في الشرع من التكليف والجزاء، فمذهب كل من الجبرية والقدرية مردود، وقد أخطأ الخوارج الذين قالوا بهذين المذهبين الباطلين.

  • الخميس PM 04:35
    2015-07-16
  • 7965
Powered by: GateGold