المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412524
يتصفح الموقع حاليا : 388

البحث

البحث

عرض المادة

موقف الخوارج بين العقل والشرع وبين النص والتأويل

للعلماء اتجاهان في تحديد موقف الخوارج من العقل
الاتجاه الأول: وهو اتجاه من يذهب إلى أن الخوارج يرون قدرة العقل على إدراك المعرفة بنفسه مستقلاً عن السمع، وأن السمع إنما يأتي مصدقاً لأحكامه، وبناء على هذا الاتجاه يصح لنا أن نصف الخوارج بأنهم عقلانيون، وذلك لأنهم قدموا العقل في كثير من القضايا مدعين أنه يستطيع أن يصل إلى معرفة الأشياء الحسنة والأشياء القبيحة بنفسه وأن العدل ما يقتضيه العقل، وهذا هو مذهب المعتزلة.
وفي هذا يذكر الشيخ المفيد أن المعتزلة والخوارج والزيدية متفقون في هذا الاعتقاد، أي القول باستطاعة العقل معرفة الواجبات الشرعية، دون السمع، يقول الشيخ المفيد في هذا: " أما المعتزلة والخوارج والزيدية فعلى خلاف ذلك أجمعوا وزعموا أن العقول تعمل بمجردها عن السمع"  (1) .
وقد ظهر تمسك الخوارج بالتحسين والتقبيح والعقليين في أكثر أمورهم التي ادعوا أن العقل يدرك حقيقتها دون الرجوع إلى الحكم الشرعي فيها لتصحيح الحكم بحسنها أو قبحها، بل العقل يدرك في كل خصلة مدى قبحها أو حسنها، بما في الفعل من خاصية يدرك العقل حين وردوها عليه الحكم فيها، والشروع حين يحكم فيها بحكم إنما يأتي كمخبر عنه وليس مثبتاً للحكم فيها.
وفي هذا يقول البغدادي بعد أن ذكر بعض الفرق التي اتفقت في الاعتقاد في هذا الباب وهم الثنوية والتناسخية والبراهمة والخوارج والكرامية والمعتزلة... إلخ، اتفق هؤلاء كلهم فيما يذكر: " فصاروا إلى أن العقل يستدل به على حسن الأفعال وقبحها على معنى أنه يجب على الله الثواب والثناء على الفعل الحسن، ويجب عليه الملام والعقاب على الفعل القبيح، والأفعال على صفة نفسية من الحسن والقبيح، وإذا ورد الشرع بها كان مخبراً عنها لا مثبتاً لها"  (2) .
بينما الأمر عند أهل الحق في التحسين والتقبيح كما يقول: " أن العقل لا يدل على حسن الشيء وقبحه في حكم التكليف من الله شرعاً"  (3) .
وقد اعتبر ابن الجوزي الخوارج هم أول من نادى بتحسين العقل وتقبيحه، أي قبل ظهور المعتزلة، وما المعتزلة عنده إلا آخذة عن الخوارج هذا الأصل ومقلدة، لهم ويقول في ذلك: " ومن رأي هؤلاء (يعني الخوارج) أحدث المعتزلة في التحسين والتقبيح إلى العقل وأن العدل ما يقتضيه"  (4) .
ويقول عنهم عثمان بن عبد العزيز الحنبلي في مخطوطته "منهج المعارج": " ومن رأيهم (الخوارج) أخذت المعتزلة التحسين والتقبيح بالعقل وضرب الأمثال به، وأن العدل ما يقتضيه"  (5) .
وهناك فرقة من الخوارج وهي "الأطرافية" تزعم أن العقل يعرف الواجبات العقلية وأنه يعرف به أيضاً الواجبات الدينية، ولهذا فقد رأوا أن أهل الأطراف النائية من البلدان معذورون فيما لم يعرفوا عن الشرع نصاً في أمر من الأمور إذا عملوا ما يقره العقل.
يقول الشهرستاني عن هذه الفرقة: إنهم " عذروا أصحاب الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل وأثبتوا واجبات عقلية"  (6) ، وقد وصف الشهرستاني كذلك المحكمة الأولى بأنهم من "أشد الناس قولاً بالقياس"  (7) ، والقياس استعمال للعقل في تعديه الحكم وإن كان قائماً على أساس من النص الشرعي.
بل لقد رأينا يسند إلى ذي الخويصرة الذي يعتبره زعيم الخوارج الأول القول بالتحسين والتقبيح العقليين حيث يقول: " وذلك (يعني به قول ذي الخويصرة للنبي صلى الله عليه وسلم: " هذه قسمة ما أريد بها وجه الله") خروج صريح على النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صار من اعترض على الإمام الحق خارجياً فمن اعترض على الرسول أحق بأن يكون خارجياً، أو ليس قولاً بتحسين العقل وتقبيحه وحكماً بالهوى في مقابلة النص واستكباراً على الأمر بقياس العقل"  (8) .
الاتجاه الثاني: وفي مقابل القول السابق أن الخوارج يقولون بقدرة العقل على الحكم على الأشياء والأفعال؛ نجد من يعكس الأمر ويذهب إلى أن الخوارج لا ترى للعقل أي ميزة في الحكم على الأفعال من حسن وقبيح، وهذا الرأي قد قال به أحمد الصابوني الماتريدي فيما يرويه عنه الطالبي بقوله: إنه - أي الصابوني- " يزعم أن الخوارج المحكمة يرون مع الملاحدة والروافض والمشبهة أن العقل لا يعرف به شيء ولا يوجب شيئاً من الأحكام العقلية أو الشرعية لا على الأفعال ولا على الأشياء". 
وقد اعتبر الطالبي رأي أحمد الصابوني كأنه خبر آحاد خاصة أنه لم يبين لنا سنده ولا مصدره، بخلاف من تقدم النقل عنهم وهم القائلون بعقلانية الخوارج، فإنهم أولى – على حد تعبيره – بقبول قولهم منه لكثرة إطلاعهم على آراء الخوارج  (9) .
وما قاله الصابوني هنا عن الخوارج يتفق مع ما ذكره الأشعري عن حاكٍ لم يعين اسمه حكى عن الخوارج أنهم " لا يرون على الناس فرضاً ما لم تأتهم الرسل، وأن الفرائض تلزم بالرسل واعتلوا بقول الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[الإسراء: 15]  (10) .
ولعلنا بعد أن عرضنا هذين الاتجاهين في تحديد موقف الخوارج بين العقل والنقل فيما يتعلق بالمعرفة وإدراك حسن الأفعال وقبحها – لعلنا بعد عرضنا لهذين الاتجاهين نجد أن الاتجاه الأول وهو القول بأن الخوارج عقليون؛ قد تضافرت على توثيقه وشرحه أقوال كثرة من العلماء لم تتوافر للاتجاه الثاني وهو القول بأن الخوارج يرجعون بالمعرفة وبالتحسين والتقبيح إلى الشرع.
فالأشعري يحكي ذلك عن حاك مجهول لم يذكر اسمه كما قلنا، وقد قلنا من قبل كذلك أن الطالبي قد جعل قبول أقوال العلماء الكثيرين في الاتجاه الأول أولى من قبول كلام الصابوني الذي لم يبين مصدره ولا سنده فيه، ولا يفوتنا أن ننوه بالأسماء التي حكمت على الخوارج بأنهم عقليون كالبغدادي والشهرستاني وابن الجوزي والشيخ المفيد وعثمان الحنبلي.
وإن كنا نجد من الواجب علينا أن نختم هذه الكلمة بالإشارة إلى تلك الصعوبة التي شرحناها في مقدمة هذا البحث، وهي أننا في كثير من الأحيان نأخذ آراء الخوارج من كتب غيرهم، وفيما يتعلق بهذه المسألة بالذات فإنه لم يقع لي فيما اطلعت عليه من كتب الخوارج المطبوعة والمخطوطة نص فيها، وإنما رجحنا كفة الفريق الأول من العلماء لما قدمناه من مبررات.
وإذا أردنا أن نضع الاتجاه العقلي في ميزان الإسلام ؛ فالواجب في هذا المقام أن يقال ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من أن "ما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك"  (11) .
ويجب أن يعتقد كل مسلم أن لا حسن ولا قبح ولا عقل في مقابلة الشرع، فإذا صح النص عن الله تعالى أو عن رسوله؛ وجب التسليم له دون معارضته بأي نوع من المعارضة، فإن معارضة العقل للنقل خطأ واضح معلوم الفساد كما قال ابن القيم رحمه الله  (12) .
وأخيراً فإن مذهب السلف في هذا الباب هو الاعتقاد بأنه ليس في فعل من الأفعال معنى حسن يقتضي وجوبه أو ندبه أو ثواب فاعله أو معنى قبيح يقتضي كراهيته وحرمته وجزاء ذلك، بل الأفعال كلها سواسية، بل حسن الفعل هو أمر الله تعالى به، وقبحه هو نهي الله تعالى عنه، وليس فيه معنى يوجب ذلك حتى لو أمر بشيء كان حسناً، فإذا ما نهى عنه بعد ذلك صار قبيحاً، وبالعكس إذا نهى عن أمر كان قبيحاً، فإذا أمر به بعد ذلك كان حسناً، ولا سبيل إلى العلم بذلك إلا بالشرح والوحي.
هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط؟
تعريف التأويل في اللغة
يطلق التأويل في اللغة على عدة معاني، منها التفسير والمرجع والمصير والعاقبة، وتلك المعاني موجودة في القرآن والسنة: قال الله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ [الأعراف: 53], وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))  (1) .
تعريفه في الاصطلاح: عند السلف له معنيان:
1- يطلق بمعنى التفسير والبيان وإيضاح المعاني المقصودة من الكلام، فيقال: تأويل الآية كذا؛ أي معناها.
2- يطلق بمعنى المآل والمرجع والعاقبة فيقال هذه الآية مضى تأويلها، وهذه لم يأت تأويلها.
والفرق بينهما: أنه لا يلزم من معرفة التأويل بمعنى التفسير معرفة التأويل الذي هو بمعنى المصير والعاقبة، فقد يعرف معنى النص ولكن لا تعرف حقيقته كأسماء الله وصفاته فحقيقتها وكيفيتها كما هي غير معلومة لأحد بخلاف معانيها.
3- وعند الخلف من علماء الكلام والأصول و الفقه هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.
وهذا التأويل مرفوض عند السلف واعتبروه تحريفاً باطلاً في باب الصفات الإلهية، وقد ظهر هذا المعنى للتأويل متأخراً عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة، بل ظهر مع ظهور الفرق ودخلوا منه إلى تحريف النصوص، وكانت له نتائج خطيرة؛ إذ كلما توغلوا في تأويل المعاني وتحريفها بعدوا عن المعنى الحق الذي تهدف إليه النصوص، وبالنسبة لموقف الخوارج فإن العلماء اختلفوا في الحكم على الخوارج بأنهم نصِّيُّون أو مؤولون.
1- فذهب بعضهم إلى أن الخوارج نصيون يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحث عن معناه الذي يهدف إليه، وهذا رأي أحمد أمين  (2) وأبي زهرة  (3) .
2- وذهب آخرون إلى أن الخوارج يؤولون النصوص تأويلاً يوافق أهوائهم، وقد غلطوا حين ظنوا أن تأويلهم هو ما تهدف إليه النصوص، وعلى هذا الرأي ابن عباس وشيخ الإسلام ابن تيمية  (4) .وابن القيم  (5) .
3- ومن العلماء من ذهب إلى القول بأن الخوارج ليسوا على رأي واحد في هذه القضية؛ بل منهم نصيون ومنهم مؤولون، كما ذهب إلى هذا الأشعري في مقالاته  (6) .
وهذا هو الراجح فيما يبدو من آراء الخوارج، ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين، وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين الموقفين داخل الفرقة الواحدة، والواقع أن لكل من المواقف الثلاثة ما يبرر حكمهم على الخوارج، كما يتضح ذلك جلياً في مواقف الخوارج المختلفة.
ويبدو لي أن التأويل الذي نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة رحمهما الله إنما هو التأويل الصحيح الذي يفهم صاحبه النص على ضوء مقاصد الشريعة.
وأما التأويل الذي يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثاني ويذمونهم به –فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق.
 
لعب التأويل دوراً بارزاً في مفاهيم الناس، وكانت له نتائج خطيرة في حياتهم، خصوصاً تلك التأويلات المذمومة التي جرت على المسلمين محناً شتى بسبب سوء الفهم لكثير من القضايا الإسلامية، وكانت له آثاراً سيئة إذ فرق بين كلمة المسلمين وباعد بينهم وبين جوهر الشريعة وأساسها المتين.
ولقد تدرج أهل التأويل من سيئ إلى أسوأ في فهم المعاني التي يدعون معرفتها، وذلك لأنهم كلما توغلوا في تأويلٍ كلما بعدوا عن المعنى الصحيح الذي تهدف إليه النصوص، وفيما يتعلق بموقف الخوارج بين الوقوف عند ظاهر النص الشرعي وتأويله، نجد هناك أيضاً اتجاهين في تصوير موقفهم من هذه القضية:
الاتجاه الأول: القول بأنهم نصيون يقفون عند ظاهر النصوص الشرعية دون تأويل لها أو اجتهاد فيها، وهذا ما يراه أحمد أمين رحمه الله، فهو يرى أنهم يقدمون النص على التأويل ؛ لأنهم كما يذكر على بساطتهم البدوية التي لا تعرف التعمق في المعاني واستخراجها، كما هي عادة أهل المعرفة، ويذكر أنهم لو عاشوا في العصر العباسي لكانوا ظاهرية تماماً. 
فيقول:"ومن أكبر مظاهر بساطتهم وعدم تفلسفهم أن الناظر فيما روى لنا من جدلهم ومناظراتهم يرى أنهم التزموا حرفية الكتاب والسنة ولم يتعمقوا في التأويل، فلو أنهم عاشوا في العصر العباسي لكانوا من أهل الظاهر الذين لا يقولون بقياس ويرون اتباع ظواهر النصوص من غير تأويل، وقد أدى تمسك الخوارج بظواهر النصوص إلى سخافات"  (7) .
ويصفهم أبو زهرة بأنهم يتمسكون بظواهر الألفاظ تمسكاً شديداً غير ملتفتين إلى المعاني التي تطلب من وراء الألفاظ، وهم على غاية ما يتصور من التحمس والاندفاع إلى تأييد ما رأوه صواباً، ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواحهم ثمناً للدفاع عن ذلك الرأي، يصف أبو زهرة هذا الاندفاع بقوله: "وهم في دفاعهم وتهورهم مستمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها وظنوا هذه الظواهر ديناً مقدساً لا يحيد عنه مؤمن"  (8) .
ولهذا كانت مناظرات الإمام علي لهم في بعض المواقف ليست بالرجوع إلى النصوص؛ لأنهم سطحيون في فهمها يفسرونها بما يحبون من موافقة آرائهم، وهذا ما عناه أبو زهرة بقوله: " ولأنهم يتمسكون بظواهر الألفاظ نرى علياً عندما ناقشهم في هذا لم يجادلهم بالنصوص؛ لأنهم لا يأخذون إلا بظواهرها، بل كان يناقشهم بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم"  (9) .
الاتجاه الثاني: أما الاتجاه الثاني في تصوير موقف الخوارج بين الالتزام بظاهر النص والتأويل، فيذهب أصحابه إلى القول بأن الخوارج خاضوا غمار التأويلات التي أنتجت من المآسي والحروب ما جعلهم محل بغض لدى جميع مخالفيهم.
ويرد ابن القيم رحمه الله افتراق الفرق الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة إلى بلية التأويل، ويرى أنه كان السبب في نشأة الخوارج وفي مقتل الخليفتين الراشدين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ثم أدى بالخوارج إلى تلك المعتقدات الباطلة التي اشتهرت عنهم، مثل القول بتخليد أهل الكبائر في النار، ونكرانهم شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرهما من الأقوال الخاطئة، يقول ابن القيم مقرراً الأحداث التي وقعت بسبب التأويل ودور الخوارج فيه:
هذا وأصل بلية الإســلام مـن           تأويل ذي التحريف والبطلان
وهو الذي فرق السبعيــن بـل           زادت ثلاثا قول ذي البرهـان
وهو الذي قتل الخليفة جامع القر   آن ذا النورين والإحســان
وهو الذي قتل الخليفـة بعــده           أعنـي علياً قاتل الأقــران
 
 
ويقول أيضاً:
وهو الذي أنشأ الخوارج مثــل   إنشـاء أخبـث الحيــوان
ولأجلـه شتمـوا خيار الخلـق           بعد الرسل بالعدوان والبهتان
ولأجلـه قد خلدوا أهل الكبــا   ئر في الجحيم كعابد الأوثـان
ولأجلـه قد أنكروا شفاعة المختا   ر فيهـم غاية النكــران (10)  
 
 
                                    
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أهل البدع كالخوارج وغيرهم هم أهل أهواء وشبهات يتبعون فيما يحبون ويبغضون ما تحبه أنفسهم ويوافق أهواءهم من تأويلات فاسدة، " فكل فريق منهم قد أصل لنفسه ديناً وضعه إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات، وإما بذوقه وهواه الذي يسميه ذوقيات، وإما بتأوله القرآن ويحرف فيه الكلم عن مواضعه ويقول إنه إنما يتبع القرآن كالخوارج". 
ولكن بدعة الخوارج كما يقولون: " كان قصد أهلها متابعة النص والرسول، لكن غلطوا في فهم النصوص وكذبوا بما يخالف ظنهم من الحديث ومعاني الآيات"  (11) .
ويقول ابن حجر عن انحراف الخوارج في التأويل مع كثرة العبادة والزهد: "وكان يقال لهم القراء لشدة احتياجهم في التلاوة والعبادة إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك "  (12) .
وقد وصف ابن عباس الخوارج الذين اشتهروا بقراءتهم للقرآن وعبادتهم التي يبالغون في أدائها بأنهم "يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه"  (13) ؛ وذلك بسبب ما أخطؤوا فيه من تأويلات باطلة معتقدين صحتها، وبالتالي طبقوها في أقوالهم وأفعالهم التي تميزت بالانحراف البين في كثير من الآراء.
وقد أرسله علي بن أبي طالب إليهم ليراجعهم ويطلب منهم العودة، فلما رجع قال له علي رضي الله عنه: " ما رأيت ؟ فقال ابن عباس: والله ما سيماهم بسيما المنافقين، إن بين أعينهم لأثر السجود وهم يتأولون القرآن"  (14) .
وكان من نتيجة تأويلهم القرآن وتتبعهم لمتشابهه أن كفروا الناس وأئمة مخالفيهم ؛ لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله فاستحقوا الكفر - بزعمهم -، وهذا هو الباعث لهم على تكفير غيرهم فيما يراه سعيد بن جبير، كما أخرج عنه ابن المنذر أنه قال: "المتشابهات آيات في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرأوهن، ومن أجل ذلك يضل من ضل، فكر فرقة يقرأون آية من القرآن يزعمون أنها لهم، فمنها يتبع الحرورية من المتشابه قول الله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44], ثم يقرأون معها ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1]. ، فإذا رأو الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، فمن كفر عدل بربه، ومن عدل بربه فقد أشرك به؛ فهذه الأئمة مشركون"  (15) .
وقال السيوطي أيضاً ومثله الشوكاني: " وأخرج عبدالرازق وأحمد وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] قال: " هم الخوارج"  (16) .
وقد أخبر عمر بن عبد العزيز عن بعض جرائم الخوارج متأولين القرآن على غير وجهه؛ وذلك في قوله لوفد الخوارج الذين أرسلوهم لمناظرته في المسائل التي نقموها على بني أمية، فكان من كلام عمر أن قال لهم: " فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي حين خرج من البصرة هو وأصحابه يريدون أصحابكم بالكوفة، فمروا بعبد الله بن خباب فقتلوه وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل، وتأولوا قول الله: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27], ، فلم يسعهم إلا الاعتراف بذلك"  (17) .
ومن أقبح تأويلات الخوارج وأحقها بالمقت ما ذكره علماء الفرق كالأشعري والبغدادي والشهرستاني وغيرهم عن فرقة الأزارقة والحفصية من الإباضية من تأويلهم لبعض الآيات كذباً وافتراء بتأويلاتهم الباطلة، كما وقع لهم في حق الإمام علي رضي الله عنه  (18) ، مما سنذكره عند عرض موقفهم من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
ومما تقدم بيانه نعرف مدى تعلق الخوارج بالتأويل، وأنه كان السبب في كثير من أخطائهم الجسيمة التي ارتكبوها بحجة أن القرآن يطلب منهم ذلك، حين فتحوا لأنفسهم باب التأويل الذي لم يسبقهم إليه أحد فيما يرى الطالبي، ويقرر ذلك بقوله: "ونحن نزعم أن الخوارج هم أول من فتح باب التأويل في تاريخ الفرق الإسلامية وفي تاريخ هذه الملة، وكان لتأويلاتهم نتائج عملية خطيرة أقبتها بدورها آراء نظرية". ويرى أيضاً أن تطور آراء الخوارج منذ نشأتهم كان أساسه التأويل والجدل ومجاوزة ظاهر النصوص إلى ما يوافق ما يرونه من آراء وما يعتقدونه من اعتقادات  (19) .
وكان من مذهب قطري – وهو من رؤساء الخوارج – أن المتأول المخطئ معذور لا ينبغي معاقبته، ولهذا فقد قال لمن طلب واليه أن يقتل المقعطر وهو أحد شجعانهم بقتيل منهم، فقال لهم قطري معتذراً له: "رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه"  (20) .
والتأويل مظهر من مظاهر التفكير الحر الذي تميز به الخوارج ولجؤوا إليه في معارضة المذاهب الأخرى، وهذا هو ما يراه جولد زيهر حيث يقول: " وفي العهد الذي كان المذهب الخارجي فيه لا يزال مضطرباً مهوشاً لم يبلغ درجة التماسك والاستقرار، ولم يصبح نظاماً وضعياً محكماً كانت قد ظهرت عند فقهاء الخوارج نزعات عقلية دفعت بهم إلى التفكير في المسائل الدينية تفكيراً حراً، وذلك عندما غلبت على مذهبهم المظاهر السلبية التي عارضوا بها مذهب أهل السنة"  (21) .
وهكذا نجد أنفسنا في تصوير موقف الخوارج من النصوص الشرعية بين الوقوف عند ظاهرها وإعمال العقل فيها بالاجتهاد والتأويل – نجد أنفسنا في هذه القضية بين هذين الاتجاهين السابقين، ولكنا في الوقت ذاته نرى الإمام الأشعري لا يطلق أياً من هذين الحكمين على الخوارج جميعاً، بل يمايز بين النصيين منهم والاجتهاديين فيقول: "وهم صنفان، فمنهم من يجيز الاجتهاد في الأحكام كنحو النجدات وغيرهم، ومنهم من ينكر ذلك ولا يقول إلا بظاهر القرآن وهم الأزارقة"  (22) .
بل إننا نجد أن لا يؤاخذه على أي فعل يفعله الإنسان حتى ولو كان نكاح المحرمات مادام ذلك صادراً عن اجتهاد خاطئ. وهذا ما يرويه عنه ابن أبي الحديد في قوله عند بيان الأحداث التي أحدثها نجدة فجرت عليه نقمة أتباعه..." ومنها قوله: إن المجتهد المخطئ بعد الاجتهاد معذور... فمن استحل محرماً من طريق الاجتهاد فهو معذور"  (23) .
والواقع أن الإمام الأشعري كان على حق عندما أدرك أنه لا يمكن وصف جميع الخوارج بأنهم نصيون أو بأنهم مؤولون، ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين، وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين الموقفين داخل الفرقة الواحدة وعلى حسب اختلاف مواقفهم من مسائل العقيدة.
ويبدوا أن الذين حكموا على الخوارج بأنهم نصيون كان- لهم ما يبرر حكمهم مما وجدوه في موقف الخوارج من بعض مسائل الخلاف، وأن الذين حكموا عليهم بأنهم متأولون للنصوص على غير تأويلها الصحيح، حاملون لها على غير محاملها- وجدوا في مواقف الخوارج من بعض مسائل العقيدة ما يبرر حكمهم هذا، وكل نظر إلى ناحية معينة.
ولو نظرنا في آرائهم واستدلالاتهم لوجدنا هاتين الظاهرتين موجودتين عند الخوارج، فمرة يقفون هذا الموقف ومرة يقفون ذاك، بل ربما أدى بهم التمسك بظاهر النص دون تأويل صحيح له ودون جمع بينه وبين غيره من النصوص، ربما أدى بهم ذلك إلى حمله على غير محمله الصحيح، وسوف يتبين لنا ذلك بوضوح بعد عرضنا لمختلف أراء الخوارج ومواقفهم، وأنهم يقفون من النصوص أحد هذين الموقفين تبعاً لما يخدم أغراضهم ويساير آراءهم.
ويبدو لي أن التأويل الذي نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة إنما هو التأويل الصحيح الذي يفهم فيه صاحبه النص الشرعي على ضوء الجمع بينه وبين غيره من النصوص الأخرى، وعلى ضوء مقاصد الشريعة العامة.
أما التأويل الذي يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثاني فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق، وهذا النوع من التأويل لا أظن أن أحمد أمين وأبا زهرة كانا يطلبانه من الخوارج عندما ذموهم بأنهم كانوا نصيين لا مأولين، وإنما كانا يقصدان التأويل الصحيح الذي ذكرناه من قبل.
وهذا النوع الفاسد من التأويل مذموم شرعاً وهو أساس انحراف الفرق الضالة عن جادة الصواب في آرائها وأحكامها، وهو الذي ذم الله به أقواماً تتبعوا متشابه القرآن ابتغاء تأويله، وما دخل على الفلاسفة والصوفية والمعتزلة وغيرهم من المأولين للنصوص على هذا النحو الفاسد- ما دخل عليهم خطؤهم في الرأي وفهم الشرع إلا من قبل ميلهم إلى التأويل وإخراج النص عن ظاهره وهو الأمر الذي أدى بهم إلى حمل النصوص على غير محاملها الصحيحة وتفسيرها بغير ما يصح فيها من تفسير.
وقد وصف ابن القيم التأويل بأنه شر من التعطيل لأنه - كما يذكر - يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها

  • الخميس PM 04:29
    2015-07-16
  • 4134
Powered by: GateGold