المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 655926
يتصفح الموقع حاليا : 427

البحث

البحث

عرض المادة

قوامة الرجال على النساء ميزان استقرار للأسرة المسلمة

د/احمد نصير

قوامة الرجال على النساء ميزان استقرار للأسرة المسلمة

قال تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المسلم ، وغايتها تربية جيل على العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة والأخلاق الفاضلة والمعاملة للناس بالحسنى ، وإيصال الخير للناس بدون مقابل ، والتربية على الجلد والصبر وحفظ الوقت وتنظيم الأعمال وتدبير الحال وتقوية البدن وتثقيف العقل والتعاون والاستقامة على ذلك حتى الممات .

ناهيك عما يحظى به الزوجان من استقرار وسكينة تدفعانهما للتقدم إلى معترك الحياة بقوة فاعلة وطاقات منتجة ، ونيات صالحة وخدمات مؤثرة ومعتدية النفع للآخرين ، وتقوم الأسرة المسلمة علي مبادئ أساسية يجب مراعاتها من الطرفين "الزوج والزوجة" ، فالأسرة كمؤسسة صغيرة في المجتمع لابد لها من قائد يقودها ، ولذلك جعل الله القوامة للرجل ، ولم يجعل القوامة للمرأة ، فلا ينصلح حال للأسرة إلا باقتناع الزوجة – ابتداءً – أن القوامة ليست لها ، وإنما هي للرجل ، فلا تنازعه فيما فضل الله به الرجل عليها ، فهذا فضل الله يعطيه لمن يشاء ، والله أعلم بمن هو أولى بذلك ، ويجب أن يكون أساس اقناعة المرأة دين الإسلام ، بأن تعتقد اعتقادًا جازمًا أن الله تعالى لا يقرر حكما إلا لحكمة يعلمها ، وأنه لا ينبغي الاعتراض على حكمه ويجب الإذعان والامتثال له وبرضاء وتسليم تامَّيْن ، وفي المقابل لابد للرجل أن يفهم معنى القوامة وشروطها وواجباتها ومسئولياتها وآثارها ، فهي في الحقيقة عبء وواجب وليس ميزة تفضيلية بإطلاق ، بل هي أمانة وسوف يحاسب عليها يوم القيامة .

وقد علم العلماء طرفًا من هذه الحكمة باستقراء نصوص الشرع وقوله سبحانه (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أي فيما ميز الله به الرجال على النساء من قوة البدن ورجاحة العقل وتحمل المشقة والجلد ، والسعي على طلب الرزق ، والكرم الذي يسع نفقة البيت والأهل ، فذلك ما على الرجال للنساء ، وهو في ذات الوقت ما للنساء على الرجال ، وتلك هي قسمة الله تعالى العادلة ، فإذا اعترفت المرأة بحق الرجل عليها توجب توجيه المدح إليها بأنها صالحة ، ويظهر هذا المعنى من الصلاح في أمرين حفظ حق الله (بالقنوت في الصلاة) ، وحفظ حق الزوج في غيبته ، يقول رسول الله  (خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها) ، وفي رواية (إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته) .

ولحرص الإسلام على أن تظل الأسرة المسلمة متماسكة يحوطها دفء الأبوين وحنان الزوجين وضع من الإجراءات الاحترازية ما يضمن انصلاح حال الأسرة لتظل دومًا على الجادة المستقيمة ، فبمجرد ظهور بوادر النشوز وعدم الطاعة من الزوجة ، أمر الشرع الزوج باعتباره قوامًا على أمر زوجته أن يوجه إليها الوعظ بالكلمة الطيبة المؤثرة ، لعلها تتعظ بوعظه ، فالذكرى تنفع المؤمنين ، فإن غاب عقلها عن فهم ذلك فلينتقل إلى أسلوب أشد ، فيخاطب العاطفة لا العقل ، بأن يهجرها في المضجع شريطة ألا يهجرها إلا في البيت ، لتظل أسرار الأسرة محفوظة ، ولعلها ترجع له ويلين لها متى ظل الحال على ذلك من المعروف دون مساس ، ومن الاحترام دون عاطفة ، ثم إن لم ينفع الاحترام الإنساني والتأديب النفسي ، فإنه يكون مضطرًا لارتكاب أخف الضررين ، وذلك بأن يلجأ إلى نوع موصوف في الشرع من الضرب غير المبرح متى كان لابد وأن يفعل ذلك ، ولم يتآل عليها ، ودون تعسف أو شطط ، مخافة أن ينهار البيت ، وبنية المحافظة عليه ، فإن استقام أمرها فقد أوصاه الشرع بأن يكف عنها فور رجوعها إليه ، ليشرعا معا في نهج الحياة الزوجية كما أمر الله تعالى .

أما إن اُستنفدت هذه الإجراءات دون أن يتحقق الغرض منها ، فالشرع لا يريد أن تظهر الأسرة المسلمة بمظهر الشقاق والخلاف ، لما في ذلك من تأثير سلبي على البيت كله والأولاد ، لاسيما وأن المشكلات الزوجية المتفاقمة تؤثر سلبًا على الأولاد ، وقد يضرهما رؤية ذلك في حياتهما المستقبلية التي قد يشرعوا في إنشائها مع شريك المستقبل ، وعليه إذا ما بدرت مظاهر الشقاق بينهما ، فالأمر موكول للحكمين ، وهما كبار قومهما وأهلهما ، يناط بهما الحكم بينهما بما يصلح شأنهما ، بعد أن يحققا في الأمر ليعرفا المخطئ من المصيب ، وليعرفا مقدار خطأ كل منهما ، لا لأجل العتاب والحساب ، وإنما لأجل الإصلاح وجبر الأضرار ، فإن وُفقا لذلك فبتوفيق من الله ونعمة ، وإن لم يوفقا لذلك ، فلعل الله يوفقهما لخير من ذلك ، والله خبير بما سيؤول إليه حالهما بعد ذلك .

ففي قوله تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) قسمة حق وعدل راعى فيها الشارع ما فُضِل به الرجال على النساء ، فجعل لهم القوامة عليهن لأجل هذا التفضيل ، والعبارة خبر تقريري ، أي كاشف عن هذه القوامة ، ويترتب عليه تشريع ملزم بأن تظل القوامة للرجال ، حيث يتولى الرجال مسئولية النساء من حيث كفايتهن النفقة والرعاية والأمن والأمان ، فالشرع لا يقرر القوامة لذاتها ، وإنما غايتها الأسرة المسلمة ، ولذلك كانت القوامة أهم مقوماتها .

قال ابن عجيبة أي : (قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية ، في التأديب والإنفاق والتعليم ، ذلك لأمرين : أحدهما وهبي ، والآخر كسبي ؛ فالوهبي : هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خُصوا بالنبوة ، والإمامة ، والولاية ، وإقامة الشعائر ، والشهادة ، في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما ، والتعصيب ، وزيادة السهم في الميراث ، والاستبداد بالطلاق) ، وأما الكسبي فهو الإنفاق عليها وعلى البيت كله .

وحق القوامة حق شرعي مقرر لحفظ الأسرة ، وليس مجرد حق للرجل ، قال ابن الجزي ("قوّام" بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه) ، ويفيد ذلك أن مسئولية الرجل تظل قائمة على زوجته طالما عقد النكاح ما يزال قائمًا بينهمًا ، فلا يجوز للرجل أن يتنازل عن هذا الحق ، ولا يجوز للمرأة أن تنافسه فتنزل ميدان الكسب والعمل إلا مضطرة متى لم يكن في المجتمع من يكفلها ، انظر كيف تنافس مجتمع عيسى عليه السلام في اختيار من يكفل أمه مريم فقال سبحانه (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران/44) ، فالرجولة لا تعرف إلا بذاك ، والشرع قد نظر إلى ضعف المرأة ، فلم يحملها بأكثر مما تطيق ، وحال بينها وبين أن تتولى مسئولية نفسها ، فأحاطها بسياج الأسرة ، وجعلها في كنف أبيها وأخواتها حتى تتزوج فتنتقل إلى كنف زوجها ورعايته ، فلا تضطر أن تخرج وتنافس الرجال في ميادين العمل والكسب ، وقد ألزمها الله البيت ، فقال سبحانه (وقرن في بيوتكن) ، وذلك لأجل التفرغ لما هو أولى من العمل خارج البيت ، وليكن همها مرتبط بمصلحة البيت والأسرة في المقام الأول ، فلا يكون خروجها للعمل إلا استثناءً ، ولذلك التفت نبي الله موسى متعجبًا إلى المرأتين اللتين خرجتا لسقي غنمهما ، ليسألهما عن شأنهما ، ما لكما ؟ ماخطبكما ؟ تخرجان لسقاية الغنم ، أليس ثمة رجل يقوم عليكما ؟ فاعتذرتا بأدب وقالتا (لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص/23) ، فأبدتا له عذرهما في الخروج للعمل ، بأن أبوهما غير قادر على ذلك ، فلما سمع عذرهما بادر بمساعدتهما دون أن يطلب منهما أجرًا ، قال تعالى (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص/24) ، ولذلك كان الإخبار بحاجتهما كافيًا لبيان الإلزام بمعاونتهما ، دون حاجة لصدور أمر تكليفي بها ، فذلك من مقتضيات الفطرة السليمة ، وذلك قبل أن يتولى مسئولية النبوة ، ويُكلف بها .

وفي قوله (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) قال الشيخ سيد طنطاوي (وإذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين - الرجل والمرأة - فلابد أن يشرف على تهذيب الأسرة ويقوم على ترتيبة ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين ، وقد نظر الإِسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة ، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه ، وأقدر على ضبط حسه ، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه فجعل له الرياسة) .

وفي ذات الوقت أقر الشرع بحقوقهن الإنسانية رغم ما للرجال عليهن من قوامة ، كما في قوله (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/228) ، أي أنها وإن كانت لها حقوقًا تماثل الرجال لكن للرجال عليهن درجة ، فالأفضلية لهم عليهن بتلك الدرجة ، قال الرازي (اعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة ، بعضها صفات حقيقية ، وبعضها أحكام شرعية ، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين : إلى العلم ، وإلى القدرة ، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر ، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل ، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة ، والكتابة في الغالب والفروسية والرمي ، وأن منهم الأنبياء والعلماء ، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق ، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه ، وزيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث ، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ ، وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج ، وإليهم الانتساب ، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء) .

وفي قوله تعالى (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ذكر للسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة ، لأنه (يعطيها المهر وينفق عليها) ، فعَنْ النَّبِيِّ  قَالَ (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ) .

ومقابل النفقة طاعة الزوجة لزوجها وعدم النشوز ، فإن نشزت تسقط نفقتها حال ذلك ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى إسقاط نفقة المرأة الناشز -غير الحامل- في فترة نشوزها ، ولم يخالف في ذلك إلا قلة من العلماء، قال ابن المنذر: (اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعًا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة) ، وقال أبو عمر: من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملًا .. ، وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها ، ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز؛ لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور) .

وقال ابن قدامة: (فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم؛ منهم: الشعبي، وحماد، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأبو ثور. وقال الحكم: لها النفقة. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا خالف هؤلاء إلا الحكم، ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها، فكذلك نفقتها) .

والآية دليل على أنه (إذا أُعسر بالنفقة لم يكن قيماً عليها، وإذا لم يكن قيماً عليها فهي كلحم على وضم فلا بد لها من قوّام، ولم يشرع النكاح إلا لتحصينها وحاجتها إلى القوام) ، وتلك حالة من الحالات المبررة لطلاق المرأة من الرجل لعدم الإنفاق ، لقوله تعالى (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:229) ، وليس من المعروف ألا ينفق عليها ، أو يخل بشروط القوامة سواء أكان بقصده أو بدون ، قال ابن قدامة (الرَّجُلَ إذَا مَنَعَ امْرَأَتَهُ النَّفَقَةَ ، لِعُسْرَتِهِ ، وَعَدَمِ مَا يُنْفِقُهُ ، فَالْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ فِرَاقِهِ) ، وقال (وَلَيْسَ الْإِمْسَاكُ مَعَ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ ، فَيَتَعَيَّنُ التَّسْرِيحُ) .

ويدخل المهر في معنى "النفقة" كذلك ، ذلك أن قوامة الرجل وإن كانت ظاهرة بعد الدخول بسبب نفقة البيت ، والتي هي بقدر الحاجة والكفاف ، فلابد وأن تكون كذلك قبل الدخول بأن يتقدم بالمهر لها ، فيغدو المهر دليل الغنى والفضل ، فيتحقق له الفضل ابتداءً حين تتلمس بهذا الجعل المادي الملموس ما يُطيِّب قلبها له ، فتخضع لقوامته ، فالمشاعر والعواطف شيء مشترك بينهما ومتبادل ، لكن المهر منه لها فضل ، تختص به وتستأثر به دونه ، فهو حق خالص لها ، فيستطيب به قلبها فلا تمتنع عنه بعد ذلك ، فإن لم يعطها معجل مهرها ، فلها أن تمتنع عنه حتى يوفيها حقها ، قال الفقهاء (ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال فإن سلمت نفسها طوعا ثم أرادت المنع لم تملكه) .

وانشغال الرجل بالنفقة على الزوجة والأولاد لا يمنعه من أن ينشغل بالإنفاق في سائر وجوه الإنفاق في سبيل الله ، فإن كان ثمة تعارض فالنفقة على البيت مقدمة على غيره ، لحديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله  (دِينَارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ ، وَدِينار أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ ، وَدِينارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أنْفَقْتَهُ عَلَى أهْلِكَ ، أعْظَمُهَا أجْراً الَّذِي أنْفَقْتَهُ عَلَى أهْلِكَ) ، وليس معنى ذلك أن يستغرق الرجل أمواله لينفقها كلها على أهله تاركًا ميادين الإنفاق في سبيل الله بحجة خيرية الإنفاق على الأهل كما في الحديث المتقدم ، ذلك أن كلا من "المهر – ونفقة البيت" هما حق الله تعالى ، والله تعالى هو الذي رتب الحقوق حال التعارض ، فإن لم تتعارض فلا يتغافل المسلم عن إحداها بحجة الأولوية ويقصر في الباقي ، فعنه - - ، قَالَ : (أفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفقُهُ الرَّجُلُ : دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ ، وَدينَارٌ يُنْفقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ في سَبيلِ الله ، وَدِينارٌ يُنْفقُهُ عَلَى أصْحَابهِ في سَبيلِ اللهِ) ، وبذلك جمع النبي  بين أنواع النفقة لمن يملك طولا لذلك .

وفي قوله تعالى (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) بيان لمعيار المرأة الصالحة ، قال النبي  "الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ" ، وقال  " إِنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ " ، وعن أبي هريرة قال قيل لرسول الله  أي النساء خير ؟ قال (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره) ، بذلك نرى أن سورة النساء وضعت ميزانا دقيقا لاستقرار الأسرة المسلمة ، في ظل معتركات الحياة وضغوط العمل وضيق العيش ، ويتضح ذلك في قول رسول الله  (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا .

فالمعيار الوارد في الآية أشار إلي صلاح دينها بقوله (قانتات) ، وصلاح دنياها بقوله (حافظات للغيب بما حفظ الله) ، فأما أنهنَّ يتصفنَّ بأنهن (قانتات) فذلك يدل على كثرة الدعاء والذكر والصلاة وقراءة القرآن ، فهنَّ مجتهدات في العبادة ، وذلك لتفرغهنَّ عن الرجال لذلك ، فناسب أن يقضينَ أكثر أوقاتهنَّ في العبادة ، فعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ عَلَّمَنِي جَدِّي رَسُولُ اللَّهِ  كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ اللَّهُمَّ عَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَاهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ) .

كما أن وصفهن بالقانتات يعني أنهن "طائعات" ، فهن طائعات لله فيما أمر ، وطائعات لمن أمرهن الله أن يطعنه كأبيها وزوجها ، قال ابن تيمية مستشهدًا بهذه الآية (الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا، وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ) ، واستشهد لذلك بحديث النبي  قال (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) ، قال الألباني (الأحاديث ظاهرة الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها وخدمتها إياه في حدود استطاعتها ، ومما لا شك فيها أن من أول ما يدخل في ذلك الخدمة في منزله وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك) ، فحُكْم الله أن يُحمَّل الرجال بالكسب والإنفاق ، وتُحمَّل النساء بالرعاية والخدمة ، قال رسول الله  (الرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) ، قال المناوي (بحسن تدبير المعيشة والنصح له والشفقة والأمانة وحفظ نفسها وماله وأطفاله وأضيافه (وهي مسؤلة عن رعيتها) هل قامت بما عليها أولاً فإذا أدخل الرجل قوته بيته فالمرأة أمينة عليه) ، وبذلك تتوزع المسئولية عليهما فتتفرغ المرأة لخدمة البيت والزوج والأولاد مقابل سعي الرجل وإنفاقه عليها وأولادهما ، ولذلك لم ينكر النبي  على زوج ابنته علي خدمة فاطمة له رغم أنها لم تعتاد الخدمة قبل الزواج ،وأمرها بأن تنشغل بالذكر دون ضجر ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ  تَسْأَلُهُ خَادِمًا وَشَكَتْ الْعَمَلَ فَقَالَ مَا أَلْفَيْتِيهِ عِنْدَنَا قَالَ أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ تُسَبِّحِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ حِينَ تَأْخُذِينَ مَضْجَعَكِ) .

وقال ابن تيمية (وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَخْدُمَهُ فِي مِثْلِ فِرَاشِ الْمَنْزِلِ ؛ وَمُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْخُبْزِ، وَالطَّحْنِ، وَالطَّعَامِ لِمَمَالِيكِهِ، وَبَهَائِمِهِ : مِثْلُ عَلَفِ دَابَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ الْخِدْمَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، كَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِشْرَةُ وَالْوَطْءُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَاشَرَةً لَهُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْإِنْسَانِ وَصَاحِبُهُ فِي الْمَسْكَنِ إنْ لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاشَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقِيلَ - وَهُوَ الصَّوَابُ - وُجُوبُ الْخِدْمَةِ ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ سَيِّدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَهِيَ عَانِيَةٌ عِنْدَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَعَلَى الْعَانِي وَالْعَبْدِ الْخِدْمَةُ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : تَجِبُ الْخِدْمَةُ الْيَسِيرَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِبُ الْخِدْمَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْدُمَهُ الْخِدْمَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ، وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ : فَخِدْمَةُ الْبَدْوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ، وَخِدْمَةُ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ) ، أي أنه جعل مقدار الخدمة بحسب "العرف" ، والعرف جرى على مراعاة الطباع والاستطاعة ، فما تستطيعه القروية ليس كما تستطيعه البدوية ، وكذا التي في الحضر ، وذلك كل بحسب طبعه وأعرافه وعاداته وما ألفه وتعوده .
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – المعروفة بذات النطاقين ، وبنت صديق رسول الله  - قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ  عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ  وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ  أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ  وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي)

أما الإشارة إلى أنهنَّ حافظات للغيب ، قال ابن جزي ( "حافظات لِّلْغَيْبِ" أي تحفظ كل ما غاب عن علم زوجها ، فيدخل في ذلك صيانة نفسها ، وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره (بِمَا حَفِظَ الله) أي بحفظ الله ورعايته ، أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه) ، وقال ابن عطية : الغيب ، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه ، وذلك يعم حال غيبة الزوج ، وحال حضوره) ، قال ابن عاشور (و"الباء" في "بِمَا حَفِظَ اللَّهُ" للملابسة، أي حفظا ملابسا لما حفظ الله، و"ما" مصدرية أي بحفظ الله، و"حفظ الله: هو أمره بالحفظ، فالمراد الحفظ التكليفي، ومعنى الملابسة أنهن يحفظن أزواجهن حفظا مطابقا لأمر الله تعالى، وأمر الله يرجع إلى ما فيه حق للأزواج وحدهم أو مع حق الله، فشمل ما يكرهه الزوج إذا لم يكن فيه حرج على المرأة) .

ويجدر التنويه في هذا الصدد إلى أهمية أن تكون المرأة حافظة لحق زوجها في غيبته ، وألا تكون أخلاقها في غيبته بخلافها حال حضوره ، لاسيما أمام الأولاد ، لأنهم عندئذ يرون في ذلك تناقضًا عجيبًا ، يحملهم فيما بعد على التخلق بخلق "النفاق" ، والخوف من غير الله ، فتفسد عقيدتهم ، فالواجب أن يروا أمهم وهي تحفظ أوامر أبيهم في غيبته كحفظها لأوامره في حضوره ، ولا تخالفه فيما يكره ، ففي الحديث (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرّته، وإن أقسم عليها أبرّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) ، (فإذا غاب عن بيته ربت له أولاده ، فتقوم بدور الأب في حزمه ، والأم في حنانها ، فيجد زوجته على خير حال، وأولاده في أحسن تربية، وماله محفوظًا سليمًا) .

وفي قوله تعالى (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) قال ابن قدامة (مَعْنَى "النُّشُوزِ" مَعْصِيَتُهَا لِزَوْجِهَا فِيمَا لَهُ عَلَيْهَا ، مِمَّا أَوْجَبَهُ لَهُ النِّكَاحُ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الِارْتِفَاعِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ النَّشْزِ ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ ، فَكَأَنَّ النَّاشِزَ ارْتَفَعَتْ عَنْ طَاعَةِ زَوْجِهَا ، فَسُمِّيَتْ نَاشِزًا فَمَتَى امْتَنَعَتْ مِنْ فِرَاشِهِ ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، أَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ الِانْتِقَالِ مَعَهُ إلَى مَسْكَنِ مِثْلِهَا ، أَوْ مِنْ السَّفَرِ مَعَهُ) ، يقول الشعراوي (الحق سبحانه وتعالى يربّى عباده على حاسة اليقظة بقوله (واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) فالنشوز لم يحدث بل مخافة أن يحدث ، فاليقظة تقتضي الترقب من أول الأمر ، لا تترك المسألة حتى يحدث النشوز ، وما دام الحق قد قال (الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء) والمرأة المفروض فيها أنها تكون متطامنة ، فإن شعرت أن في بالها أن تتعالى فإياك أن تتركها إلى أن تصعد إلى الربوة وترتفع ، بل عليك التصرف من أول ما تشعر ببوادر النشوز فتمنعه ، فمعنى قوله"واللاتي تَخَافُونَ" يعني أن النشوز أمر متخوف منه ومتوقع ولم يحدث بعد) .

والطاعة الواجبة على المرأة لزوجها مقدمة على كل شئ سوى الفريضة ، فلا تصوم المرأة إلا بإذنه غير رمضان ، قال رسول الله  "لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ " ، وفي رواية : " فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ " ، وهي مقدمة على الانشغال بغيره من سائر الأمور الحياتية ، يقول رسول الله  " إِذَا الرَّجُلُ دَعَا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ" ، قال العلماء أي (وإن كانت تخبز على التنور مع أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه) ، وذلك كناية عن الفورية ، بل إن طاعة الزوج مقدمة على طاعة أبيها ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله من أعظم الناس حقا على المرأة ؟ قال : زوجها قلت : من أعظم الناس حقا على الرجل ؟ قال : أمه)

وفي قوله تعالى (فَعِظُوهُنَّ) قال الشعراوي " أي ساعة تراها تنوي هذا- النشوز- فعظها " ، (والوعظ : النصح بالرقة والرفق ، قالوا في النصح بالرقة : أن تنتهز فرصة انسجام المرأة معك ، وتنصحها في الظرف المناسب لكي يكون الوعظ والإرشاد مقبولاً فلا تأت لإنسان وتعظه إلا وقلبه متعلق بك " ، ومن آداب الموعظة أن لا يداوم عليها صاحبها ، وإنما تكون بين حين وآخر ، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ  يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا) .

والموعظة لأجل حدود الله تعالى أولى وأجل ، قال تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه/132) ، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم/6) ، وكان من هديه  أنه يعظ نساءه في التو والحال دون تردد أو تأخر ، ويستخدم التشبيه والاستعارة لتقريب المعنى وشحذ الأذهان وتصور العظة ولتبشيع المعصية وتضخيم الإثم ، ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنَّبِىِّ  حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ تَعْنِى قَصِيرَةً. فَقَالَ « لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ». قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ « مَا أُحِبُّ أَنِّى حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا » ، قال العلماء (والموعظة أول ما تؤثر في ذات الدين، فالموعظة ستجد طريقها) .

فإذا لم تؤثر الموعظة في الزوجة ، وكذلك العكس صحيح ، فعلي الزوج أن يسترجع ويعظ نفسه فيذكرها بما أعده الله له في الآخرة إن شاء الله ، فعن النبي  (لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ أَوْشَكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا) .

وفي قوله تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) فعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ قَالَ أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ" ، قال البغوي (أي : لا يهجرها إلا في المضجع ، ولا يتحول عنها ، أو يحولها إلى دار أخرى) ، يقول الشعراوي " والمعنى بأن يهجرها في المضاجع؟ ، نقول : ما دام المضجع واحداً فليعطها ظهره وبشرط ألا يفضح المسألة ، بل ينام على السرير وتُغلق الحجرة عليهما ولا يعرف أحد شيئاً؛ لأن أي خلاف بين الرجل والمرأة إن ظل بينهما فهو ينتهي إلى أقرب وقت ، وساعة يخرج الرجل وعواطفه تلتهب قليلاً ، يرجع ويتلمسها ، وهي أيضاً تتلمسه " ،وقد انتبه صاحب الظلال إلى الأضرار السيئة من الهجر خارج حجرة النوم فقال :" لا يكون هجراً أمام الأطفال ، يورث نفوسهم شراً وفساداً . . ولا هجراً أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها ، فتزداد نشوزًا ، فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة؛ ولا إفساد الأطفال! ) .

بيد أن البخاري وقد بوب بابا بعنوان (قوله باب هجرة النبي  نساءه في غير بيوتهن ) وقال (وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ غَيْرَ أَنْ لَا تُهْجَرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) ، قال الصنعاني (وقد يقال دل فعله على جواز هجرهن في غير البيوت ، ويكون مفهوم الحصر غير مراد ، واختلف في تفسير الهجر ، فالجمهور فسروه بترك الدخول عليهن والإقامة عندهن على ظاهر الآية وهو من الهجران بمعنى البعد) ، ولعل المقصود من الهجران خارج البيت أن ذلك في أحوال الشقاق الذي قد يؤول إلى طلاق فقط ، فقد أورد البخاري تحت هذا الباب حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آلَى رَسُولُ اللَّهِ  مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ آلَيْتَ عَلَى شَهْرٍ قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ  يَبْكِينَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنْ النَّاسِ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَعِدَ إِلَى النَّبِيِّ  وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَنَادَاهُ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ  فَقَالَ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ ، ومناسبة الحديث أنهن سألن النبي  الزيادة في النفقة ، والنبي لم يبخل عليهن بشيء غير أنه آثر الآخرة على الدنيا ، فنزلت "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا" (الأحزاب/28).

قال صاحب الظلال " والمضجع موضع الإغراء والجاذبية ، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها ، فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء ، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها ، وكانت - في الغالب - أميل إلى التراجع والملاينة ، أمام هذا الصمود من رجلها ، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه ، في أحرج مواضعها! " .

وقالوا فيما إذا أراد هجرها في المضاجعة أن ذلك "حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ في ذلك عليه من الضَّرَرِ ما عليها ، فَلَا يُؤَدِّبَهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ وَيُبْطِلُ حَقَّهُ" ، "وَقِيل : يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا ، لأِنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَال الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ فِي حَال التَّضْيِيعِ" ، ولذلك فإنه لايتصور أن الرجل يستطيع فعل ذلك إلا إذا كانت معه أكثر من زوجة ، ولذلك أرى أن الذي تكون عنده أكثر من زوجة ، يستطيع أن يميل إلى الأخرى بعض الميل بغرض تأديب الأولى دون أن يضر بها أو يحيف عليها ، أي بشيء من الاعتدال ، حتى لا يستحكم الشقاق بينهما ويزداد النشوز والنفور بين الزوجين ، وبشرط ألا يعلمها ذلك ، فعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ أَنَّهَا قَالَتْ رَخَّصَ النَّبِيُّ  مِنْ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ فِي الْحَرْبِ وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ" ، وعن عطاء بن يسار قال جاء رجل إلى النبي  فقال : يا رسول الله صلى الله عليك هل علي جناح أن أكذب أهلي قال لا ، فلا يحب الله الكذب ، قال يا رسول الله أستصلحها وأستطيب نفسها ، قال لا جناح عليك) ، قال القاضي عياض : (يحتمل أن يكون فيما يخبر به كل منهما بما له فيه من المحبة والاغتباط وإن كان كذبا ؛ لما فيه من الإصلاح ودوام الألفة ، وقال الألباني : (وليس من الكذب المباح أن يعدها بشيء لا يريد أن يفي به لها أو يخبرها بأنه اشترى لها الحاجة الفلانية بسعر كذا يعني : أكثر من الواقع ترضية لها ؛ لأن ذلك قد ينكشف لها فيكون سببا لكي تسيء ظنها بزوجها وذلك من الفساد لا الإصلاح.

والفرض المقابل لما تقدم غير صحيح ، فليس لها أن تهجره هي حتى ولو أغضبها ، كذلك ولو عصى الله تعالى ، فليس لها أن تأدبه بمثل ذلك ، وإنما عليها أن تسلم نفسها له مخافة أن ينصرف إلى معصية الله ، فتزداد معصيته ويزيد طغيانه ، فتكون قد أعانته على الشر ولو بدون قصد ، فعَنْ النَّبِيِّ  قَالَ "إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ " ، (هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعى وليس الحيض) .

وفي قوله تعالى (وَاضْرِبُوهُنَّ) بيان للوسيلة الأشد لدرء مقدمات النشوز ، فالضرب المذكور في الآية القصد منه مجرد تذكير المرأة بقوامة الرجل إذا نسيت ذلك ، وتمردت على الموعظة ، ولم ينجع معها الهجر ، بل قد تزداد نشوزًا بذلك ، وكثير من النساء لا ينفعهن الضرب في كل الأحوال ، بيد أن بعضهن قد يجدي معهن ذلك أحيانا ، وأيا كان الأمر فالمقصود لا يتعدى التذكير كما تقدم .

وهو ضرب موصوف ، فقد نهى النبي  عن ضرب مواضع معينة في الجسد حماية لكرامة المرأة ، وخوفا من أن تتأذى بذلك أذى ماديا دائما ، فعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ قَالَ أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) ، ففي قوله  "وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ " تصريح بالنهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن، وأعضاؤه نفيسة لطيفة وأكثر الإدراك بها، فقد يبطلها ضرب الوجه، وقد ينقصها، وقد يشوه الوجه، والشين فيه فاحش لأنه بارز ظاهر" ، ويقول النبي  (وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) ، أي "الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة " ، قال العلماء (وَلَا يَجُوزُ الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ النُّشُوزَ إلَّا بِهِ فَإِنْ وَقَعَ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ) ، قال العلماء (وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الضَّرْبَ لَا يُفِيدُ ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إذْ الْوَسِيلَةُ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا مَقْصِدُهَا لَا تُشْرَعُ) .

ولم يثبت دليل صحيح على أن المرأة لا تقتص من زوجها إذا ما تجاوز حق التأديب الشرعي ، روي عن علي أنه قال "ما كان بين الرجل والمرأة ففيه القصاص من جراحات أو من قتل النفس أو غيرها إن كان عمدا" .

ومن أظهر الأسباب التي تحمل الزوج على ضرب امرأته أن تأذن لمن يكره دخول بيته ، ففي قوله (أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ) ، قال النووي (معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو أمراة أو أحدا من محارم الزوجة فالنهى يتناول جميع ذلك) ، فالمرأة أمينة على بيت زوجها ، وعليها أن تحفظ أمره في غيبته ، قال ابن الجوزي (هذا محو لعادة العرب في كون المرأة تأذن للرجال الأجانب في مجالستها ومحادثتها فمن ظن أنه يشير بذلك إلى الزنا فقد أخطأ) ، وفي السيرة روي أنه (أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى النّبِيّ  .. ، ثُمّ قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَة فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ  طَوَتْهُ دُونَهُ فَقَالَ: أَرَغِبْت بِهَذَا الْفِرَاشِ عَنّي أَوْ بِي عَنْهُ ؟ قالت: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ  وَأَنْتَ امْرُؤٌ نَجَسٌ مُشْرِكٌ قَالَ: يَا بُنَيّةُ لَقَدْ أَصَابَك بِعِلْمِك شَرّ ، قَالَتْ: هَدَانِي اللّهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَنْتَ يَا أَبَت سَيّدُ قُرَيْشٍ وَكَبِيرُهَا، كَيْفَ يَسْقُطُ عَنْك الدّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْتَ تَعْبُدُ حَجَرًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ ؟) .

وترتيب الأمور بين الوعظ والهجر ثم الضرب ليس بشرط ، قال الشيخ مصطفى العدوي شرحا للحديث المتقدم (فالشاهد أن الشخص قد يسلك مسلكاً قبل مسلك آخر إذا احتيج إلى ذلك ، فأصحاب المعاصي يجوز أحياناً أن تقدم التذكير، لكن إذا كان فاعلها يعلم أنها معصية وتمادى في فعلها فيجوز لك أن تسلك معه مسلكاً أقوى من مسألة النصح أحياناً، ويكون هذا المسلك في نفسه نصحاً وإرشاداً) ، ودليل ذلك حديث عَائِشَةَ تَقُولُ "أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ النَّبِيِّ  وَعَنِّي قُلْنَا بَلَى قَالَتْ لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَبَسَطَ إِزَارَهُ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا وَخَرَجَ وَأَجَافَهُ رُوَيْدًا وَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي فَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي وَانْطَلَقْتُ فِي إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ انْحَرَفَ وَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ وَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ وَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشُ رَابِيَةً قَالَ سُلَيْمَانُ حَسِبْتُهُ قَالَ حَشْيَا قَالَ لَتُخْبِرِنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ قَالَ أَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي قُلْتُ نَعَمْ قَالَتْ فَلَهَدَنِي لَهْدَةً فِي صَدْرِي أَوْجَعَتْنِي قَالَ أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمْ النَّاسُ فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ فَنَادَانِي فَأَخْفَى مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ وَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَظَنَنْتُ أَنَّكِ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ" ، قوله "اللهد"(وهو الدفع بجميع الكف في الصدر) ، وجاء في الشرح (وهو الدفع الشديد في الصدر وهذا كان تأديبًا لها من سوء الظن أن يحيف الله عليك ورسوله من الحيف بمعنى الجور أي بأن يدخل الرسول في نوبتك على غيرك وذكر الله لتعظيم الرسول ، والدلالة على أن الرسول لا يمكن أن يفعل بدون إذن من الله تعالى فلو كان منه جور لكان بإذن الله تعالى له فيه وهذا غير ممكن) .

ولما كان الضرب من أشد وسائل التأديب فإنه لا يلجأ إليه الزوج إلا اضطرارًا ، والأولى تركه ، فخير الرجال لا يلجأ إلى هذه الطريقة عادة ، ولا يكثر منها ، لما في ذلك من تقليل لمروأته وقوته وحكمته ، حيث يدل ذلك على عجزه عن علاج مشكلته معها إلا بالضرب ، وهذا من سوء العشرة ، لاسيما وأن الآثار النفسية من ذلك تظل راسبة في أعماقهما زمنا طويلا ، فإن اضطر فلتكن الضرورة بقدرها آسفا ، فعن رَسُولُ اللَّهِ  قال "لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَقَالَ ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ  نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ  لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ " ، قال العلماء (المعنى أنه حين وجدت الرخصة يتهاون بالضرب ويحصل إيذاؤهن بالضرب، وإنما يصار إلى الضرب عند الضرورة إليه، كالكي بالنسبة للعلاج لا يصار إليه إلا عند الضرورة وعند الحاجة) ، كما لا يستحب إنفاذه عند الغضب حتى لا يحيف على امرأته.

وفي قوله تعالى (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) تصريح ظاهر الدلالة على وجوب طاعة الزوج ، ويعضد ذلك ما روي عن عبد الله بن محصن أن عمة له : أنها دخلت على رسول الله  فقام رسول الله  لبعض الحاجة فقضى حاجتها فقال لها رسول الله  أذات زوج أنت قالت نعم قال كيف أنت له قالت ما آلو إلا ما عجزت عنه فقال رسول الله  "انظري أين أنت منه فإنه جنتك ونارك") ، أي هو سبب دخولك الجنّة إن قمت بحقّه ، وسبب دخولك النار عن قصّرت في ذلك ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ  قَالَ مَا هَذَا يَا مُعَاذُ قَالَ أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا ، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ) ، "أي على ظهر بعير" ، أي في الراحلة على ظهر الجمل ، لأن لا تتعلل بعدم جاهزية المكان ، طالما كان فيه الستر ، "والقصد بذلك المبالغة في الزجر عن امتناعها منه ، أو تسويفها إياه" .

وليس في وجوب طاعة الزوجة لزوجها قهر للمرأة ، لأن تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة ، فهو كالإمام وهي وأولادها منه كالرعية ، ولابد للرعية من إمام يسوسها ، فكان في طاعة الرعية ما يغني الإمام عن أن يسلط سلطانه عليها ، لكن طاعتهم له ليست على إطلاقها ، لأنها منوطة بالمصلحة وبالشرع ، ولا ينفكان ، فأينما كانت المصلحة فثم شرع الله ، فلا يمكن أن يجافي شرع الله المصالح المعتبرة ، أما إذا كانت المصلحة غير معتبرة في الشرع أو ملغاة فلا تجوز طاعته ، فعَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ  فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَتْ إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا فَقَالَ لَا إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلَاتُ " ، قال ابن بطال في الشرح (واجب على المرأة ألا تطيع زوجها فى معصية ، وكذلك كل من لزمته طاعة غيره من العباد ، فلا تجوز طاعته له فى معصية الله تعالى)

وطاعة الزوجة زوجها مقدمة على طاعة والديها وهذا باتفاق الفقهاء ولا مخالف لهم في ذلك ، قال ابن تيمية (رحمه الله): (الْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ، كَانَ زَوْجُهَا أَمْلَكَ بِهَا مِنْ أَبَوَيْهَا ، وَطَاعَةُ زَوْجِهَا عَلَيْهَا أَوْجَبُ) ، (وقال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا ان يأذن لها " ، (وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَى مَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ سَوَاءٌ أَرَادَتْ زِيَارَةَ وَالِدَيْهَا أَوْ عِيَادَتَهُمَا أَوْ حُضُورَ جِنَازَة أَحَدِهِمَا ، قَالَ أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ : طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا " ، وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله من أعظم الناس حقا على المرأة ؟ قال : زوجها قلت : من أعظم الناس حقا على الرجل ؟ قال : أمه " .

مما تقدم يتبين أن الشريعة الإسلامية استظهرت الغاية من السماح للزوج باتخاذ اجراءات تأديب الزوجة - في أشد صورها - لإجبارها على طاعته مخافة أن يفقد البيت وحدته وتماسكه وقوته لو لم تمتثل لأمره طواعية ، فإن حصل النشوز – رغم ذلك - ولم تحصل الطاعة رغم هذه الإجراءات المتقدم ذكرها ، فإن حق المرأة الناشز يسقط حقها في النفقة ، قال ابن قدامة (وَالنَّاشِزُ لَا نَفَقَةَ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ ، أَعْطَاهَا نَفَقَةَ وَلَدِهَا ، فالناشز َلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ) ، قال البهوتي (وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا - أَيْ الزَّوْجَةِ - الْخُرُوجُ بِلَا إذْنِهِ ، فَإِنْ فَعَلَتْ ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إذَنْ ) أَيْ (مَا دَامَتْ خَارِجَةً بِغَيْرِ إذْنِهِ لِعَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ ( هَذَا إذَا قَامَ بِحَوَائِجِهَا) أي الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا ) .

وفي قوله تعالى (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (34) نهي عن أن يستمر الزوج في إجراءات التأديب سواء من الناحية المادية أو المعنوية طالما أنها فاءت وأطاعته ، فأما ماديا بأن لا يتعسف في حق التأديب فيتجاوز حدوده المعروفة شرعا ، كي لا ينقلب المقصود من التأديب إلى الإذلال والتحقير ، فعن النَّبِيِّ  قَالَ "لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ" ، كما نهى النبي  أن يقبح الرجل زوجته ، وأما الأمر المعنوي ، بأن يتناسى الرجل ما كان منها من بوادر النشوز ، ويصفح عنها ، قال ابن عثيمين : أي (اتركوا كل ما مضى، ولا يكن في أذهانكم أبداً، وهذا من الحكمة؛ لأن ذكر الإنسان ما مضى من مثل هذه الأمور ما يزيد الأمر إلا شُقة وشدة" ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن/14) .

 

  • الاثنين AM 11:33
    2025-11-24
  • 110
Powered by: GateGold