المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412368
يتصفح الموقع حاليا : 299

البحث

البحث

عرض المادة

نقد الشرائع والعبادات في العهد الجديد

هل يوجد في العهد الجديد تشريع مستقل؟

تبيّن فيما سبق فساد العقيدة النصرانية، وكيف اجتهد علماؤنا الأجلاء في إبطالها، وبينوا ضلال النصارى فيما يعتقدون، وقد وقفوا وقفات نقدية متنوعة أمام هذه الانحرافات العقائدية متبعين في ذلك المنهج العلمى في دراستهم لها.

وفي هذا الفصل أُبين من خلال جهودهم النقدية الأمور التالية:

- هل يوجد في المسيحية تشريع؟

- وهل جاء سيدنا عيسى -عليه السلام- بشريعة مستقلة وأحكام جديدة غير الأحكام التي وردت في التوراة أم لا؟

- ومن الذي أحدث وبدَّل وغير في أحكام التوراة وشرائع النصارى؟

وبالبحث وراء توضيح هذه التساؤلات ومن خلال القراءة المتأنية للإنتاج العلمى الذي أبدعته قرائح علمائنا الأجلاء وجدت ندرة ملحوظة في تناول هذا الجانب -وهو التشريع في النصرانية- إلا أن بعض الكتَّاب قد أسهم في بيان الشريعة التي يحتوي عليها العهد الجديد وأكد أن الشريعة التي جاء بها المسيح - عليه السلام- هى شريعة مكملة لما جاء في التوراة من تشريعات ولم يأت المسيح - عليه السلام - بشرع جديد ولم تكن هناك أحكام مستقلة في العهد الجديد، وأن الذي شرع للنصارى وخالف أقوال المسيح هو بولس إذ أنه قلب النصرانية رأسًا على عقب كما سبق بيانه.

ويبرز في مقدمة هذه الجهود النقدية ما قام به الإمام ابن القيم وأكد اتباع النصارى لبولس ومخالفتهم تعاليم المسيح -عليه السلام- حيث أثبت مخالفة النصارى للمسيح -عليه السلام- في الشرائع فذكر ما يدلّ على ذلك بالمعنى دون أن يذكر النص وقام د/السقا، بذكر بعض هذه النصوص في الهامش فقد قام بجهد واضح في تحقيق كتاب هداية الحيارى فيقول الإمام ابن القيم:

(وأما فروعه وشرائعه -أي دين النصارى- فهم -أي النصارى- مخالفون للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهاداتهم وإقرارهم ولكن يحيلون على البطاركة والأساقفة، فإن المسيح -عليه السلام- كان يتدين بالطهارة ويغتسل من الجنابة ويوجب غسل الحائض، وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب) (1).


(1) هداية الحيارى: ص 263.

ويؤكد د/مصطفي شاهين أنه لا يوجد في المسيحية شريعة بالمعني التام، بل الموجود في كتب النصارى بعض الأحكام في العبادات والمعاملات مما يدخل تحت كلمة شريعة لكن هذا البعض قليل جدًا ولا يتناول فروع الشريعة كلها، إذ الشريعة هى الأحكام العملية المتصلة بالعمل لا بالاعتقاد؛ لأنّ ما يخص الجانب الاعتقادي هو المسمى بالإيمان وهو شيء في القلب أما ما يتصل بخارج القلب وهو العمل الذي بالجوارح وأحكام هذا العمل هو ما يسمى شريعة (1).

وقد قدم د/المطعني رؤية توضيحية لهذا الجانب - التشريع في المسيحية - فيقول: المسيح - عليه السلام- لم يأت برسالة منفصلة كل الانفصال عن رسالة موسى - عليه السلام - وإنما جاء برسالة هي امتداد لشريعة موسى -عليه السلام- بدليل قول الإنجيل: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقص بل لأكمل" (2). ثم يقول للحواريين الاثنى عشر موضحًا لهم المهمة التي أرسل من أجلها: " ... إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة السامريين لا تدخلوا؛ بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (3) " (4).

ويؤكد ذلك أيضًا د/محمَّد طلعت أبو صير فيقول:

(إن شريعة اليهود المقررة في العهد القديم هي نفسها المقررة في العهد الجديد فيما عدا ما ورد عن المسيح -عليه السلام- ونص بنسخه (5) أو تعديله، فقد أورد العهد الجديد نصوصًا قليلة ناسخة ومعدلة لبعض أحكام العهد القديم ومعظمها جاء في موعظة الجبل التي ألقاها وهو جالس على قمة الجبل وسمعها الحواريون والتلاميذ وجمهور كبير من الناس (6) ومنها:

- تقول التوراة: لا تزن أما أنا "المسيح" فأقول: لكل من نظر إلى امرأة وهو يشتهيها فإنه يزني بها في قلبه (7).


(1) النصرانية تاريخًا وعقيدة ومذاهب دراسة وتحليل ومناقشة: ص 227 طبعة دار الاعتصام بدون.
(2) متى: (5/ 17) إكمال الناموس.
(3) متى: (10/ 5 - 6) إرسال الاثنى عشر.
(4) انظر: الإِسلام د/ المطعني، ص 310، 311، والإِسلام والأديان: د/ مصطفي حلمي، ص 189، تاريخ الإنجيل والكنيسة:
أحمد إدريس ص61.
(5) إن عيسي عليه السلام لم يأت ناسخًا للتوراة بل مصدقًا لها عاملًا بها ولكنه نسخ بعض أحكامها قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فقد كان حرّم على بني إسرائيل بعض الطيبات بظلمهم وكثرة سؤالهم فأحلها عيسى عليه السلام تفسير المنار (3/ 312).
(6) أضواء على مقارنة لأديان: د/محمَّد طلعت أبو صير ص 87 - 88، وانظر: النصرانية: د/مصطفى شاهين، ص 232 - 233.
(7) من: (5/ 27 - 28) الزنا.

- تقول التوراة: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق، أما أنا فأقول: من طلق امرأته إلا لعلة الزنى فإنه يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني (1). إلى آخر ما تشتمل عليه موعظة الجبل من تعديلات تشريعية كالقصاص وحب الأعداء والمسالمة وإخفاء الصدقة ويحذرهم من الكذب وغير ذلك (2).

وقد أكد د/ مصطفى شاهين عدم وجود أحكام شرعية في العهد الجديد تمس هذه الموضوعات وإذا وجد بعضها فقليل وقد قسم العلماء الأمور التي تندرج تحت الشريعة إلى عبادات ومعاملات وأخلاق، فالعبادات تنظم العلاقة بين الإنسان وربه، والمعاملات تنظم العلاقة بين الناس ويدخل في ذلك البيع والشراء والتجارة والشفعة والرهن ... الخ المعاملات المالية، وكذلك يدخل فيها أيضًا شئون الأسرة مثل الزواج والطلاق والميراث (3).

هذا على سبيل الإجمال أما التفصيل: فقد أبطل علماؤنا الأجلاء ما يوجد في النصرانية من عبادات وشرائع وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم والبغدادي وغيرهم كما يلي:

ثانيًا: الصلاة:

بين الإمام ابن تيمية في نقده للعبادات والشرائع في العهد الجديد أن هذه الأمور لا تقوم على أساس ديني صحيح، ولم يشرعها المسيح -عليه السلام- وإنما هى من المخالفات التي وقع فيها النصارى وشرعوها من عند أنفسهم فيقول: من ضلالات النصارى تعظيمهم الصليب واستحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية، وامتناعهم من الختان، وتركهم طهارة الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوء، ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم ... كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح -عليه السلام- (4).


(1) متى: (5/ 31 - 32) الطلاق.
(2) أضواء على مقارنة الأديان: د/طلعت أبو صير، ص 88.
(3) النصرانية: ص 227 - 228.
(4) انظر: الجواب الصحيح: 1/ 144، بتصرف بالحذف.

والإمام ابن القيم ينتقد صلاة النصارى التي يقومون بها بدون طهارة مبينًا كيف تكون مثل هذه الصلاة وكيف يتقربون بها إلى الله وهم على هذه النجاسة لم يتطهروا فيقول: إن طوائف النصارى تقرر أن الطهارة غير واجبة وأن الإنسان يبول ويتغوط ولا يمس ماءً ولا يستجمر والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلى كذلك وصلاته صحيحة تامة عنده، ولو تغوط وبال وهو يصلى لم يضره ... ويقولون: إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة لأنها حينئذ أبعد عن صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه وهذه الصلاة رب العالمين برئ منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين، فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاشا المسيح أن تكون هذه صلاته أو صلاة أحد من الحواريين (1).

وقد أرجع الإمام ابن تيميه انحراف النصارى في العبادات والشرائع إلى سببين رئيسيين هما:

1 - إعطاء النصارى لعلمائهم الحق في أن يشرعوا لهم ويغيروا ما يرونه من شرائع (2).

2 - اتخاذ النصارى مواقف مضادة لليهود بعد أن صارت الدولة لهم في عهد قسطنطين ... فأحلوا ما يحرمه اليهود كالخنزير وغيره وصاروا يمتحنون من دخل في دينهم بأكل الخنزير، فإن أكله وإلا لم يجعلوه نصرانيًا (3) وتركوا الختان وقالوا إن المعمودية عوض عنه وصلوا إلى قبلة غير قبلة اليهود وكان اليهود قد أسرفوا في المسيح، وزعموا أنه ولد زنا، وأنه كذاب، ساحر، فغالى هؤلاء في تعظيم المسيح وقالوا: إنه الله، وابن الله .. وغير ذلك (4).

ثالثًا: الصوم:

معنى الصوم عند النصارى: الامتناع عن الطعام من الصباح حتى بعد منتصف النهار ثم تناول طعام خالى من الدسم (5).

ينتقد الأستاذ / محمَّد رشيد رضا، ذلك الصوم الذي يصومه النصارى رغم خلو الأناجيل من فريضة الصوم فيقول: إن الأناجيل تخلو من فريضة الصوم وكل الذي تحويه عن الصوم إنما هو ذكره ومدحه واعتباره عبادة، وتأمر الأناجيل الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه حتى لا تظهر عليه أمارة الصوم فيكون مرائيًا كالفريسيين، وأشهر صومهم وأقدمه: الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح وهو الذي صامه موسى،


(1) انظر: هداية الحيارى، ص 263 - 264.
(2) انظر: الجواب الصحيح: 2/ 17، بتصرف.
(3) المرجع السابق: 2/ 100، 3/ 31.
(4) المرجع السابق: 2/ 100.
(5) المسيحية: د/ أحمد شلبي، ص 235.

وكان يصومه عيسي عليهما السلام والحواريين ثم وضع رؤساء الكهنة ضروبًا أخرى من الصيام منها الصوم عن اللحم وعن البيض واللبن وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة فغيروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار (1).

ويؤكد الإمام ابن القيم مخالفة النصارى لتعاليم المسيح -عليه السلام- في هذه الفريضة فيقول: (والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ولا صامه في عمره مرة واحدة ولا أحد من أصحابه، لا صام صوم العذارى (2) في عمره ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ولا حرم فيه ما يحرمونه) (3).

ويقرر العلامة البغدادي أن الصوم بهذه الطريقة بدعه ابتدعها رؤساؤهم وأنه بهذا المفهوم لم يرد في التوراة ولا في الإنجيل فيقول: (اخترع رؤساء النصارى في مجامعهم "البهريز" وهو عبارة عن ترك أكل اللحوم إلا السمك بسائر أنواعه، وأكل الزيت مع كافة المأكولات وشرب الماء والدخان والقهوة والخمرة) (4).

(والبهريز محض تلاعب وعبث بالدين وخروج عن امتثال أوامر رب العالمين الصريحة بالتوراة -الأصلية-، ولم نر في الأناجيل الأربعة لا صراحة، ولا إشارة أن هذا الصوم بهذا المعنى الذي تعتادونه أيها المسيحيون" (5).

رابعًا: التعميد:

بين م/ الطهطاوي، مفهوم التعميد ووقته والنصوص الدالة عليه وطريقته وناقش النصارى في هذه الشعيرة التي يتعبدون بها وبيّن من خلال مناقشته لها فساد القول بالمعمودية فيقول: (كان التعميد موجودًا عند اليهود، قبل المسيحية ولكنه كان بمفهوم آخر وهو غسل الجسد وكان النبي يحيى يعمد الناس في نهر الأردن أي يغسل أجسادهم ولذلك سُمّي يوحنا المعمدان أي (يحيى المغسل) وثابت في الأناجيل المتداولة أن يوحنا المعمدان قام بتعميد المسيح) (6).


(1) تفسير المنار: 2/ 144 وانظر: النصرانية والإسلام: م/الطهطاوي ص 88.
(2) مدته: خمسة عشر يومًا تبدأ من شهر مسرى وهو من الشهور القبطية القديمة وهو أول شهور فيضان النيل، وقد ذكر د/ أحمد شلبي، أنواع الصيام عند النصارى. ولمزيد من التفصيل انظر: المسيحية د/أحمد شلبي، ص 235.
(3) هداية الحيارى: ص 246.
(4) الفارق بين المخلوق والخالق: ص 46.
(5) المرجع السابق: ص 46.
(6) النصرانية والإِسلام: ص 62.

[وقت التعميد]

لم يتفق المسيحيون على وقت معين للتعميد:

1 - فبعضهم يعمد الشخص في طفولته حتى ينشأ الطفل المسيحي مبرأ من الذنوب وهذا هو الغالب.

2 - وبعضهم يعمده في أي وقت من حياته.

3 - والبعض الآخر يجرى التعميد والشخص على فراش الموت بحجة أن التعميد إزالة للسيئات وتطهير من الذنوب (1).

[أما النصوص التي يستدل بها النصارى على التعميد]

1 - " فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس" (2).

2 - وقول الإنجيل: "من تغطس دخل الجنة ومن لم يتغطس دخل جهنم خالدًا فيها أبدًا" (3).

[طريقة التغطيس وصفته]

يقول عبد الله الترجمان: إن في كل كنيسة حوضًا رخامًا وكيزانًا يملؤه القسيس بالماء ويقرأ عليه ما تيسر من الإنجيل ويرمي فيه ملحًا كثيرًا وشيئًا من دهن "البلسان" (4) فإن أراد أحد أن يتغطس ممن تنصر وهو رجل كبير السن يجتمع له بعض أعيان النصارى مع القسيس ليشهدوا عليه -بزعمهم- بين يدي الله بالتغطيس ويقول له القسيس عند حوض الماء: يا هذا اعلم أن التنصر أن تعتقد أن الله ثالث ثلاثة وتعتقد أنك لا يمكن لك دخول الجنة إلا بالتغطيس، وأن ربنا عيسي ابن الله ... إلى أن يقول وأنا أغطسك باسم الأب والابن والروح القدس (5).

ويستخدم عبد الله الترجمان في نقده للتعميد محاججة النصارى بأسئلة تحمل في طياتها الاستفهام الإنكاري لما يفعلون ويبين عدم صحة ما يقوله النصارى بأنّه لا يمكن دخول الجنة إلا بالتغطيس فيقول: (ما تقولون في إبراهيم وموسى وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء عليهم السلام هم في الجنة أم لا؟ فلا بد أن يقولوا: هم في الجنة، فيقال لهم: كيف دخلوها ولم يتغطسوا؟ وهم يجيبون عن هذا بأن الاختتان أجزأهم عن التغطيس فيقال لهم: ما تقولون في آدم ونوح عليهما السلام وذريته لصلبه فإنهم ما اختتنوا ولا تغطسوا قط وهم في الجنة بنص أناجيلكم وإجماع علمائكم، وليس لهم عن هذا جواب البتة) (6).


(1) المرجع السابق: ص 62.
(2) متى: (28/ 19) يسوع يظهر للتلاميذ.
(3) انظر: مرقس: (16/ 16) ظهوره للتلاميذ.
(4) هو: شجر موطنه بلاد الحبشة وورقه يستخدم لتحنيط الموتى، (راجع قاموس الكتاب المقدس ص 188).
(5) تحفة الأريب: ص 80 - 81 بتصرف بالحذف، وانظر: النصرانية والإِسلام: ص 63.
(6) المرجع السابق: ص 80.

خامسًا: الرهبانية: (1)

بين د/أحمد طاهر وم/الطهطاوي، مغالاة المسيحيين في النظرة إلى المتع والملذات وعدم توازنهم واعتدالهم في الأمور الحياتية والتعبدية، وبينا أن المسيحية تُغلب الآخرة على الدنيا وتعطيها الاهتمام الأكبر، فقد فرضوا على أنفسهم الترهب وترك الدنيا والعزوف عن الزواج وتفضيل العزوبية، وهذه الرهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم ولم يأمرهم بها الله -عز وجل- فقال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (2).

وقد بين د/أحمد شلبي أن فكرة الرهبانية دخيلة على النصرانية وقد أخذها المسيحيون عن الهندوكية والبوذية (3).

أما د/أحمد طاهر وم/ الطهطاوي، فقد ذكرا النصوص الإنجيلية التي يستنبط منها النصارى فكرة الرهبنة وعلق د/أحمد طاهر عليها تعليقًا سريعًا مجملًا، أما م/ الطهطاوي فقد استفاض في مناقشته حول هذه الأدلة ونقده لفكرة الرهبانية من هذه الأدلة التي ذكراها ما يلي:

1 - "وكل واحد فيكم لا يتزكى بماله لا يمكن أن يكون تلميذًا لي" (4).

2 - "يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم، من أجل ملكوت السموات" (5).

3 - "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال لذلك أقول لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون" (6). وغير ذلك من الأدلة.


(1) أصلها من الرهبة: الخوف، قال ابن الأثير: كانوا يترهبون بالتخلى عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها والزهد فيها، والعزلة عن أهلها، وتعهد مشاقها، حتى إن منهم من كان يخصي نفسه، ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب (لسان العرب 3/ 1749).
(2) سورة الحديد: الآية (27).
(3) انظر: المسيحية: ص 246.
(4) لوقا: (14/ 33) ثمن التبعية.
(5) متى: (19/ 12) الزواج والطلاق.
(6) متى: (6/ 24 - 25) الله يعتني بنا.

وفي تعليق د/أحمد طاهر عليها إجمالًا فيقول: (ونتيجة هذه الأقوال أو المواعظ هي خلق نوع من الجمود والتبلد والانصياع والنفاق في الناس بدلًا من مساعدتهم على أن يصبحوا بشرًا مكتملي النمو العقلي والبدني) (1).

وفي انتقادات م/ الطهطاوي على هذه النصوص خرج بالنتائج التالية:

1 - أن المسيحية تحارب الأبدان كما في الدليل رقم (3).

2 - أن المسيحية تقضى بفناء الجنس البشرى كما في الدليل رقم (2).

3 - أن المسيحية تدفع للرهبنة والرهبنة تقتضى هجر الوالدين والأسرة والزهد في الدنيا وكراهية المال والنفور منه، ووليدة ذلك إرهاق الجسم وعدم العناية بطعامه أو شرابه أو لباسه، والميل للعزوبة والغض عن الزواج (3).

وقد أرجع صاحب الفارق فجور رؤساء النصارى وانحرافهم إلى تلك الرهبانية إلى ابتدعوها من عند أنفسهم وقال إنها السبب المباشر في انتشار الفواحش في أوروبا كلها مستدلًا على ما يقول بوقائع وجرائم قد حدثت من القساوسة والرهبان منافية للأخلاق (4).

سادسًا: الإقرار بالذنوب للقسيس:

وهو أن المذنب يذهب إلى الكاهن فيبوح له بما اقترفه من ذنوب فيحصل منه على المغفرة بعد ذلك، وكان الاعتراف يتكرر عدة مرات مدى الحياة ولكنه منذ سنة 1215م أصبح لازمًا مرة واحدة على الأقل (5).

[الدليل على هذه المسألة]

يستدل النصارى على قضية الاعتراف بالذنوب أمام القسيس بالنص الإنجيلي التالي المنسوب إلى المسيح بعد قتله وصلبه في اعتقادهم ثم ظهوره لهم بعد ذلك يوصيهم بقوله -كما زعموا-: "ولما قال هذا نفخ وقال لهم: "اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت" (6).


(1) متى: (6/ 24 - 25).
(2) الأناجيل دراسة مقارنة: د/أحمد طاهر، ص 153.
(3) انظر: النصرانية والإِسلام: ص 73 - 74 باختصار وتصرف.
(4) العلامة البغدادي: ص 232.
(5) النصرانية والإِسلام: ص 66.
(6) يوحنا: (20/ 22) ظهوره للتلاميذ.

وقد انتقد م/ الطهطاوي هذا النص وبين أنه محض افتراء وكذب على المسيح - عليه السلام - فلا يصلح أن يكون دليلًا وبالتالي بطل به الاستدلال على أمر ينسبونه إليه فيقول: هذه الوصية لم ترو عن المسيح في حياته التي لازم فيها تلاميذه؛ بل جاءت في الرؤيا عنه بعد ذلك، مما يدعو إلى الشك وعدم الاطمئنان إليها؛ لأنها من قبيل الرؤى والأحلام (1).

ويذكر أ/عبد الله الترجمان صفة الإقرار أمام القسيس فيقول: يعتقد النصارى أنه لا يمكن دخول الجنة إلا بعد الإقرار بالذنوب للقسيس، وأن كل من يخفى ذنبًا فلا ينفعه إقراره فهم في كل سنة عند صيامهم يمشون إلى الكنائس، ويقرون بجميع ذنوبهم للقسيس الذي يقوم بكل كنيسة، وفي سائر أوقاتهم لا يقر أحد بذنب إلا إذا مرض وخاف الموت فإنه يبعث إلى القسيس فيصل إليه، ويقر له بجميع ذنوبه فيغفرها له وهم يعتقدون أن كل ذنب غفره القسيس فإنه مغفور عند الله تعالى، فمن أجل ذلك صار البابا الذي يكون بمدينة روما -فهو خليفة عيسى في الأرض بزعمهم- يعطى لمن يشاء براءة بغفران الذنوب والتسريح من النار، ودخول الجنة ويأخذ على ذلك الأموال الجليلة، وكذلك يفعل كل من ينوب عنه في جميع أرض النصارى من القسيسين (2).

ويقول فضيلة الشيخ أبو زهرة عن بداية ظهور صك الغفران وصيغته المختلقة والمفتراة: وفي المجمع الثاني عشر قررت الكنيسة امتلاكها لحق الغفران وصنع القائمون عليها صكًا يُباع ويُشترى وبذل العصاة في سبيل شرائه المال الكثير، وما كان عليهم من حرج في ارتكاب ما يشاءون من الموبقات وينالون ما تهوى الأنفس من معاصي، ما دام ذلك يُفتدى بمال قل أو جل (3).

ونص صك الغفران كما يلي:

"ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان ويحلك باستحقاقك آلامه الكلية القدسية وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام الطائلات الكنيسية التي استوجبتها، وأيضًا من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة" ... إلخ (4).


(1) النصرانية والإِسلام: ص 66.
(2) تحفة الأريب: ص 97 - 98.
(3) انظر: محاضرات في النصرانية: ص 173 بتصرف.
(4) المرجع السابق: ص 173، المسيحية: د/أحمد شلبي، ص 225.

وينتقد أ/ عبد الله الترجمان، هذا الأمر الذي يسهل الخطايا وارتكاب الذنوب بعرض صيغة ذلك الاعتراف على العقل ويحاججهم بنفس ما يفعلون ليصل إلى بطلانه فيقول: إن هذا لم يأمركم به عيسى -عليه السلام- وتلاميذه لم يقروا له ذنبًا قط وهو أقرب على قولهم لمغفرة الذنوب من جميع القسيسين، والقسيس لا شك عندكم في أنه بشر مثلكم فمن الذي يغفر له ذنوبه فإن قلتم البابا يغفر له ذنوبه فمن الذي يغفر للبابا ذنوبه (1).

وخلاصة هذه المسألة: أن القسيس بشر يخطئ ويصيب والبابا بشر يخطئ ويصيب وإن ادعوا العصمة وبالتالي فإن القائم بهذه المهمة والمخول له هذه السلطة يحتاج إلى من يغفر له ذنوبه فمن هو إذن الذي يغفر الذنوب لكل البشر؟ لا شك أنه رب البشر سبحانه وتعالى {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (2).

سابعًا: العشاء الربانى أو الإيمان بالقربان:

وهو: استحالة الخبز إلى جسد المسيح واستحالة الخمر إلى دم المسيح ويوضح ذلك أ/عبد الله الترجمان فيقول: (إن دين النصارى في قربانهم كفر، وهو أن يعتقدوا على فطيرة من خبز إذا قرأ عليها القسيس بعض الكلمات أنها ترجع في تلك الساعة جسد عيسى وإذا قرأ بعض الكلمات على كأس خمر فإنه يصير في تلك السماعة دم عيسى، وكل كنيسة بها قسيس كبير يقوم بها فيجئ قسيس كل كنيسة في كل يوم بفطيرة صغيرة وزجاجة خمر ويقرأ عليها عند صلاته فيعتقد النصارى أن الفطيرة صارت جسد عيسى والخمر صار دمه) (3).

وعن طريق المقابلة بين النصوص في القضية الواحدة من الأناجيل الأربعة أثبت العلامة البغدادي، وأ/ عبد الله الترجمان وجود الاختلاف بين الأناجيل ووقوع التناقض في النصوص التي يستند عليها النصارى في مسألة العشاء الرباني وذكرا دليلهم عليها وهو:

1 - قول متى: "إن عيسى جمع الحواريين يومًا قبل موته وتناول خبزه وكسرها وناولهم كسرة لكل إنسان وقال لهم كلوا هذا جسمي ثم ناولهم خمرًا وقال لهم اشربوا هذا دمى" (4).


(1) انظر: تحفة الأريب: ص 98 - 99 بتصرف واختصار.
(2) سورة آل عمران جزء من الآية: (135).
(3) تحفة الأريب: ص 93 - 94.
(4) متى: (26/ 26 - 28) عشاء الرب.

2 - وعبارة مرقس وإن كانت قريبة من عبارة متى لكن بينهما اختلاف وهي: "ولما كان المساء جاء مع الاثنى عشر، وفيما هم متكئون يأكلون، قال يسوع الحق أقول لكم: إن واحدًا منكم يسلمني: الآكل معى، فابتدأوا يحزنون ويقولون له واحدًا فواحدًا: هل أنا؟ وآخر: هل أنا؟ فأجاب وقال لهم: هو واحد من الاثنى عشر، الذي يغمس معى في الصحفة إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد وفيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزًا وبارك وكسر وأعطاهم وقال: "خذوا كلوا هذا هو جسدى، ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم فشربوا منها كلهم وقال لهم: "هذا هو دمى الذي للعهد الجديد. الذي يسفك من أجل كثيرين الحق أقول لكم: إنى لا أشرب بعد من نتاج المكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله" (1).

3 - وحكاية لوقا في هذه القصة فيها تقديم وتأخير فإنه قال فيها: "ولما كانت الساعة واتكأ والاثنى عشر رسولًا معه وقال لهم" شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم لأني أقول لكم: إلى لا آكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله ثم تناول كأسًا وشكر وقال: "خذوا هذه واقتسموها بينكم؛ لأنى أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج المكرمة حتى يأتي ملكوت الله وأخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطاهم قائلًا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم" (2).

وقد انتقد العلامة صاحب الفارق، هذه القصة ببيان الاختلاف والتناقض فيها فيقول: (إن ما أدرجه لوقا هنا لم يذكره متى ومرقس فإما أن يكون أنفت شهامتهما أن يذكرا كلامًا لا معنى له أو قصرت أفهامهما عن سر هذا الوحى الذي ذكره لوقا وعلى كلا التقديرين لا مخلص للمسيحى الذي يدعى أن هذا الاختلاف والتناقض إلهامى) (3).

وقال أيضًا: "ذكر الكأس ثانيًا من زياداته -لوقا- ولا يضرنا ذلك ولكن لنا عليه اعتراض في قوله: "الذي يُسفك عنكم" وذلك إما أن يكون المراد عموم النصارى أو التلاميذ المخاطبين خاصة وأيًا ما كان فهو مناقض قول يوحنا: أنه صلب نفسه عن كافة الناس ومخالف لقول مرقس ومتى أيضًا: لأنهما قالا:


(1) لوقا: (22/ 14 - 19) عشاء الرب.
(2) الفارق: ص 353.
(3) المرجع السابق: نفس الصفحة.

"الذي يسفك من أجل كثيرين" أي لبعض النصارى وزاد المترجم من عنده على مرقس: "لمغفرة الخطايا" ومعلوم أن بين هذه العبارات الأربعة تفاوتًا بعيدًا، والنصارى اتخذوا هذه القصة أساس دينهم فقد أسس هذا الدين على شفا جرف هار (1).

ويؤكد أ/عبد الله الترجمان وجود هذا الاختلاف بين الأناجيل في هذه القصة فيقول: "إن يوحنا الذي كان حاضرًا لعيسى حتى رُفع لم يذكر شيئًا من خبر الخبز والخمر في إنجيله، وهذا من الاختلاف الذي يدلّ على كذب متى ونقله للمحال والبهتان" (2).

أضف إلى ذلك محاججة الترجماني للنصارى بالعقل في هذه المسألة وبين أن ما يدعونه من خبر الخبز والخمر في العشاء الرباني محال من ناحية العقل فيقول: (النصارى يعتقدون أن كل جزء من أجزاء فطيرة كل قسيس هو عيسي -عليه السلام- بجميع جسده في طوله وعرضه، وعمقه هو هو ولو بلغت أجزاء الفطيرة مائة ألف جزء لكان كل جزء منها عيسى، فيقال لهم: إن جسد عيسى كان طوله عشرة أشبار مثلًا وعرضه شبرين وعمقه شبرًا، والفطيرة التي يقرأ عليها القسيس ما يمكن أنه تكون ثلاثة أشبار فكيف يكون جسد طوله عشرة أشبار وعرضه شبران وعمقه شبر في شيء طوله ثلث شبر، هذا محال في كل عقل سليم، وهم يجيبون عن هذا بأن المرآة تكون قدر الدرهم والإنسان يرى فيها أكبر الأبراج والمباني العالية إذا قابلها بذلك، وهي أكبر منها بأزيد من ألف مرة، فيقال لهم إن الذي يرى في المرآة عرض لا جوهر وأنتم تعتقدون أن جوهر عيسى وعرضه جميعًا في تلك الفطيرة، وهذا محال في العقل) (3).

ومن خلال ردود أ/ عبد الله الترجمان النقدية على هذه المسألة يتضح لدي الباحث أنه اتبع في جهوده النقدية للعشاء الرباني:

1 - محاورة النصارى حول ما يعتقدون بالأدلة العقلية.

2 - طرح الافتراضات الجدلية والتسليم لهم فيما يدعون ثم الإجابة عليها بما ينقضها ويبطلها.

وخلاصة ما سبق:

1 - الاختلاف بين الأناجيل في القصة الواحدة.

2 - وقوع الزيادات في أحد الأناجيل في هذه المسألة.

3 - وقوع التناقض في هذه المسألة من خلال المقابلة بين النصوص.

4 - تحويل الخبز إلى جسد المسيح والخمر إلى دم المسيح أمر لا يقبله عقل سليم.

5 - وبناءً على ما سبق يتبين بُطلان دعوى أن الأناجيل كُتبت بإلهام.

 


(1) الفارق: ص 353.
(2) تحفة الأريب: ص 94.
(3) السابق: ص 95.

  • الثلاثاء PM 06:13
    2022-05-17
  • 884
Powered by: GateGold