المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412559
يتصفح الموقع حاليا : 298

البحث

البحث

عرض المادة

كيف يواجه العهد الجديد هذا الواقع؟

وللمرء أن يتساءل: ماذا لدى الإنجيل من مقومات الإصلاح لهذا الفساد وتلك الأرقام الوبائية؟ وهل للإنجيل علاقة بهذه الأرقام؟

الإجابة تتلخص في قصور التشريعات الإنجيلية عن معالجة الأوضاع الفاسدة في المجتمعات النصرانية، بل ليس من التجني في شيء إذا قلنا بأن الكتاب المقدس هو أحد أسباب الفساد في تلك المجتمعات، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. (1)

وقد تجلت مسئولية الكتاب عن هذا الفساد بأمور تتفاوت في أثرها، لكنها مجتمعة حوت أسباب البلاء وجذوره، وفي كل ذلك ما يدل على أنه ليس كلمة الله، لأن الله يرسل أنبياءه بكتبه ليهدي الناس ويخرجهم من الظلمات والشرور إلى الهدى والنور.

أولاً: العهد الجديد ومنافاته للفطرة الإنسانية

ثمة نصوص إنجيلية كثيرة تجلى فيها مصادمة الإنجيل الموجود بين أيدينا للفطرة الإنسانية التي خلق الله عليها عباده، مما يترك أثراً سلبياً أخلاقياً أو اجتماعياً على قارئيها، منها:

- أنه ثمة نصوص تصطدم مع طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، ومنه ما جاء في العهد الجديد من حث على التبتل وترك الزواج يقول بولس: " أقول لغير المتزوجين وللأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا " (كورنثوس (1) 7/ 8).

وفي نص آخر يقول: " لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله " (رومية 8/ 7)، وعليه فالأكل والشرب والنوم والزواج ... وغيرها من حاجات الإنسان الفطرية إنما يمارسها الإنسان وهو يعادي ربه، لأن الفكرة الخاطئة التي تسيطر على بولس هي العداوة بين الجسد والروح " لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 5/ 17)، وهذا الصراع المفترض بين الروح والجسد يشوه الحياة الإنسانية التي لا تسعد إلا بتكامل حاجات الجسد ورغبات الروح.

وأما التلميذ يعقوب فيبالغ في تحذيره من محبة العالم، من غير أن يفرق بين الخير والشر، فيقول: "أيها الزناة والزواني، أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله، فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله" (يعقوب 4/ 4)، فهل محبة الخير أو الوالدين أو حتى شهوات الإنسان الفطرية من نكاح وتناسل وطعام وشراب، هل محبة هذه المحبوبات عداوة لله؟!

- وفي مرة أخرى ينسب متى إلى المسيح أنه قال: " يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل " (متى 19/ 12).

- ويذكر متى دعوة المسيح إلى التخلي عن الدنيا بما فيها الحاجات الأساسية والضرورية للحياة الإنسانية السوية، فقد جاءه رجل فقال للمسيح بأنه حفظ الوصايا كلها " فماذا يعوزني بعد؟ قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال واتبعني، (لكن الشاب الصالح) مضى حزيناً، لأنه كان ذا أموال كثيرةً.

فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله، فلما سمع تلاميذه بهتوا جداً قائلين: إذاً من يستطيع أن يخلص " (متى 19/ 20 - 25).

فهذا النص وأمثاله محارب لدفعة الحياة التي بها يقوم العمران والحضارات.

- ومثله تلك الدعوة التي نرى فيها دعوة للتكاسل والقعود، تبأس البشرية إن فعلتها، وهي ما جاء في لوقا: " لاتهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون، الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس، تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقوتها ... تأملوا الزنابق كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل ... فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون، ولا تقلقوا ... بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم " (لوقا 12/ 22 - 31).

- ومثله يذكر متى أن المسيح أمر تلاميذه: " لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصاً " (متى 10/ 9 - 10)، فكيف تعمر الأرض لو امتثل الناس جميعاً بهذا الأمر المحال.

- ومما يصادم الفطرة الإنسانية المثالية غير المعقولة ولا المحمودة في بعض فقرات العهد الجديد كما في قول متى الذي نسبه إلى للمسيح في قوله: "وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم" (متى 5/ 44)، فعلاوة على كون الأمر بمحبة الأعداء أمراً محالاً لم تطبقه المجتمعات النصرانية في يوم من الأيام، فإنه لا يحسن أن يكون المسيح قد أمر بمحبة الشيطان، أكبر أعداء الإنسان، ومثله يقال في شياطين الإنس الذين يبغضهم الله، ولا يحسن بالمؤمن أن يحبهم وقد أبغضهم ربه جل وعلا.

وتزداد النكارة والغرابة من أمر الكتاب المؤمنين بمحبة أعدائهم مهما أساؤوا وصنعوا، بينما يطلب في موضع آخر من المؤمنين أن يبغضوا أولئك الذين أحسنوا إليهم أو يلوذون بهم من والِدين وإخوة وأبناء، فإن بغضهم وكراهيتهم شرط للتلمذة عند السيد المسيح كما زعم لوقا "إن كان أحد يأتي إليّ، ولا يبغض أباه وأمه وأولاده وإخوانه حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون تلميذاً " (لوقا 14/ 26 - 27).

ثانياً: العجز التشريعي للعهد الجديد

ورأى المحققون أيضاً أن تشريعات الأناجيل عاجزة عن إقامة الحياة المستقيمة المتكاملة بما تحمل هذه الأناجيل من مثالية مقيتة يستحيل أن تصلح الحياة معها، ومن ذلك ما نسبه متى إلى المسيح: "من لطمك على خدك، فحول له الآخر أيضاً " (متى 5/ 39)، وقد ورد النص في مقابل القصاص، ولذلك فهو إلغاء لشريعة القصاص، أو إضافة أخلاقية تفتقر إلى المعقولية، وكأني به يحث على الرضا بالضيم والظلم، وهو ولا ريب سبب عظيم في ظهور الفساد والبغي.

- ومثله قول لوقا: " من ضربك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك .... ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه به " (لوقا 6/ 28 - 29)، فهل يصنع هذا أحد من العقلاء؟ ولو صنعه الناس فأي واقع من الظلم والاضطهاد والشرور سيكون؟!

وهنا نتساءل: لو كان هذا النص من كلام المسيح، فلم خالفه عندما ضربه خدم رؤساء الكهنة فلم يعرض له الخد الآخر، بل قال له: " إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني " (يوحنا 18/ 23).

كما ثمة تساؤل آخر يبحث عن إجابة: هل طبقت الكنيسة هذا الخلق في جولة من جولاتها أم أن واقع الحال يؤذن بأن هذا المقال من المحال، وإذا عجزت الكنيسة والمسيح عن ذلك، فغيرهما عنه أعجز.

- ويحرم العهد الجديد الطلاق إلا بعلة الزنا، فيقول: " فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان .. أقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني " (متى 19/ 6 - 9).

وهذا التشريع سبب من أسباب انتشار البغاء، إذ هو المخرج والسبيل الذي يلجأ إليه أولئك الذين حالت مشاكل الحياة واختلافات البشر دون إكمال مسيرتهم الزوجية، وحرم عليهم العهد الجديد أن يبنوا حياتهم على الطُهر من جديد.

ولا يمكن أن تستقيم الحياة مع هذا التشريع العجيب، إذ ثمة أمور كثيرة تجعل الحياة بين الزوجين ضرباً من المحال، ولا مخرج من ضنكها إلا الطلاق، الذي بمنعه تقع الكثير من المضار، وهو ما دفع الكنيسة البروتستانتية لإباحة الطلاق، وهو ما تحاول الكنائس الأخرى إقراره بغية الخروج من هذا التشريع الغريب.

وأما ما ذكره متى من علة تحريم الطلاق وهو قوله: " فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان " (متى 19/ 6) فليس بصحيح، لأن الزواج ليس جمعاً إلهياً بين اثنين، بل هو اتفاق بين اثنين على الزواج وفق شريعة الله وسنّته، فمثله في ذلك مثل سائر الشعائر التي أمر بها الله.

- وثمة عجز تشريعي آخر تواجهه أسفار العهد الجديد في مواجهة متطلبات الحياة الإنسانية، وهو منع الزواج بأكثر من واحدة كما يفهم من (كورنثوس (1) 7/ 1 - 5)، وهو ما تجمع عليه الكنائس النصرانية المختلفة، بينما تشير الإحصائيات إلى زيادة مطردة في أعداد النساء، ففي انجلترا تزيد النساء على الرجال أربعة ملايين امرأة، وفي ألمانيا خمسة ملايين، وفي أمريكا ثمانية ملايين، فكيف يحل العهد الجديد هذه المشكلة التي ستتفاقم آثارها إذا تابع النصارى قول بولس في الحث على التبتل وترك الزواج " أقول لغير المتزوجين وللأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا، ولكن إذا لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا " (كورنثوس (1) 7/ 8 - 9)، إن نتيجة هذا التعليم هي الفضائح التي تهز جنبات الكنيسة وتقرعها كل يوم، لتثبت أن الفطرة لا تُغلب، وأن هذا التوجيه ليس من كلمة الله، لأن الله يعلم ما يصلح عباده ويناسب أحوالهم.

ثالثاً: دور نسخ الشريعة ورفعها في انتشار التحلل والفساد

ولكن كل ما ذكرناه ليس إلا أسباباً جانبية للبلاء، وأما أسّ البلاء الذي تعاني منه المجتمعات النصرانية فيكمن في عقيدة الخلاص والفداء، والتي تجعل الإيمان بصلب المسيح كافياً للخلاص ومحرراً من لعنة الناموس والشريعة التي نسخها بولس بأقواله، لقد نسخ - بجرة قلم - كل ما قررته الشريعة من تحريم وتجريم وعقوبة من ارتكب الموبقات المختلفة من زنا وشرب للخمور وقتل وفساد، إذ الإيمان بالمسيح المصلوب نيابة عنا يكفر خطايانا مهما عظمت، وهكذا يمضي المؤمن بهذه النصوص إلى ضروب الرذيلة وفنونها غير خائف من عقاب الله ودينونته.

لقد سمى بولس شريعة الله التي تهذب السلوك البشري: لعنة، فقال: " المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غلاطية 3/ 13).

وأعلن عن عدم الحاجة إليها بعد صلب المسيح فقال: " قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب " (غلاطية 3/ 24 - 25). وأكد إبطال الناموس بقوله: "سلامنا الذي جعل الاثنين واحد ... مبطلاً بجسده ناموس الوصايا" (أفسس 2/ 14 - 5).

ويقول أيضاً: " الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما " (غلاطية 2/ 16).

وهؤلاء الذين يصرون على العمل بالناموس يرى بولس أنهم يسيئون للمسيح: " قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس " (غلاطية 5/ 4).

ويمضي مؤكداً عدم الحاجة إلى الأعمال الصالحة، فيقول: " إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذاً مات بلا سبب " (غلاطية 2/ 21).

ويقول: " أبناموس الأعمال؟ كلا بل بناموس الإيمان، إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس " (رومية 3/ 27 - 28).

وجعل بولس الإيمان بالمسيح سبيلاً للبر والنجاة من غير الحاجة للناموس والأعمال:" الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع الذي أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود " (تيموثاوس (2) 1/ 9 - 10).

ويؤكد هذا المعنى الغريب عن أقوال المسيح في نص آخر، فيقول: " ظهر لطف فخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس " (تيطس 3/ 4 - 5).

ولذلك فإن بولس يعلن إباحته لكل المحرمات من الأطعمة مخالفاً التوراة وأحكامها (انظر التثنية 14/ 1 - 24).

ويقول: "أنا عالم ومتيقن في الرب يسوع أن لاشيء نجس في حد ذاته، ولكنه يكون نجساً لمن يعتبره نجساً" (رومية 14/ 14).

ويقول بولس - وهو يعرض نموذجاً من إباحته المحرمات يقاس عليه كل محرم -: "كل شيء طاهر للأطهار، وما من شيء طاهر للأنجاس" (تيطس 1/ 15)، "لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر" (تيموثاوس (1) 4/ 4).

ويقول بولس معرفاً البار حسب دينه الجديد: " المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله، لإظهار بره في الزمن الحاضر، ليكون باراً، ويبرر من هو من الإيمان بيسوع " (رومية 3/ 24 - 25).

ويقول معدداً الشروط الجديدة للخلاص: " إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت" (رومية 10/ 9).

ومثله ما جاء في مرقس: " من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يُدَن " (مرقس 16/ 16).

وفي موضع آخر تتسع دائرة الخلاص لتشمل كل البشرية وتغريها بالمسيحية التي لا تحرم حراماً، فيقول بولس عن المسيح: " بذله لأجلنا أجمعين " (رومية 8/ 32).

ويوضحه قول يوحنا: "يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً " (يوحنا (1) 2/ 2).

ويؤكده في قوله: " نشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم " (يوحنا 4/ 14) فجعل الخلاص عاماً لكل الخطايا وشاملاً لكل البشر، مهما عملوا من الموبقات والرزايا، لذا أضحى أهل الجنة - وفق المفهوم البولسي هم أراذل الناس وسفلتهم -، إذ من أمِن العقوبة أساء الأدب.

وقد كان لهذه النصوص صدى كبير في النصرانية ونظرتها للشريعة، فقد فهم رواد النصرانية قبل غيرهم من هذه النصوص أن كل الموبقات قد أضحت حلالاً، فيقول لوثر أحد مؤسسي المذهب البروتستانتي: " إن الإنجيل لا يطلب منا الأعمال لأجل تبريرنا، بل بعكس ذلك، إنه يرفض أعمالنا ... إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن تعظم آثامنا جداً، وأن تكثر عددها".

ويقول ملانكثون في كتابه "الأماكن اللاهوتية": " إن كنت سارقاً أو زانياً أو فاسقاً لا تهتم بذلك، عليك فقط أن لا تنسى أن الله هو شيخ كثير الطيبة، وأنه قد سبق وغفر لك خطاياك قبل أن تخطئ بزمن مديد". (2)

وهكذا تبين لنا أن البلاء والفساد الذي آلت إليه أوربا والغرب النصراني عامة، إنما كان بسبب هذا الكتاب الذي يصر النصارى على أنه يمثل - رغم سلبياته الهائلة - كلمة الله الهادية إلى البر والجنة والملكوت.

 


(1) لا يعني هذا أن الكتاب المقدس خلو من التعاليم السامية والتي هي في الحقيقة بقية أنوار الأنبياء وهديهم، لكن شابها ما أضافه الكتبة من الباطل، فانطفأت أنوار الحق، وبهتت، وغاصت درره في بحور التحريف.

(2) انظر: الخطيئة الأولى بين اليهودية والمسيحية والإسلام، أميمة الشاهين، ص (148)، المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل، عبد الكريم الخطيب، ص (374).

 

  • الخميس PM 03:31
    2022-05-12
  • 826
Powered by: GateGold