المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409160
يتصفح الموقع حاليا : 362

البحث

البحث

عرض المادة

عفو الله وغفرانه للمذنبين

ثم إنه ثمة مخرج آخر للجمع بين سنة الله في عقاب الظالمين وعفوه عنهم، ألا وهو سنته في العفو عنهم، فهو لا يتناقض مع العدل، إذ لن يسأل أحد ربه لماذا عفا عمن عفا عنه من المسيئين؟

وقبل أن نتحدث عن العفو نلاحظ أن لمصطلح العدل عند النصارى مفهوم خاطئ، فالعدل هو عدم نقص شيء من أجر المحسنين، وعدم الزيادة في عقاب المسيء عما يستحق، فهو توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر، ولا زيادة في العقاب.

وعليه فإخلاف الوعيد لا يتعارض مع العدل، بل هو كرم الله الذي قد يمنحه للمسيئين، عفواً منه ومغفرة جل وعلا، فهو العفو الرحيم.

والعفو من الصفات الإلهية التي اتصف بها الرب، وطلب من عباده أن يتصفوا بها، وهو أولى بها لما فيها من كمال وحُسن، وقد عفا عن بني إسرائيل من غير كفارة ولا مصلوب "رضيت يا رب على أرضك، أرجعت سبي يعقوب، غفرت إثم شعبك، سترت كل خطيتهم، سلاه، حجزت كل رجزك، رجعت عن حمو غضبك" (المزمور 85/ 1 - 3).

ويقول بولس: " طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم، طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية" (رومية 4/ 7 - 8)، فثمة أناس عفا الله عن خطاياهم وذنوبهم، وسترها عليهم، من غير دم يسفك عنهم، ولا تناقض بين عدل الله ورحمته بشأنهم.

وقد علّم المسيح تلاميذه خلق العفو، وضرب لهم مثلاً قصة العبد المديون والمدين. (انظر متى 18/ 23 - 34).

وكان بطرس قد سأل المسيح: " يا رب كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: بل إلى سبعين مرة " (متى 18/ 21 - 22).

ومرة أخرى قال لهم: " أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه تشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين " (متى 5/ 44 - 45).

فالعفو عن الخاطئين صفة مدح، اللهُ أولى بها من عباده، وهو أقدر منهم وأغنى جل وعز.

ولم لا يكون العفو بصك غفران يمنحه الله لآدم، ويجنب المسيح ويلات الصلب وآلامه، أو لم لا يجعل للمسيح فدية عن الصلب، كما جعل لإبراهيم فدية فدى بها ابنه إسماعيل.

وكذا فإن إصرار النصارى على أنه لا تكون مغفرة إلا بسفك دم (انظر عبرانيين 9/ 22) (1) ترده نصوص أخرى أخبرت أن الله قد يرفض الذبائح ولا يرتضيها وسيلة للخلاص، منها ما جاء في متى: " إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة " (متى 9/ 13).

وفي التوراة أن الله قال لبني إسرائيل: " بغضتُ، كرهتُ أعيادكم، ولست ألتذُّ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها " (عاموس 5/ 21 - 22)، فالذي يريده الله منهم هو العمل الصالح، لا الذبيحة فقط.

وفي سفر المزامير "يا رب افتح شفتيّ، فيخبر فمي بتسبيحك، لأنك لا تسرّ بذبيحة، وإلا فكنت أقدمها، بمحرقة لا ترضى، ذبائح الله هي روح منكسرة، القلب المنكسر والمنسحق" (المزمور 51/ 15 - 17).

ويؤكد الكاتب المجهول لرسالة العبرانيين هذا المعنى الجديد للذبيحة المقبولة، فيوصي بالتسبيح وفعل الخير: "فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه، ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع، لأنه بذبائح مثل هذه يسرّ الله" (عبرانيين 13/ 15 - 16).

وفي سفر إشعيا النبي يخاطب الرب بني إسرائيل: " اسمعوا كلام الرب يا قضاة سدوم، أصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة، لماذا لي كثرة ذبائحكم يقول الرب، اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر ... اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينيّ، كفوا عن فعل الشر، تعلموا فعل الخير، اطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة، هلم نتحاجج يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إشعيا 1/ 10 - 18).

وهكذا فليست الذبيحة الوسيلة الأقرب لرضوان الله، بل أفضل منها العمل الصالح، والقلب المنكسر المتذلل لله العظيم.

[الاكتفاء بالعقوبة التي نالها الأبوان]

لكن النصارى يمنعون أن يعفو الله عن آدم وأبنائه، ويصرون أن لابد من العقوبة المستحقة لهم، لكنهم قد نالوها بالفعل، فما بال الخطيئة تتوارث وعقوبتها في أبنائهم، أفليس تكرار العقوبة للعاصي صورة من صور الظلم الذي يتنزه عنه الله!

ذكر سفر التكوين أن الله توعد آدم بالموت إن هو أكل من الشجرة.

لكنه بدلاً عن أن يموت وزوجه جزاء خطيئتهما وتنطفاء الفتنة والفساد والشر في المهد، بدلاً من ذلك كثّر نسلهما، فكان ذلك حياة لهما لا موتاً، وكان سبباً في زيادة الشر والفساد على الأرض.

ثم إضافة للموت الذي لم يتحقق عاقبه بقوله: " ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك تأكل خبزاً، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود " (التكوين 3/ 17 - 19)، فطرد آدم من الجنة ليعيش في الأرض ويكد فيها، فتلك عقوبته.

وكذلك فإن زوجه حواء عوقبت " تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك " (التكوين 3/ 16).

لقد عوقب آدم وحواء إذاً، ونلحظ في العقوبة شدة متمثلة في لعن الأرض كلها والأتعاب الطويلة للرجال والنساء، ونلحظ أن ليس ثمة تناسباً بين الذنب والعقوبة، فقد كان يكفيهم الإخراج من الجنة.

وقد بقيت هذه القصاصات من لدن آدم حتى جاء المسيح الفادي، ثم ماذا؟ هل رفعت هذه العقوبات بموت المسيح؟ هل رفعت عن المؤمنين فقط أم أن شيئاً لم يتغير؟

وهذا هو الصحيح، فما زال الناس يموتون من لدن المسيح، يموت أبرارهم وفجارهم، فلم يبطل حكم الموت فيهم - كما ذكر بولس -: " مخلصنا يسوع الذي أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود " (تيموثاوس (2) 1/ 10)، وقوله: " بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع " (رومية 5/ 12).

فالمسيح لم يبطل بصلبه ولا بدعوته أي موت، لا الموت الحقيقي ولا الموت المجازي، إذ مازال الناس في الخطيئة يتسربلون، ثم بعد ذلك يموتون.

وأما الموت الحقيقي فليس في باب العقوبة في شيء، بل هو أمر قد كتب على بني آدم، بَرهم وفاجرهم على السواء، قبل المسيح وبعده، وإلى قيام الساعة، كما كتب الموت على الحيوان والنبات، فما بالهم يموتون؟ وهل موتهم لخطأ جدهم وأصلهم الأول أم ماذا؟!

ثم إن هناك من لا يملك النصارى دليلاً على موتهم، فنجوا من الموت من غير فداء المسيح، وذلك متمثل في أخنوخ وإيليا اللذين رفعا إلى السماء وهما حيين كما في الأسفار المقدسة (انظر التكوين 5/ 24، والملوك (2) 2/ 11، وعبرانيين 11/ 5).

وعليه نستطيع القول بأن ليس ثمة علاقة بين الموت وخطيئة آدم.

وكذلك فإن القصاصات الأخرى ما تزال قائمة، فما زال الرجال يكدون

ويتعبون، وما تزال النساء تتوجع في الولادة ... ويستوي في ذلك النصارى المفديون - حسب العهد الجديد- بدم المسيح وغيرهم.

والعجب من إصرار النصارى بعد وقوع هذه العقوبات على أن الذنب ما زال مستمراً، وأنه لابد من فادٍ بعد هذه العقوبات الشديدة التي نالها أصحابها.

ولابد أن ننوه هنا إلى أن النص التوراتي يحمل القدر الكثير من معاني الظلم لآدم وحواء؛ إذ يجعل وقوعهما في المعصية وهما غير مؤهلين للتمييز بين الخير والشر، فقد أُعطيا هذه القدرة بعد أكلهما من شجرة معرفة الخير من الشر، فقد أذنبا وهما جاهلين حتى بعريهما "فأكل فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر"، ومن جهل مثل هذا الأمر البسيط لا يمكنه - بالضرورة - التمييز فيما هو أكبر وأعمق، كمعرفة عاقبة إطاعة الحية التي غرَّته بقولها: " يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر ".

وفي هذا الصدد نسأل سؤالاً لا يجوز إغفاله أو الحيدة عن إجابته: كيف جهل الأنبياء ذلك المعتقد الهام، فلم يذكروه في كتبهم كما لم يذكره المسيح ولم يعرفه تلاميذه من بعده، حتى جاء به بولس وآباء الكنيسة، فكشفوا ما غاب عن الأنبياء والمرسلين.

[مسئولية الإنسان عن عمله]

ومما يبطل نظرية وراثة الذنب أيضاً النصوص التي تحمل كل إنسان مسئولية عمله.

وقد تعاقَب الأنبياء على التذكير بهذا المعتقد في نصوص كثيرة ذكرتها التوراة والأناجيل.

ومنها ما جاء في التوراة "وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: افترزا من بين هذه الجماعة، فإني أفنيهم في لحظة، فخرّا على وجهيهما وقالا: اللهمّ إله أرواح جميع البشر، هل يخطئ رجل واحد فتسخط على كل الجماعة" (العدد 26/ 23)، واستجاب الله لهما فعذب بني قورح فقط دون بقية إسرائيل.

وجاء في سفر المزامير: " الأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطي الله كفارة عنه " (المزمور 49/ 7).

وأيضاً في التوراة: " لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته " (الأيام (2) 25/ 4).

وأيضاً يقول المسيح: " فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله " (متى 16/ 27).

وهو عين كلام المسيح: " كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين، لأنك بكلامك تبرر، وبكلامك تدان " (متى 12/ 36).

والعجب أنه قد ورد إثبات مسئولية الإنسان عن عمله في كلام بولس الذي ابتدع معتقد وراثة الذنب، ومنها قوله عن الله: " الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله " (رومية 2/ 6).

 

 


(1) يخالف الكاتب المجهول لرسالة العبرانيين المصر على الدم ما جاء في العهد القديم، فإنه يجيز المغفرة بدون سفك دم، فيكفر خطيئة المذنب الفقير إذا قدم لترين ونصف من الدقيق "وإن لم تنل يده يمامتين أو فرخي حمام، فيأتي بقربانه عما أخطأ به عُشر الإيفة من دقيق قربان خطية، لا يضع عليه زيتاً، ولا يجعل عليه لباناً لأنه قربان خطية" (انظر: اللاويين 5/ 11 - 12).

  • الاربعاء PM 12:48
    2022-05-11
  • 933
Powered by: GateGold