المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412356
يتصفح الموقع حاليا : 355

البحث

البحث

عرض المادة

النصوص المناقضة لألوهية المسيح - 1

رأى المحققون أن الأحوال البشرية المختلفة التي رافقت المسيح - عليه السلام - طوال حياته تمنع قول النصارى أن المسيح هو الله أو ابنه، إذ لا يليق بالإله أن يولد ويأكل ويشرب ويختن ويضرب و ... ثم يموت.

ولا يشفع للنصارى قولهم بأن هذه الأفعال صدرت من الناسوت لا اللاهوت، لأنهم لا يقولون بأن تجسد الإله في المسيح - عليه السلام - كان كالجبة أو العمامة يلبسها المسيح أحياناً، وينزعها أخرى، فما صدر منه إنما صدر من الإله المتجسد كما زعموا، وإلا لزمهم الاعتراف ببشريته، وهو الصحيح.

يقول العالم أوريجانوس الذي خصى نفسه لأجل الملكوت (ت 253م) في تفسيره لرسالة رومية: "بسبب الاتحاد الذي لا ينفك بين الكلمة والجسد، كل شيء يختص بالجسد ينسب أيضاً إلى الكلمة، وكل ما يختص بالكلمة يحمل على الجسد" (1)، وعليه نستطيع القول بأن الكلمة أو اللاهوت الحال في الجسد كان يأكل ويشرب وينام ويتعب، ويخطئ من نسب هذا للجسد دون اللاهوت المزعوم، لذلك يقول المطرانان يوسف ريا وكيرلس بسترس: "يمكننا القول حقاً: إن الله تجسد، وإن الله ولد وعطش وجاع، وإن الله تألم ومات وقام، وإن الله صعد إلى السماوات" (2).

وممن يقول بالطبيعة الواحدة ورفض بدعة الطبيعتين التي لا نكاد نسمع غيرها اليوم البابا أثناسيوس الرسولي (ت 373م) صاحب قانون الإيمان في مجمع نيقية: "هذا الواحد الإله هو ابن الله بالروح، وهو ابن الإنسان بالجسد، ليس أن الابن الواحد له طبيعتان، إحداهما مسجود لها (إلهية)، والأخرى غير مسجود لها (ناسوتية)، بل طبيعة واحدة لكلمة الله المتجسد الذي نسجد له مع جسده سجوداً واحداً"، وكان يقول: "ابن الله هو بعينه ابن الإنسان، وابن الإنسان هو بعينه ابن الله" (3).

ويقول (القديس) باسيليوس الكبير (378 م) أسقف قيصرية: "وليس أننا نقول على الابن الوحيد: إنه إنسان، ولا نقول: إن اللاهوت منفرد بذاته، ولا الناسوت منفرد بذاته. بل نقول: طبيعة واحدة وأقنوم واحد" (4).

ويقول (القديس) أغريغوريوس أسقف نيصص (ت 395م) في سياق تفسيره لقوله: "هذا هو ابني الحبيب": " لا تطلبوا لتجسده على الأرض أباً، ولا تطلبوا له في السماء أماً، لا تفرقوا بين لاهوته وناسوته، لأنه بعد اتحاده غير منفصل، وغير مختلط .. إذا رأيت ابني قد جاع أو عطش أو نام أو تعب ... فلا تحسب ذلك لجسده دون لاهوته، وإذا رأيت ابني يشفي المرضى ويطهر البرص بالقول ويصنع أعيناً من طين .. فلا تحسب


(1) موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (189).
(2) التجسد فيض المحبة، المطران يوسف ريا والمطران كيرلس بسترس، المكتبة البولسية، ص (16).
(3) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمص غبريال عبد المسيح، ص (59 - 60)، وانظر طبيعة المسيح، البابا شنودة، ص (9)، والله في المسيحية، عوض سمعان، ص (411)، والخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا ايسذورس (2/ 310).
(4) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمص غبريال عبد المسيح، ص (58).

ذلك للاهوته دون ناسوته، لأن الأفعال العالية ليست لواحد والمتواضعة لآخر" (1).

وكذلك قال (القديس) يوحنا فم الذهب (ت 407م): "اللاهوت والناسوت اتحدا معاً اتحاداً تاماً في المسيح، حتى أنك تستطيع أن تقول عنه: إن هذا الإنسان هو الله " (2).

أما (القديس) كيرلس بابا الإسكندرية (ت 444م) قائد الكنيسة في مجمع أفسس (430م)، فيكتب في رسالته للقيصر ثودوسيوس: "إننا لا نعري الناسوت من اللاهوت، ولا نعري الكلمة من الناسوت، بعد ذلك الاتحاد الغامض الذي لا يمكن تفسيره، بل نعترف بأن المسيح الواحد هو من مشيئتين قد اجتمعتا إلى واحد مؤلف من كليهما، لا بهدم الطبيعتين ولا باختلاطهما، بل باتحاد شريف للغاية، بوجه عجيب" (3).

وقال: «ربنا يسوع المسيح هو أقنوم واحد، لأن ناسوته متحد مع لاهوته باتحاد إلهي، لا مجال فيه للتفكك أو الانفصال على الاطلاق»، وكان يشبه علاقة الناسوت باللاهوت بعلاقة جسد الإنسان وروحه، فكما لا يعرف للإنسان عمل روحي بحت أو جسدي بحت؛ فكذلك المسيح لا يمكن التفريق في أفعاله بين أفعال تنسب للناسوت وأخرى للاهوت.

وكان كيرلس من أشهر المنادين بعقيدة "تألم الإله" ( Theopaschites) ، وقال في الحرمانات الشهيرة التي أصدرها؛ في الحرمان الثاني عشر: "فليكن محروماً كل من ينكر أن الكلمة الله تألم في جسده، وصلب في جسده، وذاق الموت في جسده، وأصبح باكورة الراقدين"، فهو يرى اشتراك اللاهوت والناسوت في الصفات والخواص، ويؤكد على أن "اللاهوت يشعر بما يشعر به الناسوت، ويشترك في أعماله وكذلك الناسوت، فإن كان الناسوت تألم فإن اللاهوت تألم أيضاً؛ بسبب الوحدة القوية بين الجوهرين"، ولذلك يؤكد كيرلس على استحقاق جسد المسيح للعبادة: "المسيح يسوع، الإبن الوحيد، الذي يكرم بسجدة واحدة مع جسده الخاص" (4).

وأما خليفته البابا ديسقورس الأول، البطريرك الخامس والعشرون من باباوات كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية (ت 457م)؛ فينقل الأنبا غريغوريوس عنه قوله: " فلا اللاهوت امتزج بالناسوت ولا اختلط به، ولا استحال أحدهما إلى الآخر. إنما اللاهوت والناسوت قد اتحدا. ليس من قبيل الإجتماع أو المصاحبة، ولكنه اتحاد بالمعنى الحقيقي لكلمة اتحاد، وإذا كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا فقد صارا واحداً، ولا مجال للقول بعد ذلك أن هناك طبيعتين، وإلا فلا يكون الاتحاد صحيحاً أو حقيقياً" (5).

وكتب بروكلوس أسقف القسطنطينية (عام 435م) رسالته الشهيرة التي أجاب فيها على تساؤلات القادة والأساقفة في كنيسة أرمينيا: "إن اللاهوت اشترك في ضعف الناسوت، أي إنه تألم وعرف بطريقة فعلية حقيقية تألم الجسد والحزن والموت، فإن الذي تألم وعطش وجاع، وفي نهاية المطاف مات وقام من بين الأموات هو يسوع المسيح، هو الكلمة المتجسد، أي الأقنوم الثاني من اللاهوت" (6).

ووفق هذا المفهوم نستطيع القول: إن التفريق بين الطبيعتين في المسيح تفريق ذهني غير حقيقي، لا يصح أن يتعلق به الذين أذهلتهم الصور الإنسانية الكثيرة للمسيح، فالاتحاد بين الناسوت واللاهوت يمنع الاحتجاج بالطبيعتين، وقد شبهه البابا كيرلس الملقب بعمود الدين باتحاد الروح والجسد، وقال: "إننا لا نجيز الفصل بين الطبيعتين، ونعلِّم فقط بالتمييز بينهما تمييزاً ذهنياً" (7).

وهكذا فإن عقيدة التي عُبِّر عنها في الفكر المسيحي بالمقولة المشهورة: "واحد من الثالوث تألم في الجسد" (8) ليست بدعة هرطوقية، بل عقيدة نادى بها آباء الكنيسة قبل الانشقاق الكنسي الكبير الذي أعقب مجمع خليقدونية 451م (من لدن أوريجانوس مروراً بأثناسيوس ثم كيرلس)، واستمرت بعدهم، فنادى بها الرهبان السكيثيون، والعالم الأفريقي فولجنس، ثم اعترف فيها مجمع القسطنطينية الكاثوليكي سنة 553م، وكتب بذلك البابا يوحنا الثاني إلى الامبرطور يوستيتيانوس وإلى مجلس الشيوخ الروماني (9).

والأرثوذكس الشرقيون (أقباط مصر، والحبشة) يقولون اليوم بالطبيعة الواحدة ليسوع، وهم يرفضون القول بالطبيعتين، ويرونه مخلاً بإحدى أهم العقائد المسيحية، وهي عقيدة صلب المسيح كفارة عن خطايا البشر، إذ لا يقبلون قول الكاثوليك والبرتستانت بأن المصلوب هو ناسوت المسيح دون لاهوته، فـ "إذا كان للسيد المسيح طبيعتان بعد الاتحاد، فمن المنطقي أن عمل الفداء قام به جسد السيد المسيح، لأنه هو الذي وقع عليه الصلب، وعلى ذلك ففداء المسيح ليست له أي قوة على خلاص الجنس البشري، إذ يكون الذي مات من أجل العالم هو إنسان فقط" (10)، والناسوت فقط لا يكفي للفداء عن الجنس البشري، لأن ناسوت المسيح محدود، ولا يكفر الخطيئة غير المحدودة، والتي تحتاج لكفارة مكافئة لها، أي صلب شخص غير محدود، ليتم الخلاص، وهذا يستدعي أن يكون المصلوب هو اللاهوت والناسوت المتحدين في طبيعة واحدة.

ويمكننا فهم هذه العلاقة - المدعاة - لامتزاج الناسوت باللاهوت بتأمل لحظة واحدة صدر فيها عن المسيح فعلين متغايرين، أولهما عبر عن ناسوته، والآخر عبر عن لاهوته، وذلك في قصة المرأة النازفة "جاءت من ورائه، ولمست هدب ثوبه، ففي الحال وقف نزف دمها، فقال يسوع: من الذي لمسني؟ وإذ كان الجميع ينكرون، قال بطرس والذين معه: يا معلّم، الجموع يضيّقون عليك، ويزحمونك، وتقول: من الذي لمسني؟ فقال يسوع: قد لمسني واحد، لأني علمتُ أن قوة قد خرجت مني .. " (لوقا 8/ 44 - 47)، ففي لحظة واحدة يجمع له النصارى بين الألوهية الكاملة والناسوتية التامة، فقد جهل المسيح لامسه بناسوته، وشفاه من مرضه بلاهوته، وذلك في لحظة واحدة.

ولا تجيز فرقة من فرق النصارى الكبرى اليوم القول بأن جسد المسيح الأرضي - الذي اكتسبه من مريم - لا يستحق العبادة، فإن التماهي بين اللاهوت المزعوم والناسوت مما لا يجوز فيه انفصال أو تجزئة.

وقد قال قديسو المسيحية في عصورها المتقدمة بلزوم عبادة الجسد، منهم البابا أثناسيوس (ت 373م)، فهو القائل: " الذي نسجد له مع جسده سجوداً واحداً"، وكان يقول: "ابن الله هو بعينه ابن الإنسان، وابن الإنسان هو بعينه ابن الله" (11)، وكنا قد نقلنا قبلُ قول (القديس) كيرلس عمود الدين: "المسيح يسوع، الإبن الوحيد، الذي يكرم بسجدة واحدة مع جسده الخاص" (12)، فالجسد معبود مع أنه مخلوق اكتسبه المسيح من مريم، فالنصارى يعبدون الجسد المخلوق.

وقد استدلت الكنيسة في عبادتها لجسد المسيح أو ناسوته بنصوص كتابية رأت أنها ترتفع بجسد المسيح لتجعله معبوداً من غير أن تفرق بين ناسوته ولاهوته، من ذلك قول بولس: "لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أعمال 20/ 28)، فنسب الدم إلى الله، مع عرفتنا بأن الدم يتبع الناسوت لا اللاهوت، قال أغناطيوس: "دعي يسوع المسيح إلهاً، وقيل في دمه: إنه دم الله" (13).

وقال في رسالته إلى أهل رومية: "اسمحوا لي أن أتشبه بأوجاع إلهي"، فالمتوجع من المسيح هو ناسوته ولا ريب، ومع ذلك فهو إله معبود.

واستدلت الكنيسة أيضاً بصعود المسيح إلى السماء بجسده وروحه، فقد رأى التلاميذ لحمه وعظامه حين قال هم: "انظروا يديّ ورجليّ، إني أنا هو، جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا، أراهم يديه ورجليه" (لوقا 24/ 37 - 41)، ثم صعد بعد قليل بهذا الجسد الناسوتي.

وقد جاء في إنجيل يوحنا: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/ 13)، وهكذا فالمعنى بحسب الكنيسة أن ناسوت المسيح أو جسده "نزل من السماء" ثم ارتفع ثانية إليها، إنه " ابن الإنسان الذي هو في السماء".

ولما قال نسطور بأن مريم هي "أم الإنسان" ورفض أو تلكأ بالقول بأنها "أم الله"؛ أقامت الكنيسة الدنيا عليه ولم تقعدها، لأنه "ميز الإله على حدة، والإنسان على الأخرى، وفصل المسيح إلى طبيعتين وأقنومين، واستنتج من هذه المقدمات أمرين: أحدهما: أن العذراء لم تلد سوى الإنسان، ولذلك لا يجب أن تلقب بـ"أم الإله"، والثاني: أن الإله لم يولد ولم يتألم، ولذلك لا ينبغي أن يقال أن الله مات" (14)، فكل جريمته أنه فصل بين الطبيعتين المتحدتين في طبيعة واحدة، فحكمت الكنيسة بهرطقته في مجمع أفسس (431م) بقيادة كيرلس عمود الدين، ثم أمر البابا ثيودسيوس الثاني بإحراق كتبه.

وما نقلناه في هذا الصدد لا يعني تصديقنا بدعوى الاتحاد الذي أنتج مسيحاً يملك طبيعة واحدة تجتمع فيه الناسوتية واللاهوتية، فهذه الدعوى عجيبة كالقول بالطبيعتين، ويكفي لإبطالهما أن نتخيل اتحاد عنصرين من عناصر المادة اتحاداً كاملاً، فهو لا يبقي لأي منهما خصائصه، كما لو اتحد حامض بحلو، فإن الناتج غلبة أحدهما أو تعادلهما، لكن الاتحاد - وفق المفهوم النصراني - يحتم أن يكون المتحد حلواً حامضاً في نفس اللحظة، ليحقق الناسوتية والألوهية في شخص المسيح طوال حياته على الأرض.

إن عشرات النصوص الإنجيلية تتحدث عن ضعف المسيح البشري، وتحكي قعوده عن مرتبة الألوهية، وترد على أولئك الزاعمين ألوهيته - عليه السلام -، وهي على ضروب أربعة:


(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في هذا الموضع زيادات زادها المؤلف في النسخة الإلكترونية، ليست في المطبوع
(1) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمص غبريال عبد المسيح، ص (59 - 60)، وانظر الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا ايسذورس (1/ 466 - 467).
(2) الله في المسيحية، عوض سمعان، ص (412).
(3) الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا ايسذورس (1/ 473 - 474).
(4) تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (4/ 88، 90) والله في المسيحية، عوض سمعان، ص (412) رسائل القديس كيرلس إلى نسطور ويوحنا الأنطاكي، ص (12، 16).
(5) موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (231).
(6) تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (4/ 89).
(7) موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (193، 297).
(8) ونستطيع القول وفق هذه الفكرة بأن واحداً من الثالوث تألم وأكل وشرب ومات ...
(9) انظر تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (4/ 94 - 96).
(10) موسوعة الأنبا غريغوريوس (اللاهوت المقارن)، ص (235).
(11) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمص غبريال عبد المسيح، ص (60).
(12) تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (4/ 88، 90)، ورسائل القديس كيرلس إلى نسطور ويوحنا الأنطاكي، ص (12، 16).
(13) علم اللاهوت النظامي، جيمس أنِس، ص (209)، وقد سبق التنبيه على ما وقع في النص من تحريف وتغيير.
(14) الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، الأنبا إيسوذورس (1/ 483).

الضرب الأول: هو تلك النصوص التي تبين عجز المسيح، وقعوده عن مقام الألوهية والربوبية، وعليه فهو ليس بإنسان تام وإله تام كما يقول النصارى، إنما كان فقط إنساناً تاماً. وفي ذلك نصوص كثيرة:

منها جهل المسيح - عليه السلام - بأشياء كثيرة، أهمها جهله بيوم القيامة، فقد قال: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" (مرقس 13/ 32)، فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته، فالجهل بالغيب مبطل لها.

وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعازر يسأله " فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ " (يوحنا 11/ 33 - 34).

ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون " فسأل أباه: كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه" (مرقس 9/ 21).

والمسيح أيضاً وهو يظهر معجزاته الباهرة كان يشير إلى افتقاره لله وعجزه عن هذه المعجزات لولا معية الله ونصرته فيقول: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/ 30).

ويؤكد هذا المعنى فيقول: " قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8/ 28).

وفي نص آخر يقول لليهود: " الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/ 19).

والمسيح أيضاً لا يملك لنفسه - فضلاً عن غيره - نفعاً ولا ضراً إلا أن يتغمده الله برحمته، وقد كان، إذ لما جاءته أم ابني زبدي وكانا من تلاميذه " فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع ... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متى 20/ 20 - 22).

كما وقد وصف الكتاب المسيح بصفة العبودية في مواضع عدة، ومن ذلك ما جاء في متى في وصف المسيح "هو ذا عبدي" (متى 12/ 18)، وفي سفر أعمال الرسل "قد مجد عبده يسوع .. القدوس البار" (أعمال 3/ 13 - 14)، "فإليكم أولاً أرسل الله عبده" (أعمال 3/ 26)، وفي موضع آخر: "عبدك القديس يسوع " (أعمال 4/ 30).

وقد استبدلت لفظة (عبد) في بعض التراجم العربية الحديثة بكلمة "فتى" الموهمة للعبودية أو البنوة، وذلك في ترجمة الفانديك المشهورة، بينما استخدم الآباء اليسوعيون كلمة "عبد"، وهو كذلك في اللغات العالمية، فالتراجم الإنجليزية تستخدم كلمة ( servant) .

وكتوضيح لهذا الصنيع الموهم ننقل قول متى: "لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل: هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سرّت به نفسي، أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق" (متى 12/ 17 - 18)، فاستخدم كلمة (فتى)، فيما استخدم سفر إشعيا الذي نقل منه متى كلمة (عبد)، فيقول: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" (إشعيا 42/ 1).

الضرب الثاني: هو النصوص التي تحدثت عن أحوال المسيح - عليه السلام - البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من طعام وشراب وعبادة لله وتذلل و ....

درس المحققون سيرة المسيح - عليه السلام - كما عرضتها الأناجيل - منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر ... فوجدوا أن المسيح لا يفرق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره؟

فقد ولد من فرج امرأة متلبطاً بدمها "وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد" (لوقا 2/ 6).

ورضع من ثدييها "وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما" (لوقا 11/ 17)، فهل علمت مريم أن طفلها الخارج من رحمها والذي كانت تتولى كافة شئونه من نظافة وتربية ورضاع، هل كانت تعلم ألوهيته، أم جهلت ما علمه النصارى بعد ذلك؟ (1).

وقد ختن المسيح - عليه السلام - في ثامن أيام ولادته "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع" (لوقا 2/ 21) فهل دار في خلد الذي كان الذي يختنه أنه يختن إلهاً؟ وماذا عن القطعة التي بانت منه؟ هل غادرتها الإلهية بانفصالها عن الإله المتجسد؟ أم بقيت فيها الإلهية حيث ضاعت أو دفنت؟


(1) لئن كنا نرى أن أم المسيح لم تعرف شيئاً عن ألوهية ابنها؛ فإن القس سمعان كلهون يوافقنا على هذا، بل لا يتوقف عند هذا، إذ يتطاول على مقام المسيح وأمه، ويرى أن أم المسيح وعائلته "قد ظنوا يسوع مختلاً"، وحاشا للعذراء البتول أن تظن بابنها العظيم مثل ذلك. انظر: اتفاق البشيرين، القس سمعان كلهون، ص (214).

وقد عمده يوحنا المعمدان - عليه السلام - في نهر الأردن " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/ 13)، أفجهل المعمدان أنه يعمد الإله؟ ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: " واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم .. أنا أعمدكم بماء للتوبة ... حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/ 6 - 14)،

فهل كان الإله مذنباً يبحث عمن يغفر له ذنوبه؟!

وأصاب المسيح - عليه السلام - ما يصيب كل البشر من أحوال وعوارض بشرية فقد نام " وكان هو نائماً" (متى 8/ 24)، وتعب كسائر البشر " كان يسوع قد تعب من السفر" (يوحنا 4/ 6)، واحتاج إلى حمار يركبه، فأرسل تلاميذه طالباً منهم إحضار الحمار لأن "الرب محتاج إليه" (مرقس 11/ 3).

واكتئب المسيح - عليه السلام - لما أصابه "وابتدأ يدهش ويكتئب" (مرقس 14/ 33)، وأحياناً كان يجتمع عليه الحزن والاكتئاب "وابتدأ يحزن ويكتئب" (متى 26/ 37).

ولما كان البكاء من عادة البشر إذا ما اعتراهم الضعف والأسى فإنه أحياناً كان يبكي كسائر البشر "بكى يسوع" (يوحنا 11/ 35) (1).

كما تعرض لمكايد أعدائه فقد حاول الشيطان أن يغويه، فلم يقدر، لقد صعد بالمسيح إلى جبل عال، وأراه جميع الممالك الإنسانية، وقال له "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ، لأنه إليّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع، فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (لوقا 4/ 6 - 8).


(1) من عجيب ما قرأت تعليق الدكتور القس إبراهيم سعيد على بكاء المسيح، حيث يقول: "يعتبر بكاء المسيح دليلاً على ناسوته، وتعبيراً لجوهر لاهوته .. لأن عينه الغارقة في دموعها هي هي كلهيب نار". شرح بشارة لوقا، ص (479).

وتعرض للطم والشتم "ولما قال هذا، لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً" (يوحنا 18/ 22)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه إلا بالكلام، لأنه كان موثقاً "قبضوا على يسوع وأوثقوه" (يوحنا 8/ 12).

والمسيح - عليه السلام - قد جاع أيضاً، وبحث عن طعام يأكله "وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع" (متى 21/ 18).

كما عطش " قال: أنا عطشان" (يوحنا 19/ 28).

وقد أكل وشرب، فسد جوعته، وروى ظمأه " فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهم" (لوقا 24/ 42 - 43).

والطعام والشراب الذي كان يتقوى به، وينمو به جسمه طولاً وعرضاً " وكان الصبي ينمو " (لوقا 2/ 40)، ونموه كان بالجسد والعقل " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لوقا 2/ 52)، فالطعام ينميه جسدياً، والتعلم في الهيكل من الشيوخ والمعلمين ينميه عقلياً " وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم" (لوقا 2/ 46).

كما ويقتضي الطعام خسيسة أخرى لا يليق أن تذكر في سياق الحديث عن مقام الألوهية وعظمته، ألا وهي التبول والتغوط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو ما نبه الله تعالى إليه أذهان العقلاء بقوله: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} فكل من طعم وشرب احتاج لإخراج ما طعم، ولا يليق نسبة هذه المنقصة ولا غيرها إلى الله عز وجل الذي لا يشارك الناس هذه الدنايا.

وتذكر الأناجيل حزن المسيح - عليه السلام - ليلة الصلب وغيرها " إن نفسي حزينة حتى الموت " (مرقس 14/ 32 - 36).

ثم لما جزع ظهر له ملك من السماء ليقويه. (انظر لوقا 22/ 43).

ثم لما وضع - حسب الأناجيل - على الصليب جزع وقال: " إلهي إلهي، لم تركتني " (مرقس 15/ 34).

بل وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟ "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح" (مرقس 15/ 37)، وقبل أن يجيبنا أحدهم - ببرود - بأن الذي مات هو الناسوت، وأن اللاهوت لا يموت؛ فإني أذكر القارئ بأن الذي مات على الصليب هو ابن الله، وليس ابن الإنسان، "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به" (يوحنا 3/ 16).

ولا يجد الأسقف ترتليان في القرن الميلادي الثالث ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: " لقد مات ابن الله! ذلك شيء غير معقول، لا لشيء، إلا لأنه مما لا يقبله العقل، وقد دفن من بين الموتى، وذلك أمر محقق، لأنه مستحيل " (1)، ومع ذلك يؤمن به ترتليان والنصارى من بعده.

وذكرت الأناجيل أيضاً تذلَله وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه " وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (متى 26/ 39). "وكان يصلّي هناك" (مرقس 1/ 35).

ويصور لوقا صلاته - عليه السلام -، فيقول: " جثا على ركبتيه وصلى" (لوقا 22/ 41). وذات يوم وقبل اختياره للتلاميذ " خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله، ولما كان النهار دعا تلاميذه" (لوقا 6/ 12) فلمن كان الإله يصلي طوال الليل منفرداً؟ هل كان يصلي لنفسه؟ أم للآب الحال فيه؟ وهل تجوز عبادته وهو على هذه


(1) انظر: المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل، عبد الكريم الخطيب، ص (343).

الحال؟ لِم نترك عبادة المعبود ونعبد العابد؟!

وكان يصلي متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم، يقول لوقا: "وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه" (لوقا 22/ 44)، يقول يوحنا فم الذهب: "من ذا لا يتعجب عندما يرى الله جاثياً ومصلياً" (1).

ومن تضرعه واستغاثته بربه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح - عليه السلام - عندما أحيا لعازر " ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني" (يوحنا 11/ 40 - 41).

والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية لا يجوز نسبته إلى الله أو للمتحد معه.

ويتحدث بولس عن انتصار المسيح - عليه السلام - على الكل بما فيهم الموت، ثم يذكر خضوعه بعد ذلك لله، فيقول: "متى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل" (كورنثوس (1) 15/ 28).

وأخيراً، فإن مما يؤكد بشرية المسيح ما أخبر من أنه عليه السلام سيدخل الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين، ومنهم المسيح وتلاميذه، وأنه سيشرب في اليوم الآخر ويأكل معهم، حيث قال: "في بيت أبي منازل كثيرة ... أنا أمضي لأعد لكم مكاناً ... حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " (يوحنا 14/ 2 - 3)، وقال: " إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (متى 26/ 29).


(1) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمّص غبريال عبد المسيح، ص (58).

ومن المعلوم أن ملكوت الله يراد به هنا الجنة، حيث يلقى التلاميذ من جديد، فيشرب معهم في جنة الله، فهل سيتجسد الابن ثانية يوم القيامة؟ وما الحكمة من التجسد حينذاك؟ أم أن المسيح سيعود ككائن بشري عادي يأكل في جنة الله كسائر المؤمنين.

وجماع هذا كله قوله - عليه السلام - عن نفسه: "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/ 40)، أفلا نقبل شهادته عليه الصلاة والسلام عن نفسه؟!

فلو كان إلهاً لما صح منه أن يعمي علينا هذه الحقيقة بمثل هذا القول الصريح الدال على إنسانيته.

وحين يصر النصارى على القول بألوهيته فإنهم يضربون بعرض الحائط قول المسيح وتلاميذه، ويتنكرون بذلك لكل هذه النصوص التي لم تتحدث أبداًَ عن إله متجسد، ولا عن ناسوت حل به الله.

وبذا يكون النصارى قد وقعوا فيما حذر منه مقدسهم بولس الذي ألبسهم هذه العقيدة ثم تبرأ منهم ومن صنيعهم، حيث قال: "إنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى، بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم، الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا، وعبدوا المخلوق دون الخالق، الذي هو مبارك إلى الأبد " (رومية 1/ 21 - 25). 

 

  • الثلاثاء PM 12:22
    2022-05-10
  • 1232
Powered by: GateGold