المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412663
يتصفح الموقع حاليا : 350

البحث

البحث

عرض المادة

إسناد الخالقية لله بالمسيح

كما أسندت بعض النصوص الخالقية لله بالمسيح، فتعلق النصارى بها، ورأوها دالة على ألوهيته ومنها قول بولس عن المسيح: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي 1/ 16 - 17)، وفي موضع آخر يقول: "الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس 3/ 9)، ومثله ما جاء في مقدمة يوحنا "كان في العالم، وكوِّن العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا 1/ 10)، ومثله في (عبرانيين 1/ 2) وغيرها.

ونلحظ ابتداءً أن الخلق في كافة النصوص الكتابية مسند لله تعالى فقط، فقد قال سفر التكوين "في البدء خلق الله السماوات والأرض" (التكوين 1/ 1)، ولم يذكر خالقاً شارك الله بالخلق أو كان واسطة تم الخلق من خلاله، وفي سفر إشعياء "هكذا يقول الله الرب خالق السموات" (إشعيا 42/ 5)، كما وقد قال بولس وبرنابا لأهل مدينة لسترة: "نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" (أعمال 14/ 15)، فلم يذكر الكتاب خالقاً سوى الله العظيم.

وما بين أيدينا من أقوال بولس ويوحنا فإنها إنما تتحدث عن الله الذي خلق بيسوع كما صنع المعجزات بيد يسوع (انظر أعمال 2/ 22)، ولا تذكر أنه هو الخالق أبداً، فغاية ما تحتمله هذه النصوص - لو سلم بصحتها - أن يقال بأن الله خلق بالمسيح ما خلق من الكائنات والمخلوقات.

يقول القس جيمس أنِس متحدثاً عن الأقانيم وأعمالها المختلفة: "ومن أمثلة التميز في الأعمال أن الآب خلق العالم بواسطة الابن" (1).


(1) علم اللاهوت النظامي، القس الدكتور جيمس أنس، ص (178).

وهذا المعنى للخلق جدُّ غريب لم تنطق به أنبياء العهد القديم، ولا ذكره المسيح عليه السلام، إنما ورد من كلام بولس ومقدمة يوحنا الفلسفية المستمدة من الفكر الأفلوطيني والفلسفات الغنوصية التي تعتقد أن الله أشرف من يخلق الخلق بنفسه، لذا ينيط هذا الفعل بمخلوق أول؛ بكر الخلائق، ويسمونه العقل الكلي أو الملائكة.

ولا يمكن أن يكون المسيح - عليه السلام - خالقاً للسماوات والأرض وما بينهما، إذ هو ذاته مخلوق، وإن زعمت النصارى أنه أول المخلوقين، لكنه على كل حال مخلوق، والمخلوق غير الخالق، إنه فحسب " صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/ 15).

ثم إن الذي عجز عن رد الحياة لنفسه عندما مات لهو أعجز من أن يكون خالقاً للسماوات والأرض، أو أن تخلق به "فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/ 32)، ولو لم يقمه الله لما عاد من الموتى، وفي موضع آخر: "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/ 15)، ومثله قول بولس: "والله الآب الذي أقامه من الأموات" (غلاطية 1/ 1).

ويرى المحقق في هذه النصوص أن المقصود منها أن المسيح خُلقت به الخلائق خِلقة الهداية والإرشاد، لا الإيجاد والتكوين، فخلقة الإيجاد والتكوين الله فحسب، والخلقة التي خلقها الله بالمسيح عليه السلام هي الخِلقة الجديدة، خِلقة الهداية، التي تحدث عنها داود، وهو يدعو الله: "قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (المزمور 51/ 10).

ومثله قال بولس عن المؤمنين بالمسيح: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (كورنثوس (2) 5/ 17)، وقال: "لأنه في المسيح ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغُرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلاطية 6/ 15).

وفي موضع آخر يقول: "تلبسوا الإنسان المخلوق الجديد بحسب الله في البر" (أفسس 4/ 24).

وعلى هذا الأساس اعتبر يعقوب التلاميذ باكورة المخلوقات فقال: "شاء فولدنا بكلمة الحق، لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1/ 18) أي أوائل المهتدين الذين تلبسوا بالخليقة الجديدة.

وعليه فإن المقصود من خلق المسيح للبشر هو الخلق الروحي، إذ جعله الله محيياً لموات القلوب وقاسيها.

لكن قائلاً قد يورد على استدلالنا وتأولنا للنصوص، فيحتج بما يجده في الكتاب من حديث عن خلق السماوات والأرض وما فيهما بالمسيح"فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي 1/ 16 - 17)، فيرى أن نصوص الخالقية بالمسيح لا تتعلق بالبشر فقط، إذ فيها أن الله خلق به ما في السماوات والأرض، وهذا قد يراه البعض - ممن لم يعتد طريقة الأسفار في التعبير - مانعاً من صرف النص عن الخلق التكويني إلى الخليقة الجديدة.

أما الذين اعتادوا على طريقة الأسفار في التعبير، فإنهم يرون في هذه النصوص مبالغة معهودة، حملتها مراراً الأسفار التوراتية والإنجيلية، ومن ذلك وصف العهد الجديد المسيحَ - عليه السلام - والتلاميذ أنهم نور العالم، يقول يوحنا: "ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً: أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 8/ 12)، وقال لتلاميذه: "أنتم نور العالم" (متى 5/ 14).

ومن المعلوم أنهم جميعاً كانوا نوراً استنار به المؤمنون، وأعرض عنه غيرهم، فأظلمت قلوبهم، ولا يمكن أن يدعى ظهور النور في الجماد والحيوان الموجودين في العالم، فكما وصف النص يوحنا الإنجيلي المسيحَ وتلاميذَه بنور العالم من غير أن يكون لهم أثر في إنارة غير قلوب المؤمنين من الكافرين أو الجمادات، فإنه وصف المسيح بأنه كان واسطة الخليقة الجديدة للعالم، والمقصود المؤمنون في العالم فحسب.

ومثله أيضاً قول بولس (1) عن المصالحة التي تمت بدم المسيح فإنه يقول: " وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته، سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات" (كولوسي 1/ 20)، مع أن المصالحة خاصة بشعبه المفديين دون الجمادات والكائنات الكافرة التي في السماوات والأرض، فهؤلاء لاحظَّ لهم في المصالحة، التي قد يفهم من النص شمولها إياهم، كما قد يفهم من نصوص الخلق شموله غير المؤمنين.

ومثله أيضاً قول بولس عن الذين أرسل الله المسيح لفدائهم، فقد أرسله: " لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات، وما على الأرض " (أفسس 1/ 10)، وكما يقول القس جيمس أنِس: "لا يمكن أن يكون معنى (كل شيء) العالمين، حيُّها وجمادها، كالشمس والقمر والنجوم، لأنها ليست قابلة للمصالحة مع الله، ولهذا السبب عينه لا يمكن أن يقصد بها كل الحيوان، ولا يمكن أن يقصد بها كل الخلائق العاقلة الساقطة، لأن المسيح لم يأت ليفتدي الملائكة الساقطين (عبرانيين 2/ 16) ولا يقصد بها جميع البشر، لأن الكتاب يعلم أن ليس كل البشر يتصالحون مع الله" (2).

ومثله أيضاً قوله: "لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (كورنثوس (1) 15/ 22)، فلئن كان الموت يشمل جميع البشر بسبب خطية آدم، فإن


(1) وهذه الفقرة المهمة من كلام بولس وردت بعد سطرين فقط من قوله: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى" (كولوسي 1/ 16 - 17)، لتبين لنا المعنى المراد مما قبلها.
(2) علم اللاهوت النظامي، جيمس أنِس، ص (724).

الذين يحيون بالمسيح الجميع من المؤمنين فحسب، لا جميع البشر الأموات الذين ماتوا بسبب خطيئة آدم.

وهكذا رأينا في هذه النصوص عموماً غير مقصود من جهة المعنى؛ فظاهر المعنى - الذي يفيد العموم - غير مراد في جميعها، ومثله هداية الله بالمسيح (الخليقة الجديدة) كل ما في السماوات والأرض، فهو عموم يراد به الخصوص فحسب، أي أن الله خلق المؤمنين بالمسيح؛ الخلقة الجديدة، خلقة الإيمان والتجديد، لا خلقة الإيجاد والتكوين.

كما يمكننا اعتبار قوله: "فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى" نوعاً من المبالغة في التعبير، وهو أسلوب معهود ومألوف في الكتاب، إذ يقول موسى لبني إسرائيل: "هوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة، الرب إلهكم يزيد عليكم مثلكم ألف مرة" (التثنية 1/ 10 - 11).

ومثله من المبالغة قوله: " وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة، وجمالهم لا عدد لها، كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" (القضاة 7/ 12).

وتصل المبالغة عند يوحنا أقصاها حين قال: "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة؛ فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يوحنا 21/ 25)، فهذه المبالغة في الحديث عن خلقة الكون بالمسيح إنما هي بعض ما تعودناه من كُتّاب الكتاب المقدس.

 

 

 

  • الثلاثاء PM 12:02
    2022-05-10
  • 887
Powered by: GateGold