المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414018
يتصفح الموقع حاليا : 256

البحث

البحث

عرض المادة

مذاهب العلماء في وقوع التعارض الحقيقي في القرآن

 التعارض الحقيقي  هو : ( التضاد التام بين حجتين متساويتين دلالة وثبوتا وعددا ، ومتحدتين زمانا ومحلا  ) [1]. وبناء على هذا فإن التعارض الحقيقي لايتم إلا باجتماع أمور أربعة :

1- التضاد التام بين دليلين .

2- الحجية في المتعارضين .

3- التساوي بين المتعارضين .

4- اتحاد المتعارضين في الوقت والمحل .
وقد اختلف العلماء في جواز وقوع التعارض وعدمه إلى مذاهب مختلفة ، على النحو التالي:

المذهب الأول : ذهب جمهور الأصوليين ، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة ، وجمهور المحدثين   ،  وأهل الظاهر ، وعامة الفقهاء [2] ، إلى أن التعارض الحقيقي لا وجود له بين الأدلة الشرعية العقلية أو النقلية ، سواء  أكانت قطعية أم ظنية ،  وإذا وجد دليلان يوهم ظاهرهما التنافي  والتخالف ، فإن  مرد ذلك إلى قصور في فهم المجتهد وإدراكه ، لا في نفس الأمر والواقع ، وهذا ما أميل إليه . واستدل أصحاب هذا المذهب على صحة قولهم بعدم وجود تعارض حقيقي بين الأدلة الشرعية بما يلي :

الدليل الأول : الوحي منزه عن التعارض الحقيقي :

وما كان وحيا من الله فهو منزه عن الاختلاف ، والتناقض ، والاضطراب ، لقول الله تعالى :     ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )(82 : النساء ) ، فلا تعارض ولا اختلاف بين نصوص القرآن ، ونصوص السنة  وما نقل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - . 

 يقول الإمام الشافعي ( ت 204هـ)  :  ( لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص و العموم والإجمال والتفصيل ، إلا على وجه النسخ  .) [3]

ويقول الإمام الباقلاني ( ت403هـ) : (  وكل خبرين علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما ، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه ، وإن كان ظاهرهما متعارضين ..)[4]

ونقل القاضي عبد الجبار المعتزلي ( ت 415هـ)  عن شيخه أبي الهذيل العلاف

( ت 226هـ  ) قوله : (  قد علمنا أن العرب كانت أعرف بالمتناقض من الكلام ، وكانت على إبطال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرص، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتحداهم بالقرآن ، ويقرعهم بالعجز عنه ، ويتحداهم بأنه ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )( 82: النساء )  ، ويورد ذلك عليهم تلاوة وفحوى ، لأنه كان  - صلوات الله وسلامه عليه - ينسبه إلى أنه من عند الله الحكيم ، وأنه مما لا يأتيه الباطل من بين يديه  ولا من خلفه ، ويدعي أنه الدلالة ، وأن فيه الشفاء ، فلو كان الأمر في تناقض القرآن - على ما قاله القوم - لكانت العرب أيامه - عليه السلام - إلى ذلك أسبق ، فلما رأيناهم عدلوا عن ذلك إلى غيره من الأمور  علمنا زوال التناقض عنه ، وسلامته مما زعموه .) [5]

ويقول الإمام ابن حزم ، علي بن أحمد ( ت 456هـ) : ( .. فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبر أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى ، صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن ، والحديث الصحيح ، وأنه كله متفق - كما قلنا ضرورة - وبطل من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض ، أو ضرب الحديث بالقرآن ، وصح أنه ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ) [6] 

ويقول الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت ( ت463هـ) :[ وليس في القرآن ولا نص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعارض ، لقول الله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )(82 : النساء  ) ،وقال مخبرا عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -(وما ينطق عن الهوى .إن هو إلا وحي يوحى)( 3، 4 : النجم  ).وأن كلام نبيه وحي من عنده  تعالى ، فدل ذلك على أنه كله متفق ، وأن جميعه مضاف بعضه إلى بعض ، ويبنى بعضه على بعض ، إما بعطف ، أو استثناء ، أو غير ذلك . ] [7]

ويقول الإمام أبو إسحق إبراهيم بن إسحق  الشاطبي ( ت :790هـ) : [ إن كل من تحقق بأصل الشريعة ، فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض ، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه ، لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة ، ولذلك لا تجد - ألبتة - دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما ، بحيث وجب عليهم الوقوف - أي : التوقف والامتناع عن إبداء الرأي في المسألة - ثم يقول : إذا تقرر هذا ، فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران:

أحدهما : أن ينظر بعين الكمال ، وأن يوقن أنه لا  تضاد بين آيات القرآن ، ولا بين الأحاديث النبوية ، ولا بين أحدهما مع الآخر . فإذا أدى بادئ الرأي  إلى ظاهر اختلاف ، فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الخلاف ، لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه ، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع ، أو المسلم من غير اعتراض .

وأما الأمر الثاني : فإن قوما قد أغفلوا ، ولم يمعنوا النظر ، حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن ، والسنة ، فأحالوا بالاختلاف عليهما ،  وهو الذي عاب عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حال الخوارج ،  حيث قال - صلى الله عليه وسلم - فيهم : ( يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم )[8]   ]  [9] .

ويذكر السيوطي ( ت 911هـ) : أن الخطابي ( ت 388هـ) قال لسائل عن إحدى الشبهات  :  (  اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - بحضرة رجال ، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا ، وعليه مطعنا ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به ،وأسرعوا بالرد عليه  ولكن القوم - أي العرب - علموا ،وجهلت - يريد السائل - ، ولم ينكروا ما أنكرت .. ) [10] 

الدليل الثاني : -  التعارض الحقيقي يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق[11]  :

وذلك أنه لو كان بين النصوص الشرعية تعارض واختلاف لأدى إلى التكليف بما لا يطاق . لأن الشارع لو أمر المكلف بفعل شيئ معين ونهاه عن فعل الشيئ ذاته ، وطلبهما معا : فعل الشيئ وعدم فعله في آن واحد ، وعلى وضع واحد ، لسبب واحد  فهو تكليف بما لا يطاق  وتكليف ما لا يطاق ، لا يتصور أن يأمر به الشارع . لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )       ( 286 :البقرة )  .

الدليل الثالث : - ثبوت  التعارض الحقيقي بين الأدلة  يؤدي إلى التناقض :   

 لأن المفروض في الأدلة ثبوت نتائجها في الخارج ، فلو أمر الشارع بنص ، ونهى عنه بنص آخر ، لزم منه أن يكون الشيء الواحد حلالا وحراما ، أو واجبا وحراما ، وهذا تناقض ، والتناقض باطل ، فما أدى إليه يكون هو الآخر باطلا [12]  .   وهو أيضا محال  على الشارع - جل شأنه - ، فهو منزه عن كل قصور ، وهو وحده المتفرد بالكمال .[13]

 يقول عبد العزيز بن أحمد  البخاري ( ت730هـ) : ( التعارض والتناقض من أمارات العجز ، لأن من أقام حجة متناقضة على شيء ، كان ذلك لعجزه عن إقامة حجة غير متناقضة ، وكذا إذا أثبت حكما بدليل عارضه دليل آخر يوجب خلافه ، كان ذلك لعجزه عن إقامة دليل سالم عن المعارضة ، والله يتعالى أن يوصف به ..) [14]

الدليل الرابع : -  الأمر بالرجوع -  عند الاختلاف  - إلى الكتاب والسنة :

فقد أمرنا الله بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله لرفع أي خلاف أو منازعة لقوله تعالى  : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول .. )( 59 : النساء )  ، فلو كان بين الآيات القرآنية ، أو بين الأحاديث النبوية تعارض حقيقي ، لما كان في الرجوع إليهما رفع للاختلاف ، بل لو كان بينهما تعارض واختلاف فسيفضي إلى الاختلاف ، لأن كل واحد من المتعارضين سيقيد حكما خلاف حكم الآخر ، ولكن الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ،  فدل على عدم وجود تعارض حقيقي بين الأدلة الشرعية . فإن بقي اختلاف بين المجتهدين بعد الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فإنما هو اختلاف في أ فهامهم ومداركهم ، لا في الآيات والأحاديث .[15]

الدليل الخامس: إثبات الناسخ والمنسوخ يدل على عدم وجود التعارض الحقيقي :

فقد أثبت علماء الإسلام الناسخ والمنسوخ في نصوص الكتاب والسنة ، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما يكونان في دليلين متعارضين ، بحيث لا يصح اجتماعهما بحال ، لأنه لو أمكن الجمع بينها  لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا  ، ولو كان التعارض جائزا بينها في الواقع ونفس الأمر ، لما كان للبحث عن إثبات الناسخ والمنسوخ فائدة ، ولكان يصح العمل بكل منهما ابتداء ودواما ، ولكن العمل بالناسخ والمنسوخ معا باطل بالإجماع ،  فدل على أنه لا تعارض في الواقع ونفس الأمر . [16]

المذهب الثاني : - جواز التعارض مطلقا ، سواء أكانت الأدلة الشرعية عقلية أو نقلية .[17]

المذهب الثالث : -  ذهب جماعة من الفقهاء الشافعية ومنهم البيضاوي ( تـ 685هـ) والشيرازي ( تـ 544هـ) إلى جواز التعارض بين الأمارات ، وعدم جواز ذلك بين الأدلة القاطعة .[18]  .  وقد استند كل فريق بما يؤيد مذهبه ، وقد ساق الأستاذ عبد اللطيف عبد الله عزيز البزرنجي أدلة كل فريق مع مناقشتها ، ثم أعقبها ببيان الرأي الراجح في نظره ،  وعززه  بقوله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )  (82 : النساء ) ، وقال : ( إن قوله تعالى المتقدم يدل بمنطوقه على نفي التعارض بمعنى التناقض ، ويدل بمفهومه على ثبوت التعارض بمعناه العام ، لأن الآية تشير إلى قياس استثنائي تقديره : لو كان القرآن من عند غير الله لوجد فيه الاختلاف الكثير والتناقض ، لكنه ليس فيه الاختلاف الكثير والتناقض ، فثبت أنه من عند الله .  ومفهومه : الاختلاف القليل موجود ، وهو لا ينافي كونه من عند الله ) [19]  

وهذا الفهم مردود ، إذ الاختلاف الكثير غير موجود ، وكذلك الاختلاف القليل .   فأسلوب الآية من قبيل ما يسمى في البلاغة بـ ( عكس الظاهر ) كما في  قوله تعالى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ..) (109 :الكهف ) ، فليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر ، بل لا تنفد أبدا ، لا قبل نفاد البحر ولا بعده . وحاصل الكلام : لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي . [20]   وكقوله تعالى : ( ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا .)( 41 : البقرة )   فليس المقصود بالنهي الأول : أن يباح لهم أن يكونوا ثاني الكافرين ، أو ثالثهم ، أو أي ترتيب آخر ، وفيه تعريض بمن يسارعون إلى الكفر .

وليس المقصود في الثاني : أنه يباح لهم أن يشتروا بآيات الله ثمنا كثيرا ، وإنما المقصود : أن لا يشتروا بآيات الله أي ثمن ، قليلا كان أو كثيرا . وفيه تنبيه على أن كل ثمن لا بد أن يكون قليلا بجانب آيات الله تعالى ، وفيه تعريض بمن يسارع بشراء الثمن القليل بآيات الله تعالى .[21]   

وكذلك كقوله تعالى  : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ..)( 33 :النور ) .  فليس  المقصود إباحة إكراههم إن لم يردن  تحصنا ـ وإنما المقصود النهي عن الإكراه مطلقا ، أردن التحصن ، أم لم يردن  [22] . لذلك قال الزركشي : ( وكلام الله منزه عن الاختلاف ... إلى أن يقول : ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به ، فاحتيج لإزالته ، كما صنف في مختلف الحديث ، والجمع بينهما ) [23]   ،      فأرجع حدوث هذا الوهم بالاختلاف إلى أمر خارج عن النص ذاته ، داخل في طريقة التناول وهو ( المبتدئ )  ، يعني : أن قلة الخبرة بالنص ، وبأدوات فهمه ، أو قصور وسائله ، هي المنتجة لهذا التعارض ، وليس في النص نفسه اختلاف كثير أو قليل ، فترتب على ذلك توافر العلماء على درسه ، وتفصيله لإزالته .

 

 

[1] - انظر : كشف الأسرار شرح أصول البزدوي : ج3: 77-78. والتلويح على التوضيح  : ج3: 38.  النسخ في القرآن : 1: 167-169.

[2] - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من عام الأصول : ص 275. وشرح المحلى على جمع الجوامع : 2: 359. والإبهاج بشرح المنهاج : 3: 142-143.

[3] -    إرشاد الفحول : ص 275.

[4] - الكفاية في علم الرواية : ص 606-607.

[5] -  المغني في أبواب التوحيد والعدل ، الجزء السادس عشر ج16/ ص 387.

[6] - ابن حزم الأندلسي: الإحكام في أصول الأحكام: ج2/ ص 35. وانظر : دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين ، ص176.

[7] - الفقيه والمتفقه:  ج1/ ص 221.

[8] -  إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: ج6/ ص 55-60.

[9] -  الموافقات: ج4/ ص 294. ، و الاعتصام : ج2/ ص 202-204

[10] -  الإتقان في علوم القرآن: ج3 / : ص 88.

[11] -    أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها . ص 31. وانظر : دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين  :  ص 193.

[12] -  دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين ، ص 181.

[13] -  الموافقات:  ج3/ ص 31. وج4/ ص 76.

[14] -  كشف الأسرار ، ج3/ ص 76.

[15] - :  الموافقات ، ج4/ ص 119. و أدلة التشريع المتعارضة ، ص 31. ودراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين ، ص 174-176.

[16] -       انظر :  دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين : ص 195. و التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية : ج1: ص 72. والموافقات : ج4: 121.                                                            

[17] - انظر : شرح العضد على مختصر ابن الحاجب :  ج2: 310. وشرح المحلى على جمع الجوامع : 2: 357-359.

[18] - انظر : نهاية السول على منهاج الأصول : 3/ 256.  وشرح المحلي على جمع الجوامع  2/359  .

[19] -  التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية ، ص ص62-75. وانظر منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث  : ص 59-86.

[20] - انظر : البرهان في علوم القرآن : ج3/ ص 399. وانظر : الجنى الداني  في حروف المعاني : ص 287.

[21] -  أمالي  المرتضى  : ج1/ ص 231.  ( وارجع إلى كتاب تفسير)

[22] -  عكس الظاهر في ضوء أسلوب القرآن الكريم ولغة العرب: ص136- 151.

[23] - البرهان : ج2: 45.

  • الاربعاء PM 04:36
    2022-01-12
  • 2317
Powered by: GateGold