المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415338
يتصفح الموقع حاليا : 266

البحث

البحث

عرض المادة

تاريخ العقد الصامت

العقــد الصــامت: تاريــخ
Silent Contract: History
إن فَهْم ماهية العلاقة بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، وكيفية إبرام هذا «العقد الصامت» بينهما، يقتضي استذكار قصة ظهور الفكرة الصهيونية في ظل الحضارة الغربية ـ وهي قصة بدأت قبل ظهور الحركة الصهيونية بثلاثة قرون. فالصهيونية ـ على صعيد الفكر ـ فكرة غربية استعمارية عنصرية دعت إلى اصطناع قومية لليهود وإقامة دولة لهم في فلسطين العربية يتجمعون فيها على أساس استعماري استيطاني، بالتعاون مع قوى الاستعمار الغربي. وقد انطلقت هذه الفكرة في دعوتها هذه من الزعم بأن اليهود أينما كانوا يشكلون "شعباً" واحداً، وهم غير قابلين للاندماج في الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها وهذا ما يجعلهم هدفاً دائماً لاضطهاد هذه الشعوب لهم في كل زمان ومكان. كما انطلقت من الزعم بأن اليهود كشعب لهم تاريخ متصل في فلسطين انقطع لفترة مائتين وألف من السنين كانوا خلالها يتطلعون إلى العودة. كما أوضحنا أن ظهور هذه الفكرة بدأ في الغرب الأوربي الحديث خلال القرن السادس عشر الميلادي حين تضافرت حركة "النهضة الأوربية"، وحركة "الإصلاح الديني البروتستانتي"، وحركة "الكشوف الأوربية" في إرساء التاريخ الأوربي الحديث. وجاء تبلور هذه الفكرة من خلال تفاعُل أفكار الهيمنة الاستعمارية والسمو القومي والتفوق العنصري في الغرب الأوربي على مدى ثلاثة قرون.


وكان من النتائج الواضحة للبروتستانتية ظهور الاهتمام الغربي بتحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية الزمان وتردُّد الحديث عن «العصر الألفي السعيد» المستند إلى الاعتقاد بعودة المسيح المنتظر الذي سيقيم مملكة الله في الأرض لتدوم ألف عام، وتتالي ظهور علماء لاهوت بروتستانت تحدثوا عن أمة يهودية وبَعْث يهودي، وعن كون فلسطين وطناً لليهود، وانتشار هذه الأفكار في الجزر البريطانية وبخاصة. وكان من النتائج الواضحة للكشوف الجغرافية الأوربية بدء الاستعمار الأوربي التجاري الذي تطوَّر بفعل عوامل أخرى إلى حركة استعمارية واسعة بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر مع حدوث الانقلاب الصناعي في أعقاب الانقلابين التجاري والآلي، وهو ما أدَّى إلى تسلُّط أفكار الهيمنة الاستعمارية على دول أوربا، ومنها إنجلترا التي برز فيها اهتمام خاص بفلسطين وبفكرة عودة اليهود إليها لأسباب تجارية. وقد تنامى الاهتمام الأوربي بفلسطين بسبب موقعها المهم بالنسبة لطرق التجارة الدولية وبرزت فكرة استعمارها استيطانياً باليهود، ثم تضاعف هذا الاهتمام مع نشوء ما عُرف في أوربا بالمسألة الشرقية التي جرى تعريفها باللغة الاستعمارية "بأنها مشكلة ملء الفراغ الذي ولَّده الانحسار التاريخي التدريجي للدولة العثمانية عن الحدود التي بلغتها في أوج توسُّعها". وقد بلغ التنافس أوجه بين إنجـلترا وفرنـسا القوتين الاسـتعماريتين الأكبر في القرن الثامن عـشر على مدِّ نفوذهما إلى قلب الوطن العربي. وبادر بونابرت حين غزا مصر وفلسطين وارتد أمام أسوار عكا إلى مخاطبة يهود فرنسا مقترحاً عليهم إقامة دولة يهودية في فلسطين، ولم تلبث الفكرة الصهيونية أن تبلورت في المخططات الاستعمارية الفرنسـية في القرن التاسـع عشر. وحدث الأمر نفسه في المخططات الاستعمارية البريطانية في الفترة نفسها. وامتلأت وزارة الخارجية البريطانية بمعتنقي الفكرة الصهيونية. ولم تلبث المخططات الاستعمارية الأوربية عامة أن تبنت فكرة توطين يهود أوربا في فلسطين وإقامة دولة لهم تكون قاعدة استعمارية.

عمل الاستعماريون الأوربيون الذين بلوروا الفكرة الصهيونية على توظيف المعتقدات اليهودية لإقناع يهود أوربا بفكرة "عودتهم إلى فلسطين وإقامة دولة لهم فيها". وهكذا شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطوراً في مفهوم الماشيَّح تمثَّل في فتاوى حاخامات اليهود القائلة بضرورة هجرة أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين لاستعمارها كخطوة على طريق تحقيق مملكة الخلاص وظهور المخلِّص. وألبس هؤلاء الاستعماريون الأوربيون ومنهم يهود الفكرة الصهيونية الثوب القومي، في وقت شهد ازدهار الفكرة القومية في أوربا، وعملوا على اصطناع قومية لليهود. وحين انحرف بعض المفكرين الأوربيين بفكرة القومية ونادوا بالسمو القومي والتفوق العنصري انساقت الفكرة الصهيونية مع ادعائهم وسقطت في مهاوي العنصرية مرددة مقولة شعب الله المختار.

وثمة أسباب عديدة جعلت الفكرة الصهيونية "غير قادرة على التحقق"، من أهمها "أن دعاة الفكر الصهيوني كانوا من الصهاينة غير اليهود أو من أعداء اليهود، الأمر الذي جعل المادة البشرية المستهدفة (أي اليهود) يرفضون الدعوة إلى استيطان فلسطين. كما أنه لم يكن هناك أية أطر تنظيمية تضم كل الجماعات اليهودية. وعلاوة على هذا كان هناك يهود الغرب المندمجون الذين كانوا يرون أن المشروع الصهيوني يهدد وجودهم ومكانتهم وكل ما حققوه من مكاسب". وجاء تيودور هرتزل ليحل كل هذه الإشكاليات بوَضْع العقد الصامت استناداً للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم الحضارة الغربية ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي وبتأسيس المنظمة الصهيونية إطاراً تنظيمياً يمكن من خلاله توقيع العقد الصامت وفرض الصيغة الصهيونية الشاملة على الجماهير اليهودية. كما طوَّر الخطاب المراوغ الذي جعل إرضاء مختلف قطاعات يهود العالم الغربي في غرب أوربا وشرقها أمراً ممكناً.

لقد جاء تيودور هرتزل 1860-1904 لينشر عام 1896 كتاب الدولة اليهودية مضمناً إياه "محاولة إيجاد حل عصري للمسألة اليهودية". وتلقَّفه وليام هشلر 1845 ـ 1931 القس الإنجليكاني الملحق بالسفارة البريطانية في فيينا، وعاونه في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897وصاغ هرتزل شعارات الحركة الصهيونية "نحن شعب"، و"فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنسَى". ووضع خطة لتحقيق المشروع الصهيوني، وحوَّلها المؤتمر إلى برنامج سياسي، وقاد التحرك الصهيوني مع قوى الاستعمار الغربي وبخاصة في بريطانيا لتنفيذ هذا البرنامج. ووضعت الحركة الصهيونية نصب عينها بعد انعقاد مؤتمرها الأول القيام بمهام ثلاث هي: استعمار فلسطين، ومحاولة خلق شعب يهودي واحد متجانس، وإنشاء حركة تكون بمنزلة رأس الرمح في البرنامج الصهيوني الاستعماري. وتضمَّن هذا البرنامج تشجيع الاستعمار الصهيوني في فلسطين، وتأسيس منظمة تربط يهود العالم عن طريق مؤسسات محلية أو دولية طبقاً لقانون كل دولة، وتقوية الشعور القومي اليهودي، والحصول على موافقة حكومية لبلوغ الأهداف الصهيونية، وصولاً إلى "إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يحميه القانون".

باشرت الحركة الصهيونية تهجير يهود أوربيين إلى فلسطين التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية. واستغلت هذه الحركة ما كانت تعانيه الدولة من فساد إداري لتمكِّن آلاف اليهود من التسلل. وكثَّف هرتزل في هذه المرحلة جهوده الدبلوماسية للحصول على "براءة" تضمن أي كيان صهيوني يقام في فلسطين، فحصل على نوع من الاعتراف الأوربي بالمنظمة الصهيونية العمالية رغم معارضة يهود غير صهاينة رأوا في الصهيونية خطراً عليهم في أوطانهم. وقد استخدم هرتزل مصطلح «البراءة» في جوابه عن سؤال القيصر ولهلم الثاني أن يلخص له مطالب الصهيونية.

إن هذه البراءة هي في واقع الأمر العقد الصامت الذي أبرم بين المنظمة الصهيونية (كمتحدث غير منتخب باسم يهود شرق أوربا وغربها) وبين العالم الغربي (وضمن ذلك المعادون لليهود). وهو تفاهم ضمني بين يهود غرب أوربا ويهود اليديشية، تتعهد الحركة الصهيونية بمقتضاه بإخلاء أوربا من يهودها (أو على الأقل من الفائض البشري اليهودي) وتوطينهم في منطقة خارج هذا العالم الغربي (داخل دولة وظيفية)، ويتحقق نتيجةً لذلك أن يؤسس المستوطنون في موقعهم الجديد قاعدة للاستعمار الغربي وتتعهد الصهيونية بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي وضمنها الحفاظ على تفتُّت المنطقة العربية. هذا فضلاً عن أهداف أخرى تمكِّن الصهيونية من التحكم باليهود وتخلِّص العالم الغربي من نسبة كبيرة منهم. ولم يلتفت هذا العقد لمشكلة شعب الأرض المستهدفة وكيفية حلها، بل عمدت الحركة الصهيونية إلى الزعم بأن "فلسطين أرض بلا شعب" منكرة وجود شعب تمتد جذوره في وطنه إلى فجر التاريخ الإنساني. وقد جاء استهداف طرفي العقد فلسطين لعدة أسباب في مقدمتها موقع فلسطين في قلب دائرة الوطن العربي وفي موقع إستراتيجي من دائرة العالم الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية.

والعقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية هو الإطار الذي تمت من خلاله عملية الاستعمار الإحلالي الصهيوني في فلسطين. وقد مارست دول أوربا الاستعمارية ضغوطاً على الدولة العثمانية لتمكِّن الصهيونية من التسلل إلى فلسطين في مطلع القرن، وعملت الحركة الصهيونية طابوراً خامساً لهذه الدول إبان الحرب العالمية الأولى (1914ـ 1918). ثم قامت بريطانيا يوم 3 نوفمبر 1917 بأصدار تصريح بلفور الذي مثَّل اعترافاً رسمياً بريطانياً بالهدف الصهيوني الخاص بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود والتزاماً بريطانياً رسمياً بالتعاون مع المنظمة الصهيونية العالمية لتحقيق هذا الهدف. وكان هدف بريطانيا منه اسـتعمار فلسـطين واغتصابها وإيجاد قاعدة اسـتعمارية اسـتيطانية فيها تفـصل مشـرق الوطن العربي عن مغربه، وتمكِّن بريطانيا من الهيمنة على المنطقة.

تتالت الأمثلة الواقعية على هذا العقد الصامت في فلسطين إبان فترة ما بين الحربين وأثناء الحرب العالمية الثانية التي شكلت خلالها الحركة الصهيونية "الفيلق اليهودي" ليحارب مع الحلفاء. ومكَّنت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت قائدة الاستعمار الغربي بعد الحرب، الحركة الصهيونية من إقامة دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948 وخلال العدوان الثلاثي وحرب 1967 عملت إسرائيل لمصلحة المخططات الغربية في المنطقة. وقد كشفت الوثائق البريطانية عن نظرة ونستون تشرشل أحد رموز الاستعمار الغربي في الخمسينيات لدور إسرائيل في الضغط على مصر لتقبل الشروط البريطانية. والأمر نفسـه كشـفته الوثائق الأمريكية في الستينيات وما بعد. وقد جاء تجسيد «العقد الصامت» صارخاً في الاتفاق الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي عام 1981 الذي استهدف فلسطين والدائرة العربية والدائرة الإسلامية. وهكذا عبَّر العقد عن نفسه من خلال مذكرات تفاهم واتفاقيات عسكرية وإستراتيجية ودعم عسكري ومالي وسياسي فعلي.

لقد واجه طرفا العقد مقاومة قوية استمرت هي الأخرى في مراحل نضال الشعوب المُستعمَرة من أجل التحرير في الدائرة العربية والإسلامية. ولا تزال هذه المقاومة مستمرة. وقد برزت بفعلها أسئلة عن مستقبل القاعدة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، وعن مدى صواب إستراتيجية العداء الغربي للعروبة وحضارة الإسلام، وعن ما تسببه الصهيونية العنصرية من تداعيات تهدد يهوداً كثيرين فضلاً عن الشعوب العربية والإسلامية المُستهدَفة بالعقد الصامت.

العقد الصامت والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الغربي للحركة الصهيونية وللدولة الصهيونية
Silent Contract and Western Political, Economic, and Military Support of the Zionist Movement and State
قامت القوى الاستعمارية الغربية بدعم الحركة الصهيونية حتى عام 1948 ثم قامت بدعم الدولة الوظيفية بعدها. وسنتناول بعض أشكال الدعم السياسي في مداخل هذا الباب. وبإمكان القارئ أن يعود إلى الباب المعنون «الدولة الوظيفية» وإلى المدخل المعنون «المعونات الخارجية للدولة الصهيونية الوظيفية.»


  • الجمعة AM 07:03
    2021-04-30
  • 1018
Powered by: GateGold