المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415323
يتصفح الموقع حاليا : 205

البحث

البحث

عرض المادة

القيم الأساسية للصهيونية

الصهيونية: القيم السياسية
Zionism: Political Values
يجتمع في الإطار السياسي النظري للصهيونية نظم أساسية ومختلفة من القيم: اليهودية التي تمت صهينتها، والعنصرية، والقومية السياسية، والقومية العضوية، والاشتراكية، والليبرالية، الأمر الذي يجعل مبدأ "القوة" كأساس للمشروعية السياسية - ولا نقول للشرعية (المبدئية) - المبدأ الأساسي الذي يحكم مدركات التعامل السياسي الإسرائيلي. ولذا يتحكَّم هذا المبدأ في الحياة والمستقبل الإسرائيليين تحكُّماً يتجاوز في مداه وعمقه تأثير طاقات أيٍّ من تلك النظم المختلفة من القيم. ولإيضاح هذا، يتوجب تحديد ما نعنيه هنا بتلك النظم من القيم، وبمبدأ القوة كأساس للتعامل السياسي، وذلك في إطار تناولنا الصهيونية باعتبارها تلك العقيدة السياسية التي تدعو يهود العالم للتجمُّع في فلسطين لتكوين وبناء الدولة الإسرائيلية.

ويمكن القول بأن المنهجية "التلفيقية" هي السمة البارزة في خطاب الصهيـونية، لا ينهض الجـانب الدعوي من هذا الخطاب بدونها، سواء في التعامل مع القوى غير اليهودية، أو في التعامل مع الجماعات اليهودية نفسها، أو في بناء فكرها نفسه. ولبيان ذلك علينا ملاحظة أن أياً من نظم القيم السياسية إنما يتكون، كغيره من نظم القيم الأخرى، من قيمة جماعية عليا (كالديموقراطية: احتراماً للكرامة الإنسانية، في نسق قيم الحضارة الغربية الحديثة)، يرتبط بها ويعبِّر عنها نسق من القيم السياسية الفردية.

وعَبْر هذا النسق من القيم السياسية الفردية، يتميَّز أيُّ نسق من القيم عن أنساق القيم الأخرى تميُّزاً لا يتحدد بالضرورة بهذه القيم كمفردات، بل يتحدد بالعلاقة فيما بينها في نسق القيم الذي يجمعها. فنسق القيم الشيوعي، في رفضه نسق القيم الغربي الليبرالي، لا يرفض مفردات قيمه السياسية الفردية، من حرية ومساواة وعدالة، ولكنه في الأساس يرفض أولوية قيمة الحرية على المساواة والعدالة؛ ويتبنَّى المساواة كقيمة سياسية عليا في نسق قيمه، جاعلاً لها الأولوية على الحرية مثلاً، منطلقاً في ذلك من فهم الشيوعية للعلاقة بين الظاهرة السياسية والظاهرة الاقتصادية، التي تعتبر مفهوم "الكفاف الاقتصادي" أساساً للديموقراطية السياسية. بل تمضي أبعد من ذلك لتعتبر أن تحقُّق "العدالة" مرهون بتحقُّق المساواة الفعلية في الأوضاع الاقتصادية.

ولكن الأمر جدُّ مختلف بالنسبة للصهيونية إذ نجد أنفسنا أمام إطار من القيم تتداخل فيه أنساق من القيم، وليس مجرد مفردات من القيم. وهي بطبيعتها أنساق مختلفة، غير منسجمة مع بعضها البعض. وهو ما يجعل محاولة تبيُّن سمات نسق قيم الصهيونية عملية صعبة، بل قد تكون غير ممكنة، ما لم نلحظ السمة التلفيقية فيها بين أنساق من القيم وليس بين مفردات.

وأول تلك الأنساق هي اليهودية التي تمت صهينتها أو الصهيونية ذات الديباجات الدينية اليهودية، ونعني بها تلك المعتقدات من اليهودية التي توظِّفها الصهيونية في مشروعها لبناء الدولة الصهيونية. ولا نقصد بذلك أن هذا التوظيف يتوافر على رؤية معرفية كلية، على درجة من الثبات المنهجي، تفسر الوجود السياسي، وتقيِّم الحركة السياسية، بصورة منطقية ومتجانسة. فاليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً عاجزة وعصيِّة تماماً على الانصهار في مثل تلك الرؤية المعرفية المحددة. غير أن هذه السمة الجيولوجية التراكمية نفسها، بما تشتمل عليه من أنساق وأفكار ومعتقدات ومفاهيم متعددة ومختلفة ومتناقضة، جعلت من اليسير على الصهيونية أن تختار الإطار المعتقدي أو المنطلق القيمي المناسب والمطلوب، لتقييم كل حركة أو مرحلة سياسية أو تبريرها، والتعامل معها؛ كما أنها (أي السمة التركيبية الجيولوجية التراكمية) تسمح بتفسير أو تبرير كل حالة سياسية، أو حتى الوجود السياسي نفسه، وذلك كله تبعاً لتغيُّر الإطار - أو حتى الظرف - التاريخي والسياسي والاجتماعي، أو تبعاً لاختلاف طبيعة التوظيف المعتقدي المطلوب سواء كان دعوياً يتجه إلى تأكيد رابطة الولاء والانتماء اليهودي للكيان الصهيوني، أو دعائياً يرمي إلى كسب التعاطف والتأييد الخارجي (الدولي) لهذا الكيان. ومع أن مثل هذا التوظيف التلفيقي يعمل على صبغ الصهيونية وشحنها بالمفاهيم والأطروحات المتناقضة الأمر الذي يدفعها في النهاية للانفجار والتفتت الفكري، إلا أنه يهيئ لها من جهة أخرى، وبخاصة في ظل ظروف وتحالفات دولية مواتية، استمراراً مرحلياً ما دامت تواجه بيئة سياسية واهنة أو مسترخية فكرياً وسياسياً، كما هو الحال في البيئة الثقافية والسياسية العربية الراهنة، وذلك بغض النظر عن الطاقات والإمكانات الفكرية والسياسية الكامنة لهذه البيئة (العربية).

إن مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» مثلاً، إنما تعبِّر في توظيفها، الدعوي والدعائي، عن تلك المنهجية الصهيونية التلفيقية، حيث يتم إحياء مفاهيم وتقاليد معينة في هذا التراث وتجاهُل أخرى، وذلك تبعاً لما يتطلبه الإطار التاريخي أو الظرف السياسي والاجتماعي، الذي تجرى فيه عملية التوظيف التلفيقية تلك. فعلى المستوى الدعوي المعني بتأكيد الانتماء والولاء اليهودي، وبخـاصة نحـو المشروع الصهيوني، يمكن توظيف المفاهيم الحلولية في التراث اليهودي كما يمثلها الثالوث الحلولي: الإله والأرض والشعب، فيحل الإله في فلسطين لتصبح أرضاً مقدَّسة، ويحل في يهود العالم ليصبحوا شعباً مقدَّساً، ومختاراً من الإله للتمركز في الأرض المقدَّسة، من أجل خلاصهم وخـلاص العالم بأن ويتولوا قـيادته حضارياً. ويمكن في مسـتهل المشروع الصهيوني، وعَبْر هذا التوظيف، اعتبار الأرض المقدَّسة أرضاً بلا شعب، فالأغيار (من عرب فلسطين) يمكن اعتبارهم مستباحين ومدنَّسين (بخلاف الشعب المقدَّس)، فيستوي بذلك وجودهم وعدمه.

وعندما يؤدي نضال عرب فلسطين إلى أن يصبح وجودهم وانتماؤهم لأرضهم حقيقة عصيّة أمام التوظيف الدعائي (لهذا الطرح الدعوي)، فيمكن حينئذ - وعند اللزوم - تخفيف الطابع العنصري والحلولي الفج لمفهوم الاختيار، والاستعاضة عنه بمفهوم «البروليتاري الأزلي» كتصور لليهودي الذي أختير منذ الأزل لتأدية رسالة أزلية اشتراكية (كما هو الحال عند المفكر الصهيوني الاشتراكي نحمان سيركين) ثم يوظِّف هذا المفهوم لكسب تأييد الاشتراكيين ومعسكرهم من جهة، ومن جهة أخرى لخلق وتأكيد علاقة انتماء فعلية بين اليهودي وأرض فلسطين. كما يمكن أيضاً توظيف مفهوم اليهودي باعتباره «الديموقراطي الأزلي» الذي تحدَّث عنه لويس برانديز باعتبار أن اليهودي هو الجدير بحمل رسالة الديموقراطية (وخصوصاً في الوسط العربي الغريب عنها) ما دام الإله قد اختار اليهود للحوار الحق معه دون باقي أمم الأرض. وبالطبع، يمكن أن تجد هذه المفاهيم سندها داخل التركيب الجيولوجي التراكمي لليهودية، وذلك عبر إحياء فكرة "الاختيار الرسالي" التي دعت إليها اليهودية الإصلاحية، إلى جانب حركة التنوير اليهودية، وكلتاهما تمردت على فجاجة الطابع العنصري للرؤية اليهودية الحلولية لمفهوم الاختيار.

هذا على صعيد تبرير وإضفاء المشروعية على الوجود الصهيوني السياسي نفسه، وهو تبرير يتم التعبير عنه، دعوياً ودعائياً، على مستوى مفكري وقادة المشروع الصهيوني أنفسهم. غير أن بإمكاننا تتبُّع هذه السمة التلفيقية، على مستوى تقييم تيارات وقوى يهودية في الكيان الصهيوني، لمشروعية هذا الكيان، وذلك في إطار مسيرته السياسية ومدى نجاحه في فَرْض وجوده الإقليمي والدولي. ويمكن أن نأخذ مثلاً على ذلك رؤية مثل تلك التيارات أو القوى للمشروع الصهيوني، في ضوء العقيدة المشيحانية التي تؤمن بأن خلاص اليهود وجَمْعهم من الشتات إنما يكون بقدوم الماشيَّح في آخر الأيام.

لقد ظلت أكثرية التيارات والجماعات الدينية اليهودية تحافظ على موقف غير صهيوني من المشروع الصهيوني (الانتظار لمشيئة الإله). ولكن هذه التيارات بدأت بعد إعلان الدولة الصهيونية تنقاد بالتدريج للتعايش مع المفهوم الصهيوني للعودة. وبعد حرب 1967، بدأت أحزاب دينية صهيونية عديدة تنظر إلى نتائج هذه الحرب باعتبارها معجزة و"إشارة ربانية" إلى بداية الخلاص، وأن دولة إسرائيل ما هي إلا مقدمة مجيء الماشيِّح المخلِّص، مضفية بذلك على دولة إسرائيل سمات دينية مشيحانية. بل اعتبرها البعض استجابة لنداء الرب، بل هي "الإرادة الإلهية نفسها" (على حد تعبير الحاخام كوك الأب الروحي لحركة جوش إيمونيم).

كذلك تتضح هذه المنهجية التلفيقية على صعيد مبادئ وأُسس النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني، وسواء أتعلَّق ذلك بتصور الصهيونية لهذه المبادئ والأُسس أم تعلَّق بتعاملها معها. وهكذا، فإن الصهيونية توظف فكرة العودة مثلاً لحث أكبر عدد من يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين، بينما يظل التساؤل حول المعيار المحدد للهوية اليهودية (من هو اليهودي؟) بغير جواب حاسم من مؤسسة دولة إسرائيل، لئلا يقود - كما رأت جولدا مائير مثلاً - تبنِّي معيار متساهل لتحديد الهوية اليهودية إلى اندماج يهود الخارج في مجتمعاتهم، بينما يقود التشدد في ذلك إلى عواقب وخيمة على بنية الكيان الصهيوني نفسه في فلسطين؛ وعبر مثل هذا التوظيف (العملي) الذي تمارسه هنا جولدا مائير أحد أقطاب الصهيونية العمالية لأطروحات الصهيونية الإثنية، يظل تحديد من هو اليهودي خاضعاً، عن وعي وتصميم، لاعتبارات ظرفية غير عقائدية، وذلك رغم المحورية المركزية الطاغية لصفة اليهودي في المشروع الصهيوني.

ويخضع تحديد مبادئ وأُسس الحياة الاجتماعية والسياسية في الكيان الصهيوني لتوازن معقد بين التيارات والقوى والأحزاب التي يُقال لها "علمانية" من جهة، ومن جهة أخرى التيارات ذات الديباجات الدينية فيها. ومع هذا لا يمكن الاكتفاء بإرجاع غياب الحسم العقائدي، في قضية مركزية في محوريتها، تهيمن على تعريف "المواطنة" نفسه، إلى غَلَبة إرادة العلماني على إرادة الديني في مركز القرار الإسرائيلي. فمن المعروف أن تشريـعات "اليهودية الحاخـامية" (كما تعبِّر عنهـا التشريعات التلمودية)، تسـيطر على تنظيم الأحوال الشـخصية في الكـيان الصهيوني، وذلك رغم أن الإحصاءات الاستطلاعية تشير (عام 1987 إلى أن 84%من يهود هذا الكيان لم يطَّلعوا على التلمود قط. كما نجحت الأحزاب الدينية (عام 1950)، على سبيل المثال، في فرض إرادتها في أن تكون لها اليد الطولى في الإشراف على النظام التعليمي في معسكرات المهاجرين اليهود في فلسطين، وذلك بالرغم مما يفرضه هذا من تأثير داخلي جذري على مستقبل النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني.

إن ما سبق من أمثلة يُظهر أن المعوَّل عليه في نهاية المطاف، بالنسبة للصهيونية، ليس إطاراً معتقدياً معيناً مستمداً من إحدى طبقات التركيب الجيولوجي التراكمي للعقيدة اليهودية، يتم تبنِّيه والثبات عليه؛ وإنما تفرض كل مرحلة حلاً مؤقتاً كل ما يُشتَرط فيه أن يكفُل التميُّز، ولكنه تميُّز لا مضمون له وإنما هو تميُّز وكفى. ولذلك، فحينما يعني التمسك بهوية (صلبة) للتميُّز (تحدِّد مثلاً من هو اليهودي؟)، فإن التميُّز من حيث هو اختلاف عن الآخر، يصبح مصدر تهديد، ومن ثم يتم العدول عنه، ويتم تبنِّي تعريف للهوية يسمح بقدر من السيولة. وهي ظاهرة تتبدى في الحيرة والصراع داخل الكيان الصهيوني، حول الخيارات المستقبلية لمضمون تميُّزه، وهي قضية وثيقة الصلة بالصراع العربي الصهيوني: القبول بدولة فلسطينية مستقلة في سبيل نقاء الكيان الصهيوني؟ أم السماح بالوجود العربي داخل إطار الدولة الصهيونية، في سبيل إسرائيل الكبرى؟ إن الصراع هنا هو صراع بين الرؤية الصهيونية التقليدية (الحلولية المادية الصلبة) التي تتمسك بمفاهيم مثل إسرائيل الكبرى جغرافياً، والرؤية الإسرائيلية البرجماتية (الحلولية الشاملة السائلة) التي لا تُمانع في التنازل عن هذا المفهوم في سبيل الوصول إلى إسرائيل العظمى اقتصادياً. وهو ما يعكسه توجُّه اتفاقيات أسلو (1993وما بعدها، التي تمت بقيادة تيار فاعل في المؤسسة الإسرائيلية تنَّبه قبل عقود من هذه الاتفاقيات (وبخاصة عبر شيمون بيريز) إلى عناصر الحيرة والصراع التي تكتنف عملية حَسْم هوية المشروع الصهيوني. فكانت اتفاقيات أوسلو إيذاناً بتكريس توجُّه إسرائيل كبرى مختلفة: يعمل، وذلك بعد أن واتته الفرصة بعد حرب الخليج الثانية (1991)، على إرساء نظام شرق أوسطي متمركز اقتصادياً حول الكـيان الصهيوني؛ أي أنه توجُّـه يعـمل، عن وعي وإرادة، على تمييز الكيان الصهيوني بسطوة سائلة حلولية صهيونية اقتصادية، وذلك على حساب تميُّزه بهويته الحلولية الصهيونية العنصرية الصلبة.

وباختصار، فإن المنهجية التلفيقية تهيمن بالضرورة، على تصوُّر الصهيونية لأُسس تبرير مشروعية الوجود الصهيوني السياسي نفسه، فضلاً عن مبادئ وأُسس النظام السياسي والاجتماعي في الكيان الصهيوني؛ والاصطدام (الكامن دوماً والمتفجر دورياً)، الذي يقع بين هذه المنهجية التلفيقية من جهة، وبين حقائق الواقع والحقيقة الصلبة من جهة أخرى، لا يقودها إلى إعادة النظر في عناصر رؤيتها المعرفية (اليهودية الحلولية التراكمية)؛ بل يدفعها (متأثرة طبعاً بحلوليتها اليهودية التراكمية هذه) إلى إعادة تشكيل مبادئها وأُسسها بنفس المنهجية التلفيقية. إنها تلفيقية مسكونة بهدف البقاء المتميِّز، تجعل مبدأ القوة المادية أساساً لتبرير مشروعيتها وتقييم، ثم إعادة تشكيل، مبادئ وأُسس حركتها ونُظُمها. ويُبرز وصف ديفيد بن جوريون للجيش الإسرائيلي بأنه "خير مفسِّر للتوراة"، هذه التلفيقية بجلاء وهي التلفيقية التي كانت تجعل بن جوريون يُفسِّر التوراة والتلمود، فضلاً عن الواقع والتاريخ، من خلال توظيف انتصارات جيش الدفاع الإسرائيلي. إن قيم اليهودية التي تمت صهينتها كرافد أصيل في تركيب إطار قيم الصهيونية، إنما تجعل مبدأ القوة مثاليتها وقيمتها العليا المحددة.

 

  • الجمعة AM 06:13
    2021-04-30
  • 962
Powered by: GateGold