المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412476
يتصفح الموقع حاليا : 386

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى الاحتكام إلى القرآن دون السنة عند الاختلاف

دعوى الاحتكام إلى القرآن دون السنة عند الاختلاف(*)

 مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المغرضين أن الاحتكام عند الاختلاف يكون للقرآن فحسب دون السنة، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله( (الشورى: ١٠)، بالإضافة إلى أنهم يفرقون بين الاختلاف في هذه الآية، والتنازع في قوله عز وجل: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول( (النساء: ٥٩)، زاعمين أن الرجوع عند الاختلاف يكون إلى الله وحده (القرآن الكريم)، أما التنازع فالرجوع فيه إلى الله ورسوله، أي: "القرآن والسنة". رامين من وراء ذلك إلى التهوين من شأن السنة وقصرها على أمور دون أمور؛ وصولا لتنحيتها جانبا وحرمان المسلمين مما فيها من أحكام وتفصيلات وتشريعات.

وجها إبطال الشبهة:

1) لا وجه للتفريق بين التنازع والاختلاف؛ إذ إن التنازع هو شدة الاختلاف، أي أنهما بمعنى واحد، ومن ثم فلا معنى لتخصيص التحاكم عند الاختلاف بالقرآن دون السنة، إنما هو اضطراب وتخبط في عقول منكري السنة.

2) لما دل القرآن على حجية السنة، كان العمل بها عملا بالقرآن؛ إذ نص على ذلك وألزمنا به، وعليه فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على رفض السنة، بل هي نص في الدليل على وجوب العمل بالسنة والرجوع إليها في جميع الأمور.

التفصيل:

أولا. إن لفظي "التنازع والاختلاف" بمعنى واحد,وهذا ما أكدته الآيات حين أوجبت الاحتكام للقرآن والسنة في الحالين على حد سواء:

لقد حاول بعض منكري السنة إيهام الناس، بوجود اختلاف في المعنى بين لفظ "اختلفتم" في قوله عز وجل: )وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله( (الشورى: ١٠) وبين لفظ "تنازعتم" في قوله عز وجل: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول( (النساء: ٥٩).

وهذا كلام مجانب للصواب؛ ذاك أن اللفظين متفقان في المعنى، حيث يقال: (تنازع) القوم: أي اختلفوا، ويقال (تنازعوا) في الشيء: أي اختلفوا فيه[1].

ويقول الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات القرآن" - موضحا معنى الاختلاف: "الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله"[2].

أي من غير تنازع ولا شقاق، كما يدل عليه تمام كلامه: "ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع، استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال عز وجل: )فاختلف الأحزاب من بينهم( (مريم: ٣٧)، )ولا يزالون مختلفين( (هود: ١١٨) [3].

ومع أن الاختلاف في أصل اللغة لا يحمل معنى المنازعة والمشاقة، إلا أنه يحصل من واقع الناس ونفوسهم، وصدورهم التي تضيق عن مخالفة غيرهم لهم، فيكون هذا الاختلاف سببا في المنازعة، فالاختلاف أعم من التنازع, والثاني درجة من درجاته وصورة من صوره ناتجة عنه وهي أحد وأقوى منه, وقد جاء القرآن الكريم في بعض الآيات على هذا المعنى الحاصل الناتج[4].

وقال الطاهر ابن عاشور: التنازع هو شدة الاختلاف، وهو تفاعل من النزع، أي: الأخذ، قال الأعشى:

نازعتهم قضب الريحان متكئا

وقهوة مزة راووقها خضل

فأطلق التنازع على الاختلاف الشديد على طريق الاستعارة؛ لأن الاختلاف الشديد يشبه التجاذب بين شخصين، وغلب ذلك حتى ساوى الحقيقة، قال الله عز وجل: )ولا تنازعوا فتفشلوا( (الأنفال: ٤٦)، )فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62)( (طه: ٦٢).

وتأكيدا لما أسلفنا ذكره - من أن التنازع درجة من درجات الاختلاف وصورة من صوره - نورد طرفا من تفسير العلماء لكلمة "تنازعتم" في الآية,ومن أحسن عباراتهم في هذا قول الطبري: "يعني إن اختلفتم أيها المؤمنون أنتم فيما بينكم أو أنتم وأولو أمركم فيه".

وعن مجاهد: "فإن تنازع العلماء ردوه إلى الله".

ولفظ "شيء" نكرة متوغلة في الإبهام، أي في كل شيء؛ فيصدق التحاكم بالتنازع في الخصومة على الحقوق, ويصدق بالتنازع في اختلاف الآراء عند المشاورة, أو عند مباشرة عمل ما, كتنازع ولاة الأمور في إجراء أحوال الأمة[5].

وأما القرطبي فله تفسير آخر لقوله تعالى: )وما اختلفتم فيه من شيء( (الشورى: ١٠) يبين بطلان زعمهم ويذهب به أدراج الرياح، وهو أن الاختلاف هنا اختلاف بين المؤمنين وأهل الكتاب، وفي هذه الحالة يكون الحكم لله ولدينه الإسلام، يقول القرطبي: "حكاية قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين؛ أي وما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب، والمشركين من أمر الدين، فقولوا لهم حكمه إلى الله لا إليكم، وقد حكم أن الدين هو الإسلام لا غيره[6]. وإذا قلنا الإسلام لزم أن ينصرف الذهن لما يشتمل عليه من كتاب وسنة مرتبطين ببعضهما ارتباط مبتدأ بخبر - على حد تعبير النحاة, وموضوع بمحمول - على حد تعبير المناطقة.

وقال الحافظ ابن كثير: "هذا أمر من الله - عز وجل - بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال: )وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله( (الشورى: ١٠). فما حكم به الكتاب والسنة، وشهدا له بالصحة فهو الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال"[7]؟!

واستنادا إلى ما سبق فإنه لاوجه للتفريق بين المراد من الآيتين؛ إذ المراد منهما: وجوب الاحتكام إلى كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عند الاختلاف أو التنازع على حد سواء, فالمعنى إن أردنا الدقة والاستقصاء ولم نقل أنه واحد, فلن يبعد على أن يكون الثاني - التنازع - فرعا من الأول - الاختلاف - ودرجة من درجاته وصورة من صوره.

وأيا ما كان من أمر فإن التحاكم في الحالين منصب على الكتاب والسنة بمقتضى نسبة الحكم - حال الاختلاف - إلى الله في الآية: )وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله(, ذاك أن حكم الله يستوجب العمل بمقتضى الشرع المتمثل في الكتاب والسنة؛ ويعضد هذا قول الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله عز وجل: )فاحكم بينهم بما أنزل الله( (المائدة: 48) أي: بما أنزل الله إليك من القرآن, أو بما أوحاه إليك[8].

هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن في استدلال هؤلاء في دعواهم بالآيتين سالفتي الذكر وما استنبطوه منهما ما يشهد عليهم لا لهم؛ فقد قصروا التحاكم إلى السنة بجانب القرآن حال التنازع شافعين كلامهم بقول الحق - سبحانه وتعالى -: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول( (النساء: 59), وحجبوا الاحتكام إليها حال الاختلاف معضدين كلامهم بقوله عز وجل: )وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله( (الشورى: ١٠), وفي هذا الكلام - على طلاوته - مفارقة منطقية!

وبالرجوع إلى علاقة اللفظين ببعضهما في اللغة نقف على تلك المفارقة ومؤداها أن الاختلاف أعم من النزاع, وأن هذا الأخير إنما هو ذروة الاختلاف؛ فقد يختلف شخصان في الرأي أو في التصرف أو في وجهات النظر لكن لا يصل الأمر إلى درجة النزاع إلا بعد شد وجذب وما إلى ذلك حتى يرتقي الاختلاف تدريجيا إلى المنازعة بعد ما تضيق الصدور, ويحتد الموقف ويتصاعد.

وإذا استقر في أذهاننا هذا - إلى جانب علمنا بما عمد إليه هؤلاء من تحجيم دور السنة في الاحتكام, وقصدهم من وراء إثارة ما أثاروه في دعواهم تلك - نتساءل: ألم يكن من المنطق أن يستقر الاحتكام للسنة - إن كان ثمة اقتصار - على حال الاختلاف لا النزاع؟! وألم يكن من المعقول أيضا - إن جاريناهم - أن يكون الفصل في النزاعات الكبرى لا الخلافات الهينة للقرآن والسنة؟!

إن سياق القرآن - والآيتين اللتين استشهدوا بهما على وجه التحديد - ليشهد على خلاف ما ادعوه لو عاملناهم بمنطقهم هم في الاستنباط - لا بما عليه حقيقة الموقف - فليس الأمر بحاجة لمثل هذه الجدلية أصلا؛ فلو تأملنا ما تستلزمه نظرتهم الدونية للسنة لوجدناها تقتضي أن ينحصرالاحتكام إليها في الاختلافات البسيطة وقبل أن يحتد الخلاف ويتصاعد ويصبح نزاعا معقدا.

لقد كان مقتضى زعمهم أن تأتي الآيتان على نحو ما بينا وهو أن يرد الاختلاف إلى الله ورسوله، بينما يرد النزاع إلى الله دون الرسول وهو عكس ما هو عليه, ولما كان الأمر كذلك علم بهذا أن الآيتين شاهدتان على خلاف ما ادعوه, فهما شاهدان عليهم لا لهم؛ فإذا كانت السنة مشاركة للقرآن في الاحتكام حال التنازع - وهو أعقد من الخلاف وأصعب - كان الاحتكام إليهما حال الاختلاف أولى وأحرى, فلا يمنع من اليسير حكم في العسير؟!

وبعد... فليس أمام هؤلاء إلا أن يذعنوا للحق, ويسلموا وجوههم للحجة أو يذهبوا فيلتمسوا دليلا غير الذي قالوا, فما زادتهم حجتهم إلا ضعفا على ضعف, ومعلوم أن تلمس الدليل فيما لا يفيد الثبوت ولا يقيم الحجة؛ ضرب من الوهن وفقدان المرجعية!

ثانيا. لـما دل القرآن على حجية السنة كان العمل بها عملا بالقرآن:

لقد نص القرآن على وجوب العمل بالسنة، فكان العمل بها عملا بالقرآن؛ إذ هو الذي نص على ذلك، وألزمنا به، وعليه نستطيع القول بعدم صحة الاستدلال بالآيتين على رفض السنة، بل إن التأمل فيهما يظهر أنهما يقويان الاحتجاج بالسنة كما ذكرنا آنفا.

ولعلنا نتساءل مع منكري السنة فنقول: إذا كنتم تنكرون السنة، فإنه لا يمكنكم العمل بالقرآن؛ لأن الآيات التي تنص على أن بيان القرآن موكول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمكنكم العمل بها إلا بامتثال السنة، وأيضا لا يمكنكم العمل بما جاء في القرآن مجملا؛ لأنه يحتاج إلى بيان، وبيانه في السنة، فكيف تمتثلون الأمر بالصلاة - مثلا - إذا أنكرتم السنة؟! وكيف تحتكمون فيما بينكم حال الاختلاف أو التنازع، إذا أنكرتم السنة؟! ورحم الله الأوزاعي إذ قرأ: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩) فقال: أي بالسنة[9].

وإذا عرفنا أن الكتاب مجمل والسنة مفصلة له، وأن السنة لم تتعد مقاصد التشريع القرآني، كما أن إرجاع كل ما في السنة من الأحكام التفصيلية، يكون إلى الأحكام الإجمالية في القرآن الكريم، تأكدنا أن السنة بيان للقرآن[10].

واستنادا إلى ما سبق نعلم أن الرجوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو في حقيقته رجوع إلى الله - سبحانه وتعالى - لقوله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى( (النجم) وقوله عز وجل: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧).

فمن قبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قبل؛ إذ إن السنة النبوية تأتي في المرتبة الأولى مساوية للقرآن في الحجية، وإن كانت هي المصدر والمعين الثاني للتشريع، وهي قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضيا عليها، وكلاهما مفيد للعلم، موجب للعمل بمقتضاه، على أي نوع من الأحكام الخمسة كان العمل.

ولقد أجمع العلماء على التسوية بين الكتاب والسنة الصحيحة في الحجية".

ومن ذلك أن الخطيب البغدادي قد عنون في كتابه "الكفاية" لهذا الموضوع بقوله: "ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى، وحكم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في وجوب العمل ولزوم التكليف"[11] يشير إلى أن القرآن والسنة في مرتبة واحدة، من حيث الاعتبار والاحتجاج بها على الأحكام[12].

واتفاقا مع هذا، فلو فرضنا جدلا أن الاختلاف غير التنازع، وأننا أمرنا أن نرجع في حال الاختلاف إلى القرآن فقط، فإن الرجوع إلى السنة بمثابة الرجوع إلى القرآن.

وعلى هذا تبطل هذه الشبهة بالعقل والنقل ويتضح زيفها، وجهل من نادى بها.

الخلاصة:

  • إنأصحابالشبهةاستندواإلىآياتمنالقرآنلإنكارحجيةالسنةمنخلالالتقليلمندورهاالمنوط بها من قبل الحق - سبحانه وتعالى - في إثبات الاختلاف بين لفظي "التنازع"، والاختلاف وهذه الآيات - على نقيض ما أرادوا - تثبت حجية السنة المطهرة، وتوضح جهلهم المفرط؛ إذ التنازع هو: الاختلاف في شيء ما، وعلى هذا فأي حكم من أحكام الدين مرده ومرجعه حقيقة إلى كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
  • جاءتالسنةالنبويةلتبينوتوضحوتفصلماكانمبهمافيكتابالله - عزوجل - بحيثإنهالاتتناقضمعهأوتعارضه،وهذادليلعلىحجيتها،وقدأوجبالله - عزوجل - الرجوعإلىالسنةفيكثيرمنالآيات،منهاقوله عز وجل: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( (النساء: ٨٠)، وقوله: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧)، وكذلك الأحاديث النبوية التي تؤكد أهمية السنة ووجوب طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والرجوع إليها، لاعتبارها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإلهي الإسلامي.

 

 

(*) الإسلام وصياح الديك, جواد عفانة, دار جواد للنشر، الأردن، ط1، 1427هـ/ 2006م.

[1]. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ط3، مادة (نزع )، (2/ 950).

[2]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص156.

[3]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص156. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ط3، مادة (نزع )، (2/ 950).

[4]. أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين, محمد عوامة، دار اليسر، السعودية، ط3، 1428هـ/ 2007م، ص11 بتصرف.

[5]. التحرير والتنوير, ابن عاشور, دار سحنون، تونس، د. ت، (5/ 99).

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م, (16/ 7).

[7]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، المكتبة التوفيقية,مصر، د. ت، (2/ 245).

[8]. التحرير والتنوير, ابن عاشور, دار سحنون، تونس، د. ت, (6/ 222).

[9]. السنة النبوية: مكانتها, عوامل بقائها، تدوينها, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار النصر، القاهرة، 1989م، هامش ص49 بتصرف.

[10]. السنة النبوية: مكانتها, عوامل بقائها، تدوينها, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار النصر، القاهرة، 1989م، ص50: 53.

[11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 59).

[12]. دفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، علاء الدين رجب أبو زرد، دار الصابوني، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص27.

 

  • الجمعة PM 03:33
    2020-10-16
  • 1183
Powered by: GateGold