المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412305
يتصفح الموقع حاليا : 251

البحث

البحث

عرض المادة

الطعن في أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي

                            الطعن في أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي(*)

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المشككين في أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي، مستدلين على ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - بطبيعته البشرية خاف من عدم قبول الكفار للقرآن، فكتم منه ما يثيرهم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر أن دينه مكمل ومتمم للأديان الأخرى من اليهودية والنصرانية إلا بعدما شعر بحاجته إلى مجاراة اليهود والنصارى ومداراتهم. وذلك بغية التشكيك في أمانته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي؛ إيذانا لترك ما نزل به ما دام غير كامل، أثبت بعضه وكتم بعضه الآخر.

وجوه إبطال الشبهة:

1)    إن أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي من الأمور الثابتة المقررة بشهادة القرآن الكريم، وسيرته العطرة، وإجماع الأمة. ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - صادقا في أقواله وأفعاله قبل البعثة وبعدها، بشهادة أعدائه فضلا عن أتباعه.

2)    إن اشتمال بعض آيات القرآن الكريم على ما يثير الكفار، ويسفه أحلامهم وأوثانهم، ويتوعدهم بالعذاب الأليم يوم القيامة - دليل واضح على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخشى هؤلاء الكفار، ولا يتحاشى ما يثيرهم.

3)    لو افترضنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقرب لليهود والنصارى، فلماذا لم يكتم الآيات التي تلعن اليهود صراحة وتذكر عبادتهم المخزية للعجل؟ ولماذا لم يكتم الآيات التي تخالف اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام؟!

التفصيل:

أولا. أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه في تبليغ الوحي:

لو افترضنا جدلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أمينا في تبليغ الوحي، فلماذا شهدت له قريش بالصدق، حتى بعد أن ناصبهم العداء، وأعلن بطلان معتقداتهم؟

ونحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن ربه، وذلك في قوله تعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة).

وروي عن عائشة - رضي الله عنها - في تفسير هذه الآية: «من حدث أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب» [1].

وعن وهب بن عبد الله قال: «قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ قال: لا والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن» [2]. ويتبين من هذا الخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص عليا - ولا غيره - بشيء من أحاديثه دون الصحابة الكرام.

والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد من الله عليه بالرسالة، وعليه البلاغ، وعلينا التسليم، والأمة الإسلامية قد شهدت للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقد استنطقهم هو نفسه بذلك في أعظم المحافل، وهو خطبته يوم حجة الوداع، وكان هناك من أصحابه نحو الأربعين ألفا، روي عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم النحر: «أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر"؟ قلنا: بلى، قال: "أي شهر هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذا الحجة"؟ قلنا: بلى، قال: "أي بلد هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليست بالبلدة الحرام"؟ قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت"، قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» [3]. هذه شهادة الصحابة - رضي الله عنهم - يوم خطبة الوداع أنه أكمل الرسالة وبلغها على خير وجه، قال سبحانه وتعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة:3)[4].

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صادقا في أقواله وأفعاله قبل البعثة وبعدها، وشهد له كثير من أعدائه بذلك، وفيما يأتي نذكر بعضا من تلك الشهادات:

  1. «أرسل هرقل إلى أبي سفيان في ركب من قريش - وكانوا تجارا بالشام - في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادن فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم به نسبا. فقال هرقل: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. فقال له هرقل: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. فقال له: هل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال: لا. ثم قال: هل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا. ثم قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. ثم قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون. ثم قال: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. ثم قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. ثم قال: هل يغدر؟ قال: لا، ونحن منه في المدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: كيف كان قتالكم إياه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال[5]، ينال منا وننال منه. قال: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة.

ثم قال هرقل: وكذا الرسل تبعث في نسب أقوامها، لو أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. ثم لو كان من آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، ثم قال: الضعفاء أتباع الرسل، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، فلم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله»[6] [7].

  1. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما نزلت: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء) خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صباحاه" [8]، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي"؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا!! قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»[9].

هكذا يعترف له قومه أجمعون بالصدق، وعدم عثورهم على ما يناقض هذا الخلق منه، وهم وإن لم يكونوا قد ناصبوه العداء آنذاك، إلا أن هذه الشهادة وغيرها ظلت قائمة لا ينازعون فيها، ولم ينفوها حينما جاهرهم بالدعوة وناصبوه العداء، وقد حرصوا بعد ذلك على صد الناس عن الإيمان به وبدعوته كل الحرص، وبذلوا في ذلك كل جهدهم، غير أنهم لم يقدروا أن ينالوا من صدقه، وأمانته.

حتى لقد قال أبو طالب في لاميته المشهورة إبان المقاطعة التي ضربوها على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى بني هاشم:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب

لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

فهم يعلمون هذه الحقيقة، ولكنهم تعاموا عنها، أعماهم الباطل والكبر والعناد، كما قال سبحانه وتعالى: )قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام).

  1. سأل الأخنس بن شريق أبا جهل، وقد خلا كل منهما بالآخر يوم بدر، فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله سبحانه وتعالى: )قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام)[10].
  2. ومن شهادات الأعداء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة أمية بن خلف، عندما قال له سعد بن معاذ: « إني سمعت محمدا - صلى الله عليه وسلم - يزعم أنه قاتلك؟ قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث »[11]. . وقد تحقق ذلك يوم بدر، حيث اشترك في الغزوة، وقتله النبي صلى الله عليه وسلم.
  3. ومن ذلك أيضا شهادة النضر بن الحارث في قوله: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم عقلا، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته، ولا تخليطه، ثم قال لهم: يا معشر قريش، انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.

فهذا كلام النضر بن الحارث الذي كان شيطانا من شياطين قريش. وكذا قال غيره كلاما نحو ذلك من إثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم[12].

ثم لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متهما في أمانته في تبليغ الوحي، لأخفى من القرآن الآيات التي عاتبه فيها ربه - عز وجل - كقوله سبحانه وتعالى: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3)( (عبس).

وقد روي عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: )وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه( (الأحزاب: ٣٧)»[13].

نزلت هذه الآية في حق زيد بن حارثة الذي أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورباه، ثم زوجه من بنت عمته زينب بنت جحش التي قبلت الزواج منه طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنفيذا لأوامره، ولم يحدث وفاق بينهما، فأمر الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطلاقها من زيد، وأن يتزوجها، فشق ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت العرب في تلك الأيام تنظر إلى الابن المتبنى نظرتهم إلى الابن الحقيقي، ولكن ما كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ينفذ ذلك الأمر؛ لأنه صادر إليه من السماء.

وهناك حادثة أخرى وقعت في معركة بدر تبين مدى أمانته - صلى الله عليه وسلم - فقد تم أسر بعض كفار قريش، فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أمرهم. فكان رأي أبي بكر - رضي الله عنه - إطلاق سراحهم بعد أخذ الفدية منهم، أما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكان رأيه أن يقتلوا جميعا، وأن يقوم كل واحد من المسلمين بقتل قريبه بيده، ومال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رأي أبي بكر وأطلق سراح الأسرى بعد أخذ الفدية منهم.

ولندع سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يروي بقية هذه القصة بنفسه، يقول: «فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" - شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال)، فأحل الله الغنيمة لهم»[14].

فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أمين في تبليغ الوحي، لأخفى منه ما خالف هواه[15].

وقد شهد الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم بالأمانة في تبليغ الوحي، ونفى عنه الكذب والخيانة. قال الله سبحانه وتعالى)وصدق الله ورسوله( (الأحزاب: 22)، وقال سبحانه وتعالى: )والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)( (الزمر). والذي جاء بالصدق كما يدل عليه سياق الآية هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد لما جاء به من عنده سبحانه وتعالى - قرآنا وسنة - فسماه صدقا، ويلزم من صدق ما أتى به، صدقه هو في نفسه، إذ لا يأتي بالصدق إلا كامل الصدق.

وقال سبحانه وتعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة). فهذه الآيات دليل صدقه وعصمته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه الوحي بدليل التمانع، فقد امتنع أخذه سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفة، لامتناع تقوله عليه، وامتناع تقوله عليه يعني الصدق والعصمة، فيما يقول ويبلغ عن ربه.

وقال سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، فكلمة "ينطق" في لسان العرب، تشمل كل ما يخرج من الشفتين من قول أو لفظ أي: ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل.

وقال عز وجل: )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)( (الإسراء).

فهذه الآيات من جملة الآيات المادحة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - والشاهدة بعصمته في كل ما يبلغ عن ربه - عز وجل - وحكم "كاد" في الآيات حكم سائر الأفعال، فمعناها منفي إذا صحبها حرف نفي، وثابت إذا لم يصحبها.. والمعنى: لولا وجود تثبيتنا إياك، لقد قاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من أدنى الميل، ولكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك.

وبعد.. فهذه شهادات من الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بعصمته في أداء واجب البلاغ على أكمل وجه )وكفى بالله شهيدا (79)( (النساء)، ولم يكتف - عز وجل - لحبيبه بهذه الشهادات، بل لقد أضاف إليها شهادات أخرى بأسلوب آخر؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

فإن كمال الدين لا يكون إلا بالتبليغ لجميع أحكامه، وما أوحى الله إليه - صلى الله عليه وسلم - من كتاب وسنة، وعصمته في هذا البلاغ[16].

ونود أن نقول لهؤلاء الذين يدعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كتم بعض ما أمره به ربه - عز وجل - من الوحي: ما الوحي الذي كتمه صلى الله عليه وسلم؟ وما دليلكم على هذا الكتمان؟ وأين نجد ما كتمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي؟!

ثانيا. اشتمال بعض آيات القرآن الكريم على ما يثير الكفار، ويسفه أحلامهم وأوثانهم، ويتوعدهم بالعذاب يوم القيامة - دليل واضح على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخشاهم:

لقد حوى القرآن بين آياته آيات كثيرة تتوعد الكفار بالويل والعذاب في الآخرة، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خاف من هؤلاء الكفار لما أظهر ما يثيرهم وينغص عليهم حياتهم.

وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويحذر ويستعطف ثم يوعد ويهدد، لا يخاف في الحق لومة لائم، فهذا عمه أبو لهب، الذي برز لمناداته، وراح يفسد عليه عمله، ويؤلب الناس عليه، فإنه بلسان القرآن لعنه ولعن امرأته، قال سبحانه وتعالى: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5)( (المسد).

ولم يخش سادة مكة وأغنياءها، بل قذفهم في وجوههم بالجشع والتهافت على حطام الدنيا، والتكالب على جمع المال بمختلف الوسائل[17]. ولقد سفه القرآن آلهة قريش أيضا كما في قوله سبحانه وتعالى: )أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)( (النجم).

وفي هذه الآيات يذكر الله - سبحانه وتعالى - وثنية قريش بأنها قسمة ضيزى، وأن آلهتها ما هي إلا أسماء سموها، ما أنزل الله بها من سلطان، تبعا لهواهم، وما هذا بالحق الذي يريده الله سبحانه وتعالى.

وقد توعد القرآن الكريم بعض الكفار، وذمهم على ما فعلوا، وعلى إنكارهم وحدانية الله سبحانه وتعالى: )إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25) سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقي ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30)( (المدثر)، فقد ذم القرآن الوليد بن المغيرة بعدما سمع القرآن وأعرض عنه، ولم يؤمن به، فتوعده الله - سبحانه وتعالى - بالعذاب الأليم في النار يوم القيامة.

إن القرآن الكريم قد أعلن ذمه لقريش صراحة، بل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم ذلك: )قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2)( (الكافرون), بلا مداهنة، ولا ترقيع، ولا أنصاف حلول، فأين ما كان يخفيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي خوفا من إثارة كفار قريش؟ ثم لماذا آذاه قومه حتى أدموا عقبيه، وحاولوا قتله، وألجئوه إلى الهجرة بعيدا عن موطنه الذي يحبه؟!

ما زعمه هؤلاء إذن من أنه - صلى الله عليه وسلم - قد كتم بعض ما يوحى إليه خوفا من قومه ومجاملة لهم - لا أساس له من الصحة، ولا يوجد ما يشهد له من سيرته صلى الله عليه وسلم.

ثالثا. نفي كتمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الوحي؛ مداراة منه لليهود والنصارى:

حفل القرآن الكريم بآيات كثيرة تذم اليهود وعقيدتهم المحرفة التي تصف المولى - سبحانه وتعالى - بصفات لا تليق ببشر فضلا عن الله عز وجل: )وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء( (المائدة: 64).

ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من لعن هؤلاء اليهود، بل إنهم لعنوا على لسان أنبيائهم، قال سبحانه وتعالى: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78)( (المائدة).

على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في حاجة إلى التقرب من اليهود، فما كانوا حكاما ولا أصحاب نفوذ، وإنما كانوا - ولا يزالون - أصحاب دسائس ونفاق، وقد دأبوا على التفاخر بادعاء العلم والمعرفة، حتى كره العرب الأميون اليهود وعلمهم.

)وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42)( (فاطر)، فكان محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول الذي أقسموا بالله على الإيمان به، ولكنهم نقضوا أيمانهم.

روى ابن إسحاق عن صفية بنت حيي - رضي الله عنها - قالت: "لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، ولم ألقهما في ولد لهما ولم أهش إليهما إلا أخذاني دونه. فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء - قرية عمرو بن عوف - غدا إليه أبي وعمي - أبو ياسر بن أخطب - مغلسين[18]، فوالله، ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله، ما نظر إلي واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله!! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله!! قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته ما بقيت" [19].

فهؤلاء هم اليهود يقسمون إذا جاءهم نبي ليؤمنن به، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أنه من العرب - وليس منهم - اتحدوا على معاداته.

والمتأمل يجد القرآن الكريم كثيرا ما يكشف المستور من تاريخ اليهود كعبادتهم العجل وتكذيبهم موسى عليه السلام.. الخ، قال سبحانه وتعالى: )ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)( (البقرة).

إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحاول التقرب من اليهود، فلو كان الأمر كما يصوره هؤلاء لكتم هذه الآية وغيرها من الآيات التي تذم اليهود وأفعالهم، أو على الأقل أخفاها مدة طمعه في استجابتهم، ولكنه مضى على درب داود وعيسى في لعنهم وكشف حقدهم.

إنهم يتوهمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما وجه المسلمين لاستقبال بيت المقدس في الصلاة كان يرغب في التقرب إلى اليهود.

والحق أن توجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس في البداية إنما هو وسيلة أرادها الله ليبرهن بها على بعض صفاته - صلى الله عليه وسلم - فهو وارث لأنبياء بني إسرائيل، وإليه يعود رصيد النبوة السابقة، إن هذا الأمر واضح في المزامير والأناجيل، ولكن اليهود بدلا من الإقرار به ازدادوا عنادا، وأصروا على الكفر به واستكبروا استكبارا، وبهذا علم من يتبع الرسول ممن ينقلب على وجهه، وفي كل الأحوال لم يتقرب الرسول إلى اليهود قتلة الأنبياء.

أما النصارى فلم تكن لهم شوكة - يومئذ - مثل اليهود، حتى يتقرب إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على هذا ما جاء في القرآن الكريم من بيان فساد عقيدتهم في المسيح عليه السلام: قال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد( (المائدة:73)، وقال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا( (المائدة: ١٧).

فأين ما يزعمه هؤلاء من تودد النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود والنصارى، ليكتم بعض آيات القرآن في ذمهم؟!

الخلاصة:

  • إن أمانة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي من الأمور الثابتة بشهادة القرآن الكريم، وسيرته العطرة، وإجماع الأمة، فمن الآيات التي تثبت عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه الوحي قوله سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، والمتأمل في سيرته العطرة يجد الكثير من الدلائل على صدقه وأمانته - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد له بهذا أعداؤه الألداء، كما شهد له أصحابه بالتبليغ وأداء الرسالة. ومن كان هذا حاله مع البشر لا يعقل أن يكذب على الله - عز وجل - وقد قال سبحانه وتعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة).
  • إن ما ذكره هؤلاء - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كتم من الوحي ما يثير الكفار - زعم لا أساس له من الصحة؛ لأن المتأمل في القرآن يجد أنه يحتوي على كثير من الآيات التي تتوعد الكفار بالويل وبالعذاب في الآخرة، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاف في الله لومة لائم.
  • لم يكن اليهود أصحاب وجاهة ولا سلطان، ولم يكن بهم نفع ولا فضل، وكل ما عرف عنهم أنهم أصحاب خيانة وغدر وقتل ودسائس، فلم يكن هناك شيء يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقرب إليهم ويحابيهم على حساب القرآن، بل إن القرآن قد لعنهم وذم أفعالهم من أكل السحت والربا وعبادة العجل. وكذلك النصارى؛ إذ جاء في القرآن ما يخالف معتقدهم في المسيح - عليه السلام - ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخفى شيئا من القرآن فلماذا لم يخف هذه الآيات؟!

 

 

(*) موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، مصر، ط1، 2004م. منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل: دراسة مقارنة، د. عزية علي طه، دار البحوث العلمية للنشر، مصر، 1987م. اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، إدوارد جيبون، ترجمة: محمد سليم سالم، دار الكتب المصرية، القاهرة، د. ت.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة المائدة، باب قوله: ) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( (4336)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله: ) ولقد رآه نزلة أخرى (13) ( (النجم) (457).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فكاك الأسير (2822)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان (249).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (1654)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (4478).

[4]. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، مصر، ط1، 2004م، ج1، ص256.

[5]. سجال: مرة ينتصرون ومرة ينهزمون.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

[7]. النبوة المحمدية: دلائلها وخصائصها، د. محمد سيد أحمد المسير، دار الاعتصام، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ص45: 47.

[8]. يا صباحاه: كلمة كان العرب يقولونها عند حلول أمر عظيم لجمع الناس.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة المسد (4687)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (الشعراء) (529).

[10]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (11/ 333).

11[].أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3433).

[12]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص292: 294 بتصرف.

[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قوله تعالى: ) ولقد رآه نزلة أخرى (13) ( (النجم) (458).

[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (4687).

[15]. من صفات الأنبياء ومكانتها من سيد الأصفياء، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، مصر، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص83: 85 بتصرف.

[16]. انظر: رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص285: 290.

[17]. محمد المثل الكامل، أحمد جاد المولى، دار المحبة، دمشق، 1412هـ/ 1992م، ص69، 70.

[18]. مغلسين: في وقت الغلس، وهو آخر الليل.

[19]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص47، 48 بتصرف يسير.

 

  • الاثنين PM 10:08
    2020-09-21
  • 1899
Powered by: GateGold