ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
ادعاء أن بعض السور القرآنية لا معنى لها لأنها جاءت عقب تدفق خطابي من النبي صلى الله عليه وسلم
ادعاء أن بعض السور القرآنية لا معنى لها لأنها جاءت عقب تدفق خطابي من النبي صلى الله عليه وسلم (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن بعض السور القرآنية جاءت عقب تدفق العبارات من فمه - صلى الله عليه وسلم - كالسيل الجارف، ويقولون: إنه نتيجة لهذا التدفق، تضيق العبارات، حتى تنتهي إلى كلمات مفردة أو مزدوجة لا معنى لها، ويمثلون لذلك بسورة التكاثر؛ إذ إن كلماتها من وجهة نظرهم لا معنى لها. هادفين من وراء ذلك إلى صرف الاهتمام إلى السؤال عن كون النبي مؤلفا جيدا أو لا، وفيه ما يدل صراحة على كون القرآن من تأليفه هو صلى الله عليه وسلم. طاعنين بذلك في مصدر الوحي, منكرين إلهيته.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من فصاحته, وما آتاه الله من جوامع الكلم - لا دخل له في الوحي القرآني, وهذا ما تثبته الأدلة القاطعة.
2) إن الألفاظ التي عبر بها مثيرو هذه الشبهة ألفاظ مبهمة، وليست محددة الدلالة, وما رواه المفسرون في تفسير سورة التكاثر يقطع بإعجازها وإلهية مصدرها، شأنها في ذلك, شأن سائر سور القرآن.
التفصيل:
أولا. على الرغم من فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه ما كان ليتدخل في ألفاظ الوحي القرآني أو تأليفه:
إن فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلاغته - صلى الله عليه وسلم - أمر معترف به عند العرب منذ فجر صباه، وهو يعلم ذلك في نفسه، مثلما يعلمه الآخرون، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بعثت بجوامع الكلم» [1] [2].
ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك على سبيل الفخر والمباهاة، وإنما كان ذلك منه على سبيل الحقيقة والتقرير، فإن فصاحة لسانه ونقاء بيانه أمران مقرران عند الجمهرة فضلا عن الخاصة.
ومن أجل أوصاف فصاحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سطره قلم الجاحظ حين قال - بعد أن وصف شيئا من فصاحته صلى الله عليه وسلم: وأنا ذاكر بعد هذا فنا آخر من كلامه - صلى الله عليه وسلم - وهو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثرت معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف، وكان كما قال سبحانه وتعالى: قل يا محمد: )وما أنا من المتكلفين (86)( (ص). فكيف وقد عاب التشديق[3]، وجانب أصحاب التقعيب[4]، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي[5] 1؟
وعلى غرار ما ذكر يتضح صدق النبوة المحمدية؛ تصديقا لما جاءه من الوحي الصادق المنزل من الله - عز وجل - عن طريق جبريل - عليه السلام - ويتضح ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة والبلاغة.
ثم إن ثمة أدلة كثيرة تقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم - وإن كان أفصح من نطق باللغة العربية - لا دخل له في ألفاظ الوحي القرآني, ومن هذه الأدلة:
- إن أسلوب القرآن يخالف مخالفة تامة أسلوب كلام سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلو رجعنا إلى كتب الأحاديث التي جمعت أقواله - صلى الله عليه وسلم - وقارناها بالقرآن - لرأينا الفرق الواضح والتغاير الظاهر في كل شيء، في أسلوب التعبير، وفي الموضوعات، فحديثه - صلى الله عليه وسلم - تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهيم والتعليم والخطابة في صورها ومعناها المألوف لدى العرب كافة، بخلاف أسلوب القرآن الذي لا يعرف له شبيه في أساليب العرب. ثم لو كان القرآن من كلامه - صلى الله عليه وسلم - لكان من الأولى ألا ينسب - صلى الله عليه وسلم - لنفسه حديثا باسم السنة النبوية إلى جانب القرآن، وأن يجعل كل كلامه قرآنا، فالتمايز بين القرآن والحديث النبوي على درجة من الشدة والوضوح، بحيث لا يـخفى على أحد, وعلى الأخص على فطاحل اللغة العربية.
- إن القرآن في أسلوبه ونمطه، وبيانه وتناسقه، وخصائصه الأخرى - كتاب فريد في نوعه، مميز عن كلام البشر، حيث جاء معجزا، متحدى به، لم يستطع أحد أن يعارضه، أو يقلده، أو يضاهيه، أو يعيبه، أو يأتي بمثله، أو حتى يحرفه.
أما الحديث النبوي - وإن بلغ الذروة في فصاحته وبيانه قياسا بكلام البشر - فقد تناولته ألسنة المعارضة، والتقليد، والتحريف، فهو لم يجئ معجزا، ولم يتحد به؛ ولذا فقد مسته شواهد التحريف، فكان منه الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف.
- إن القرآن الكريم لو كان من تأليفه - صلى الله عليه وسلم - لنسبه لنفسه ولادعى الألوهية، فضلا عن النبوة، فيحيطه بهالة أكثر قدسية، فيكسب مزيدا من ثقة الناس فيه، فتزيد قداسته فيهم، وبالتالي تتقوى زعامته فيهم، ويشتد تسلطه عليهم. والمؤكد تماما - حتى عند أدعياء الكفر - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يدع جاها، ولا زعامة، ولا دنيا، وهو الذي قال للأعرابي، عندما هالته عظمة النبوة: «هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة» [6].
ومن الثابت - أيضا - أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدع كتابا، أو علما من عنده، وما هذه الشبهات إلا من قبيل الكفر، والكفر عناد، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قال فيه ربه: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت).
- إن القرآن الكريم لو كان من تأليفه - صلى الله عليه وسلم - لاستطاع أئمة الفصاحة والبلاغة والبيان من العرب أن يكتشفوا ذلك، فيدحضوا به زعمه - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن يوحى به إليه من عند الله من جهة، ويقلدوه - وهم قد عجزوا عن ذلك - من جهة أخرى.
فالقرآن الكريم أعجزهم في لغتهم - وهم أهل الفصاحة والبيان - وغزاهم في عقر بلاغتهم، وتحداهم، وبأطلق لسان فيهم، وأعرب لغة بينهم، أن يجاروه، ولو بأقصر سورة منه، تتكون من ثلاث آيات، وهي سورة الكوثر، ولكن هل استطاعوا؟ قال سبحانه وتعالى: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس)، وقال سبحانه وتعالى: )فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34)( (الطور).
ولكن هل استطاع هؤلاء العرب - وهم أصحاب الصناعة البيانية والبلاغية الفائقة - أن يجاروا هذا القرآن، أو يعارضوه، أو يقلدوه؟! وهل قبلوا التحدي، وهم أهل النباهة والحس الأدبي والذوق الرفيع؟!
- القرآن الكريم لو كان من تأليفه - صلى الله عليه وسلم - لكان أسرع الناس في الرد على من حاجه في ادعائه، أو افترى عليه، أو اعتدى على حرماته؛ فهذه قصة الإفك التي نالت من شرف زوجته عائشة، ومن كرم نبوته - صلى الله عليه وسلم - فقد تأخر نزول الوحي بتبرئتها حوالي شهر, ذاق فيه هو وزوجته الأمرين، فلو كان القرآن من تأليفه - صلى الله عليه وسلم - فما الذي يمنعه من الرد السريع القاطع لألسنة المتقولين في شرفه؟! ولكن أنى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتقول على الله، أو يتقول على الناس وإن فعل - وحاشا لله أن يفعل - فحكمه إلى الله، مصداق قوله سبحانه وتعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة).
وهذه قصة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، حيث صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته حوالي ستة عشر شهرا، نحو بيت المقدس, ولقد بقي طيلة هذه المدة يقلب وجهه في السماء راجيا من الله تعالى أن يحول القبلة إلى المسجد الحرام بمكة، فاستجاب له، مصداق قوله سبحانه وتعالى: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها( (البقرة: ١٤٤)، فلو كان القرآن من تأليفه فما الذي منعه من تحويلها - أي القبلة - من أول الأمر؟!
وهذه قصة أصحاب الكهف، والذين سئل عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبطأ عليه الوحي حوالي أربعين يوما بقي طيلتها في حرج من اليهود حيث سألوه عنهم، فلو كان القرآن من عنده، فما الذي يمنعه من سرعة الرد عليهم؟!!
- إذا كان القرآن الكريم من تأليفه - صلى الله عليه وسلم - فكيف نفسر عتاب الله له في القرآن، وفي أكثر من موضع؟!! فهذا عتاب الله في قبوله لأعذار المنافقين، وإذنه لهم بالتخلف عن غزوة تبوك، مصداق قوله سبحانه وتعالى: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة)، فمن خلل الرأي، وفساد العزيمة، ونقص الادعاء أن يعتب مدع، أو صاحب فرية على نفسه، وبقوله الذي يدعيه، ولو صحت دعوى نسبة القرآن لنفسه، لما عاتب نفسه، ولما خطأ رأيه؛ لأن هذا من قبيل التناقض الذي يتحاشاه أصحاب الافتراءات، ولكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم - أحوج إلى ادعاء الصحة في أقواله وتصرفاته؛ جذبا للناس حوله، ولاعتناق قرآنه[7].
ثانيا. إن ألفاظ مثيري الشبهة غير محددة, وتفسير سورة التكاثر يثبت إعجازها وإلهية قائلها:
إن الألفاظ التي استخدمها مثيرو هذه الشبهة، وعبروا بها عما يرمون إليه, من طعن في إلهية مصدر الوحي القرآني - هي في مجملها ألفاظ مبهمة, وليست واضحة المعالم, وإلا فما معنى قولهم: "السيل الجارف، السيول الخطابية المتدفقة"؟ وأي معنى يقصدون بقولهم: "تدفق العبارات، الكلمات المفردة والمزدوجة"؟!
هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإنا نتوجه إلى هؤلاء بالسؤال التالي: لـم اخترتم (سورة التكاثر) لتمثلوا بها على ادعائكم دون ما عداها من سور القرآن الكريم, وادعيتم أن كلماتها لا معنى لها؟! وهل ترون أي فارق بينها وبين سائر سور القرآن الكريم؟!
إن ما رواه المفسرون - في تفسيرهم لهذه السورة الكريمة - يقطع بإعجازها, وبإلهية قائلها, وينفي نفيا قاطعا أي أثر لبشر فيها, ولا غرو في هذا؛ وذلك أنها واحدة من سور القرآن, وشأنها في الإعجاز شأن سائر السور.
إن الخطاب في سورة التكاثر لسادة المشركين وأهل الثراء منهم، والبلاغة تقتضي ألا يخرج الكلام عن مقتضى الحال وهذا ما نلمسه في السورة الكريمة؛ فقد اشتملت توبيخا على اللهو عن النظر في دلائل القرآن، ودعوة الإسلام، بإيثار المال، والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف، وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور، كما صار من كان قبلهم، وعلى الوعيد على ذلك. وحثهم على التدبر فيما ينجيهم من الجحيم، وأنهم مبعوثون ومسئولون عن إهمال شكر المنعم العظيم.
والخطاب في السورة الكريمة للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله سبحانه وتعالى: )كلا سوف تعلمون (3) ثم كلا سوف تعلمون (4) كلا لو تعلمون علم اليقين (5)( (التكاثر)، وقوله: )لترون الجحيم (6)( (التكاثر) إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ.
والمراد بالخطاب: سادة قريش وأهل الثراء منهم بدليل قوله: )ثم لتسألن يومئذ عن النعيم (8)( (التكاثر)، ولأن سادة المشركين هم الذين آثروا ما هم فيه من النعمة على الاهتمام بتلقي دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتصدوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإصغاء له، فلم يذكر الملهى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإنصاف بتصديقه، وهذا الإلهاء حصل منهم، وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي. وقوله: )حتى زرتم المقابر (2)( (التكاثر) غاية، فيحتمل أن يكون غاية للفعل: "ألهاكم" أي: دام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمر بكم طول حياتكم، فالغاية مستعملة في الإحاطة بأزمان المغيا[8] لا في انتهائه وحصول ضده؛ لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.
و"الزيارة" هي الحلول بالمكان حلولا غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضا بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها. والتعبير بالفعل الماضي في "زرتم" لتنزيل المستقبل منزلة الماضي؛ لأنه محقق وقوعه، ويحتمل أن يكون الغاية للمتكاثر به الدال عليه التكاثر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها. و "المقابر" جمع مقبرة بفتح الموحدة وبضمها، والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة.
والتوبيخ الذي استعمل فيه الخبر أتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت، وبحروف الزجر والإبطال بقوله سبحانه وتعالى: )كلا سوف تعلمون (3)( (التكاثر)، فأفادت "كلا" زجرا وإبطالا لإنهاء التكاثر. و"سوف" لتحقيق حصول العلم، وحذف مفعول "تعلمون" لظهور أن المراد: تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام.
وأكد الزجر والوعيد بقوله سبحانه وتعالى: )ثم كلا سوف تعلمون (4)( (التكاثر)، فعطف عطفا لفظيا بحرف التراخي أيضا للإشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول، لكن عطفه بحرف "ثم" اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.
فجملة "ثم كلا سوف تعلمون" توكيد لفظي لجملة "كلا سوف تعلمون"، وعن ابن عباس قال: "كلا سوف تعلمون" ما ينزل بكم من عذاب في القبر، "ثم كلا سوف تعلمون" عند البعث أن ما وعدتم به صدق، أي تجعل كل جملة مرادا بها تهديد بشيء خاص. وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكل من فعلي: "تعلمون"، وليس تكرار الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام، ومفاد التكرير حاصل على كل حال.
وفي قوله سبحانه وتعالى: )كلا لو تعلمون علم اليقين (5)( أعيد الزجر ثالث مرة؛ زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم على التكاثر مما هم يتكاثرون فيه، ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد. وحذف مفعول "تعلمون" للوجه الذي تقدم في )ثم كلا سوف تعلمون (4)(، وجواب لو محذوف.
وفي قوله سبحانه وتعالى: )لترون الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7)( استئناف بياني؛ لأن ما سبقه من الزجر، والردع المكرر، ومن الوعيد المؤكد على إجماله يثير في نفس السامع سؤالا عما يترتب من هذا الزجر والوعيد، فكان قوله سبحانه وتعالى: )لترون الجحيم (6)( جوابا عما يجيش في نفس السامع.
والإخبار عن رؤيتهم الجحيم كناية عن الوقوع فيها، فإن الوقوع في الشيء يستلزم رؤيته فيكنى بالرؤية عن الحضور، كقول جعفر بن علبة الحارثي:
ولا يكشف الغماء[9] إلا ابن حرة
يرى غمرات[10] الموت ثم يزورها
وأكد ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )ثم لترونها عين اليقين (7)( قصدا لتحقيق الوعيد بمعناه الكنائي.
وأشار في الكشاف إلى أن هذه الآيات المفتتحة بقوله سبحانه وتعالى: )كلا سوف تعلمون (3)( والمنتهية بقوله سبحانه وتعالى: )لترون الجحيم (6)( اشتملت على وجوه من تقوية الإنذار والزجر، فافتتحت بحرف الردع والتنبيه، وجيء بعده بحرف "ثم" الدال على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول، وكرر حرف الردع والتنبيه، وحذف جواب "لو تعلمون" لما في حذفه من مبالغة التهويل، وأتى بلام القسم لتوكيد الوعيد، وأكد هذا القسم بقسم آخر، فهذه ستة وجوه. ثم إن في قوله سبحانه وتعالى: )ثم لترونها عين اليقين (7)( تأكيدين للرؤية بأنها يقين وأن اليقين حقيقة.
وفي قوله سبحانه وتعالى: )ثم لتسألن يومئذ عن النعيم (8)( أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم - بتهديد وتخويف عن مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا، ولم يشكروا الله عليه بقوله سبحانه وتعالى: )ثم لتسألن يومئذ عن النعيم (8)( أي: النعيم الذي خولتموه في الدنيا، فلم تشكروا الله عليه وكان به بطركم. وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين، هو غير السؤال الذي يسأله كل منعم عليه، فيما صرف فيه النعمة، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافا للتكاثر كان السؤال عنها حقيقا بكل منعم عليه، وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتبة على هذا السؤال[11].
وإنه لمن العجب بمكان أن يمثل بتلك السورة على ضيق العبارات في القرآن الكريم، وهي تعبر بذاتها عن ذاتها، وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها، وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا، وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل: )ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2)(، وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد.
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق، ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد[12]!!
الخلاصة:
- إن الوحي القرآني منزل من قبل المولى - سبحانه وتعالى - بواسطة جبريل - عليه السلام - على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ مخصوصة لم يتعدها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتدخل - صلى الله عليه وسلم - في صياغته على الرغم من فصاحته وبلاغته؛ فالقرآن الكريم كلام الله الذي لا يأتيه الباطل، ولو كان للنبي دخل فيه أو في ألفاظه لظهر ذلك بين طياته، لكن شيئا من ذلك لم يحدث؛ فقد جاء القرآن خاليا مما يدل على شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن الفرق الواضح بين القرآن الكريم، والحديث النبوي ما يدحض ما زعموه.
- لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرغم مما آتاه الله - عز وجل - من جوامع الكلم ليتدخل - من عنده - في الوحي القرآني, وثمة أدلة قاطعة تثبت ذلك، منها اشتمال القرآن على آيات عوتب فيها - صلى الله عليه وسلم - فلو كان القرآن من عنده - صلى الله عليه وسلم - لما وجدنا أي ذكر لآيات العتاب تلك.
- إن الألفاظ التي عبر بها مثيرو هذه الشبهة عنها ألفاظ مبهمة, غير واضحة الدلالة. وإن ما رواه المفسرون في تفسيرهم سورة التكاثر يقطع بإعجازها وإلهية قائلها, شأنها في ذلك شأن سائر سور القرآن الكريم.
- إنه لمن العجب بمكان أن يمثل بهذه السورة (سورة التكاثر) على ضيق العبارات وإبهام المعنى وإفراد الكلمات وازدواجها، وهي قد بلغت من حسن النظم والأداء التعبيري الدقيق، واتساق الحقيقة مع النسق الإيحائي مبلغا عظيما.
(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، مصر، 1415هـ/ 1995م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" (2815)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1196).
[2]. البيان المحمدي، د. مصطفى الشكعة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص55: 57 بتصرف.
[3]. التشديق: تكلف الفصاحة في الحديث.
[4]. التقعيب: التكلم بأقصى الحلق وفتح الفم.
[5]. الغريب الوحشي من الكلام: ما لا يستعمل ولا يعرفه الناس.
[6]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأطعمة، باب القديد (3312)، والطبراني في المعجم الأوسط، باب الألف، من اسمه أحمد (1313)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1876).
[7]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص24: 31 بتصرف.
[8]. المغيا: لها نهاية.
[9]. الغماء: الشديدة من شدائد الدهر.
[10]. غمرات الموت: شدائده ومكارهه.
[11]. التحرير والتنوير, الطاهر ابن عاشور, دار سحنون، تونس، د.ت, مج15, ج30، ص518: 524 بتصرف.
[12]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3963.
-
الاثنين PM 09:59
2020-09-21 - 1834