المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413776
يتصفح الموقع حاليا : 256

البحث

البحث

عرض المادة

توهم أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم ما أحل الله له

                      توهم أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم ما أحل الله له(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم على نفسه ما أحل الله له؛ ترضية لبعض نسائه؛ ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1)( (التحريم)، متوهمين أن هذه الآية اعتراض من الله عليه وإنذار منه - عز وجل - له - صلى الله عليه وسلم -. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في مدى موافقة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لتشريع الله - عز وجل - إيذانا للطعن في كل ما بلغه من تحليل وتحريم؛ والتشكيك في تشريعه - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلا.

وجه إبطال الشبهة:

ليس في الآية التي استدلوا بها دليل يعضد ما زعموه من الطعن في تشريعه - صلى الله عليه وسلم -، ولا اعتراض الله عليه ولا إنذاره له، إنما هي من باب "المشاكلة" لما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه ترضية لهن، وليست اتهاما له بما توهموه من أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم ما أحل الله له.

التفصيل:

الآية المستدل بها ليس بها أي اتهام للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ما أحله الله:

إن قول الله عز وجل: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1)( (التحريم)؛ إنما هو من باب "المشاكلة" لما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه؛ ترضية لهن، وليس اتهاما له - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ما أحل الله، فهذه الآية وآيات بعدها تشير إلى أمر حدث في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أجله عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعاما لا يوجد في بيوتهن، فأسر إلى إحداهن بالأمر، فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرم - صلى الله عليه وسلم - تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن[1].

ولقد وردت روايات في صحيحي البخاري ومسلم تنص على أن ما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفسه هو العسل، كذلك وردت روايات أخرى تفيد أن ما حرمه الرسول على نفسه هو وطء جاريته مارية، وفيما يأتي نفصل القول في كلتا الروايتين؛ حتى يتضح لهؤلاء خطأ ما توهموه.

  1. حديث العسل:

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فواطيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير![2] فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» [3].

وهناك روايتان: إحداهما - كهذه - تفيد أن التي سقت الرسول العسل هي زينب بنت جحش، وأن المتظاهرتين عليه هما عائشة وحفصة، والثانية تفيد أن التي سقته العسل هي حفصة، وأن المتظاهرات عليه من نسائه سودة وعائشة وصفية.

فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة[4] من عسل، فسقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة، وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح؟ (وكان رسول الله يشتد عليه أن يوجد منه الريح)، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست[5] نحله العرفط، وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية، فلما دخل على سودة قالت: تقول سودة: والذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب فرقا منك، فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال: "لا"، قالت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل"، قالت: جرست نحله العرفط، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك، ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة: سبحان الله! لقد حرمناه. قالت: قلت لها: اسكتي» [6].

والحديث الأول الذي فيه أن المتظاهرتين عائشة وحفصة أرجح؛ لأنه يتوافق مع لفظ الآية )وإن تظاهرا عليه( (التحريم: ٤) فإنه بالتثنية، كما يتفق مع ما جاء عن ابن عباس أنه سأل عمر - رضي الله عنهم - عن المرأتين اللتين نزلت فيهما الآية: )إن تتوبا إلى الله( (التحريم:٤)، فقال: هما عائشة وحفصة[7] [8].

  1. حديث مارية:

عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1) ( (التحريم) [9].

مما سبق يتضح أن لدينا قولين فيما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه: الأول: العسل. والثاني: مارية. والقول الأول إن كان أقوى من جهة رواية الشيخين له، وترجيحه من قبل بعض الأئمة، إلا أن القول الثاني أكثر موافقة لألفاظ الآيات، ومال إلى ترجيحه ابن الجوزي في تفسيره، وأسنده إلى بعض أئمة السلف والأكثرين من المفسرين.

والذي يهمنا هنا هو أن التحريم منه - صلى الله عليه وسلم - كان امتناعا عن العسل أو مارية، وهو امتناع أكده باليمين مع اعتقاد حله، ولذا نزلت الآيات، وفيها الحث على التحلل من يمينه والتكفير عنه، قال عز وجل: )قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم( (التحريم: ٢)، وهذا المقدار مباح، والمباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح في عصمتهم.

وإنما قيل له صلى الله عليه وسلم: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك( (التحريم: ١)؛ رفقا به، وشفقة عليه، وتنويها لقدره بحيث لا يجب له أن يضيق على نفسه في سبيل إرضاء أي شخص، فيكون معنى الآية على هذا، وقد صدرت بندائه بوصف النبوة تشريفا لمكانه، وتعظيما لمقامه: يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها من الاستمتاع بما أحله الله لك، مما لك فيه رغبة ومتعة وسرور، تبتغي مرضاة أزواجك؟ وهن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن!

وقوله سبحانه وتعالى: )تبتغي مرضات أزواجك( هو - في الحقيقة - محط العتاب، وليس مجرد منعه - صلى الله عليه وسلم - نفسه من المتعة بالمباح محلا للعتاب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما منع نفسه من بعض المباحات التي ينعم بها الناس، ولا سيما في مجال المتعة الجسدية؛ زهدا في الدنيا وبعدا عنها، ولم يحظر عليه ذلك، ولم يعاتبه الله - عز وجل - على شيء من ذلك كله.

إذن في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1) ( (التحريم) منة وتعظيم من الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - برفع الحرج عنه في الامتناع عن شيء ليرضي أزواجه؛ إذ هن وسائر المؤمنين أحق أن يسعوا في مرضاته ليسعدن ويسعدوا، قال عز وجل: )فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130) ( (طه) [10].

يقول الأستاذ سيد قطب: "فهذا عتاب مؤثر موح، فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي، إنما كان قد قرر حرمان نفسه، فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا، لا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد، والتعقيب )والله غفور رحيم ( يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته وهو إيحاء لطيف.

 أما اليمين التي يوحي النص بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حلفها؛ فقد فرض الله تحلتها، أي كفارتها التي يحل منها، ما دامت في غير معروف، والعدول عنها أولى )والله مولاكم(، فهو يعينكم على ضعفكم، وعلى ما يشق عليكم، ومن ثم فرض تحلة الأيمان للخروج من العنت والمشقة)وهو العليم الحكيم (2) ( يشرع لكم عن علم وعن حكمة، ويأمركم بما يناسب طاقتكم، وما يصلح لكم، فلا تحرموا إلا ما حرم، ولا تحلوا غير ما أحل. وهو تعقيب يناسب ما قبله من توجيه" [11].

الخلاصة:

  • إن في آية التحريم منة وتكريما وتعظيما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشفقة عليه، ورفقا به، بحيث لا يجب عليه أن يمتنع عن شيء مباح له من أجل مرضاة أزواجه؛ إذ هن وسائر الأمة كافة أحق أن يسعوا في مرضاته ليسعدوا جميعا في الدنيا والآخرة؟!
  • إذا افترضنا أن في الآية إنكارا عليه، ودليلا على أنه صدر منه ذنب - عصمه الله من ذلك - فقوله - عز وجل - في ختام الآية: )والله غفور رحيم (1) ( (التحريم: 1)، يدل على حصول الغفران، وبعد حصول الغفران يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه! بمعنى: أنه يمتنع أن يقال: إن قوله: )لم تحرم ما أحل الله لك( (التحريم: ١) دليل على كون الرسول مذنبا! وإذا صح أن في الآية عتابا، فهو وارد بأحسن ما يكون العتاب من تعظيم المولى - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إذ ناداه وخاطبه في هذا المقام بوصف النبوة في أكثر من موطن في القصة، يقول - عز وجل - في أولها: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك( (التحريم: ١).
  • والآية من باب العتاب له من ربه - عز وجل - الذي يعلم أنه يستحيل عليه أن يحرم شيئا أو أمرا أو عملا - بمعنى التحريم الشرعي - أحله الله، ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته.

 

 

 

(*) عصمة الأنبياء عن الزلات والأخطاء, أبو بكر أحمد الباقوري، جامعة مركز الثقافة السنية بالهند، ط2، د. ت. موقع المتنصرين. www.mutenasserin.net

[1]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427/ 2006م، ص379.

[2]. المغافير: جمع مغفور، وهو صمغ حلو، له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له "العرفط" يكون بالحجاز.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الطلاق (4628)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (3751)، واللفظ للبخاري.

[4]. العكة: وعاء مستدير من الجلد يحفظ فيه السمن والعسل.

[5]. جرست: أكلت.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب قوله تعالى: ) يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك (  (التحريم: ١) (4967)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (3752)، واللفظ له.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها (4895)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن (3768)، واللفظ للبخاري.

[8]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم, د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1319هـ/ 1979م، ص467: 469 بتصرف.

[9]. إسناده صحيح: أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب عشرة النساء، باب الغيرة (3959)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة التحريم (3824)، وصحح إسناده الألباني في صحيح وضعيف النسائي (3959).

[10]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة, د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ص194: 198 بتصرف.

[11]. في ظلال القرآن, سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج6, ص3615.

 

  • السبت PM 09:55
    2020-09-19
  • 1679
Powered by: GateGold