ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ

شٌبهات وردود

المكتبة المرئية

خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ

المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين

البحث
عرض المادة
جواز احتكام أهل الكتاب إلى حكامهم فيما يخص نزاعاتهم
د\احمد نصير
جواز احتكام أهل الكتاب إلى حكامهم فيما يخص نزاعاتهم
قال تعالى (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (43)
محل الاستنكار - هنا - هو الاحتكام إليه فيما يتعلق بنزاعاتهم الخاصة -التي سمحت الشريعة الإسلامية لهم بالاحتكام فيما بينهم بما يتفقون عليه من قواعد - بما ليس فيه مساس بالصالح العام أو النظام العام .
فالغاية من مرفق القضاء هو إقامة العدل بين الناس ، والله تعالى هو أعدل الحاكمين ، فلا عدل إلا في شرع الله ، والعدل مرعي في كل شريعة وكل ملة ، وقد استقر علماء الفقه على قاعدة أصولية بأن شرع ما قبلنا هو شرع لنا ما لم يأتي دليل بنسخه ، ومن ثم فإن نظر أهل الكتاب لما في التوراة والإنجيل من قواعد تحقق العدالة بين الناس ، لا يصادم شرع الله ودين الإسلام في شيء ، لأن الذي وضع هذه القواعد والأحكام هو الله سبحانه ، وإن جاز القول باختلاف الأحكام التفصيلية لشريعة الإسلام عن الشريعة الموسوية أو العيسوية ، فإن مقاصد جميع الشرائع واحدة ، فإذا تحققت الغاية أي (العدالة) فثم شرع الله .
وعليه فإن احتكام أهل الكتاب لقواعد العدالة والمنطق فيما بينهم وبين أنفسهم استنادًا إلى شريعتهم بخصوص نزاعاتهم الخاصة لا يتعارض مع مبادئ الإسلام طالما أن هذه القواعد تتسق مع ما أقره الإسلام وقرره علماء الشريعة ، أي طالما أنها لا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي أقرتها على المسلمين وغير المسلمين ، فلا غرو أن يحتكموا لشريعتهم وأهل ملتهم، أي مالم يكن أحد أطراف المسألة المعروضة مسلما من رعايا الدولة المسلمة ، فعندئذ تطبق عليهم أحكام الشريعة الإسلامية لاختلاف ملة المتحاكمين أو المتنازعين .
أما إذا خرجت المنازعة عن هذا الإطار بحيث أصبحت تمس النظام العام أو تهدد البشرية جمعاء ، هنا وجب اتخاذ معيار آخر لبسط الرقابة القضائية للدولة المسلمة على مثل هذه النزاعات ، وهو ما يسميه علماء القانون المعاصر بمساسها بـ "النظام العام" ، ولذلك قال ابن عاشور (فإن كان ما حدث من قبيل الظلم كالقتل والغصب وكل ما ينتشر منه فساد فلا خلاف أنه يجب الحكم بينهم ") ، كما لو استطال العدوان فيه بحيث أضحى يمثل جريمة ضد الإنسانية ، فهذا المعيار وحده كاف لبسط رقابة القاضي المسلم علي هذه المنازعة طالما أن الاتفاقات الدولية أقرت بوجوب محاكمة مرتكبي هذه الجرائم عليها متى تمكنت الدولة الموقعة على هذه الاتفاقية من ذلك ، مثل محاكمة مجري الحرب .
لكن القول بجواز التخيير قد يفضي إلى حدوث حالة من التنازع الإيجابي للاختصاص القضائي بشأن المنازعات الحاكمة لأهل الكتاب ، وذلك عندما تكون المسألة خاصة بأحوالهم وحسب ، فعندئذ لهم أن يحتكموا إلى القاضي المسلم ابتداء ليحكم بينهم بالقسط ووفق المبادئ التي لا تصطدم بالشريعة الإسلامية ، وإن كان مصدرها في ذات الوقت من كتبهم وشريعتهم ، وإما أن يلجئوا إلى حكامهم وقضاتهم فيحكمون بينهم وفقا لأصول شريعتهم التي لا تخرج عن "النظام العام"، ويخضع حكمهم للنقض للتأكد من عدم معارضته للنظام العام للدولة المسلمة .
لكن أن يلجأ هؤلاء إلى القاضي المسلم -ابتداءً - طمعا في أن يصدر حكما يوافق هواهم فإذا لم يوافق هواهم انصرفوا عنه إلى قضاتهم ليحكموا لهم بما يشاؤون، كما في قوله تعالى (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور:49,48] فهذا ما لا يرضاه أحد ولا يتسق مع منطق العقلاء ، ولذلك نزلت الآيات لتبين ضوابط احتكام أهل الكتاب لأهل ملتهم وشريعتهم في شئونهم الخاصة أو للحكام المسلمين منعا للتلاعب بالأحكام وقواعد الإسناد .
قال تعالى (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) (43) قال ابن عاشور (أي من العجيب أنهم يتركون كتابهم ويحكمونك وهم غير مؤمنين بك ثم يتولون بعد حكمك إذا لم يرضهم) [1]، وهذا الأمر نجد شبيهه في الدولة الحديث ، وذلك حينما يوقع الحاكم المسلم علي اتفاقية دولية تقضي بامتناع "المحاكم الوطنية" عن نظر أي نزاع يقوم بين "رعايا دول أجنبية" ، ففي هذا الفرض تنحسر ولايته عن نظر مثل هذه المنازعة بموجب هذا الاتفاق الذي أبرمه ، ولا يكون له الخيار حينئذ في بسط ولايته أم لا حتى لو اتفق الخصوم على غير ذلك ، ففي مثل هذا الفرض ليس له إلا أن يقضي بعدم اختصاصه وإحالة النزاع لحكامهم متى كانت "الاتفاقية الدولية" تقضي بذلك ، هذا إذا كان قد اطمأن بأن حكامهم سوف يقضون لهم بإنصاف ووفقا لقواعد العدالة والمساواة التي هي أصل من أصول الشريعة الإسلامية ، وهو أمر مسلم به طالما كان ثمة اتفاق سابق على المنازعة القضائية ، بمعنى أنه إذا لم تكن عنده ذلك الاطمئنان فعلام وقع هذه الاتفاقية مسبقا ، وعليه تلتزم المحاكم الوطنية بعدم نظر مثل هذه المنازعة .
وهذا الأمر ليس من مفترضات المسألة حينما تحاكم اليهود إلى النبي r فيمن زنيا ، باعتبار أن الرسول r هو الحاكم العام للاتحاد الكونفدرالي في المدينة -كما ذكرنا- فكان لجوئهم إليه مشروطا بأن ينزلوا على حكمه ، ولكنهم تملصموا بعد ذلك إذ لم يرتضوا حكمه ، فأنفذه عليهم بمقتضى التحكيم السابق الذي ارتضوه .
قوله (وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ) قال صاحب أحكام القرآن (يدل على أن حكم التوارة فيما اختصوا فيه لم يكن منسوخاً ، وأنه صار بمبعث رسول الله r شريعة ، ما لم ينسخ، لأنه لو نسخ لم يقل بعد النسخ إنه حكم الله)[2] ، وفي ذلك دلالة كذلك على أنه "الأصل" أي أن الأصل أن يحتكموا إلى التوراة التي يؤمنون بأن فيها حكم الله ، ولم يطله النسخ أو التحريف، لكن يعدل عن هذا الأصل إذا ما ثت تحريف حكم الله الذي يعنون بتطبيقه ، لأنه ليس من التوراة التي أمروا أن يقييموا أحكامها إذا ما ثبت تحرييفهم له .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا " آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا" الْآيَةَ)[3] ، قال ابن بطال (لثبوت كتمانهم لبعض الكتاب وتحريفهم له)[4]، فالأمر بعدم تكذيبهم جاء هنا على وجه العموم ، أي بإجمال ما عندهم من الكتاب ، لكن إذا ما ثبت في مسألة معينة تحريفهم لحكم الله وجب عندئذ إنكار ذلك عليهم .
فحيث تسمح اليهودية بالزواج من ابنة الأخ أو ابنة الأخت، فلا يسمح الإسلام بذلك ويعدها من المحرمات ، وحيث إن (التبني: (حسب الكنيسة الكاثوليكية سبب من أسباب المحرمات في النكاح ، فإن الإسلام قد أبطله ، وغير ذلك من المسائل ذات صلة بالنظام العام .
قوله (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) قال ابن جزي يعني : (أنهم لا يؤمنون بالتوراة وبموسى عليه السلام ، .. فمن خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإيمان به باطلة)[5] ، فإذا كان ذلك هو حالهم فاعلم أنهم لا دين لهم ، ولا قاعدة تحكمهم ، فحالهم أشبه بالمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، كذلك فإنهم في دعواهم التحكيمية لا يقبلون إلا ما يوافق هواهم ، فإن لم يوافقه كانوا من المعرضين .
فإذا كان هذا هو حال أهل الكتاب عندما يحتكمون لكتاب الله ، وكذا المنافقون ، أفلا يليق بالمسلمين أن يخالفوهم ، فلا يستعيروا من قوانينهم أحكام يطبقونها هم على أنفسهم في ديار الإسلام ، وقد بانت أمارات موافقتهم أهواءهم ومخالفتهم ما عدا ذلك ، بل إن في ذلك احتراز أن ينزلق المسلمون في هذا المنزلق الخطير ، فيظنوا أنه متى كان في التوراة حكم الله فإنه يجوز الاحتكام إليها وترك ما في كتاب الله تعالى ، وهو ما يروج له بعض المنادون بتطبيق الديانة الإبراهيمية جمعا بين الأديان السماوية .
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ r أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ ، وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ) [6]، قال ابن حجر (أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه أو كذبا فتصدقوه فتقعوا في الحرج ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه ، نبه على ذلك الشافعي رحمه الله)[7]
[1] ) التحرير والتنوير ج5 ص 112
[2] ) أحكام القرآن للكيا الهراسي ج2 ص 199
[3] ) رواه البخاري ج13 ص 410 رقم 4125
[4] ) شرح صحيح البخاري ج10 ص 539
[5] ) التسهيل لعلوم التنزيل ج1 ص 352
[6] ) رواه البخاري ج9 ص 183 رقم 2488
[7] ) فتح الباري لابن حجر ج8 ص 170
-
الاربعاء PM 04:47
2025-12-03 - 30



