المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409160
يتصفح الموقع حاليا : 359

البحث

البحث

عرض المادة

هل القولُ بعصمةِ النَّبِيِّ ﷺ من الصغائر فيه غلوّ

أ. عبد المجيد فاضل

لقد زعم بعضُ النّاسِ أن القولَ بعصمةِ النَّبِيِّ ﷺ من الصغائر فيه غلوّ، وبالغَ آخرون وزعموا أنّ هذا القولَ يفضي بالناس إلى رفعه إلى مرتبة الألوهية.

والغريب في الأمر أنّ الشيخَ الألباني كان يميل إلى هذا القول، فلقد ثبت عنه أنه قال: "نحن نعتقد أن العصمة المقطوع بها للأنبياء أو الرسل إنما هي:

أولاً: العصمة في تبليغ الدعوة.

وثانياً: العصمة عن الوقوع في الذنوب الكبائر وهم يَعْلَمونها.

أما أن يقعوا في صغيرة من الصغائر التي لا يترتب من ورائها إلا انتفاء الكمال المطلق؛ فهذا لا بأس أن يقع شيء من ذلك من الأنبياء والرسل، وذلك ليبقى مستقراً في قلوب المؤمنين أن الكمال المطلق لله رب العالمين وحده لا شريك له". [دروس للشيخ الألباني، ج7 ص8].

وهذا غريب؛ لأن الألباني أتى بدليل عقلي، ليس عليه دليل من الكتاب أو السُّنَّةِ، وهو مخالف لمنهجه في الاستدلال الذي لا يعتمد فيه إلاَّ على القرآن وما صحَّ عنده من الأحاديث!

ويُجابُ عن هذا الكلام بما يأتي:

1- أين الدليلُ من القرآن أو السُّنَّةِ على أن القول بعصمة النَّبِيِّ ﷺ من الذنوب الصغائر فيه غلُوٌّ، أو أنَّهُ يرفعه إلى مرتبة الألوهية؟

2- قال اللهُ عن ملائكتِه: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: جزء من الآية 6].

وقال تعالى: {وَقَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰاۗ سُبۡحَـٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادࣱ مُّكۡرَمُونَ. لَا یَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ یَعۡمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27].

قال ابن كثير (774 هـ) في تفسيره: "﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ، وَلَا يُخَالِفُونَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عِلْمه مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾".

إنّ الملائكةَ (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ)، ولم يقل أحد إن الاعتقاد بعصمة الملائكة يفضي بالناس إلى تعظيمهم وعبادتهم مع الله تعالى.

3- إن القرآن قد بيّن لنا أنّ النَّبِيَّ ﷺ بشرٌ مثلنا، فقالَ تَعالى: {قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادࣰا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدࣰا. قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱۖ فَمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا} [الكهف: 109-110].

قال الإمامُ فخر الدين الرازي (606 هـ) في تفسيره: "واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَمالَ كَلامِ اللَّهِ أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِأنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ التَّواضُعِ فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ﴾ أيْ لا امْتِيازَ بَيْنِي وبَيْنَكم في شَيْءٍ مِنَ الصِّفاتِ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلَيَّ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الواحِدُ الأحَدُ الصَّمَدُ".

وقال تعالى: {قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعࣰا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرࣱ وَبَشِیرࣱ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ} [الأعراف: 188].

قال الإمامُ النسفي (710 هـ) في تفسيره (مدارك التنزيل): "﴿قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلا ما شاءَ اللهُ﴾ هو إظْهارٌ لِلْعُبُودِيَّةِ، وبَراءَةٌ عَمّا يَخْتَصُّ بِالرُبُوبِيَّةِ مِن عِلْمِ الغَيْبِ، أيْ: أنا عَبْدٌ ضَعِيفٌ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي اجْتِلابَ نَفْعٍ، ولا دَفْعَ ضَرَرٍ كالمَمالِيكِ إلّا ما شاءَ مالِكِي مِنَ النَفْعِ لِي، والدَفْعِ عَنِّي".

إنّ الأنبياء بَشَرٌ بِنصِّ القرآن الكريم، فلا خوفَ إذن على المؤمن أن يعتقد بعصمةِ الأنبياء من جميع الصغائر، وليس من اللازم أنْ نقولَ بوقوعِهم في الصغائر غير المُخِلة، حتى لا نقعَ في الغُلُوِّ فيهم.

4- إن القرآن الكريم لَمّا أراد أن يُثبت بشرية عيسى عليه السلام، لم يذكر أنه كان يقع في صغائر الذنوب، بل ذكر أنه كان يأكل الطعام هو وأمُّه، كما قال تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].

قال ابن جُزَيّ (741 هـ) في تفسيره «التسهيل لعلوم التنزيل»: "﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ﴾ استدلال على أنهما ليسا بإلهين؛ لاحتياجهما إلى الغذاء الذي لا يحتاج إليه إلا مُحْدَث مفتقر، ومن كان كذلك فليس بإله؛ لأن الإله منزه عن صفة الحدوث، وعن كل ما يلحق بالبشر".

وقال محمد الأمين الشنقيطي (1394 هـ) في تفسيره (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن): "قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ عِيسى وأُمَّهُ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ، وذَكَرَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ كانُوا كَذَلِكَ:

  • كَقَوْلِهِ: ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ [الفرقان: 20]،
  • وقَوْلِهِ: ﴿وَما جَعَلْناهم جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ [الأنبياء: 8]،
  • وقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ [الفرقان: 7]".

5- لقد وردت بعضُ النصُوص من الكتاب والسُّنَّة التي تدلُّ على إمكانية عصمة الأنبياء من جميع الذنوب والخطايا، جاء في موقع (الإسلام سؤال وجواب)/ الإجابة عن السؤال رقم 146658 ما يأتي: «أما عصمة يحيى عليه السلام من الذنوب وكونه لم يرتكب معصية، فقد ورد في السنة ما يدل على ذلك، وفي القرآن ما يشهد له.

قال الله تعالى عن عبده ونبيه زكريا عليه السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران/ 39].

فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى (حَصُورًا) هو الذي لا يأتي النساء، وذهب آخرون إلى أنه المعصوم من الذنوب.

قال السعدي رحمه الله: "هذا المبشر به وهو يحيى، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم: و (الحصور)، قيل: هو الذي لا يولد له، ولا شهوة له في النساء، وقيل: هو الذي عُصِم وحُفِظ من الذنوب والشهوات الضارة، وهذا أليق المعنيين". انتهى .

وقال القاضي عياض رحمه الله: "معناه: أنه معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها، كأنه حُصر عنها، وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء". انتهى من «الشفا» (1/88).

وقد أثنى الله تعالى على يحيى عليه السلام ثناءً حسنا فقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم / 12 – 15].

فقوله: ( وزكاةً ) قال ابن جرير رحمه الله: "هو الطهارة من الذنوب، واستعمال بدنه في طاعة الله .... ثم نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال: "طهر فلم يعمل بذنب". انتهى من «تفسير الطبري» (18/159).

وروى الإمام أحمد (2294) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: "ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو همّ بخطيئة؛ ليس يحيى بن زكريا". وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند، والألباني في «الصحيحة» (2984)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: "رواه البزار ورجاله ثقات"، وانظر: «التلخيص الحبير» (4/481).

قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لا نعلم أحداً أعطي طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية إلا يحيى بن زكريا". انتهى من «مختصر تاريخ دمشق» (8 / 195). وينظر: «سبل السلام» (4 / 180) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما من بني آدم إلا من أخطأ، أو هم بخطيئة، إلا يحيى بن زكريا". انتهى من «مجموع الفتاوى» (14/461).

وأما عيسى عليه السلام، ففي حديث الشفاعة الطويل، حينما يعتذر كل نبي عن الشفاعة عند ربه، إجلالا له في هذا المقام، وهيبة من نفسه أن يكون أهلا لذلك المقام: (فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ...) [رواه البخاري(4712) ومسلم (194)].

فهذا يحتمل أنه لم يذكر ذنبا، لأنه لا ذنب له، كما هو الظاهر.

ويحتمل أنه لم يذكره في هذا المقام، لأن الله تعالى أخبره بمغفرته لذنبه في الدنيا». انتهى ما جاء في موقع (الإسلام سؤال وجواب)، وانظر: https://islamqa.info/ar/answers/146658

تعقيب وتنبيه: قولهم عن عيسى – عليه السلام – يوم الموقف: "ويحتمل أنه لم يذكره (أي: لم يذكر ذنباً ارتكبه في الدنيا) في هذا المقام، لأن الله تعالى أخبره بمغفرته لذنبه في الدنيا"؛ فيه نظر؛ لأن الله تعالى قد أخبر آدم وموسى بمغفرته لذنبهما في الدنيا، ومع ذلك فإنهما ذكرا ذنبَهما في ذلك المقام!

والسؤال الذي يجبُ أنْ يُطرَحَ هو: لماذا لمْ يذكر النَّبِيُّ ﷺ أيَّ ذنبٍ في ذلك المقام؟

فإذا قبلنا أنّ عيسى لم يذكر أي ذنب في ذلك المقام لاحتمال أنَّهُ لا ذنب له، كما هو الظاهر؛ فعلينا أنْ نقبلَ أيضاً أنّ النَّبِيَّ ﷺ لم يذكر أي ذنب في ذلك المقام لاحتمال أنَّهُ كان معصوماً من جميع الذنوبِ كبيرِها وصغيرِها.

  • الخميس PM 03:28
    2022-10-20
  • 812
Powered by: GateGold