المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413780
يتصفح الموقع حاليا : 247

البحث

البحث

عرض المادة

وقفات مع الشيخ ابن تيمية حول عصمة الأنبياء من الصغائر

أ. عبد المجيد فاضل

أوَّلًا- من هم القائلون بعصمة الأنبياء من الصغائر؟

يتبين لنا من البحث السابق أنّ هناك اختلافاً بين العلماءِ حول مسألة عصمة الأنبياء من الصغائر غَيْرِ المُخِلّةِ، وأن القولَ بعصمتهم عنها قال به كثيرٌ من الأئمةَ الكبار وعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الموثوقين، منهم: الإمامُ أبو حَنِيفة، والإمامُ ابنُ حَزْم الظاهري، والقاضي عياض، وابن عطية، والإمامُ فخر الدين الرازي، والإمامُ النووي، ونسب شمسُ الدين هذا القولَ إلى جمهورٍ من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي؛ ونقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني قوله: "واختلفوا في الصغائر، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم، ومال بعضهم إلى تجويزها ولا أصل لهذه المقالة".

ويرى الإمامُ الشاطبي أن الصحيح هو إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ أَيْضًا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ – أَيْضًا – عَدَمَ الْوُقُوعِ – كما ذكر ذلك الإمامُ الشوكانيُّ –، ويرى الإمام محمد الطاهر ابن عاشور أن الْأَنْبِيَاء معصومون مِنَ الصَّغَائِرِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِن أهل السُّنَّةِ وَهُوَ الْمُخْتَار عنده. وفي هذا ردٌّ على من زعم أن مذهب الجمهور هو جواز وقوع الصغائر  من الأنبياء.

ثانياً- هل الأئمة والعلماء القائلون بالعصمة من الصغائر كلِّها انحرفوا في فهم النصوص؟ وهل يجوز أن نُبدِّعهم؟

لقد اتّهم الشيخُ ابن تيمية جميع العلماء والأئمة، الذين أوجبوا عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصَّغَائِرِ بتحريف كلام الله، جاء ذلك في آخر هذا النصِّ المنسوب إليه، الذي قال فيه: "الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ كَانَ مِنْ أَبِي الْجِنِّ وَأَبِي الْإِنْسِ أَبَوَيْ الثَّقَلَيْنِ الْمَأْمُورَيْنِ، وَكَانَ ذَنْبُ أَبِي الْجِنِّ أَكْبَرَ وَأَسْبَقَ وَهُوَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ السُّجُودُ إبَاءً وَاسْتِكْبَارًا؛ وَذَنْبُ أَبِي الْإِنْسِ كَانَ ذَنْبًا صَغِيرًا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}، وَهُوَ إنَّمَا فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْ الشَّجَرَةِ؛ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبِ؛ وَأَنَّ آدَمَ تَأَوَّلَ حَيْثُ نُهِيَ عَنْ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّخْصُ فَأَخْطَأَ؛ أَوْ نَسِيَ وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي لَيْسَا مُذْنِبَيْنِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكَلَامِ وَالشِّيعَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُوجِبُ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصَّغَائِرِ، وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ شَيْءٍ وَوَقَعُوا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ". [مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، ج20 ص88-89].

تعقيب:

أ) قال الشيخُ ابنُ تيمية في (التسعينية): "فأهل الحق، هم أهل الكتاب والسنة، وأهل الكتاب والسنة – على الإطلاق – هم المؤمنون، فليس الحق لازمًا لشخص بعينه، دائرًا معه حيثما دار لا يفارقه قط، إلّا الرسول ﷺ إذْ لا معصوم من الإقرار على الباطل غيره، وهو حجة الله التي أقامها على عباده، وأوجب اتباعه وطاعته في كل شيء على كل أحد.

وليس الحق – أيضًا – لازمًا لطائفة دون غيرها إلّا للمؤمنين، فإن الحق يلزمهم، إذ لا يجتمعون على ضلالة، وما سوى ذلك فقد يكون الحق فيه مع الشخص أو الطائفة في أمر دون أمر، وقد يكون المختلفان كلاهما على باطل، وقد يكون الحق مع كل منهما من وجه دون وجه، فليس لأحد أن يسمي طائفة منسوبة إلى أتباع شخص  – كائنًا من كان – غير رسول الله ﷺ بأنهم أهل الحق، إذ ذلك يقتضي أن كل ما هم عليه فهو حق، وكل من خالفهم في شيء من سائر المؤمنين فهو مبطل، وذلك لا يكون إلّا إذا كان متبوعُهم كذلك، وهذا معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام، ولو جاز ذلك لكان إجماع هؤلاء حجة، إذا ثبت أنهم هم أهل الحق". [التسعينية، تقي الدين ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد بن إبراهيم العجلان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م، ج3 ص904].

نستفيد من كلام ابن تيمية أن الحق ليس لازمًا لشخص بعينه، دائرًا معه حيثما دار لا يفارقه قط؛ وهذا الكلام يفتح لنا الباب لكي نضعَ أقوالَ ابنِ تيميةَ نفسِه تحت المِجهر.

فإذا كان من حقه – وهو يُعتبَرُ مِن أهل الاجتهاد والنظر – أن يرفضَ تأويلَ بعض النصوص التي ظاهرُها وقوعُ الصغائر من الأنبياء، فمِن حق كلِّ مَن كان من أهل الاجتهاد والنظر – أيضاً – أنْ يُؤوِّلَ هذه النصوص التي رأى أنها قابلةٌ لِحمْلِها على غير ظاهرِها، ورأى أنّ هذا أولى؛ لأن فيه تبرِئةً للأنبياء من الوقوع في الصغائر ولو كانت غيرَ مُخِلّة؛ ولأن في ذلكَ – أيضاً – تعظيمًا لهم عليهم الصلاة والسلام. ومِن تعظيمهم حُسْنُ الاعتقاد فيهم والابتعادُ عن سوء الظن بهم؛ قال القاضي عياض في كتابه «الشفا»: "اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِظَوَاهِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ.. إِنِ الْتَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفْضَتْ بِهِمْ إلى تجويز الكبائر وخرق الإجماع، وما لَا يَقُولُ بِهِ مُسْلِمٌ، فَكَيْفَ وَكُلُّ مَا احتجوا بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ وَتَقَابَلَتِ الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموا مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَذْهَبُهُمْ إِجْمَاعًا وَكَانَ الْخِلَافُ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ قَدِيمًا، وَقَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ قَوْلِهِمْ، وَصِحَّةِ غَيْرِهِ، وَجَبَ تَرْكُهُ وَالْمَصِيرُ إِلَى مَا صَحَّ". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، الفصل الثالث عشر، الباب الأول: فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرُ، دار الفيحاء – عمان، الطبعة الثانية – 1407 هـ].

بل إنّ القاضي عياض يرى أن القول بالعصمة من الكبائر، يستلزم القول بالعصمة من الصغائر، قال – رحمه الله –: "فَيُقَالُ لَهُمْ: فَإِنَّكُمْ وَمَنْ وَافَقَكُمْ تَقُولُونَ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَا خِلَافَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ..

فَمَا جَوَّزْتُمْ مِنْ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ عَلَيْهِمْ هِيَ مَغْفُورَةٌ عَلَى هَذَا، فَمَا مَعْنَى الْمُؤَاخَذَةِ بها إذن عِنْدَكُمْ، وَخَوْفِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَوْبَتِهِمْ مِنْهَا وَهِيَ مَغْفُورَةٌ لَوْ كَانَتْ؟". [الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية - 1407 هـ، ج2 ص391].

ب) هذا، ولقد سُئِلَ الشَّيْخُ ابنُ تيمية: عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ، فَكَفَّرَهُ رَجُلٌ بِهَذِهِ. فَهَلْ قَائِلُ ذَلِكَ مُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ؟ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُطْلَقًا؟ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟

فَأَجَابَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ هُوَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الدِّينِ، وَلَا هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ الْمُتَنَازَعِ فِي اسْتِتَابَةِ قَائِلِهِ بِلَا نِزَاعٍ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَمْثَالُهُ، مَعَ مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ وَفِي عُقُوبَةِ السَّابِّ؛ وَمَعَ هَذَا فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ وَالْعُقُوبَةِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا". [مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، ج4 ص319].

إنّ الشيخَ ابنَ تيميةَ كان يستنكر تكفيرَ من ينكر عصمة الأنبياء من الصغائر، ويرى أن هذا متفق عليه بين أهل الدين، ولكن هل اتفق أهلُ الدين على الحكم على من يقول بعصمة الأنبياء من الصغائر بتحريف كلام الله؟

إننا إذا رجعنا – مثلاً – إلى الأقوال السابقة للعلماء والأئمة الذين قالوا بعصمة الأنبياء من الصغائر، فإننا لا نجد أحداً منهم اتهم مَن خالفهم بمثل ما اتهمهم به ابن تيمية!

ومعلومٌ أنّ تأويل النصوص التي يمكن حمْلُها على غير ظاهرها لا يُعتبرُ تَحْرِيفاً لِكَلَامِ اللَّهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ!

نعم، لقد قالت بعضُ الطَوَائِف من الشِّيعَةِ وغيرهم من أَهْلِ الْبِدَعِ بعِصْمَة الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصَّغَائِرِ – كما قال ابن تيمية –، ولكنْ هذا ليس دليلاً على أنّ هذا القولَ باطلٌ والقائلين به قد انحرفوا عن الحقِّ؛ هناك فرق بين الرافضة الذين يقولون بعصمة الأنبياء من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها بِغرَض نقْلِ هذه العصمة إلى أئمتهم، وبين من يقول بالعصمة للأنبياء فقط، تنزيهاً لهم ورَفْعاً لمكانتهم؛ ولقد نبّه القاضي عياض إلى هذا الفرق بقوله: "وَلَا يَهُولُكَ أَنْ نَسَبَ قَوْمٌ هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَطَوَائِفَ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ؛ إِذْ مَنْزِعُهُمْ فِيهِ مَنْزِعٌ آخَرُ مِنَ التَّكْفِيرِ بِالصَّغَائِرِ، وَنَحْنُ نَتَبَرَّأُ إِلى اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ". [شرح صحيح مسلم، الإمامُ النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، ج3 ص53 – 55].

  • الخميس PM 03:26
    2022-10-20
  • 1329
Powered by: GateGold