المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413335
يتصفح الموقع حاليا : 255

البحث

البحث

عرض المادة

متى تقام الحدود؟ وهل هي صالحة لكل عصر؟

الإنسان ليس ملاكاً معصوماً، ومن ثم لا نستغرب وقوع الخطأ منه، وإذا أخطأ فلا ينبغي أن نبادر إلى قمعه بوحشية، وإظلام حاضره ومستقبله..

 

والشارع الأعظم يعلم هذه الطبيعة البشرية، ويمهد لها طريق التوبة والتسامي {وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا} [النساء: 27-28].

 

هذه حقيقة لا ريب فيها، وهناك حقيقة أخرى لا ننساها.. إن كل امريء يجب أن يعيش آمناً في سربه، وافراً في دمه وماله وعرضه، وإن انحرافات المخطئين لا يجوز أن تتحول إلى وباء يعصف بالأمن ويجتاح الحرمات!

 

والإسلام عندما يضع عقوبة لخطيئة ينظر إلى هاتين الحقيقتين.

 

وقد يعذر العاصي ويلتمس له الدواء! ولكنه لا يأذن أبداً للجريمة أن تعكر الصفو، وتنشر الخوف.

 

ومن أجل ذلك وضع الحدود، ودرأها بالشبهات، ووقفها بالتوبة إذا رأى القاضي. إن من تورط فيها ثائر على نفسه، نادم على سقطته، وإن عودته إليها مستبعدة، وإن مستقبله هو الصلاح والاستقامة..

 

إن النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يثنى ماعزاً – غفر الله لنا وله – عن اعترافه، ورأى أن توبته تطهره، ولكن الرجل كان مهتاج الأعصاب لما بدر منه، وأراد أن يطهر نفسه بالرجم فتركه النبي الكريم وما يريد!

 

على حين أذن لمن صلى معه، أن ينصرف بما اقترف، فقد طهرته صلاته أو اعتبرت توبة له..

 

لكن إذا اضطرب حبل الأمن، أو رأى القاضي أن المذنب قاس مخوف الغدر، فإن الحفاظ على المجتمع، ومؤاخذة المجرم الجسور توجبان الضرب على يده وحماية الناس من شره...

 

إن الحدود حق، وإقامتها ـ بصورتها الشرعية – مطلوبة إلى آخر الدهر، وما يقال عن قسوتها ضرب من الهواء، ونحن نستبين ذلك كل الاستبانة عندما نتوسم أحوال المجتمعات التي أنكرتها أو تركتها..

 

يقول الصحفي أنيس منصور: "إذا سرت في شوارع "أمريكا" فلا تحمل فلوساً كثيرة، فقد يستوقفك أحد الزنوج وفي يده سكين. وإذا ذهبت محل لشراء شيء فلا تخرج من جيبك مالاً كثيراً للسبب نفسه، وإن الأمريكيين يتعاملون بالبطاقات المالية ودفاتر الشيكات ولا يحملون مالاً.. وفي الفنادق يطلبون منك أن تضع فلوسك عندهم وإلا فأنت المسئول إذا سرقت أموالك أو أشياؤك الثمينة!

 

وقد تجد مكتوباً على باب الحمام: أغلق عليك الحمام من الداخل، وإذا هاجمك أحد فاطلب رقم كذا بسرعة!

 

وهم ينصحونك ألا تمشي وحدك في الشوارع فإذا اضطررت إلى ذلك فكن متجهماً بادي القوة، حتى لا يظن بك الخوف!"

 

قال: "ونزلت أتمشي وحدي قريباً من البيت الأبيض، وكان الشارع خالياً تماماً من المارين، وفجأة وجدت رجلاً يتوكأ على عصاه، استوقفني وسألني: كم الساعة؟ فتوقفت أنظر في ساعتي، فإذا هو يخرج سكيناً من بين ملابسه..

 

فأعطيته الساعة! ونظرت فإذا هو يزيح القناع عن وجهه ويبدو شاباً صغيراً!! لم يكن شيخاً ولا زنجياً، وضحك وضحكت.

 

وبينما أنا أنظر إلى الشاب إذ قفز إلى جواري شاب آخر. فرفعت يدي إلى أعلى، مظهراً أنه ليس معي شيء، فأشار إليه – اللص الأول – من بعيد، فتركني!.

وعرفت أن الزنوج ليسوا وحدهم قطاع الطرق في أمريكا"!

 

لقد فقد هذا السائح المصري ساعته؛ لأنه سرى وحده، فالأمن مفقود في العاصمة الكبيرة، لا أرتاب أن الساري لو كان أنثى لفقدت مالها وعرضها جميعاً، وإذا قاومت مغتصبها فقدت حياتها!

 

وقد يكون القتيل رب أسرة لا يعود إليها!

 

والحديث عن قلب يخشى الله أو يهاب لقاءه حديث خرافة! فقد انقطع التيار الكهربائي في المدينة مدة طويلة، فنهبت أغلب المتاجر والمعارض في الظلام العارض، إن وجود الضمير مرتبط برجل الشرطة وحده! ما أشرف هذه الحضارة!.

 

وعجبت لعمى القانون عندما قرأت أن لصاً أطلق النار على جندي كان يطارده، ثم قبض بعد لأىٍ على اللص، وأودع السجن، وقضى الأمر!

 

ماذا حدث؟ إن عقوبة الإعدام ملغاة؛ لأن القصاص وحشية!!

 

إنه لا يقر الأمان، ويمنع الإجرام في هذه البلاد إلا إقامة الحدود، والحدود وحدها هي الدواء قد تكون نجد والحجاز أقل حضارة من الولايات المتحدة، بيد أن ظلام الإرهاب والإجرام والتوجس والفزع لا وجود لها في هذه الأرجاء الفيحاء، ما السبب؟ إقامة الحدود.

 

لو أن عربة محملة بالذهب مشت من شمال اليمين إلى أول الشام ما فكر أحد في اعتراضها، إذ الناس رجلان إما خائف من الله فهو يعاف أكل السحت، وإما خائف من شريعته فهو واقف عند حده، لا يتعرض لقطع اليد، ولا لقطع العنق!

 

أرى أنه لا يحنو على المجرم ولا يعطل القصاص إلا خائف منه على نفسه!.

 

لقد قلت في مكان آخر: إن رب الحياة الخبير بدروبها ومتاهاتها وضع رسماً لمعالم الطريق إذا التزمه الأحياء لم يضلوا، فما معنى الإعراض عنه؟ إن المصنع الذي أخرج الآلة وضع تعليمات بطريقة استخدامها، فلماذا نرفض هذه التعليمات؟

 

إن خالق البشر أنزل أحكاماً محدودة، وقال لنا ونحن نسمعها: {يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۢ} [النساء: 176] فماذا نبغي؟

{أَفَحُكْمَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍۢ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]

 

يظن بعض الجهال أن الحدود نقطة ضعف في الشرائع السماوية! ونسوا أنهم سوف يعانون القلق والترويع ما داموا يأبون إقامتها، ولن يستريحزا إلا بعد إعلان السمع والطاعة.

 

إن الحدود المقررة تعد على الأصابع، ويخيل إليَّ أن تطبيق حد ما على أي إنسان يرتبط بقدر غالب، ولأشرح ما أعني، إن الله يعلم ضعفنا، ويتجاوز كثيراً عن هفواتنا، ولو أخذ المرء بأول عثراته ما نجا أحد من عقابه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍۢ} [النحل: 61].

 

إنه يمهل ويمهل، حتى إذا فاض الإناء فضح وآلم! وذلك ما أشار إليه "عمر" عندما استغاثته امرأة "يا أمير المؤمنين" ابني سرق وهذه أول مرة، فقال لها: كذبت إن الله لا يفضح عبده لأول مرة"!!

 

نعم إن الله يستر كثيراً حتى إذا توقح المرء وتبجح جره سوء أدبه إلى مصيره.

 

ومع ذلك، فإن الذي شرع الحدود ندب المؤمنين إلى الستر على المنحرفين، ومنحهم فرصة متاب! لعلهم يرعوون! فعن سعيد بن المسيب أن رجلاً من قبيلة أسلم اسمه "هزال" شكا رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، متهماً إياه بالزنى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ"!..   

 

وكانت هذه الشكوى قبل نزول آية القذف، وإلا لجلده النبي ثمانين جلدة..

والغريب أن الرجل المشكو الذي أمر الرسول بستره، هو "ماعز" المؤمن التائب الذي أبى إلا أن يموت مطهراً، كأن الرسول الكريم ألهم الدفاع عن رجل صالح يكره الإثم، ويضيق باقترافه، وإن وقع فيه!!

 

وفي إقامة الحدود جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ". 

 

وقد كان حد السكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرباً مهيناً يوقع بالعربيد الذي قبض عليه، ثم رأى الصحابة بعد أن يجلد السكير أربعين أو ثمانين جلدة.

 

أما حد السرقة فهو قطع اليد، ولم يقل أحد، إن الجائع تقطع يده إذا سرق ما يقوته إنما تقطع يد البطال المعتدي على كسب الآخرين وكدحهم، والذي يبني سلوكه على الظلم والإفساد، ولا أرى سبباً لاحترام هذه اليد، وتركها تؤذي وتفجع الناس في حقوقهم..

 

أما المسلحون المتظاهرون على النهب والسلب، والمتعاونون على الإثم والعدوان وقطع الطريق وإشاعة الفوضى، فإن قتلهم حق..

 

بقي أن نقول: إن عقوبة الزنى صعبى التنفيذ، فإن المجيء بأربعة شهداء يرون وقوعها يكاد يستحيل. إلا إذا كان المجرمان في طريق عام، عاريين مفضوحين لا يباليان بأحد!

 

وعندما يتحول امرؤ إلى حيوان متجرد على هذا النحو الخسيس، فلا مكان للدفاع عنه أو احترام إنسانيته..

 

  • الخميس AM 09:38
    2022-03-24
  • 979
Powered by: GateGold