المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412338
يتصفح الموقع حاليا : 307

البحث

البحث

عرض المادة

ماذا عن تجديد الفكر الديني في الإسلام؟

عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابن عمه عبدالله بن عباس دعوة ترفع شأنه وتعلى رتبته قال: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ".

 

وثبت أن الله إذا حباً أحداً فضلاً، وآتاه من لدنه خيراً رزقه الفقه "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". 

 

وكلمة الفقه في ثقافتنا التقليدية تشبه كلمة الفكر في عصرنا الحاضر، فإذا وصف أحد الناس بأنه مفكر فمعنى ذلك أن في ذكائه حدة، وفي بحثه عمقاً، وفي نظره بعداً.

 

وقد تميز الفقهاء في تاريخنا العلمي بأنهم الأعراف بأسرار الدين، ووجوه الحكمة، وعلل الحكم، وأهداف الشريعة، ومن ثم ألقت الجماهير إليهم بالزمام ومشت وراءهم في أغلب شئونها..

 

ويوجد ناس صالحون قليلو الفقه، لعلهم المعنيون بقول القائل: من أصحابي من أرجو دعوته وأرفض شهادته.. والواقع أن هناك متدينين لا تقبل فتاواهم ولا أحكامهم، كبعض الخوارج، وبعض الصوفية، وبعض المحدثن، فإنهم مع نقاء سرائرهم لم يرزقوا الحكمة، والوعين ولم يحسنوا العمل بما يعلمون؛ لأنهم حرموا الفقه!!

 

والحاجة إلى الفقهاء ماسة؛ لأن الفقه الإسلامي تناول شئون الحياة كلها، فهو مع المرء في يقظته وفي فراشه، في خلوته وجلوته، في سفره وإقامته، في أدق شئون جسده، وفي علاقته بالدولة، بل في علاقته بشتى الملل والأجناس..

 

واستيعاب الفقه لنواحي الحياة الخاصة والعامة على هذا النحو يجعله المسئول الأول عن حاضر الأمة ومستقبلها، ويجعل الفقهاء القادة الحقيقيين للجماهير..

 

ومعلوم أن الفقه يستمد أحكامه من الكتاب العزيز، ثم من ألوف السنن التي نقلت عن صاحب الرسالة خلال ربع قرن، ثم من القياس والاستصلاح والاستحسان والاستصحاب والقواعد المستفادة من أصول الإسلام الأولى!

 

والخبرة بهذا البحر المتلاطم من المعارف تحتاج إلى عبقرية فذة.. ثم ينضم إلى ذلك ما قرره المسلمون – بإجماع – أن العلم النظري وحده لا يكفي في إعطاء قيمة أدبية لإنسان! لابد معه من تجرد لله، وصلابة في الخلق، ونزاهة في السلوك واستعلاء على إغراء الحكم والمال!

 

إن الفقه والفقهاء أسس شامخة في حضارتنا، ولا يضير البحر أحياناً أن يحمل موجه بعض الغثاء!

 

والمسلون الآن يعانون هزائم فقهيو وسياسية أليمة! ومع تسلط الغزو الفكري على أقطارهم حسب البعض أن الدين صلة خاصة بالله، وأن الصلات الإنسانية بعد ذلك موكولة إلى الفكر الإنساني العادي، وبذلك يسقط الفقه عن مكانته، ويتحرك الناس وفق ما يضعوت من قوانين!

 

وهذا الكلام جهالة فاضحة بالإسلام، بل هو ارتداد حقيقي عنه، فإن القرآن الكريم كما تحدث عن العقائد والأخلاق تحدث عن العلاقات الاجتماعية والدولية، ورسم للأسرة، وللدولة جميعاً ما شاء الله من شرائع وتوجيهات، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن سيرة رجل يعيش في صومعة، بل كانت سيرة عابد مجاهد يشرف على استقامة الأخلاق، كما يشرف في الوقت نفسه على توزيع المال في المجتمع، والإمساك بدفة الحكم، وشئون الحرب والسلام، أي أن صومعته كانت الدنيا كلها...

 

وموضوع الفقه الإسلامي بعد العقائد والأخلاق يتناول أعمال المكلفين دون استثناء، ويبت فيها وفق توجيهات الكتاب والسنة، وما يعتمد عليهما من دلائل... ألا ما أرحب هذه الدائرة وأغناها...

 

وأرى أن اختلاف وجهات النظر بين الفقهاء يعطي الساسة والقضاة فرصاً كثيرة للتصرف في نطاق الشريعة على هدى من مبادئها، ولنضرب مثلاً مما يقع في عصرنا هذا الذي تقاربت فيه الأزمنة والأمكنو والشعوب والملل.

 

يقول الشيخ محمود شلتوت: "من مسائل الخلاف أن أبا حنيفة يرى مسئولية المسلم – وتغريمه – إذا أتلف مالاً لذمي. إذا كان هذا المال مما يحرمه الإسلام كالخمر والخنزيز، ولو كان المسلم قاصداً بإتلافه وجه الله وثواب الآخرة".

 

وخالفه الشافعي في ذلك، وقال لا مسئولية ولا غرامة عليه إذا أتلف ما حرمه الشارع!!

 

ويعتمد أبو حنيفة في تقرير الضمان على المتلف بأن الإسلام أمرنا بترك أهل الكتاب وما يدينون، وقد روى أن عمر بن الخطاب سأل عماله: ماذا تصنعون بما يمر به أهل الذمة من الخمور؟ قالوا: نعشرها!! فقال: لا تفعلوا، وولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها!

 

قال أبو حنيفة: "لولا أنها متقومة – أي لها قيمة – وأن بيعها جائز بينهم لما أمرهم بذلك! ومن المعلوم أن التقوم أصل الضمان والمسئولية، أما إهدار تقومها فإنما هو بالنسبة إلى المسلمين وحدهم".

 

ومن مسائل الخلاف كذلك أن أبا حنيفة يرى الاقتصاص من المسلم إذا قتل كافراً من أهل الذمة، ويحكم بقتله، ويخالف في ذلك الفقهاء الآخرين...

 

وكلام الأحناف هو الذي يمكن إمضاؤه في عصرنا، وتستطيع الدولة الإسلامية به أن تتعايش مع الأسرة الدولية، وتستطيع من خلال هذه المعايشة أن تبلغ رسالتها وتعرف شعوب الأرض بما عندها...

 

 

وكل ما يتطلبه الأمر إذا اختارت الحكومة مذهب الأحناف أن يتقبل الشافعية والحنابلة الموقف بغير اكتراث، وألا يفكر بعضهم في اللجوء إلى عصيان مسلح!!

 

إن ضيق الخلق والأفق يجر على المسلمين البلايا، وما كان الفقهاء قديماً يرون الخلاغ مثار فتنة، بل وجدنا الشافعي يقول: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة" مع رفضه لكثير من آرائه!

 

كنت أسمع برنامجاً فقهياً في إحدى الإذاعات العربية، فعجبت لإجابات المفتي على الأسئلة التي توجه إليه، وقلت: هذا كلام أقرب إلى الهدم منه إلى البناء..

 

سئل – عفا الله عنه – عمن أخرج زكاة رمضان نقداً؟ فقال: لا تقبل، إلا أن تكون شعيراً أو تمراً أو شيئاً من غالب قوت البلد! ثم استطرد يصف إخراجها نقداً بأنه مخالف للسنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".

 

وبدا من حديث المفتي أن إعطاء الفقير مالا- ريالات أو جنيهات – بدعة... وأن الأحناف بهذا المسلك أصحاب بدعة!

 

وقد رفضت كلام الرجل جملة وتفصيلاً، فإن مصلحة الفقراء هي التي ترعى، وأخذ المال أجدى عليهم وأطيب لأنفسهم، وجمهرة المسلمين تخرج زكاة رمضان نقداً تبعاً لمذهب أبي حنيفة، وهو أقرب إلى العقل ولا يصادم نقلاً...

 

وسئل – هو أو زميل له – من طلبة إحدى المدارس عن الكتب التي بين أيديهم وما تحتويه من صور كثيرة؟ فأجاب بعدما شكا عموم البلوى بأن رءوس هذه الصور تقطع! وبذلك يحل تداول هذه الكتب!

 

ولماذا تقطع تلك الرءوس؟ لأن المصور يكلف يوم القيامة بنفخ الحياة في هذه الصور، إذا كانت تامة!

 

وتساءلت دهشاً: كيف تحيا صور على الورق، أو على شاشة تلفاز، أو على سطح مرآة، سواء بقي الجسم برأسه أو بقي بلا رأس؟

 

ظاهر أن المفتي يريد نقل حكم التماثيل إلى الرسوم المسطحة، وهو نقل مرفوض.. والأجيال تشب بهذه العقلية تفقد الحس الاجتماعي السليم.

 

ونعود إلى فقهنا الإسلامي الذي يتسع طولاً وعرضاً ليشمل كل شيء، إنه يتحدث في شئون العبادة من صلاة وصوم وزكاة وحج، ويتحدث في شئون الأسرة من زواج وطلاق وحضانة ومواريث، ويتحدث في الشئون التجارية من بيع وإيجار وشركات وكفالات وحوالات... إلخ، ويتحدث في الجنح والجنايات المتعلقة بالعرض والدم والمال، ويشرع أنواع الحدود والقصاص، ويتحدث في الشئون الدولية وما قد يقع من حرب، أو يعقد من صلح أو هدنة أو أمان... إلخ.

 

وهناك ميدان ندر الكلام فيه أو انعدام وهو الفقه السياسي الضابط لعلاقات الأمة بحاكمها، وكيف يحاسب ويختار.. وميدان آخر لشئون العمل والعمال، ويؤسفني أن أكثر قوانينه ينقل الآن من الخارج لعجز فقهائنا عن تلبية مطالبه!

 

والذي أقترحه لخدمة الفقه الإسلامي أن تطوي مسافة الخلاف بين رجاله، وأن يتعاونوا على سد الثغرات واستدراك ما فات، ويواجهوا ببصيرة نيرة قضايا اليوم والغد، وأخيراً هناك موضوع جدير بالدراسة الجادة، موضوع تقنين الفقه الإسلامي وصب أحكامه في مواد محدودة، يتصرف القاضي على ضوئها، وفي نطاقها..

 

إن ذلك أبعد عن المجازفات وأدنى إلى العدالة، ومازلنا نذكر أن فوضى الإفتاء والتقاضي قديماً هي التي انتهت بإغلاق باب الاجتهاد، وتجميد الفقه كله، وما تبع ذلك من ركود وتراجع..

 

 

  • الخميس AM 09:24
    2022-03-24
  • 887
Powered by: GateGold