المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412398
يتصفح الموقع حاليا : 377

البحث

البحث

عرض المادة

ما الاجتهاد؟ وهل هناك ضرورة لفتح بابه؟ ولماذا؟

يعلم المسلمون أن دينهم باق ما بقيت السموات والأرض، وأن به تبيان كل شيء يحتاج الناس إليه! أي إن كتاب الله وسنة رسوله هما النور المبدد لكل ظلمة، الكاشف لكل حيرة، وهما الدواء الشافي  من كل علة والساد لكل خلة. .

 

والاجتهاد هو بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من هذه الأصول، وفي ضبط مسيرة المجتمع بها، وهو عمل لا يقدر عليه بداهة كل إنسان، بل لابد من أهلية علمية عالية له.

 

فالقرآن الكريم هو خلاصة الوحي الإلهي من أزل الدنيا إلى أبدها، صيغ في أسلوب يعجز الإنس والجن، والسنة المطهرة هي توجيهات إنسان ملهم استدرج النبوات الأولى كلها بين جنبيه، وشرع يصوغ العالم كله باسم الله في قالب جديد، وقد أدرك أولو الألباب أن التغيير الذي أحدثه برسالته الخاتمة كان حاسماً في سير الفكر والضمير، وأنه فتح صفحة جديدة في تاريخ الحياة الإنسانية..

 

ومن ثم فإن فقه الكتاب والسنة لا يرشح له إلا أهل النباهة والتقوى!

 

وفقهاء الإسلام يرون أن مصدر التشريع – كما يقول الشيخ الكبير محمود شلتوت – "هو القرآن الكريم نصه ومحتمله، ثم السنة وهي أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته، بشرط صحة النقل، ثم الرأي العلمي المستمد من النظر في الكتاب والسنة وإلحاق ما لم ينص على حكمه بما جاء فيه نص".

 

ويعني بذلك القياس، ثم في تطبيق القواعد العامة المفهومة من النصوص والقضايا الخاصة.

 

وهذه القواعد مثل "الأصل في الأشياء الإباحة" "منع الضرر" "رفع الحرج" "سد ذرائع الفساد" "الصرورات تبيح المحظورات" "ارتكاب أخف الضررين" "دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة" "تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" "ما أدى إلى الحرام فهو حرام" "ما قارب الشيء يعطي حكمه"... إلخ.

 

وهناك بعد ذلك ما يسمى بالمصالح المرسلة، وهو نهج فقهي غايته حماية النفس والمال والعرض والعقل والدين..

 

والواقع أن الفقيه في الكتاب والسنة، الذي يعيش في جوهما بقدر على استبانة مباديء تنطلق الحياة منها، ورسم مسار تشريعي يضمن الرشد والخير للناس كافة، كما يستطيع أن يواجه القضايا المتجددة بأحكام إسلامية سديدة ..

 

والفقه الإسلامي الذي ورثناه مع مطالع القرن الخامس عشر للهجرة يعد أغنى فقه في العالم، والمهاد الذي يتحرك فوقه لا نظير له في دنيا الناس.

 

قال الفقيه الكبير الشيخ محمود شلتوت: "استقبل أصحاب رسول الله بعد موته حياة أوسع، إذ عرضت لهم شئون احتاجوا إلى تعرف إحكامها، فكانوا يرجعون إلى القرآن، فإن لم يجدوا فيه ما يدل على حكمها بحثوا عنه فيما يحفظه العدول الثقات من بيان الرسول واجتهاده. فإن لم يجدوا الحكم نظروا وبحثوا مستلهمين روح الشريعة، وما عرفوه من هدفها، وما ترشد إليه قواعدها العامة التي أضحت لها مكانة النصوص البينة".

 

وكان الشأن العام في عهد أبي بكر وعمر التحري الشديد فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنزوع في الشئون العامة إلى استشارة كبار الصحابة المقيمين معهما في دار الخلافة! والمعروفين بدقة الرأي، وعمق النظر، في إدراك المصالح، وحسن الفهم لروح الشريعة، وجودة التطبيق على القواعد العامة.

 

وكانوا إذا أجمعوا على رأي، وجب تنفيذه.. وبذلك كان أخذ الرأي بطريق الشورى مصدراً جديداً ظهر العمل به بعد وفاة الرسول فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة، أو فيما فيه نص محتمل.

 

وترجع حتمية الرأي في التشريع إلى أمور:

أولاً: تقرير القرآن مبدأ الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

 

ثانياً: أمر القرآن الكريم برد المتنازع فيه إلى أولي الأمر والذين أوتوا الفهم والحكمة وطرق الاستنباط {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُولِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

 

ثالثاً: ثبوت إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين كان يبعثهم إلى الأقاليم النائية على الاجتهاد والأخذ بالرأي فيما لم يجدوا حكمه في الكتاب أو السنة.

 

وظاهر من مطالعة تاريخنا الثقافي أن الاجتهاد التشريعي بدأ رسمياً جماعيَّاً، ذلك أن رئيس الدولة كان يختار من أهل الدراية والفقه، وكان بقدرته العلمية يجمع حوله أمثاله في النظر والاستنباط، فإذا انتهوا إلى حكم عملت به الدولة والأمة جميعاً..

 

والدول العظمى الآن تقوم على هذا الاجتهاد الجماعي في دعم مبادئها ومصالحها، ويغلب أن يقودها أكفأ بنيها، وأن يعاونه في المشكلات المتجددة مجلس شورى ذكي نزيه حافل بشتى الكفايات.

 

مع ملاحظة أن الاجتهاد عندنا رحب الدائرة، يشمل العبادات والمعاملات والشئون الشخصية والدولية، وقد رأينا عمر يجتهد في تحديد نفقة المطلقة ثلاثاً وسكناها، كما يجتهد في أنصبة المجاهدين من غنائم الأرض المفتوحة!

 

ووددت لو بقى الاجتهاد رسمياً جماعياً كما بدأ! إذن لوقى المسلمين اختلافاً كثيراً، لكن سيطرة الأسر الكبيرة على منصب الخلافة مكن رجالاً جهلة من الظفر به، والرؤساء القاصرون، لا فقه لهم في كتاب أو سنة، ولا علاقة لهم بشورى أو استنباط..

وإنه لمن المحزن أن يقود العباقرة شتى الملل والنحل، وأن يقود المهازيل أمة الرسالة الخاتمة!

 

وليست الأمة عقيمة، بل إن أهل الذكر فيها كثر، وقد تحركت الشعوب لما وقفت الحكومات، وبدأ الاجتهاد الفقهي يزدهر، ورجاله يلمعون، ولكنه كان نشاط أفراد عظماء أسسوا مدارسهم العلمية بقوة وتجمع الأتباع حولهم بحماس.

 

ومع أن الأئمة الفقهاء كانت بينهم وبين رجال السلطو وحشة، وأكثرهم مسه الضر، إلا أنهم نجحوا في نشر علومهم وتنمية مدارسهم، حتى ملأت أرجاء العالم الإسلامي.

 

ولم تخل عاصمة إسلامية قديماً من فقيه كبير، وإمام مرموق، على أن الفقهاء الأربعة المتبوعين كانوا أسعد حظاً فرزقوا من حفظ اجتهادهم وضبط تراثهم، واستنقذه من الضياع، وفقه أولئك الأربعة على عظمته يمثل الاجتهاد الفردي، ويحمل خصائصه، وما يغني قط عن الاجتهاد الجماع الذي تلتزم الحكومة والجماهير بثماره!

 

ولا ريب أن اجتهاد محفل من العلماء أدنى إلى الصواب والنفع من اجتهاد إمام فرد.

 

والأربعة المشهورون يتفقون على استقاء الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع، إلا أن الأحناف يرجحون ظواهر القرآن وعموماته على أخبار الآحاد، وربما ردوا الحديث بالقياس الجلي، وهم بهذا المسلك وغيره طليعة فقهاء الرأي!

 

ويليهم المالكيون الذين اعتمدوا في كثير من القضايا على بيئة الوحي، وتقاليد أهل المدينة، ويرونهم أعرف الناس بالسنة الثابتة، وقد جعلهم هذا الفهم يردون أخبار آحاد أكثر مما رد الأحناف!

 

أما الحنابلة ومعهم الشافعية، فارتباطهم بأخبار الآحاد أقوى، وهم يردون بها القياس..

 

ولكن إمام منهج في الفهم والاستنباط وتقرير الأحكام عرف به، وقلده فيه آخرون.

ويظهر أن انفتاح باب الاجتهاد الفردي أغرى كثيرين باستقلال النظر وتقرير الأحكام حتى تحولت الحرية الفقهية إلى فوضى، فتداعى أولو الغيرة لوقف هذا التيار، ودون أن ينعقد مجمع أو يتفق مؤتمر تراجع الناس رويداً رويداً إلى فقه الأربعة المشهورين وأهمل غيرهم.

 

وقد كنت أول الأمر ناقماً على إغلاق باب الاجتهاد، ولكن لما انكسر الباب وتحدث في الإسلام من يعقل ومن لا يعقل، بل كان صوت المرتزقة أعلى من صوت المخلصين! عذرت الذين أغلقوا الباب، وأطفئوا الفتن.

 

أيعني ذلك أني لا أريد فتح هذا الباب؟ كلا!

إن الاجتهاد التشريعي، خصوصاً فيما يمس المعاملات الداخلية والخارجية ضرورة دينية واجتماعية!

 

والذي أدعو إليه أن تقوم مجامع كبيرة، من علماء راسخين، لا يخافون في الله لومة لائم، يحيون الاجتهاد الجماعي القديم، ويقومون بعملين مهمين..

 

الأول: إنعاش أو إحياء الفقه الدولي لتحديد أوضاعنا العالمية، وإعادة النظر في أنظمة الحكم الداخلية لإنقاذ المسلمين من مساوئ الحكم الفردي، ومظالم المستبدين، وإنشاء شرائع إدارية تضبط شئون العمال وتوزيع الأموال، وتصون الحقوق الخاصة والعامة..

 

إننا متخلفون بضعة قرون في هذا المجال، ولا يجوز ترك الإسلام بفترسه هذا الموت الأدبي!

 

أما العمل الثاني: فهو مراجعة المذاهب الفقهية السائدة، وغربلة أحكامها، فمن الغرور القول بأن مذهباً ما انفرد بالصواب كله، ومذهباً آخر يغلب عليه التخليط..

 

إن المذاهب المشهورة وغيرها تحتوي على تراث نفيس من الأفكار وجهد عقلي ونقلي قد يقصر أغلبنا عن بلوغ مستواه، بيد أن القول المشهور شيء والتحقيق العلمي شيء آخر.

 

وقد نبهت في مكان آخر إلى أن ابن تيمية رد فقه الأربعة في إيقاع الطلاق البدعي، والحق معه عند التأمل، وأن ابن حزم هدى إلى أحكام فقهية أولى بالحياة من غيرها.

 

ووجوه مجمع فقهي إسلامي عالمي، يجتهد فيما جد من قضايا، وفيما عانينا من فرقة وضعف أمر لابد منه..

 

  • الخميس AM 09:23
    2022-03-24
  • 949
Powered by: GateGold