المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409182
يتصفح الموقع حاليا : 367

البحث

البحث

عرض المادة

ما مدى حرية الفكر في الإسلام، وكيف نوفق بينه وبين قتل المرتد؟

هناك فرق بين حرية القول وحرية الشتم! وحرية العمل وحرية الإيذاء! أنا أقول ما أشاء وأفعل ما أشاء، ولكن تقف مشيئتي عندما تبدأ حرية غيري وحقوقه..

 

وقد اقتنعت بأن كمال الإنسانية وارتقاءها منوطان بوفرة الحريات الصحيحة، واستطاعة كل إنسان أن يتمتع بها دون مشاكسة أو افتيات..

 

وقد قلنا في فصل مضى: إن حرية المرء هي الوجه الآخر لعبودية الله وحده، فالمؤمن حقاً رجل تختفى من حياته رهبة الطواغيت، ويقول ويعمل غير مكترث إلا برضا الله وحده..

 

وحرية الفكر هي المهاد الأول، أو المهاد الأوحد لمعرفة الله، واستكشاف عظمته، وتقرير حقوقه، وإدراك هداياته. .

 

عندما أسرح بعيني في الزروع والثمار استجابة لأمر الله، {ٱنظُرُوٓا إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِۦٓ} [الأنعام: 99] فأنا أسبح الله وأحمده وإن لم يتحرك لساني بكلمة!

 

قد يكون هذا التسبيح الصامت معادلاً لركعتين من النوافل، وربما نما وأضحى معادلاً لركعتين من الفرائض! وذلك حسب قيمة هذا الفكر.

 

قد يكون تحية إعزاز لمن أبرز الحياة من الموات، وأخرج ألواناً وطعوماً شتى من أرض داكنة هادمة!

 

وقد يكون – إلى جانب ذلك – عناية بالحصائل الناتجة، وتكثيراً لها، ودفعاً للآفات عنها، ونفعاً لعباد الله بها ودراسة ذكية للتربة، وطبيعة العمل فيها وإمكانيات الإفادة منها..!

المهم في الجو الديني الصحيح ألا أثقل العقل بما يؤوده عن الفكر المثمر، أو هذا التسبيح الصامت..

 

والتدين المخترع والفاسد شديد المهارة في صرف المؤمنين عن العمل العقلي والقلبي، وتعليقهم بأشكال ورسوم وأوراد ما أنزل الله بها من سلطان.

 

مع أن هذه الأعمال ركن في الإيمان، وغيرها إما بدع، وإما نوافل لا تقبل إلا بعد اكتمال الفروض!

 

ليس هذا استطراداً، وإنما هو بيان لقيمة الحرية الفكرية التي اطردت الآيات في القرآن الكريم لتقريرها وتقديرها. ولكننا للأسف لم نحسن فهمها ولا البناء عليها.

 

وقد ظفر أسلافنا بأنصبة كبيرة من تلك الحرية الغالية كانت وراء تفوقهم الحضاري وسيادتهم العالم زماناً طويلاً..

 

ورأيي أن هذه الحرية خرجت على نفسها أو تحولت إلى فوضى خلقية في بعض الميادين، فليس من حرية الفكر أن ينشد أبو نواس خمرياته ويفرض شذوذه على الأدب العربي..

 

وليس من حرية الفكر أن ينشعل العقل الإسلامي بالبحث في ذات الله – متأثراً بالفلسفة الإغريقية – ويترك البحث في المادة وخصائصها، وعندي أن الجانب الطبي في ثقافة ابن سينا ألمع وأضوأ من الجانب الفلسفي! وأن الحرية الفكرية عندنا انكمشت يجب أن تمتد، وامتدت حيث يجب أن تنكمش، على أنها اعتلت في العهود المتأخرة، وكادت تموت، وذلك تبعاً لاضمحلال الحرية السياسية في حياتنا العامة، وغلبة الحكم الفردي.

 

والحريات كالفضائل يقوى بعضها بعضاً وينميه، ومع ما أصاب الحريات إجمالاً من علل، فإن الحرية الدينية بقيت قوية وعاشت في ظلالها طوائف اليهود والنصارى والباطنية دون حرج، وما أحسب داراً أخرى غير دار الإسلام، يقع فيها هذا التسامح!

 

لقد كانت الحرية الدينية أعصى الحريات على النقض، كان عرب اليمن يتقاتلون ويرخص بعضهم دم بعض، وكان يهود اليمن مرعيي الزمام مصوني الحقوق! وبقوا وافرين حتى التحقوا بإسرائيل!

 

ومن الطرائف التي يحكيها الأدباء أن الخوارج اعترضوا نفراً من الناس، وأحبوا أن يتعرفوا هويتهم، وكان فيهم أبو حنيفة، فأسرع يجيب الخوارج: نحن مشركون مستجيرون! فلما تركهم الخوارج يمضون لشأنهم قال الإمام الفقيه: إن القرآن يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُۥ} [التوبة:6] فأسمعونا كلام الله وأبلغوا مأمننا..!! وفعل الخوارج ذلك، ونجا أبو حنيفة ومن معه من الفتك!

 

والقصة تستدعي التأمل! ولئن كانت مثار ريبة عند البعض، إن التاريخ الإسلامي يصدق دلالتها، ويكشف عن العلة في بقاء الطوائف الكافرة بالإسلام وسط بحر مائج من الأمم الإسلامية، مما لا نظير له في القارات كلها..!

 

ونتساءل بعد ذلك الاستعراض: هل من حرية الفكر أن يسلم رجل ليتزوج امرأة مسلمة، فإذا نال مبتغاه منها وتحولت عاطفته عنها رجع إلى دينه الأول..؟

 

أو من حرية الفكر أن يتصل شخص بأعداء أمته، وينقل إليهم أسرارها، ويتآمر معهم على مستقبلها؟

 

إنه لابد من التفريق بين العبث بالأديان أو خيانة الأوطان وبين حرية الفك! فالمسافة شاسعة بين المعنيين!

 

وقد ذكرنا في موضع آخر كيف أراد اليهود استغلال هذه الحرية المتاحة لضرب الإسلام وصرف الناس عنه {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ءَامِنُوا بِٱلَّذِىٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوٓا ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] فهل ترضى جماعة تحترم دينها أن يقع هذا العبث أو ينجح هذا التلاعب؟

إننا نريد أن نشرح حقيقة الارتداد، وسر الموقف الحاسم منه..

معروف أن الإسلام عقيدة وشريعة، أو بتعبير عصرنا دين ودولة، والدولة التي تقيمها الجماعة المؤمنة مكلفة بما تكلف به الدول في أرجاء الأرض، فهي تنشر الأمان وتحميه وفق شرائعها الموحى بها من الله تبارك وتعالى...

 

وهي تدفع المغيرين وترد المعتدين مستثيرة الهمم ببواعث اليقين وحب الاستشهاد وسائر خصائصها الذاتية الأخرى...

 

والسؤال الذي نورده: هل يطلب من هذه الدولة أن توهي خطوط الدفاع في الداخل والخارج، وأن تدع من شاء حراً في نشر الفتن وتمزيق الصف ومساعدة العدو وخذلان الصديق؟ أم لها أن تضرب على أيدي الخونة حتى يبقى كيانها سليماً؟

 

إذا كانت الدولة الشيوعية تقيم التعليم العام على الإلحاد، وتنفي أو تغتال من يريدون بناءه على الإيمان، فه الدولة الإسلامية وحدها هي التي تطالب باحترام الإلحاد، والإسراع في إجابة مطالبه باسم الحرية؟ أنَّى يتماسك لها بعد ذلك كيان؟

 

قد ينحرف امرؤ فيشرب خمراً أو خشيشاً، هذه معصية نرجو لصاحبها المتاب ثم نؤدبه بما رسم الإسلام! هل يستوي هذا المسيء مع رجل يدعو إلى ترك تجارة الحشيش حرة، وإلى فتح الحانات دون عائق؟

 

قد يواقع امرؤ منكراً في بيته، من رواء جدار! هل يستوي هذا مع آخر يجاهر بإباحة البغاء، وترك الغرائز تتنفس كيف تشاء، ويرى أن الشذوذ لا حرج فيه، وعلى المجتمع الاعتراف بعقد بين شخصين من جنس واحد؟

 

قد يتكاسل امرؤ عن الصلاة، فهل التارك المتهاون يستوي مع آخر يهاجم فرائض الصلاة والصيام، ويقول: إنها تعطل الإنتاج؟

 

إن الإرتداد نقض متعمد متبجح للأسس التي يقوم عليها المجتمع، وللدستور الذي تقوم عليه الدولة، والزعم بأن هذا المسلك سائغ زعم سخيف.

 

وتزداد خطورة الردة على كيان الدولة إذا علمنا أن الغزو الثقافي ظهير وتمهيد للغزو العسكري! وأن أعداء الإسلام يروت محو شخصيته في الداخل بفنون من الحيل، وأن الاستسلام لذلك هو استسلام للذبح. .

 

نحن نرفض كل عائق أمام حرية الفكر، ونضع كل عائق أمام حرية الهدم، أي أمام تقويض الإسلام شريعة وعقيدة...

 

وعندما ننظر إلى تاريخنا الإسلامي الطويل نجد أن قتال المرتدين إلى آخر رمق ثم دفاعاً عن الدين والدولة معاً، وما سمعنا برجل قتل مرتداً؛ لأنه ترك الصلاة مثلاً.. بل على العكس رأينا أبا نواس يرفض من يلومه في شرب الخمر، ويقول في وقاحة:

                       دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

                                           وداوني بالتي كانت هي الداء!!

فهل قتل أبو نواس، أو غيره بتهمة الردة؟

 

واضطر صلاح الدين الأيوبي إلى قتل صوفي يدعو إلى مبدأ وحدة الوجود وذلك؛ لأن عصابات الباطنية التي اعتنقت المبدأ، تعاونت مع الصليبيين المهاجمين على ضرب الدولة، وكانت حصون الحشاشين شوكة في ظهور المجاهدين الذين يقاومون الغزو الأوربي المميت!

 

فلم يجد القائد الإسلامي بُدّاً من تطهير الجبهة الداخلية، وإزاحة كل من يعرض مستقبل الإسلام للضياع، في حرب حياة أو موت..

 

وإلا فإن كتب كثير من رجال التصوف ملآى بفكرة الوحدة، وقد ترك للعلماء أن يناقشوها بالبرهان وحده!

 

 

وقد لاحظت أن كثيراً من أهل الشغف بتكفير مخالفيهم، يتخيرون من آراء الفقهاء ما يحلو لهم، ويهيلون التراب على غيره، فلما ثار كلام في عقاب تارك الصلاة كسلاً، لم يذكروا إلا أنه يقتل حداً أو مرتداً، ومعلوم من الفقه الحنفي الذي حكم الدولة الإسلامية قروناً طويلة، إنه لا يقتل لا حداً ولا مرتداً، بل يؤاخذ بأساليب أخرى إذا جحد الحكم المعلوم من الدين بالضرورة.

 

إن الارتداد – كما شرحنا – خروج على دولة الإسلام بغية النيل منها ومنه، والإتيان عليها وعليه، ومقاتلة المرتدين – والحالة هذه – دين...

 

  • الخميس AM 09:21
    2022-03-24
  • 1012
Powered by: GateGold